عندما توجّهت صحيفة يودشه ألغماينه تسايتونغ إلى مديرة مهرجان برليناله ماريته ريزنبيك، قبل انطلاقة المهرجان في دورته الحالية، بسؤال عن اختيار المهرجان للممثّلة لوبيتا نيونغو لرئاسة لجنة التحكيم، وهي التي كانت قد أدلت بتصريحات ناقدة لإسرائيل سابقاً، وعمّا إذا كانوا قد انخرطوا في محادثات عن الموضوع مسبقاً، أجابت ريزنبيك أن إدارة المهرجان حرصت على توعية جميع المشاركين بشأن موقف المهرجان، وأن المرء يحرص في ألمانيا على عدم معاداة السامية وعدم طرح مقولات معادية لليهود: «نريد خلق مساحة للتعبير الفني، يمكن التصريح فيها بكل وجهات النظر بطريقة محترمة ومسالمة. ليس من مصلحتنا أن نُمارس الرقابة. لكننا نستطيع توعية الناس حيال حساسية الأمر».
مستفيدةً من نحو خمسة أشهر للتحضير للمهرجان بعد هجوم 7 أكتوبر، حاولت إدارة المهرجان، ومعها الحكومة الألمانية الداعمة لها، اتّخاذ موقف وسطي في التعاطي مع الشأن الفلسطيني خلال أيامه، على ما يبدو محاولة لتجنّب المخاطرة بأحد أبرز الواجهات الثقافية لألمانيا، وذلك من خلال وضع قضية غزة على الطاولة وليس تجاهلها أو محاولة فرض رقابة عليها، وهو المهرجان المعروف تاريخياً بكونه سياسياً حتى الجذور. وبعدما سُمِحَ بتضامن غير محدود خلال الدورة الماضية مع أوكرانيا والاحتجاجات ضد النظام في إيران بعد مقتل جينا أميني، سعت إدارة المهرجان إلى تجنب الأضرار قدر الإمكان أمام عدسات وأعين آلاف الصحفيين-ات وصنّاع الأفلام القادمين-ات من مختلف أنحاء العالم، بعد الانتقادات المستمرة لألمانيا في تعاطيها مع العاملين-ات في المجال الثقافي في مختلف أنحاء العالم.
بدأت المديرة ريزنبيك والمدير الفني كارلو شاتريان تقديم برنامج المهرجان هذا العام بلهجة تصالُحية نسبياً، متحدثَين عن رغبة برليناله في أن تكون مكاناً للحوار والاندماج، ورغبتهما بأن تُدرَك معاناة الجميع، وأن يَفتح برنامج المهرجان مُختلَف الآفاق على عالم مُعقَّد. كما عبّرا عن تفهُّمها وأسفهما في الوقت نفسه لانسحاب مشروعين من قسم «فورم/المنتدى» بسبب موقف ألمانيا الداعم لإسرائيل، وأكَّدا على تعاطفهما مع الضحايا من جميع الأطراف.
قدم الاثنان برنامجاً على هامش المهرجان يُفترَض أن يمنحَ الفرصة للجميع لنقاش الصراع الفلسطيني/الإسرائيلي، ولكن إلى أي حد كانت إدارة المهرجان جدية فيما تذهب إليه؟ ولماذا كان السينمائيون الفلسطينيون ناقدين لموقفها رغم ذلك؟ هذا المحور كان جديراً بالرصد والمتابعة على مدى أيامٍ من المهرجان.
انسحابات قبل انطلاق المهرجان
على مسارٍ مواز، ألقت الأجواء المُحتقنة السابقة لانطلاق المهرجان بظلالها على أجوائه. قبل أن يبدأ المهرجان، نشر الفنان الهندي الأميركي سونيل سانزغيري في كانون الثاني (يناير) الماضي بيان سحب فيلم له من برليناله، منضمَّاً لمبادرة قاطعوا ألمانيا التي تدعو إلى مقاطعة الفعاليات الثقافية فيها احتجاجاً على قمع الأصوات الثقافية الفلسطينية. وكذلك فعلَ صانع الأفلام جوهن غريزون، ساحباً فيلمه قناع موت من المهرجان.
كذلك نشر الفنان البصري آيو تساليثابا بياناً بسحب عمل له من قسم فورم إكسباندد في المهرجان، مُنضمَّاً إلى حركة مقاطعة ألمانيا ثقافياً، وهو قرار جاء حسب رؤيته رداً على رقابة وقمع تفرضهما الحكومة الألمانية، وعلى تأييدها عنفاً لا يُوصَف ضد الفلسطينيين. وعبرت إدارة القسم المذكور عن أسفها لهذه الخطوة واحترامها لقرار آيو: «لأننا نؤمن بحرية الضمير كما نؤمن بحرية الفن، وندافع عنها»، مُعتبِرة أن القسم «سيظل مكاناً للحوار بمشاركة مختلف الأصوات والمواقف».
كما سحبت الفنانة وصانعة الأفلام الإيرانية مریم تفکري مشروعاً لها من قسم المواهب «برليناله تالينت»، مُنضمَّة أيضاً إلى مبادرة قاطعوا ألمانيا، وأعلنت ذلك بعد انتشار أخبار عن دعوة المهرجان نواباً من حزب البديل لألمانيا لحفل الافتتاح، رغم خروج مئات الآلاف من المواطنين-ات الألمان إلى الشارع احتجاجاً بعد نشر منصة كوركتيف تحقيقاً عن لقاء سري عقده أعضاء من البديل مع شخصيات يمينية متطرفة أخرى لنقاش خطة تتضمّن طرد الملايين من ذوي الأصول الأجنبية من البلاد، حتى لو كانوا مواطنين، ما ذكَّرَهم بالماضي النازي للبلاد.
كانت إدارة المهرجان قد أكدت في البداية دعوة النواب، مُعلِنةً أنها تقف ضد التطرف اليميني وتدعم المظاهرات والمبادرات ضد التيارات غير الديمقراطية، ومُجادِلة في الوقت نفسه بأن أعضاء حزب البديل انتُخبوا ليكونوا في البوندستاغ أو برلمان برلين، وبالتالي هم أعضاء في اللجان السياسية الثقافية وأجسام أخرى. وقد انسحب الفنان لورانس ليك من قسم المواهب «برليناله تالينت» أيضاً بسبب هذه الدعوة، وهو أمرٌ عبّرَ القسم عن أسفه حياله، داعياً إياه إلى عدم التردُّد في التواصل معهم مستقبلاً.
عادت إدارة المهرجان مع تنامي الاحتجاجات لتعلن عن إلغاء دعوة خمسة أعضاء من حزب البديل، مُعتبِرة أن الأفراد الذين يدعمون وجهات النظر التمييزية والإقصائية غير مُرحَّب بهم في برليناله، ومُشيرةً إلى أن الدعوات جاءت بناء اقتراح من حكومة برلين ومفوضية الثقافة في الحكومة الاتحادية، لكنها تتحمل مسؤولية ذلك. أوضحت الإدارة أيضاً أنّ النقاشات التي جرت ضمن فرقهم خلال أيام بيّنت لهم بأن فريقهم لا يعمل كبرلمان أو كمجموعة من السياسيين، بل كسينمائيين وفنانين ملتزمين بالتنوع الفني، مُعتبِرةً أن من واجبهم اتّخاذ موقف أوضح بعد ما كُشِفَ خلال الأسابيع الماضية عن ميل لدى قطاعات واسعة من حزب البديل لإلغاء الديمقراطية.
«100 بالمئة من شأننا»
مع وصول ضيوف حفل الافتتاح مساء الخامس عشر من شباط (فبراير) الجاري، عبَّرَ العديد من الفنانين-ات عن احتجاجهم ضد حزب البديل لألمانيا، وحَمَلوا صوراً لضحايا هجوم هاناو الإرهابي، الذي نفَّذه ألماني عنصري متطرف ضد أشخاص من أصول مهاجرة، في 19 شباط 2020. وكان لافتاً وضعُ المخرجة والسيناريست الأميركية أليزا هيتمان وزميلتان لها شعارَ وقف إطلاق النار (في غزة) دون اعتراض من المهرجان. وكانت هيتمان قد حازت في العام 2020 على كبرى جوائز برليناله، الدب الذهبي، عن فيلمها دائماً في بعض الأوقات، لكن ليس نادراً قط.
من حفل افتتاح برليناله
بدأ مُقدِّما حفل الافتتاح يو شوك وهادنيت تيسفاي تقديمهما بالحديث عن السياسة، وقالت تيسفاي إنه «عندما يموت الآلاف من المدنيين الأبرياء بأكثر الطرق وحشية، وعندما يكون هناك هذا القدر الكبير من العنف في الشرق الأوسط منذ يوم السابع من أكتوبر الفظيع، ما الذي نريد من مهرجان سينمائي أن يفعل؟ ما الذي نريد أن نكونه»، مُضيفةً: «بالطبع لهذا تأثير علينا كبشر، وبالطبع له تأثير على مؤسسات كبرليناله، لذا لا نستطيع التظاهر بأن ذلك ليس من شأننا، لأنه 100٪ من شأننا»، فيما أضاف زميلُها أنه ليس من المعقول أن يهددوا بعضهم بعضاً أو يصبحوا عنيفين حيال بعضهم بعضاً، لأن ذلك لن يفيد الناس في عين الحرب ولا الناس في ألمانيا، داعياً إلى أن يكون برليناله مكاناً للحوار وبناء الجسور.
ورغم تطرُّق رئيسة المهرجان ريزنبيك ووزيرة الدولة لشؤون الثقافة كلاوديا روت للوضع المأساوي في غزة، لكن لم تتجاوز دعواتهما سقف المطالبة العامة بحماية ومساعدة المدنيين، دون الحديث عن وقف إطلاق النار. وقالت ريزنبيك في خطابها الافتتاحي إن الحرب في الشرق الأوسط متواصلة، وإنهم يرون ألم الناس الهائل في غزة وإسرائيل: «الحرب هي كارثة إنسانية وندعو لاتّخاذ كل ما أمكن لحماية حياة المدنيين»، مُعبّرة عن تعاطف عميق مع كل الضحايا في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم، لتنتقل للحديث باستفاضة عن رفضهم لحزب البديل وخططه: «الكراهية ليست موجودة على قائمة ضيوفنا».
وتحدَّثت الوزيرة روت مُطوَّلاً عن الحرب، وعن يوم 7 أكتوبر الذي قالت إنه كان شقّاً عميقاً بالنسبة للإسرائيليين والعالم اليهودي، اليوم الذي شهد «الهجوم البربري لإرهابيي حماس على أناس يعيشون ويحتفلون بسلام . أناس مثلي ومثلك»، مطالبة بإعادة المختطفين الإسرائيليين، رافعة صوتها بالقول «أعيدوهم إلى المنزل الآن !»، مُضيفة: «عندما أقول ذلك أفكر بالطبع بحزن عميق وبقلق كبير في المدنيين في قطاع غزة. الإنسانية غير قابلة للقسمة. ينبغي أن يعمّ تعاطفنا الجميع». وقالت إن الناس في غزة «بحاجة ماسّة للمساعدة والحماية»، وإن هذه المنطقة «بحاجة لحل سياسي، هو شرط للعيش المشترك»، وعبَّرت عن صدمتها العميقة من تنامي الهجمات ضد اليهود في ألمانيا.
مع توالي طرح أسئلة متعلقة بحزب البديل على ممثلين-ات وصناع الأفلام خلال الأيام التالية، قال المخرج الألماني أندرياس دريسن الذي جلب العديد من قصص ألمانيا الشرقية إلى الشاشة الكبيرة، في مؤتمر صحفي عن فيلمه الجديد من هيلغا مع الحب، مازحاً أنه من المعروف أن برليناله مهرجان سياسي، لكن عليهم أن يحرصوا ألّا يصبح مهرجاناً عن السياسة وأن تبقى هناك مساحة للحديث عن الأفلام.
احتجاج فني مؤيد لفلسطين على هامش المهرجان
على مدار الأيام الأولى للمهرجان، نظَّمَت مجموعة من النشطاء وصانعي-ات الأفلام من الفلسطينيين، ومن الداعمين غير الفلسطينيين، احتجاجات تحت عنوان «عاملين-ات في صناعة الأفلام لأجل فلسطين»، أمام مول قريب من برليناله بالاست، مكان عرض الفعاليات الرئيسية للمهرجان. في كل يوم من أيام المهرجان كانت سينمائية أو سينمائي فلسطيني يقرؤون شعراً باللغة العربية والترجمة بالإنكليزية، ويتذكر الجميع في كل يوم صانع أفلام قُتل في القصف الإسرائيلي على غزة.
صورة من الاحتجاج اليومي لأجل فلسطين قرب برليناله بلاست
ووزَّعَ المحتجون منشورات بعنوان «مرحباً في برلين»، تتحدث عن «دعم ألمانيا للصهيونية، عبر الإمداد بالسلاح»، وعن إسلاموفوبيا متجذّرة في ألمانيا، وعن قمع للفلسطينيين-ات في برلين، حيث يشكلون أكبر تجمُّع فلسطيني في أوروبا، باستخدام العنف ضد المتظاهرين-ات ووَصْفِ كل نقد لإسرائيل بأنه مُعادٍ للسامية، وعبر محاولة فرض فقرة «معاداة تمييز» في عقود الدعم الفني تتضمّن تعريفاً مثيراً للجدل لمعاداة السامية، وممارسة الإلغاء على كل من يعترض. ويقول المحتجون إن قطاع الثقافة في ألمانيا مدعومٌ إلى حد كبير حكومياً، بما في ذلك مهرجان برليناله، ويرون أن الحكومة تحاول فرض أجنداتها من خلال ذلك على المؤسسات. وأخذت الاحتجاجات على برليناله عدم دعوته لوقف إطلاق النار، رغم تجاوز معدل موت المدنيين في غزة أي صراع آخر في القرن الواحد والعشرين.
أمام مقرّ تنظيم سوق الفيلم الأوروبي في برليناله وداخله، نظَّمَ المحتجون عرضاً بعنوان «أهلاً على السجادة الحمراء»، مثَّلوا فيه دور الضحايا في غزة، وترددت صيحاتهم «الحرية لفلسطين»، ونشروا لافتة قماشية داعية لوقف إطلاق النار في غزة انتزعها أمن السوق لاحقاً، ورموا قصاصات ورقية تُشبه قصاصات الإجلاء التي يرميها الجيش الإسرائيلي.
رسالة من مشاركين في برليناله
على غرار بيان من متعاقدين للعمل مع برليناله، دعا إلى وقف إطلاق النار وقال أصحابه إنهم يريدون إلزام المهرجان بمبادئ أكثر سمواً، نشرت مجموعة من صناع-ات الأفلام المشاركين رسالة غير مصحوبة بأسماء، ضمّوا فيها صوتهم إلى العاملين في القطاع الثقافي حول العالم الداعين لوقف إطلاق النار في غزة، وإطلاق سراح كل الرهائن والسجناء السياسيين، وتكثيف جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، ودَعوا لإنهاء الاحتلال وجرائم الحرب التي ترتكبها الحكومة والجيش الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين.
قال موقِّعوا البيان إنهم قلقون حيال تنامي الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، وأيضاً حيال تنامي اتهامات معاداة السامية المُختلَقة ضد الأصوات المُعارِضة والأصوات الفلسطينية، وهي اتّهامات يمكن أن تشتت الاهتمام عن معاداة السامية الحقيقية التي تنمو في الظل، على حد وصفهم. وإن عبَّروا عن تقديرهم لبيان برليناله الذي ألزم فيه المهرجان نفسه بمكافحة التمييز ودعم الفهم المتبادل بين الثقافات، إلا أنهم طلبوا من إدارة المهرجان فعل ما هو أكثر لحماية هؤلاء الذين يرفعون صوتهم ضد التمييز الحاصل من قبل المؤسسات الثقافية الألمانية، وقدموا مجموعة من المطالب منها الدعوة إلى إنهاء استخدام اتهامات معاداة السامية المُختلَقة كسلاح ضد الفلسطينيين-ات واليهود والأصوات الأخرى المتضامنة مع الشعب الفلسطيني، وإلى مواجهة الرقابة ورفض إسكات وجهات النظر الناقدة في قطاع الثقافة.
اختار بعض المشاركين إعلان موقفهم علناً خلال فعاليات برليناله عوضَ المقاطعة، فقرأت مجموعة من صنّاع-ات الأفلام في برنامج مواهب برليناله بياناً مشتركاً، عبروا فيه عن تضامنهم مع سكان غزة وفلسطين عموماً: «أناسٌ ليسوا مجرد أرقام، أناسٌ يُحِبون ويُحَبون، بُترت أحلامهم قبل الأوان»، داعين لوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال.
ضمّت القائمة مالين من السويد وييجي جاك من التشيك وبيترا شتيبتك من ألمانيا وسامان حسينبور من إيران وأوجينا ليم من أستراليا وفاطمة وردي من السودان/أميركا، وآش غوه وا من أميركا/سنغافورة وتشنغه سو تشونغ من تايوان/ألمانيا وجلال الماغوط من سوريا/ألمانيا وأندريا نيرمالا ويدجاجانتو من أندونيسيا.
والتقطت المخرجة دينا ناصر، مع طاقم عمل فيلمها القصير سكون المنافس في قسم «جنريشن»، صوراً قبل العرض الافتتاحي وهم يرتدون الكوفيات الفلسطينية ويحملون لافتة كُتب عليها «أوقفوا إطلاق النار الآن».
تايني هاوس، ونقاش على نطاقٍ محدود
في ساحة بوتسدام بلاتز القريبة من مكان عقد المهرجان، طرحت إدارة برليناله على مدار ثلاثة أيام، بين 17 و19 شباط، فعالية بعنوان «تايني هاوس»، متعهدة بأن توفِّر لزوار المهرجان «حواراً مفتوحاً حول الحرب في إسرائيل وغزة». اتّخذت الفعالية شكل حوارات مغلقة يضمّ كل حوار منها 5 إلى 6 أشخاص في كل جولة، يجلسون حول طاولة مع مُيَّسرين للحوار بهدف نقاش محور من محاور موضوع النشاط.
بحضور حوالي 80 زائراً-ة وفق تقديرات مُيَسّري حوارات «البيت» هذه، طُرحت مواضيع مثل الإلغاء القائم على معاداة السامية، وماهية معاداة السامية، ومحاولة بنيامين نتنياهو منع أي دولة فلسطينية، ورفضه أي وقف للحرب لأنه يرى في الحرب نجاة له. تحدثت امرأة ألمانية في مقتبل العمر، من أصول عربية، عن ضرورة النظر إلى ما جرى في السابع من أكتوبر كجزء من سياق، مُتسائلة: ماذا كنا فعلنا إن كنا مدة 75 عاماً تحت احتلال؟ قبل أن تضيف لاحقاً ما هي الظروف التي تدفع المرء حتى يفقد «إنسانيته» ويرتكب جرائم قتل كهذه في ذلك اليوم.
وبرَّرت زائرة ألمانية مُسنّة قدومها بأنها جاءت باحثة عن بعض الأمل، وهي التي تجد نفسها مرتبطة منذ الصغر بآنا فرانك والخوف من الحرب، مشيرة إلى حديثها مع مُيَسّري الحوار عن مشروع السلام «نقف سوية» في إسرائيل، وعن كون المشكلة مع الفاشية واحدة في ألمانيا وإسرائيل، لديهم حزب البديل وفي تل أبيب يوجد بنيامين نتنياهو، الذي ترى أن عليه أن يرحل عن السلطة.
رأى أحد المشاركين في الجلسات أن القاسم المشترك بين المتحدثين هو الخوف وصعوبة الحديث عن الموضوع علناً في حياتهم اليومية، مُتحدِّثاً عن معلمة ألمانية أَسرَّتْ لهم بأنها لا تستطيع الحديث عن الموضوع في هيئة التدريس، خشيةً على وظيفتها. وهو يرى أنه ينبغي الحديث أكثر عن الموضوع، ليس من أجل أن يحدث تغيير على المستوى الشعبي حيال الحرب في غزة فحسب، بل أيضاً على المستوى السياسي الرسمي، الذي تغيَّرَ موقفه بعض الشيء وإن كان خطابياً فقط.
بعض المشاركين-ات في تظاهرة «عاملين-ات في صناعة الأفلام لأجل فلسطين» اللذين كانوا واقفين في مكان غير بعيد عن مكان فعالية «البيت»، شككوا في جدية نوايا برليناله وفي جدوى الحديث في مكان أشبه بزنزانة أو بغرفة الاعتراف في كنيسة. فيما جادلَ مُيَسّرو الحوارات بأن ضيق المكان شجَّعَ الناس على الحديث دون خوف حتى في شؤونهم الشخصية، وهو أمرٌ لا يمكن أن يحدث في مكان عام يضمّ عشرات الأشخاص، مُشيرين إلى دور تجربة «البيت» في نشاطات ضد حزب البديل سابقاً.
لم ينشر مهرجان برليناله أو الجهة المنظمة أي إعلان للفعالية باللغة العربية أو العبرية، واقتصرت لغة الحوار على الإنجليزية والألمانية، ما يضع علامة استفهام حيال الفئة المستهدفة به، وما إذا كان كثرٌ قد سمعوا به في المقام الأول.
لا توجد أرض أخرى
في مسرح هيبل آم أوفر نظمت إدارة برليناله نقاشاً عن صناعة الأفلام «كأداة لأجل الحوار في أوقات الأزمات»، بدا كحوار من عالم آخر في السياق الألماني، ابتداءاً من خيار دعوة هانو هانوشتاين، أحد أبرز الصحفيين الألمان الناقدين للسياسات الإسرائيلية في تغطيتهم، ليكون ميسراً للندوة. أيضاً باسل عدرا ويوفال أبراهام من تجمُّع صانعي أفلام يشارك في الدورة الحالية بفيلم لا توجد أرض أخرى الفلسطيني، الناقد للسياسات الاستيطانية الإسرائيلية التي تُحاول طرد الأهالي من قرى مسافر يطّا. حضرَ إلى جانبهما في الندوة الكاتب والمخرج الإسرائيلي آلون ساهار، الذي شارك كباحث في الفيلم المعروف الطنطورة، والمخرجة الجورجية لانا غوغوبيريدز التي خسرت عائلتها على يد النظام الستاليني.
ناقش يوفال وباسل العديد من المسائل السياسية التي تتجاوز موضوع الفيلم، فتحدَّثَ باسل عن أن الاحتجاجات الإسرائيلية ضد اليمين المتطرف وبنيامين نتنياهو لا تعنيهم، لأنه لم يكن لدى الإسرائيليين مشكلة عندما كانت المحكمة الدستورية تلك تحكم بسرقة أراضي الفلسطينيين وطردهم منها، مُتِّهماً الحكومات الغربية بدعم تدمير بيوتهم وهي سردية فيلمه الرئيسية. فيما روى آلون ساهار فصلاً من فصول السياسات الثقافية الألمانية ممّا شهد عليه حين شاركت زوجته بفيلم في مهرجان أوبرهاوزن مع شركة توزيع أفلام، عندما استغلَّ مدير المهرجان لارس هنريك غاس صفحة المهرجان للدعوة للمشاركة في تظاهرة داعمة لإسرائيل مُوحياً بأن سكان حي نويكولن من داعمي حماس، ورفضَ الاعتذار عن ذلك ممّا دفعهم لسحب الفيلم من شركة التوزيع.
حرصت المسؤولة عن قسم «منتدى فورم» في برليناله على تقديم مداخلات من الحضور، مُعلِنة عن عدم وجود «رقابة لدى برليناله، وحتماً ليس في قسمها». وقال صانع الأفلام الإسرائيلي أودي علوني من بين الجمهور إنه يلحظ وجود نمط جديد من معاداة السامية في ألمانيا، لا يسميه أحدٌ معاداة السامية، وهو الرقابة على الأصوات اليهودية المثقفة التقدمية؛ أناسٌ مثل جودت بتلر وماشا غيسن تنتمي إلى الإرث الثقافي للفكر اليهودي الألماني، مؤكِّداً أنه وللمرة الأولى في ألمانيا خائفٌ من الاقتباس من فالتر بنيامين وفرانز روزينتزفايغ، خوفاً من الإلغاء، سائلاً المضيف هانشتاين ما الذي يمكنهم فعله. وقد ردَّ هانشتاين بالإشارة إلى قلقه أيضاً من تنامي معاداة سامية ضد أصوات يهودية يسارية في ألمانيا، وأنهم شاهدوا العديد من هذه الوقائع في السنوات الماضية، لكنها تبدو الآن وكأنها مكشوفة أكثر، ما يُشعِره كألماني غير يهودي بالخجل، مُعتبِراً أن هناك حاجة للمزيد من النقاش حول ذلك.
وتحدَّثَ أكاديمي فلسطيني من بين الحضور عن رفضه وضع شروط مسبقة أمام أي حوار كما اقترحَ يوفال، لأن ذلك يُستخدم لإسكات الأصوات، مضيفاً أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى إسكات الأصوات اليهودية من قبل الألمان بتهمة معاداة السامية، ولكن قبل كل شيء ينبغي الحديث عن الأكاديميين-ات الألمان العرب والفلسطينيين الذين يفقدون وظائفهم في ضوء ما يحدث حالياً.
يقترب موعد إسدال الستارة على دورة هذا العام من مهرجان برليناله وتوزيع الجوائز على الفائزين. ربما يحظى فيلم لا توجد أرض أخرى الفلسطيني على أحد هذه الجوائز، باعتباره مُرشَّحاً عن فئة أفضل فيلم وثائقي، وربما تكون إدارة المهرجان قد سعت للاستعانة بهذا الفيلم دعماً لجهودها الأخرى لإنقاذ المهرجان من مأزق يُخرّب وجهه السياسي الذي لطالما حرصت على تلميعه، وذلك من خلال موقف غائم من غزة لا يرضي الفلسطينيين-ات وداعميهم ولا يغضب الإسرائيليين وداعميهم، وعبر السماح المُقنَّن بنقاش تشارك فيه أصوات ناقدة لإسرائيل، ممّا بدا رغم ضآلة الهامش النقدي الذي حقَّقه متقدماً على مناخ النقاشات العامة في الفعاليات الرسمية الألمانية حيال القضية الفلسطينية.