«الكتابة هي فرصة للعيش مرات كثيرة!»؛ حاولتُ بشدة أن أتذكَّرَ لمن هذا القول الذي حضر في رأسي وأنا أفكر في مفهوم التجسيد، أي القدرة على تمثيل الأفكار كقوالب محسوسة.
فشلتُ أنا وغوغل في تذكُّر صاحب أو صاحبة هذه الجملة، لأنها ربما لم تكن على الشكل السابق نفسه، أو ربما لأن الجملة نفسها؛ «فرصة للعيش مرات كثيرة» تُعاد دائماً للدلالة على أغلب الأفعال الفنية التي تخلق شخوصاً وحيوات (مسرح، سينما، رواية)، لأنها ببساطة تتقاطع مع فكرة البحث عن حياة مختلفة أخرى نتقمّصها ونعيش معها ونتبنّى أفعالها. هذه الفكرة التي تتم تغذيتها في الفعل الفني الذي يتماهى مع «آلية الخلق»، الكلمة التي تغوي دائماً أحاسيسنا، ويبدو أنها تنتقل من فعل إلى آخر مع تطور الحياة، فما كان حِكراً على الكتابة صار للمسرح ثم للسينما، وتتربع اليوم ألعاب الفيديو على هذه المساحة، تخلق وتعيد خلق حيوات وشخوص بسيناريوهات مختلفة، وتساعدُ التكنولوجيا على جعلها أكثر واقعية وسحراً في كل وقت.
تجعل ألعاب الفيديو الجميع قادراً على خلق شخصيات منفردة مختلفة في بيئات متعددة، ثم تسمح لنا بتجسيد واختبار هذه الشخصيات وتطويرها في عالم اللعبة، وهكذا تسمح الألعاب بمساحة من الفعل والانخراط يكسر سلسلة القارئ/ة أو المشاهد/ة السلبي/ة، وتدغدغ فينا رغبة امتلاك شخصياتنا وتجريب القصص مرات كثيرة بخيارات جديدة، فتبدو أكبر مثال حيّ على عبارة «العيش مرات كثيرة».
ظهرت العديد من النظريات الفلسفية التي تُحاول فهم وتشذيب عالم الألعاب، وانضمّت «دراسات الألعاب» لاحقاً إلى فروع الدراسات الثقافية، وأصبحت مع تحفظات بعض الآراء المُحافظة جزءاً من العائلة الأكاديمية الفنية، ويتم تشبيه مكانتها الآن بمكانة السينما ودراسات الأفلام في أوائل القرن الماضي. بين أخذ ورَدّ، استطاعت دراسات الألعاب أن تأخذ موقعاً وشكلاً واضحاً في بدايات الألفية.
على مستوى آخر تحوّلت ألعاب الفيديو في سياق النظرة الاقتصادية، وخلال فترة قصيرة نسبياً، إلى صناعة رائجة وحاضرة على خطى سابقاتها من صناعة السينما والتقنيات الرقمية، حيث دخلت سوق التداولات المالية وأصبحت عنصراً مُهمّاً في الصناعات التقنية، حتى أن «سوق الألعاب العالمي» حقَّقَ سنة 2021 ما يقارب 180 مليار دولار كعائدات، مُتفوِّقاً على صناعة السينما وصناعة الموسيقى العالمية.
لم تَعُد الألعاب مساحة تسلية سريعة بسيطة ومحدودة كما بدأت لتكون، بل تحوَّلت مع مفهوم التسلية نفسه إلى استثمار وقتي ومساحة مختلفة للأفراد للتعامل معها، وبالتالي تطورت آليات صناعتها إلى تقديم ألعاب تضمنت سيناريوهات أدبية وتمثيلاً وإخراجاً وإنتاجاً موسيقياً كاملاً، تجعل انخراطنا في اللعبة مساحة افتراضية بديلة تحوي كل عناصر الفني، وأكثر واقعية منه أحياناً. يمكننا أن نشاهد ماضي شخصياتنا، وأهدافها القريبة والبعيدة، وتعقيدات الرغبات لديها في عالم قاسٍ أو مجنون أو سحري، لكنه يبتعد دوماً ليقترب من واقعنا، كل ذلك باشتراك ضمني مع مئات آلاف وأحياناً ملايين اللاعبات واللاعبين، وجميعنا في خيارات متشابهة أو متباينة ننفخُ الحياة في شخصياتنا ونتبنّاها ونُحبّها أو حتى نكرهها.
وفي حين يحضر ويُهيمنُ السائد والمنتشر بقوة في عالم الألعاب، تُحاول الهوامش الأخرى امتلاك مساحة خاصة لها، مساحة أكثر فنية وإبداعية على مستويات مختلفة، في صناعة ألعاب مستقلّة تحاول التفكير خارج الصندوق وتحدي الأفكار التقليدية بشأن ماهية وأهداف الألعاب، والانتقال من التسلية لأجل التسلية إلى ألعاب أكثر تفاعلية حول مواضيع حساسة وحاضرة في عالمنا اليوم، ولعلَّ أهم هذه الأفكار تحضرُ في مجموعات جديدة من ألعاب الحروب.
ألعاب عن الحرب، وليست ألعاب الحرب
تحتلّ ألعاب الحروب أو ألعاب «إطلاق النار/Shooting games» مكانة واسعة بين مجمل أنواع ألعاب الفيديو، وتبقى عائداتها وأعداد مستخدميها من المراتب الأولى دوماً في الاحصائيات. من المغري فعلاً والمثير لهؤلاء البعيدين والبعيدات عن الحروب الحقيقية أن يعرفوا/نَ عن حياة العسكر والمجابهة اليومية والقتال، وأن يُقدَّم لهم/نَّ سيناريو عنيف ينتصر فيه العسكري البطل بما يشبه أفلام سلفستر ستالون أو توم كروز. ولعلَّ سلسلة ألعاب الفيديو «Call of Duty» خير مثال على ذلك، إذ ما زالت مستمرة في إنتاج نسخ جديدة من اللعبة آخرها كان في نهاية الشهر الماضي. ورغم أن اللعبة ذهبت بعيداً عن الحرب العالمية الثانية بعد خامس إصداراتها، إلا أنها استمرت في سيناريوهات الحروب الحديثة وأحياناً المُتخيَّلة، بالإضافة طبعاً إلى نُسخها من حرب العراق التي تحتاج إلى مساحة كبيرة لنقاش إشكاليتها وتصوراتها للحروب في «الشرق الأوسط»، التي تحمل ملامح إكزوتيكية أو إسلاموفوبية.
ولكن وعلى الطرف الآخر من ألعاب إطلاق النار، بدأت بعض الشركات المستقلّة والفنانين/ات في نقل نقاش موضوعة الحرب والعيش ضمن إطار الدكتاتوريات إلى مستويات جديدة ومختلفة، ويمكن أن تكون النقطة المركزية لتلك النظرة الجديدة لهذه الألعاب هي تغيير نوع اللعبة في حدّ ذاته، من ألعاب إطلاق النار إلى ما يُدعى «ألعاب النجاة/Survival games»، وهي نوع من ألعاب الحركة التي «تدور أحداثها في بيئة مُعادية ومكثفة ومنفتحة، حيث يبدأ اللاعبون/ات بأدنى حدّ من المعدات وتكون أهداف اللعبة جمع الموارد والأدوات الحِرَفية والأسلحة والمأوى والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة». وبالاستفادة من هذا النوع، نقلَتْ بعضُ الألعاب التي نتحدث عنها هنا زاويةَ النظر من سؤال «ماذا يمكن أن نفعل؟» إلى سؤال «ما هو ثمن ما نفعل؟»، حيث تُقدّم الألعاب هنا فكرة مُعقَّدة ومتنوعة عن ماهية النجاة في الحرب أو ضمن الحصار أو حتى أثناء العيش في بيئات شمولية وتحت حكم دكتاتوري عسكري.
عملت السيناريوهات في هذه الألعاب على مقاربة الواقع الحقيقي للرعب في العيش والحياة كسكّان، وليس فقط بالنسبة للعسكر على خطوط النار، وهكذا فإنه لا يوجد في هذه الألعاب بطلٌ أحاديٌ وحيدٌ ينقذ البلاد أو البشرية من خطر شرير، ولا يوجد فخر وانتصارات في قتل الأعداء الأشرار، وانتقلت من تحفيز الأدرينالين للقتل إلى ضخ التوتر بطرق مختلفة، منها مجموعة الألعاب التي سنُناقشها في مقالات لاحقة بالتفصيل.
لعبة «This War of Mine» هي لعبة استراتيجية يتحكم اللاعب/ة فيها بمجموعة من الناجين/ات المدنيين/ات المختبئين/ات داخل منزل مدمر في مدينة «Pogoren» الخيالية المحاصرة، في دولة «Graznavia». الهدف الرئيسي من اللعبة هو البقاء على قيد الحياة أثناء الحرب، بالأدوات والمواد التي يمكن للّاعب/ة جمعُها.
لعبة «inside»، وشخصية اللاعب/ة فيها هي صبي غير مُسمَّى يستكشف بيئة سريالية عسكرية ديستوبية وأحادية اللون، وهدفه الرئيسي الهرب من المكان.
لعبة «beholder»، وهي لعبة فيديو مغامرات روسيّة تدور حول الحياة في دولة بوليسية شمولية، وتُعَدّ عملاً مُستوحى من الأعمال الديستوبية لجورج أورويل ألدوس هكسلي وراي برادبري، وتعتمد على شخصية كارل، القيّم الجديد على بناء مؤمَّم من أصحابه لصالح الدولة.
وبالطبع ينتقل دوماً نقاش هذه الألعاب من وجهة نظر اللّعب وآلياته والقدرة على «النجاة» إلى الحديث المتشعّب عن الحروب والأبرياء، والمدنيين والمدنيات في مدن محاصرة بأشكال مختلفة، وبالتالي تبدو وكأنها ألعابٌ عقلية ثقيلة وتحمل عبئاً أخلاقياً أساسياً، ولن تكون مُشارَكَة هذه التجربة «مُسلّية» بقدر ما هي «تفاعلية» أو «مرهقة»، وستكون أكثر من ذلك بكثير إذا كانت اللاعبة أو اللاعب ممّن اختبرن/وا الحرب فعلاً.
لماذا نلعب هذه الألعاب؟
تُحبّ الشركات المُصنِّعة لهذه الألعاب أن تنطلق من أن اختبار «الفعل الخيّر» الذي تُحاول أن تقدمه لنا هو دافعٌ أساسيٌ للّعب، فالانتصار الحقيقي هو القدرة على الالتفاف على كل المصاعب والتحديات لخروج الشخصيات كناجين وناجيات من بيئة اللعبة. هكذا تصبح أسئلتنا ضمن اللعبة هي ذاتها خارجها: ماذا يمكننا أن نفعل لطفل أو طفلة جائعة في الحصار؟ أو كيف ننقذ ابنة الشخصية الرئيسة من المرض في بلاد تحظر استيراد الدواء؟ أو هل يمكن لنظام عسكري نَخلقه نحن في مسار اللُّعبة أن يُنقذ الآلاف من الموت برداً؟ وبدلاً من أن تكون الأسئلة افتراضية، تُتيح لنا هذه الألعاب اختبار بعض السيناريوهات، التي تُضيء على طبقات مختلفة غير معتادة من فكرة الحرب أو العيش في الخوف.
وبالتالي تكون النتيجة خلقَ انعكاس من اللعبة نحو الواقع في خط دائري، حيث أن اللعبة بحدّ ذاتها كانت انعكاساً من الواقع بالأساس، ثم انطلقت منه نحو محاولة لإعادة إنتاج «واقعٍ ما»، ينخرط فيه الجميع كفاعِلات وفاعلين، وليس كمُشاهِدات ومشاهدين سلبيين كما في صناعة السينما.
كل تلك التساؤلات حول «لماذا تحضرُ هذه الألعاب؟» و«لماذا نلعبها؟»، وأكثر، واجهتُها شخصياً وأنا ألعبُ تلك الألعاب. ومع كل التوتر والضغط النفسي أُفكِّر في أسباب الاثارة التي تجعلني دوماً بحاجة لأن أختم اللعبة، ربما كي أجد مخرجاً سالماً -قدر الإمكان- للشخصيات، أو كي أبحث عن نجاة مُفترضة لي أنا شخصياً، فأنا أعرف بشكل فعلي أن هذه الألعاب، التي تطورت وصُنعت ضمن مفاهيم صناعية ورأسمالية وبطريركية، لا تستهدفني أنا كلاعبة بشكل أساسي بل هي مُقدَّمة لعالم شديد البياض، ينخرطُ عن بعد في ما يحدث بالفعل في مكان آخر على الكوكب، ولكنني أفكر أنها تشكل جزءاً من نقاش حول واقعية الحرب، واقعية الحصار والجوع، واقعية العنف الذي يُمارس علينا. نقاش لا بدّ أن نخوضه مع الآخرين/الأخريات لكسر نمطية القتل والعنف كمحفِّز للأدرينالين، وتجاوز مقاربة الموت كنوع من النشاطات الخطيرة التي يقوم بها أفرادٌ «لإضافة النكهة إلى حياتنا».
تخوض الألعاب التي نناقشها هنا في هذه الإشكالية، تُقارِبُ زوايا مختلفة منها وتحاول أن تقول أشياء مختلفة عن السياق السائد، لذا فإن التفكير فيها يسمح لنا بإضافة طبقة جديدة إلى كل نقاشاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الحرب والسلم والنجاة منهما.