ينتشر الوعي البيئي على نحو متزايد، وتصير قطاعات أوسع من الناس أكثر إدراكاً للنطاق الكوكبي للخطر الذي يُمثّله الاستنزاف غير الرشيد للموارد، وانبعاثات الدفيئة وأدخنة العوادم والمصانع الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري، كما تكتسب المناقشات السياسية حول مخاطر التسلّح والسياسات العدوانية للدول، والتدمير الذي تُخلِّفه الحروب، في ضوء هذه المقاربة، أهمية جديدة.
ولكن للحكاية جوانب أخرى، وأسئلة أعمق يجدُ نفسَه مضطراً إلى مواجهتها كلُّ من يأخذ هذا الأمر بجدية.
في واحدة من الحلقات الأخيرة من برنامج الدحيح، تناولَ اليوتيوبر أحمد الغندور التيار الرئيسي في الإيكولوجيّة المعاصرة، الذي يميلُ إلى تصوير الإنسان وأنشطته الحضارية كتهديد متواصل للطبيعة الأم، حيث «وصل النشطاء البيئيون إلى حدِّ الحديث عن كوكب الأرض في حالته المثالية، كمكان خالٍ من البشر»، ليؤكِّدَ على أن حلول الأزمة البيئية «ليست في الغرق في الإحساس بالذنب، بل هي لدى الشركات والاقتصادات الكبرى، المسؤولة بشكل رئيسي عن هذه الأزمة، والتي لها مصلحة في تحويل الطبيعة إلى فكرة رومانسية تُعاش كإحساس فردي بالذنب تجاه البيئة، وإحساس جماعي عدمي يتّهم الإنسان»، بدل الانخراط في جهد جماعي موجّه لإجبار الشركات والكيانات الاقتصادية الكبيرة على تَحمُّل مسؤوليتها.
ويتفق الفيلسوف الفرنسي لوك فيري، في كتابه (النظام البيئي الجديد) مع «الدحيح» في هذا التنبُّه، رابطاً هذا التيار الأيديولوجي بجذوره الرومانسية المعادية للنزعة الإنسانية، ومسلِّطاً الضوء على الكيفية التي تناولت بها الرومانسية الألمانية، وورثتها السياسيون في الحركة النازية، المسألةَ البيئية من منظور مشابه، وعلى الإجراءات المتماثلة التي ساروا في اتجاهها.
هكذا، يُشدِّدُ فيري على وجوب التمييز بين اتجاهين ضمن التقليد البيئي، وبينما ينتمي أول هذين الاتجاهين إلى الحركات الرومانسية التي تطورت كنقد للحداثة وعقلانيتها العلمية الجافة، مقدِمةً بالمقابل الأزمنةَ السابقة على الحداثة بصفتها تُجسِّدُ اتحاداً عضوياً بين المجتمعات الإنسانية وبيئاتها وتقاليدها، يُعبّر عن هذا التيار اقتباسٌ للوك فيري من أحد المنظرين المحافظين المبكرين، يقول: «أعرف أن هناك فرنسيين، وألماناً وهولنديين، ومن كتب الرحّالة أعرف بوجود الفرس والهنود وشعوب الشرق، ولكن الإنسان هذا، لم أره أو أسمع به في حياتي». فإن فيري يُشير إلى أن هناك اتجاهاً ثانياً ضمن التقليد البيئي، تَطوَّرَ ضمن الفضاء الأنجلوسكسوني والفلسفة البراغماتية، يُركّزُ على بيئة الإنسان وكيف يمكن جعل هذه البيئة أكثر ملاءمةً لنمائه وازدهاره.
والتيار الأول، الذي كان محطَّ نقد «الدحيح»، يجد، بصورة لافتة، التعبير الحَرْفي لنظريته الأخلاقية الطبيعانية في أبيات الفيلسوف العربي الفيغان أبي العلاء المعري حين يقول:
«أراك مريض العقل والدين فالْقَني
لتسمعَ أنباء الأمورِ الصحائحِ
فلا تأكلَنْ ما أخرجَ الماء ظالماً
ولا تبغِ قوتاً من غريض الذبائحِ
وأبيضَ أُمّاتٍ أرادت صريحَهُ
لأبنائها دون الغواني الصرائحِ
ولا تفْجعَنّ الطيرَ وهْي غوافل
بما وضعت، فالغدر شر القبائحِ
ودع ضَرَبَ النحل الذي بَكَرَتْ له
كواسبَ من أزهار نبتٍ فوائحِ
فما جَمَعَتْهُ كي يكون لغيرِها
ولا أحرزته للندى والمنائحِ»
لماذا فريغان؟
ظهرَ مصطلح النباتية المجانية (freegan) لأول مرة عام 2000 في منشور مجهول الكاتب، يُرجَّح أن واضعه هو عازف الدرامز في فرقة البانك روك الأميركية «!Against me» وارن اوكس.
يتكون المنشور المُعنوَن «لماذا فريغان؟ هجوم على الاستهلاك، دفاعاً عن الكعك» من مقدمةٍ تُعرِّف الفريغانية كأخلاقيات مُناهِضة للاستهلاك، من خلال مفاهيم «الأكل الأخلاقي، البساطة الطوعية والحد الأدنى minimalism في استخدام النقود، والمقاطعة الجذرية»، ومن نقدٍ يتألّفُ من عدة نقاط للنزعة الاستهلاكية، ونقدٍ للنزعة النباتية (الـveganism)، وملاحظاتٍ تطبيقية.
بشكل أساسي، تستند الفريغانية إلى حقيقة أنَّ من الممكن للمرء الاستغناء عن المشاركة في دورة الإنتاج والاستهلاك، عبر مقاطعة العمل المأجور -ما يعرف في الأدبيات اليسارية بعبودية الأجر (أو المرتب)- والاعتماد في التغذية على مُخلَّفات الطعام التي تُرمى يومياً في المطاعم والأفران والمتاجر الكبيرة والمنازل، حيث يغوص الفريغانيون في حاويات القمامة، ويستخرجون الكثير من الخضار والأطعمة الصالحة للأكل، ومن خلال الإقامة في الـ(سكوات)، وهي المنازل الكبيرة أو الأبنية نصف المبنية، المتروكة فارغةً بدوافع المضاربات التجارية أو لأيّ سبب كان، التي يحتلها الهيبيون والمتشردون، وينظمون مسكنهم فيها بقواعد غير هرمية، وقائمة على التآخي والتضامن.
يبدأ نقدُ الاستهلاك في بيان الفريغانية بالإشارة إلى اللاعقلانية المفرطة التي يجري بها استنزاف الموارد ومُراكَمَة البلاستيك في مطامر النفايات، لحساب تثمير رأسمالات الشركات: «إن فعل الاستهلاك هو تحويل الأراضي والموارد الطبيعية إلى أموال للشركات وفدادين من مدافن النفايات»، ورفض الامتياز الاستعماري للمجتمعات الصناعية: «هناك من يتضورون جوعاً بحرفية معنى الكلمة كي نتمكن من الحصول على أرفُف ممتلئة في متاجرنا، وإذا كان هذا يقلقك، فيمكنك الاحتجاج على التوزيع غير المتوازن من خلال التخلي عن امتيازك، وإطعام نفسك من الفائض المرمي من الطعام».
أيضاً، فنظراً للطبيعة الاستلابية للعمل المأجور، فالمقاطعة تُحرِّر المرء من عبودية العمل والاستهلاك، لأن «ما نستهلكه يستهلكنا»، من حيث أننا جميعاً عادةً ما نقضي حياتنا في التفكير في المال اللازم.
وبينما قد يبدو هذا الكلام غير عملي لكثيرين، فإن الفريغانيين موجودون ومرئيون، على الأقلّ في مدينة عالمية الطابع مثل اسطنبول، المفتوحة على تأثيرات العولمة، في الأماكن التي يقيم فيها العديد من السكّان الأجانب من الشباب، من الذين ينظّمون مبادرات وتعاونيات، والشبان الأتراك المتأثرين بالثقافة الأميركية وهوامشها.
هل ذلك ممكن؟ إلى أي مدى؟
ولأتحدثَ عن تجربة شخصية، فقبل عامين أو أكثر قليلاً، كان مهرجان الموسيقى الهيبية، المعروف بالـ«rainbow gathering» والذي بدأ في أميركا السبعينيات، يحطّ رحاله في تركيا. وقد كنتُ في ذلك الوقت أقيم مع صديقي التركي Umut (ومعنى اسمه أمل) والذي كان جزءاً من هذا المجتمع، حيث عاد ذات صباحٍ من المنطقة التي اختيرت لتجمُّعهم في إحدى غابات الأرياف التركية الوارفة، ومعه «قبيلة» حقيقية من المجانين الرائعين. كانت تجربة العيش مع هذه المجموعة تجربة ناجحة تماماً، إذ يبتسم الباعة في آخر النهار بِوِدٍّ حين تَطلُبُ منهم ما سيرمونه من مخبوزات، متفهمين وفاهمين، ومثل السحر، كلّ مرة لا يكون الطعام مشكلة.
في هذا المجتمع عرفتُ أشخاصاً ذكروني أول ما ذكروني بنفسي، ربما، ولكن أكثر بأصدقائي الذين كنتُ أَفتقدهم. كنا نجول في شوارع حي كاديكوي، الواجهة البحرية للجزء الآسيوي من اسطنبول، وشاطئه شاطئ مودا المزدحم بالمتنزهين الرائقين في ذلك الصيف -يقول ما يشبه المثلَ الإسطنبولي إن اسطنبول الآسيوية للسُّكنى واسطنبول الأوربية للعمل- نعزف موسيقى الشارع، وفي طريق عودتنا نمرّ على الحاويات الكبيرة أمام المتاجر الرئيسية، حيث غالباً ما يكون مُمكناً عدم الاضطرار إلى القفز إلى داخل الحاويات، إذ توجد كميات كافية من محتويات صناديق الخضار غير القابل للبيع بعدُ، مركونةً على الرصيف عند الحاوية، مع علب فاخرة مرمية من أشياء قد لا تخطر على بالك، قادرةٍ على تزيين وليمة موجودة بطبيعة الحال.
بحساب الأمر من الناحية الاقتصادية، فهو كان مجزياً إلى درجة أن عدداً كبيراً حقاً من الذين كانوا ضيوف جاك –الاسم الآخر لصديقي التركي أوموت- كانوا يجدون في مشوار واحد من تلك المشاوير ما يكفيهم لأيام، بحيث لا يحتاجون إلى الخروج كل يوم.
لكنك بالمقابل تَسمعُ في اسطنبول أحياناً قصصاً حزينة حقاً، عن كيف ينتهي الأمر بتجارب الـsquatting (احتلال المساكن) إلى خناقة عنيفة للغاية مع جيران أتراك غاضبين، كارهين للأجانب، غالباً ما يكونون من الشبّان الذين تنجح في استقطابهم الأحزاب اليمينية، كحزب الحركة القومية MHP وغيرها، والتي تتمتع بأغلبيات برلمانية وشعبية ثابتة هنا في تركيا، وتُروِّج للعنف والتمركُز حول الذات والكراهية.
ومع أنني سألتُ نفسي لبعض الوقت، هل كانت تجربة إطعام نفسك كفريغاني لتنجح، لو أن الفريغانيين الذين كنت أتسكع معهم ذوو ملامح وهيئات شرق أوسطية، بملابس أقلَّ ألواناً وبشرة أقل بياضاً، فإنني لم أجد سبباً لافتراض أنها لن تنجح، فالأتراكُ ورغم كل شيء على حساسية أخلاقية عالية. تبقى هذه الأشياء ذاتية، ولكن كمثال على هذه النقطة، لم يحدث لي كسوريّ بلا أوراق أنْ فشلَ تكتيكي البسيط عندما يوقفني البوليس، في مخاطبته بالكلمة شديدة الشيوع والاستخدام التي يقولها الجميع للجميع: (ağabey) والتي تعني (الأخ الأكبر) وتُلفَظ (آبيه)، إذ تنجحُ هذه الكلمة في نيل رحمة البوليس بقدر ما تكون حقيقية، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى جهد كبير إذ أكون في تلك اللحظة في أمسّ الحاجة إلى رعاية الـ آبي.
وعلى الأقل، فلأقُلْ إن الأتراك يحسّون بالأقل حظاً حتى في طبقاتهم الموسرة، وعندما يقولون لمن يُرى يَكدح: (فلتأتكَ السهولة kolay gelsin) لا يحضُر ذلك الظلّ المُخيف لتمييزهم بين التركي وغير التركي، الذي عادةً ما يحسم المواقف.
نقد النباتية
تتركز النقطة الأساسية المُتعلِّقة بالفيغانية على لفت النظر إلى التشابه بين الكيفية التي تعمد بها النزعة النباتية إلى ترشيد التصنيع الرأسمالي عبر «التصويت بالنقود»، بشراء أطعمة نباتية لإرغام الشركات على تقليل استغلال الحيوانات بكل آثاره على النظام البيئي والاحترار، وبين مؤيدي أحزاب يسار المركز ممّن يعتقدون أنهم بالتصويت لحزب يساري فهم إنما يُحدِثون تغييراً في النظام: «أنا لا أصوت، لأنه وبغض النظر عمّن أُصوَّت له، تفوز الحكومة دائماً، وعندما يُصوِّت المرء بالنقود، يفوز الاستهلاك»؛ يقول بيان الفريغانية.
النباتية هي خطوة أولى جيدة، ولكنك «لو أعددت قائمةً بجميع الممارسات غير الأخلاقية والشركات والمنتجات التي ترغب في مقاطعتها، ستجد أنك لن تتمكن من تبرير شراء أي شيء». النظام النباتي، ليس تهديداً أو تحدياً للممارسات المُسرِفة في المجتمع الرأسمالي، لأن «عبوات الطعام النباتي لا تشغل مكاناً أقل في مكبات النفايات، كما لا تستهلك موارد أقل».
في جزئه الأخير (?how freegan)، يسردُ البيان نصائحَ تتفاوت في نجاعتها العملية وغرابتها أحياناً، من تناول ما يقع تحت يديك في النفايات من أطعمة متفاوتة الجودة يمكنك الاختيار بينها، مع لفت النظر إلى الكميات الكبيرة من الطعام التي يمكن للفريغاني أن يحصل عليها، والاعتماد على قسائم الدعم الحكومية والمطابخ الخيرية، وتناول الثمار والأعشاب الصالحة للأكل عن الأشجار، أو حتى زراعة خُضارك الخاصة في أي مساحة صغيرة من التراب تستطيع الوصول إليها، ومقايضة الخدمات مع التعاونيات والمجموعات الأخرى، وحتى السرقة من المتاجر الكبيرة (مع بعض النصائح حول كيف يمكن أن يكون هذا العمل هجوماً على المتجر نفسه، من خلال تحطيم أو تخريب رفوف الأشياء التي «لا تستطيع تَحمُّل وجودها هناك»، بحيث يتوقف المتجر عن بيعها في النهاية!).
بالمثل، يمكن توفير الكثير من الطاقة عبر الاعتماد على الشمس والتهوية الطبيعية والتدفئة الطبيعية (ارتداء أو خلع الملابس بدل الاعتماد على الأدوات الكهربائية)، وتقليل مرات الاستحمام، وعدم ضرورة هدر الكثير من المياه عند كل استخدام للمراحيض، والاستغناء عن السيارات بالاعتماد على المشي والدراجة، والاستغناء عن المناديل الورقية، وعن الكثير من الأشياء الأخرى.. العيش في السكوات، وصُنع بيرتك الخاصة ونبيذك الخاص (بينما تحتاج لصنع بيرة منزلية كثيراً من المعدات والمراحل، فإن النبيذ أبسط الأشياء، حيث التخمير بتقنية التعتيق لا يتطلّب أكثر من وضع معصور العنب أو أي ماء يحتوي على سكريات، في عبوات زجاجية محكمة الغلق ومعتمة بحيث لا ينفذ إليها الضوء أو الهواء، وتركها للظلمة وللوقت، حيث كلما طال بها الزمن تحولت تراكيزُ أكبر من السكر إلى كحول)، وختاما بنصيحة: «تَمدَّدْ».
مَدِّدْ ما لديك من موارد، واسأل نفسك قبل أن ترمي أي شيء إذا كان ممكناً استخدامه بأي طريقة من قبل شخص آخر، وقبل شراء أي شيء تأكَّد ممّا إذا كان بإمكانك صُنعه، أو استعارته أو الاستغناء عنه؛ «شارك مع الآخرين، وحَرِّر نفسك من عقلية المُستهلِك، فالحلول لا يُعثَر عليها في مركز التسوق»، وأولاً وأخيراً: سِر بخفة على الأرض.
الفريغانية كتفكير في المنظومة
لربما أنها في أبسط أشكالها، لا تعدو الفريغانية أن تكون تفكيراً في كل مرة يُرمى فيها الطعام، تفكيراً في كميات الطعام والموارد التي تُهدَر في آليات الإنتاج المُوسَّع والمُكثَّف والاستهلاك المُفرِط، وشدة الاحتياج إلى هذه الموارد في كل مكان من العالم، وكم يمكن أن يتغير هذا العالم لو أن الآلة التي تقوده، والتي نسميها النظام الرأسمالي، يتداخل مع دوافعها بعضُ العقل والمبدأ الإنساني، ومبدئياً أي شيء آخر غير الربح والربح فقط.
لقد تصوَّرَ ناقدُ الرأسمالية كارل ماركس الرأسماليةَ كشيء شرير يَستلبُ ويُغرِّبُ حتى الرأسماليين أنفسهم، والذين سرعان ما يصبحون عبيداً لعملية مُراكمة الأموال في لعبة مقامرة مجنونة، معها ينفصلون عن ذواتهم مثلما يفصلون كل الناس عن ذواتهم، حيث هم يحتكرون مُلكية وسائل الإنتاج ويشترون مقابل أجر قليل عملَ الآخرين -ممن لا يملكون إلا قوة عملهم- لتشغيلها، ويحرمون أنفسهم والإنسانية من التمتع بحياتهم وجوانب كينونتهم من خلال هذا التنظيم غير العقلاني وغير العادل للثروة؛ الثروة التي، بحكم كونها تُنتَج جماعياً، يجب أن تُوزَّع أرباحها جماعياً، ولمصلحة المنتجين وليس المالكين، الأمر الذي يُسمَّى التخطيط الاشتراكي.
وإذا كانت تطبيقات الاشتراكية خلال القرن العشرين، عبر إنهاء الدولة للسوق ومصادرتها لوسائل الإنتاج الكبيرة من خلال نظام استبدادي يقمع الحريات السياسية لصالح هذه الأولوية الطبقية، في مجموعها تجارب دموية ومُخيّبة للآمال بشكل درامي، وهو ما يوافق عليه المُنظّرون التقدميون في كل مكان اليوم، فإن أحداً منهم لا يختلف، بالمقابل، مع الفكرة القائلة بضرورة خلق بدائل اشتراكية مُجتمعية ولاسلطوية. فالمبادرات الميدانية وكل التكتيكات النضالية وأشكال الاحتجاج السلمي التي نعرفها اليوم، مثل الإضرابات والعصيان المدني، والمظاهرات الكبيرة وأفعال المقاطعة على نطاق واسع، واحتلال الساحات ومواقع العمل، قد ظهرت في البداية كمُبادرات جماهيرية عفوية أثبتت نجاعتها، وذلك كان رهانَ المُفكّرة الماركسية الألمانية روزا لوكسمبورغ، التي عُرِفَت بنقدها المُبكِّر لدولتية الأحزاب الشيوعية، ودفاعها عن استلهام القيادة الشعبية للحركة التحررية، ومعارضتها النموذج اللينيني الذي تحوَّلَ بعد ذلك إلى ثابت في الأنظمة الاشتراكية، وفي أي نظام شديد المركزية (حتى أن قطب المحافظين الجدد في الولايات المتحدة ستيف بانون يصف نفسه باللينيني). ورد هذا التصريح في مقال على موقع «Daily Beast» «The واستشهد به العديد من المعلقين بعد ذلك. المقال مُتاح في هذا الرابط. انظر أيضاً مقال لسلافوي جيجك في هذا الرابط.
إن الاستغلال في الرأسمالية واقعةٌ موصوفة وليس مجازاً يُناشد العاطفة، فالاستنتاجُ الأساسي لـ(رأس المال) وللسردية الماركسية للتاريخ، أن المُلكية الخاصة هي استيلاءٌ بالقوة، من حيث أن المجتمعات الأولى كانت مجتمعات مشاعية، ثم مع الزراعة ظهرت الثروة -الأرض- والرغبة في احتكارها، والتقسيم الطبقي- الذكوري للمجتمع، وأن فائض القيمة -الربح- مصدره عملُ العمال، أو بدقة عدم إعطاء العامل المقابلَ العادل لعمله، وليس خاصيةً سحرية متأصِّلة في المُنتَج (السلعة)، وهو الافتراض المُتوهَّم الذي سمّاه ماركس (فيتشية السلعة)، كنايةً عن انبهارنا بالمُنتَجات الرأسمالية على اختلافها، الناتج عملياً عن التشويه والتضليل الذي تنشره الرأسمالية لواقع علاقات الإنتاج، في مَسعاها غير المشروط للتربُّح.
لهذا السبب، يقترح سلافوي جيجك أن تأمُّلات ماركس حول السلعة ككاشف لنظام شامل من انعدام العدالة، يجعل من الأخير مُنظِّراً مُبكِّراً للأعراض –بالمعنى الفرويدي- في المجتمع الرأسمالي. ومن ناحيتها فإن نظرية جيجك تُسهم في توضيح كيف تعمل الآليات النفسية للتنصُّل «disavowal» (الآلية الدفاعية في الانحراف «perversion») لدى الأفراد العقلانيين والأخلاقيين، أو أصحاب الادعاءات العقلانية والأخلاقية الأساسية المُتوقَّعة (أنا شخص جيد، أنا أفكر)، عندما يَسوق هؤلاء الأشخاص، لتبرير الأوضاع القائمة التي تُبقي على امتيازاتهم وفائض تمتعهم، الجويسانس «jouissance» أو المتعة الفائضة «surplus enjoyment» مفهوم لاكاني مُستقى بشكل مباشر من المفهوم الماركسي لفائض القيمة، يقصد منه أنه في الاقتصاد النفسي فإن حداً معيناً من المتعة دائماً ما ينطوي على ألم، مثلما دائماً ما يكون الربح في نمط الإنتاج الرأسمالي يحدث على حساب الآخرين. ارتباطاتٍ ملتويةً بالقناعات والتحيُّزات السائدة، في بُعدها الخاص بأساسها الهيمني اللاأخلاقي، من استغلال طبقي وجندري وعنصرية وأحكام مسبقة وصور نمطية، والتي تشكل النسيج الحقيقي -بالمعنى اللاكاني التراجيدي- المسكوت عنه، للحياة اليومية. (فمثلاً، حين يناقش موقفَ اليهود الليبراليين من الاحتلال، يقول: «عندما تسأل عن من يسيطر على الضفة الغربية، يلجأ كثيرون (..) إلى التنصُّل الفيتشي: أعلمُ أن الله غير موجود، لكنني مع ذلك أؤمن بأنه أعطانا أرض إسرائيل»). سلافوي جيجك، «TIME TO TELL THE TRUTH ABOUT GAZA».
إن ممارسات الحياة اليومية هي اختيارات إيديولوجية، يعرف ذلك من يعرف أنه بتناول البيتزا يشترك في مُواطَنة القرية الكونية المعولمة، التي تأخذ أطباق الشعوب إلى كل مكان لتصير أطباق العالم، وبتناول الكولا يكون أكثر أميركية وبالامتناع عنها يأخذ مسافة، بلبس البيريه يكون غيفارياً، وبالاستماع إلى زياد يكون يسارياً، أو فيروز فيكون رومانسياً، إلخ. هي اختيارات إيديولوجية من حيث أنها تُسهم، من خلال طبيعتها اللاواعية بشكل كبير، وتَجذُّرها في المُعاش، في تشكيل وعينا ونظرتنا إلى العالم ومقاربتنا للواقع من حولنا.
وهكذا، فبقدر ما هي صحيحةٌ تلك الحكمة الفيغانية المعروفة: «أنتَ ما تأكل»، فإن كونك فيغانياً يعني أنك فاكهة نضرة وخبز طازج، وشايُ أعشاب زكي ومهدئ، وخِفّة ورهافة تسري تُبارك الموجودات، بينما بقدر ما أنت فريغاني، أكثر من ذلك، أنت وعيٌ مُتقدِّم بالآليات اللاعقلانية التي تَحكُمُ الإدارةَ على نطاق عالمي، وبهدر الموارد في دوامة الإنتاج والاستهلاك، وفكرٌ يرى إلى البدائل.