يبدأ الفيلم بمشهد استيقاظ البطل. لا يوقظه رنين منبّه، وإنما صوت الحفيف. غياب المنبّه لا ينفي عن الفيلم طموحه الكبير، فهو أيضاً، كأغلب الأفلام التي تبدأ برنين منبّه، يريد أن يتصدى لأحد أكثر المواضيع خصوبةً في عوالم الفن، يريد أن يُسائل الوقت والوجود.
بيان وجودي مُستغرِق في ذاته
ما أن يستيقظ بطل فيلم أيام مثالية (2023)، حتى تبدأ الحياة دورتها اليومية ليغرق الفيلم في وصفها. لا شيء يشبهها بقدر أغنية «يوم مثالي». يستيقظ البطل على صوت الحفيف، يقوم بِطَيّ الفرشة البسيطة التي ينام عليها، ومن ثم تنظيف وجهه والمرور على شاربه لقص ما نفر من شعره. يسقي نباتاته قبل أن يأخذ مفاتيحه وهو يهمّ بالخروج من باب المنزل. يشتري فنجاناً من القهوة من الماكينة المجاورة للمنزل ثم يقود سيارته إلى العمل وهو مستغرق في أنغام واحدة من أغاني السبعينيات والثمانينيات.
ما أن يصل هيراياما إلى عمله يستغرق فيه، ليقضي يومه مع حمامات العاصمة اليابانية، يُنظِّفها بكل تفانٍ ولهفة، وكأنه يغسل وجه ابنه الصغير. يتفقد صلاحية الأزرار والأبواب. يحتمل تعالي البعض وغباء الآخرين بكل حُبّ ورِضى، وإن كان كسلُ زميله الشاب في العمل ولهاثُهُ وراء مباهج الحياة الرخيصة يُثير في نفسه شيئاً من الازدراء. يمضي في استراحة الغداء إلى صديقته الشجرة، يتفيأ تحت ظلالها وهو يتناول طعامه قبل أن يلتقط لها صورةَ اليوم. ينتهي من عمله ليغرق في مياه حمام ساخن ثم يذهب إلى مطعمٍ صغير، اعتاده واعتاد أن يسمع صاحبه يقول له «لأجل العمل الشاق الذي تقوم به» وهو يقدم له كأساً من المشروب البارد. يعود إلى منزله ليغرق في صفحات الكتاب الذي اشتراه في نهاية الأسبوع. ما أن ينتهي اليوم الأول، يبدأ الثاني الذي لا يختلف عنه إلا في بعض التفاصيل اليومية الصغيرة، ولكن الفيلم يستغرق في وصفه أيضاً. وكذلك الثالث، إلى أن نصل إلى عطلة الأسبوع. لا تختلف طقوس العطلة كثيراً، وتبدو امتداداً لأيام العمل ولكن الفيلم يستغرق في وصفها أيضاً. دقائق طويلة تمضي دون أن ينطق بطل الفيلم كلمة واحدة. أحداث قليلة تُعكِّرُ إيقاع الفيلم، ولا تقع إلا كي تمنحنا القليل من الكلمات التي يجب أن نفهم من خلالها فلسفة الحياة اليومية لبطل الفيلم. لم تكن أناقة المشاهد، غنائيتُها وبذخها البصري، لتنجح في منح الفيلم عمقه العاطفي دون تعابير كوجي ياكوشو الذي وصل إلى واحدة من ذُراه، رغم الأدوار الكبيرة الأخرى التي أدّاها في حضرة كبار المخرجين اليابانيين والعالميين.
رغم الاستغراق، لا يبدو أن مخرج الفيلم فيم فيندرز يريد أن يُنقِّبَ في اليومي وركوده كي يجد الشِعر كما فعل الأميركي جيم جارموش في فيلمه البديع باتيرسون (2016)، كما لا يبدو مهتماً بالبحث عن الشعر في قلب حياة وضيعة، كما فعل الكوري الجنوبي لي شانغ دونغ في فيلمه المذهل شعر (2010). الكثير من مشاهد الفيلم، عدا عن تاريخ صُنّاعه، يستبعد عنه شبهة الرغبة في تقديم توليفة جديدة من أفلام المشاعر الإيجابية رغم أغنية feeling good التي تُنهي الفيلم، بل وقد عاد هذا الفيلم بمخرجه إلى مهرجان كان بعد انقطاع دام لأكثر من خمسة عشر عاماً، وهو الحائز على السعفة الذهبية عن فيلم باريس، تكساس (1984)، وعلى جائزة الإخراج عن أجنحة الرغبة (1987)
فيندرز يطمح لما هو أكبر من ذلك، فالفيلم يبدو أقرب إلى بيان فلسفي يتصدى لمعضلة الوجود ويحاول الإجابة على سؤالها، وكأنه رسالته إلى العالم بعد اقترابه من بلوغ الثمانين. فما يُجسّده هذا الفيلم، وما يجمع بين أعمال هذا «الرومانسي الألماني»، على حد تعبيره، هو ذلك التفكير في «كيف نحيا ولماذا؟ ما الذي يطغى في أهميته على ما تبقّى؟». لا يتردد فيندرز، الذي تعثّر بجان بول سارتر أثناء دراسته السينما في باريس، في التأكيد على أن جوابه هو «علامات الحب. وأن كل ما نفعله دون قناعة وحبّ ورِقّة يضيع». وهو ما يبدو جلياً في النصف الثاني من الفيلم، فبعد أن يُرافقَ بطلَ فيلمه في كل تفاصيل يومه، يبدأ بإقحامه في مواقف كاشفة لعلاقته مع الرغبة والماضي والمستقبل، مع الجذور والموت، وكأنه يريد أن يقدّم بياناً فلسفياً وجمالياً في «العيش شعرياً» بوصفه جواباً على أسئلة الوجود. بل، وإن بالغنا في التأويل، يبدو وكأنَّ الفيلم يأتي ليُقدِّمَ في واحدة من أكثر لحظات الإنسانية تيهاً، حيث لا يتوقف القديم عن الاحتضار، دون أن يقدّم احتضارُهُ أي دليل على ولادة الجديد، ليترُكَنا كما يقول أنطونيو غرامشي في دفاتر سجنه مُعلَّقين في فراغ لا تولد فيه إلا الوحوش.
يُحسن هذا البيان اختيار توقيته، فبعد تناسل حروب وأزمات العقد الماضي، وبعد غياب أي أفق لبديل سعيد لهذه النيوليبرالية المحتضرة، لا يوجد بديل عن القطيعة مع هذا العالم والعودة إلى الذات والاستغراق في عوالمها. يقدّم الفيلم ما يُغري بذلك، عبر ذلك الحفر الدقيق في تفاصيل اليومي لأعزبٍ وحيد يقضي أغلب وقته مع مراحيض مدينته. تبدو الوصفية التي تَسِمُ الفيلم وكأنها تريد أن تقول للمتلقي أنه قبالة فيلم بلا «قصة»، وأن تُقنعنا في الوقت نفسه بأن الحفر في هذا اليومي وجمالياته الخفيّة يمكن أن يملأ كل مساحة الفيلم دون أن يعني ذلك غياباً للمعنى.
تبدو الدهشة مقولةً لا غنى عنها لفهم أطروحة الفيلم وطزاجة تعابير البطل أمام التفاصيل التي لا يتوقف عن معاودة اكتشافها في تلك الحياة الرتيبة التي يجبرنا الفيلم على معاودة التحديق فيها. الاستغراقُ أيضاً مقولةٌ التي لا تقلّ أهميةً عن الأولى. فالبطل كاملُ الاستغراق في عوالمه، في ذاته، في عمله ويومياته، وكأن لحظات حياته، جميعها، لا تقل عمقاً وذاتية عن تلك اللحظات القليلة التي قد نقضيها ونحن نغني في دفء الحمام، تحت دفق مياهه.
للدهشة تجلياتٌ كثيرة في الفيلم، في علاقة هيراياما بالطبيعة، بتلك الشجرة التي يلتقط لها كلَّ يوم صورة جديدة عبر كاميرا فوجي الأنتيكا التي يحتفظ بها. للاستغراق كذلك، والذي يتحول إلى شعار تُغنّيه ابنة أخيه، فـ«الآن هو الآن والمرة القادمة هي المرة القادمة» ولا جدوى من التفكير في الغد. كل ما يبقى للبطل هو الاستغراق في حياته اليومية التي تبدو في تنظيمها أقرب لطقس ديني مشحون بالسكينة، أو الاستغراق في عمله وتفانيه الصادق في التخلُّص من كل ما يمكن أن يُشوِّشَ على بريق بورسالين مراحيض المدينة. استغراقه كذلك مع الأغاني التي ترافقه في طريقه إلى العمل. يتجلَّى ذلك أيضاً في حواسه المشتعلة، رغم هدوئه، والقادرة على التقاط كل ما يُحيط بها، من استيقاظه على صوت احتكاك مكنسة زميله بإسفلت الشارع إلى انتباهه لتلك البراعم التي تحاول مباغتته في بزوغها. هي لحظات فيها الكثير من الرِّقة والحب الصوفي للحياة على ما أراده فيم فيندرز. وإننا إذ نُبالغ في ذكر هذه التفاصيل، لا نخشى إفساد بهجة المُشاهدة، فالفيلم وموسيقاه التصويرية والأغاني، والتي قد تعطي في بعض الأحيان الانطباع بمشاهدة فيديو كليب غنائي، تريد له أن يَتحوَّلَ إلى مصحف صغير، لا نملّ العودة إليه، في أوقات الضيق خاصةً.
مختبر ذاتي صغير: قطيعة واستغراق
كسوري لم يبقَ له من مراهقته سوى أسئلتها الوجودية، وبعد سنوات تناوبت عليها ثورةٌ وأمل، حربٌ وفقدٌ وخراب، غربةٌ وانزواء، فقدت الأجوبة التقليدية على أسئلة الوجود كل سطوتها، لأعيش، على صعيد الفكر والقول، في مناخات من الإحباط والاكتئاب والقلق وما يصاحب ذلك من نزعات عدمية ونسبوية، سينيكية أو مُستقيلة، وأجد نفسي وقد استسلمتُ، على صعيد الفعل، لسيولة الحياة وتدفُّقها مكتفياً بمحاولة تطوير مهاراتي للسباحة وتلافي الغرق.
بعد هذا العقد الطويل وبعد فترة قصيرة من نجاحي في تلمُّس طريق معقول للتصالح مع وجودي، لجأت فيه، كفيندرز وبطل فيلمه، إلى «العيش شعرياً» كـ«مذهب» أستخدم كلمة مذهب في هذا السياق كتحية لالياس مرقص ومحاولته لمَفهمة هذه الكلمة الأثيرة، ونزع شحنتها الفقهية ومعاودة شَحنها بحمولة وجودية. في الوجود وفي السعي وراء الحياة ولحظاتها الصوفية، خرجَ فيلم «أيام مثالية» ليكون مناسبة مثالية للتفكير في هذا المذهب ومُساءلة إمكانيات استدامته وطاقاته التحررية على الصعيد الجماعي.
على الرغم من نجاحي في معاودة الولادة في أوروبا، عبر الحصول على أوراق أوروبية وشهادة عليا في إحدى أكثر اختصاصات العصر جاذبية، ورغم حظي الوفير في الزواج بمن أحب، وفي الاستقرار وسط شبكة اجتماعية معقولةِ التماسُك، لم أتمكن من التصالح مع غربتي الأوروبية ومع تهشُّم معنى الوجود بفعل سنوات الثورة والحرب. طفلي الأول، والذي لم أُنجبه إلا استسلاماً لسُنن الحياة، سيولتها وتدفُّقها، صالحني مع الدهشة، مع الحياة وشعريتها، فقد بدا لي ذلك الكائن الصغير وكأنه قصيدة على قدمين؛ دهشة وبراءة وبحثٌ دائم عن معنىً ما رغم كل العثرات. ولكن تدفُّقَ الحياة نفسه كان في كل مرة لا يتوانى عن جرفي وإجباري على معاودة الغرق في السيولة، لأنتظر من الحياة أن توجهني وتمنحني مطرحي.
في سوريا، وقبل سنوات الثورة والحرب، ورغم نزعتي المادية المقتنعة بغياب أي معنى مُتعالٍ لهذا الوجود، كآلهة الأديان أو حتى الاعتقاد بحتمية العدالة أو بشمولية العقل، كان للمعنى المتعالي حضوره واسمه: الغرب/أوروبا. فعلى الرغم من اطّلاعي المُواظب على أغلب الإنتاجات الناقدة للرأسمالية والحداثة والثقافة الاستهلاكية والنزعات الفردانية، حافظت، ولو بشكل غير واعٍ، على القليل من الإيمان بأن هناك إطاراً رفيعاً من المعنى المتعالي يضمنه وجود الغرب/أوروبا، عقل العالم. الثورة السورية والحرب التي تلتها امتحنت هذه المقولة بقسوة لتُظهِرَ محدوديتها إلا إنها لم تعلن موت الغرب/أوروبا بقدر ما كشفت حدود فاعليته، وضرورة عودته لِلَجم النزعات الماضوية والسلطوية التي لا تتوقف عن الاتساع. جاءت الحرب على غزة، وقبلها الرد الغربي على الغزو الروسي لأوكرانيا، ليكشف ابتلاع «الغرب» لـ«أوروبا» وتحوُّلَ المفردتين إلى مقولات جيوسياسية رثّة، معلنةً موت أي بعد قيمي لهكذا مقولات. لم يعد يمكنني النظر لـ«لغرب/أوروبا» بوصفه كياناً نابضاً بما تبقى من معنىً مُتعالٍ في هذا العالم، وإنما مجرد كيان استعماري لا يجد أي غضاضة في اجترار مخياله العنصري عند إحساسه بأدنى خطر وجودي.
الأيام الأولى وأخبار غزة، حَكايا قتلاها وصورهم، وصور دمارها، بالإضافة إلى ردّات فعل «الغرب» وتعبيراته «المتطرفة في عقلانيتها»، اجتمعت لتضخّ في هذه الخلاصات بعداً عاطفياً شديد الوطأة وتُحوِّلَ الرغبة في القطيعة إلى أفق وحيد ممكن؛ قطيعة كاملة مع الأخبار وردود الأفعال، مع الصور والحدث، وعودة إلى الذات واستغراق مطلق فيها وفي اللحظة المُعاشة. لا وقت لنشرات الأخبار في الصباح، الذي أصبح فرصة لأبحث فيها عن قصيدة جميلة أو لكتابة بعض الكلمات، أو مجرد لحظة أستمعُ فيها لأغنية أو أتفقد خلالها زرائع الصالون أو إطلالة النافذة أو أي تفاصيل أخرى طالما أهملتُ وجودها. أُشاهد بعد ذلك مع ابني برامج الأطفال الصباحية باستغراق وتركيز، قبل أن أمضي به إلى المدرسة. ساعات العمل التي كنت أقضيها كمن يبدد عمره أصبحت هدفاً بذاته. مشاركة عائلية أكثر فاعلية في الطبخ وتحضير العشاء، ومحاولات دائمة لتحريك مساءات العائلة واللعب بأكثر ما يمكنني من تركيز واستغراق. تَرافقَ ذلك مع عدم مُهادنتي فيما يخص لحظاتي الذاتية، التي أقوم فيها بتغذية فضولي أو الكتابة والترجمة والقيام بكل ما يستهويني دون التفكير في الجدوى. باختصار، حفر شديد الدقة في اليومي وجمالياته واستغراق مطلق في الذات وامتداداتها كشكل من أشكال القطيعة الجذرية مع تدفُّق الحياة وسيولتها.
أيام قليلة بعدها، عاودتُ التصالح مع السياسة والشأن العام ولكن في سياق مختلف هذه المرة، بعد تخليصها من منطق التدفق والسيولة، لتلافي الفرجة والغرق، لأتمكن أخيراً، وبعمق عاطفي كبير، من إسقاط ألف ولام التعريف عن المعنى، ولأجد في نفسي رغبةً في الوجود وسعياً وراء التحرُّر والجمال، في اليومي والسياسي على السواء.
«العيش شعرياً» هو ما أعيشه منذ بضعة شهور وما لا أضمن ديمومته وما سأتذكره بكل حنين الأرض إن غادرني. هو ما يجعلني أشعر بأن رأسي، اليوم، بعد أن ابتعدَ عن التدفق والغرق، صغيرٌ كحبة حُمّص، وأن أفكاري صافية ومغزولة بكل عنايةِ الأرض فوقه. هو أيضاً ما يمنحني مزاجاً عالياً ووجوداً أنيقاً وإن كنتُ أعرف، أنَّ عبث وجودنا على هذه الأرض وهشاشته قد يسحق زهرة الهندباء البرية التي أصبحها وجودي بمجرد زفير بسيط أو حتى بانقطاعه.
مقولة برجوازية بآفاق تحررية
رغم حماسي للمذهب الشعري الذي يقترحه فيم فيندرز في فيلمه، إلا إن أيام مثالية لا يبدو شديد الوفاء لهذه الأطروحة. فبعض تفاصيل الفيلم تُظهِرُ استرخاءَه في قالب غنائي، يختلط أحياناً بنزعة مُستقيلة يملؤها الحنين لماضٍ «فينتيج» يكون فيه «سبوتيفاي»، كما اعتقدَ بطلُ الفيلم، حانوتاً لبيع أشرطة الموسيقى.
ولكن أكثر ما يجعل العيش شعرياً خياراً عصياً على المُشاهد هو تلك المراحيض التي يقضي بطل الفيلم يومه في تلميعها، والتي تُضفي من المناخات ما يسمح بالحديث عن بورجوازية الفيلم وعالميته المسطّحة ومنزوعة التضاريس. فهذه المراحيض التي تبدو وكأنها قادمة من عالم آخر، «كوكب اليابان»، وأقرب لمعابد صغيرة متناثرة في نسيج طوكيو شديد الحضرية، ليست مجرد تفصيل عابر. لا نقصد هنا الإشارة إلى أن هذه المراحيض ليست إلا نماذج لمشروع مراحيض طوكيو الذي أطلقه المعماري شيجيرو بان، الحائز على جائزة الأم تيريزا للعدالة الاجتماعية، والطامح لأن تكون هذه المراحيض «خطوة أخرى في طريق طوكيو نحو معانقة التنوع». لا نقصد أيضاً أن حماسة فيندرز لتواليتات شيجيرو، والتي تبدو أقرب لتفاحة سقطت على رأس المخرج الألماني بعد أن تعرَّفَ على المعماري الياباني في واحدة من السهرات الكوزموبوليتية، هي ما يفتح على السؤال. المشهد الذي يشرح فيه البطل لسيدةٍ شابة كيفية تعتيم جدران هذه المراحيض الشفافة، والذي يبدو أقرب لمشهد مقتطع من إعلان تجاري أيضاً، ليس أيضاً ما نقصد.
ما يثير السؤال أن حماسة بطل الفيلم ومخرجه لمراحيضهم تبدو كمن يريد إضفاء هالة ما على «الشعرية»، تُحوِّلها إلى برزخ لا بد من المرور به قبل الوصول إلى نيرفانا الشعرية، ما يُحوِّل هذا المذهب الوجودي إلى صعلكة لا تليق إلا بالقادرين، وبالأحرى طريقة في التمايز الاجتماعي أو مذهبٍ لوجودٍ مخملي. وإلا فما الذي يبرر ذلك الاحتقار البشوش الذي يبديه البطل تجاه الشاب الذي يُزامله في العمل، واللاهث وراء ملذات الحياة المادية ومباهجها الحسّية، أو الذي يبديه المخرج في اختياره لكاريكاتور شديد الابتذال للعب هذا الدور. يقول لنا الفيلم بالإضافة إلى ذلك إن بطل الفيلم اختار كي يمضي في حياته هذه أن يهجر عائلته البرجوازية هجرةً عاصفة، وأن ضعف البصر الذي يُجبره على ارتداء النظارة أثناء مطالعته روايات فوكنر مساءاً لم يأت من لقاءٍ عفويٍ بالكتب، وإنما حصيلة تربيةٍ بورجوازيةٍ رفيعة.
من جهة أخرى، يبدو السؤال عن علاقة الشرط البرجوازي بالقلق الوجودي والعيش شعرياً شديدَ الشرعية. مآلات الفلسفة الوجودية، منابت أعلامها من سارتر وكامو وكيركجارد إلى دويستوفسكي وبيكيت، والشرائح الاجتماعية الأكثر انجذاباً لأعمالهم، لا تقدم بدورها دليلاً معاكساً. ولا نتحدث هنا عن ضرورة الوفرة فقط، فإن كانت الوفرة سبباً في تَحوُّلُ القلق الوجودي إلى ظاهرة اجتماعية وفي علمنة المجتمع وفقدان الحلول الدينية لنجاعتها، إلا أن الوفرة دون ثقافة وتأهيل غالباً ما تنتهي برغبتنا في إيجاد جواب خارج ذواتنا، كرغبتنا في تجديد حياتنا عبر البحث عن حبٍ جديد على طريقة أغنياء البيئات المدينية السورية، أو في الهرب من السؤال عبر تحويل الحياة، الزوجية مثلاً، إلى فيلم أكشن وحرب مواقع، على طريقة المسلسلات التركية أو نُسخها العربية.
محاولة تَخيُّل ما يمكن أن تكونه مآلات نقاش «العيش شعرياً» مع سوري لا تصله الكهرباء إلا ساعة في النهار، أو مجرد استذكار أيامي السورية، لا يمكن أن يفنّدَ ارتباط العيش شعرياً بالشرط البرجوازي. بل ولا يمكن أن يُذكّرنا بالحياة في سوريا إلا بوصفها لهاثاً لا نهاية له؛ هرباً من كلبٍ ما، غير منظور رغم أنه كلي الحضور. أخبار جلطات الشباب في سوريا تُذكرّنا أيضاً بأن القلق الوجودي السوري يهاجم قلوب اللاهثين، لا عقولهم.
شخصياً، ورغم كل تطلعاتي التحررية ونزعتي اليسارية، لا أنتمي، من وجهة نظر علم الاجتماع، إلا إلى واحدة من شرائح الطبقة البرجوازية، ولم أكتشف، من جهة أخرى، دروبَ العيش شعرياً إلا بعد «أزمة منتصف العمر»، وبفضل التأهيل والثقافة والثقة التي منحني إياها شرطي البورجوازي. ولكن، ورغم ذلك، يبقى التفكير في الشرط البرجوازي للعيش شعرياً، والمحدودية التي يقتضيها ذلك، والسبل والصراعات الواجب خوضها لدمقرطته موضوعاً شديد الجاذبية. وقد يستطيع عموم الناس سرقة اللحظات الشعرية من شظف عيشهم، كما تقوم والدتي بسرقة ورقة من نبات أَحبّته في حديقةٍ زارتها، ولكن العيش شعرياً يستحق أن يتحول إلى أفق ممكن لكل الناس. الاستغراق في اللحظة وتفاصيلها وتلك الدهشة المتجددة يمتلكان من الطاقة ما يجعل الفرد شديد التحفُّز والقدرة على الابتكار. المزاج العالي، والعودة إلى الذات، هو ما يخلق مواطنين مبدعين يُسائلون أيامهم بجدّية ويمضون وراء أفكارهم سعياً لتحقيقيها. قد يبدو «العيش شعرياً» رغبةً في التعالي والتباهي، ولكن لا تأتي تلك الشبهات إلا من الطاقة التي يبعثها والتي تُمكِّن الفرد من الاعتزاز باختلافه و«غرابته الذاتية»، ومن التمرّد على السُنَن المفترضة والقواعد المرسومة سلفاً، وما يعنيه ذلك من مواطنية فاعلة.
لا تُغري الاستعانة بهذه المقولة في عالم السياسة بسبب الطاقة اليوتيوبية التي تنطوي عليها فحسب، وإنما بسبب قدراتها التفسيرية أيضاً، وهو ما يبدو جاك رانسيير خيرَ تعبير عنه. فهذا المفكر الذي يُجسّد أحد آخر وأكبر المفكرين النقديين الفرنسيين الذين ساهموا في إثراء الفكر السياسي النقدي، والذي قدّم في كتبه بعض أهم ما كتب في قراءة الديمقراطية الراهنة ونقدها، لم يقم بذلك إلا من خلال مُقاربة جمالية للسياسي. طاقة المقولة التفسيرية شديدة الراهنية في العالم العربي وفي مراجعتنا للعقد المنصرم، فلو اعتبرنا أن الديمقراطية هي الإطار السياسي الأمثل لضمان العيش شعرياً لأكبر عدد ممكن من الأفراد، ما الذي يجعلنا نحلم باستلهام الديمقراطيات الاسكندنافية أو الغربية دون غيرها، ويجعل ديمقراطياتنا إن تحققت، لا تشبه في بُهوتها وقلة حيويتها إلا ديمقراطيات أوروبا الشرقية وأغلب الديمقراطيات غير الغربية؟ عراقة التقاليد الديموقراطية فقط أم الوفرة واكتمال البرجزة؟ هل ما طمحنا له سياسياً كأبناء للربيع العربي كان مجرد أنظمة ديمقراطية أم حياة شعرية؟ هل يستحق النضال من أجل الديموقراطية وحدها كل هذه التضحيات؟ أو بالأحرى ألا يجب أن نُسائل حدود الديموقراطية في ظل غياب الوفرة واستحالة تحقيقها في الشرط التاريخي الراهن؟