على خلفية التظاهرات الأخيرة المُناهضة لسلطته، عقدَ أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، متزعِّم «هيئة تحرير الشام»، اجتماعاً مع «وجهاء ونخب المناطق المحررة» التي يسيطر عليها، اصطحب إليه أبرز واجهاته المدنية؛ رئيس «مجلس الشورى العام» الذي يُعدّ بمثابة برلمان، ورئيس «حكومة الإنقاذ السورية» الجديد، وهي الذراع التنفيذي الذي يضم إحدى عشرة وزارة.

في الكلمة التي ألقاها في الاجتماع قلَبَ الجولاني تسلْسلَ أولويات المُحتجّين. فتجاهل، تقريباً، مطلبهم الأول بإقالته شخصياً وتسليم القيادة لهيئة جماعية مؤقتة، ومطلب حلّ ذراعه الباطشة المُعتمَدة «جهاز الأمن العام» ومحاسبة مسؤوليه، وتبييض السجون من معتقلي الرأي، وتخفيف الضرائب والرسوم والغرامات. وفضّلَ الحديث عن «النهضة» التي شهدتها المناطق التي يحكمها، مؤكداً على ضرورة الاستماع إلى «المطالب المحقة» التي يمكن تنفيذها، واعداً بعدد من القرارات التي تُطور «جودة الخدمة»، مُعتذِراً عن «الأخطاء» التي حصلت بأن ذلك من أعراض بناء أي «دولة».

ما لم يتذكّره متزعّم «تحرير الشام» هو أن تاريخ اجتماعه هذا، في الخامس من آذار الجاري، يوافق ذكرى الهدنة الروسية التركية التي ضمنت له أربع سنوات، حتى الآن، من الاستقرار الذي استغله في بناء «النموذج» الذي يحاول التفاخر به، وغيّر وجه جماعته «جبهة النصرة»، التي كانت وريثاً هجيناً لكل من «دولة العراق الإسلامية» (داعش في ما بعد) وتنظيم «القاعدة».

معالم المرحلة

منذ أن استقرّت حدود سلطة الجولاني بخطوط عسكرية، بعد هزيمة عريضة مُنيت بها «الهيئة» وفصائل أخرى عام 2020، قرّرَ معاملة الأمر الواقع وكأنه ذخيرة ثابتة، «رأسمال» حسب تعبيره، وتعزيزه ببناء دويلة تمثل «الكيان السنّي» في الوقت الحالي، مع طموحات بتوسُّعها، بالقوّتين الخشنة والناعمة، لتحقيق «أرباح» تشمل سورية كلها وربما أبعد.

وقد اتّسمَ هذا «المشروع»، كما بات يُعرف بين قادة «الهيئة»، بالسير في خطوط متوازية هي:

1- بناء «المؤسسات»: لا يكاد يمرُّ وقت قصير في إدلب دون إنشاء بنية إدارية جديدة، أو تعزيزها، سواء تلك التابعة لـ«حكومة الإنقاذ» أو للكيان الخدَمي الموازي «إدارة المناطق المحررة»، أو مستقلة في الظاهر. إلى درجة بدا فيها أن تأسيس هذه الهياكل، والإعلان عنها، وتصويرها بلباسها الموحد الخاص (يونيفورم)، أهدافٌ تتقدّم على الغاية الفعلية من وجودها. خاصة وأن النزعة الطغيانية للجولاني وضعت يدها فعلياً على البنى المزعومة بدءاً من الحكومة. فخلف كل موظّف مدني، ببدلة غربية حديثة وربطة عنق، يقبع أمير لا تُرَدّ كلمته في هذه الوزارة أو الإدارة. ما حجّمَ مهام هذه الأخيرة إلى حدود تنفيذية وغير كاملة، فضلاً عن وظيفتها شبه الأساسية في تسويق «النموذج»: داخلياً في نظر سكان مناطق «الحكومة السورية المؤقتة» المجاورة الذين يشكون من فوضى الفصائل وضعف الخدمات، وخارجياً في أعين المراقبين الأجانب الذين يُطلَب منهم دعم هذه المؤسسات وتسويقها.

2- التغوّل الأمني: الذي برز في واحدة من أشهر «المؤسسات» الفعلية التي تَوسَّعت وانتظمت وزادت صلاحياتها، وهي «جهاز الأمن العام» الذي يقوده رجل غامض هو أبو أحمد حدود (أنس خطاب)، المتحدّر من ريف دمشق، وكان أحد المتطوعين للجهاد في العراق، قبل أن يعود ويصبح واحداً من أبرز الموثوقين لدى الجولاني إلى درجة أن الأخير، عندما اضطر إلى تعيين نائب له استجابة لأوامر أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، أثناء مبايعته له هرباً من سيف «الدولة» (داعش)؛ لجأ إلى تعيين أبي أحمد رغم فشله في انتخابات مجلس شورى «النصرة». ولأنه بلا طموحات ظلَّ أبو أحمد حدود في منصبه المنسي هذا حتى الآن، وتطوّرَ من رعاية الأمن الشخصي لأميره واختيار المنازل التي يتنقل بينها، إلى رئاسة جهاز يضم عدداً كبيراً من العناصر والمعدات التقنية، ويدير عدداً من السجون المخيفة التي أرهبت سكان مناطق سيطرة «الهيئة» في السنوات الماضية.

3- تنامي الذراع الاقتصادي: في الدرجة الثانية، بعد الأمن، يُدرك الجولاني أهمية المال. فيأخذه بالجملة ويوزّعه بالمفرّق. ولذلك شاع في إدلب وما حولها حكم كليبتوقراطي يقوم على امتلاك الأمراء الكبار والمتوسطين في «الهيئة» مشاريع مختلفة، يديرونها لصالحهم أو لصندوق الجماعة سراً، ودخولهم في شراكات مع التجار الذين يريدون الحماية من أعمال الخطف والابتزاز وتسهيل أمورهم «القانونية». وفضلاً عن ذلك مدّت «الهيئة» أذرعها الأخطبوطية إلى فروع المنظمات الإغاثية والخدمية العاملة في مناطق سيطرتها، ففرضت عليها حصصاً غير معلنة لقاء استمرار عملها.

4- حملة علاقات خارجية: يقودها مقرّب آخر من الجولاني هو زيد العطار (اسم مستعار) الذي صعد، كذلك، من إعلامي في «جبهة النصرة» إلى ترؤس ما يسمى «إدارة الشؤون السياسية» التي تعدّها قيادة «الهيئة» بمثابة وزارة خارجية مصغّرة مهمتها الالتقاء بممثلي الدول وتيسير دخول صحافيين وباحثين أجانب إلى مناطق نفوذها. وفي السنوات الأخيرة هدفت هذه الإدارة إلى نفي تهمة «الجهاد العالمي» عن «الهيئة» والإصرار على أنها جماعة جهادية/ ثورية محلية لا تهدف إلى تنفيذ أعمال إرهابية خارج الحدود، بل إنها الخصم الأكثر احترافاً لداعش والجهة الأكثر خبرة بالجهاديين المهاجرين إلى سوريا والأقدر على ضبطهم. تبغي «الهيئة» من هذه الحملة الخروج من التصنيف بالإرهاب استراتيجياً، ولأنها تدرك صعوبة تحقيق هذا تكتفي حالياً بمنع مفاعيل التصنيف من العمل، بتقويض سيطرتها أو باستهداف قادتها المطلوبين دولياً.

5- حملة علاقات إسلامية: هندسها أحمد موفق زيدان، المدير السابق لمكتب قناة «الجزيرة» في باكستان، والمدافع الشرس عن مشروع «الكيان السنّي» الذي تقوده «الهيئة» حالياً، والمتولي أمر تسويقه لدى رموز من التيار الإسلامي دأب على دعوتها للمشاركة، عبر الإنترنت، في نشاطات «ثقافية» تنظِّمها جهات تعليمية ومدنية لا يبدو عليها ارتباطٌ مباشر مع «الهيئة»، في مزيج من «الثورة» و«الجهاد» صار من مقومات خطابها حديثاً.

6- حملة علاقات محلية: تعرف «الهيئة» أن توجهها جنوباً سيؤدي إلى انهيار الهدنة التي تحمي وجودها «الرأسمال» حالياً، وتظن أن فرصتها في الحصول على «الأرباح» تكمن في التوسّع شمالاً، على حساب منطقة فصائلية تنضوي شكلياً تحت سيطرة «الحكومة المؤقتة» و«الجيش الوطني». لا يتضمّن هذا الإمساكَ بمزيد من المعابر واستثمار دخلها فقط، بل إنه سيكون الضربة الأخيرة للقبض على الورقة العربية السنّية بشكل كامل والسيطرة على إرث الثورة، مما يفرض «الهيئة» لاعباً إجبارياً في أي محادثات للحل النهائي. ولتحقيق هذا الهدف عمدت «الهيئة» على بناء تحالفات سرية وعلنية مع ما يُتاح من الفصائل، والقتال تحت راياتها لتوسيع السيطرة. وقد تولّى مهمةَ شراء الفصائل واستمالتها شخصان من قيادة «الهيئة» يُتقنان الشيفرات العشائرية والمحلية، هما أبو مارية القحطاني (العراقي ميسر الجبوري) وأبو أحمد زكور (جهاد عيسى الشيخ).

ولكن ما الذي حدث؟

في آب (أغسطس) 2023 الماضي بدأت الأخبار تتسرّب عن اعتقال «جهاز الأمن العام» للقحطاني بتهمة العمالة. وهو الأمر الذي أكدته «الهيئة»، في بيان مُلطّف اللهجة، بعد وقت قصير. وبالتدريج توسّعت قضية العمالة، التي صارت تحمل وصف «الكبرى»، حتى لاحقت أبا أحمد زكور الذي فرّ، وشملت مئات المعتقلين من كوادر الهيئة في أجنحتها المختلفة، العسكرية والأمنية والمدنية. غير أنها تركزت أخيراً في العسكريين فشملت بعض قيادات الصفين الثاني والثالث منهم، وعناصر بينهم مرافقون لبعض أبرز قادة الهيئة. وأثناء ذلك كان إعلام «جهاز الأمن العام» يتبنّى القصة عموماً، فيما تُرك شرح التفاصيل للجولاني وبعض الشرعيين المقربين منه، كعضوي «مجلس شورى» الجماعة عبد الرحيم عطون ومظهر الويس، فسردوها على مسامع من راجعهم أو في اجتماعات مخصصة لهذا الغرض، فقد كان عدد الموقوفين مثيراً للاستغراب داخل «الهيئة» وخارجها، فضلاً عن تهمهم التي تراوحت بين العمالة للنظام أو للتحالف الدولي، مروراً بحزب الله وروسيا.

لكن الأغرب هو انتهاء القصة المبلبِلة بطريقة لا تقل إرباكاً. فقد أعلنت «الهيئة»، وعلى رأسها الجولاني نفسه، أنها راجعت التحقيقات فتبيّنَ لها أن الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، فقررت براءة معظم المتهمين والإفراج عنهم وإعادة الاعتبار لهم واعتقال خصومهم الأمنيين وفتح الطريق أمام محاسبتهم وفق دعاوى تشرف عليها لجنة مختصة. وتوّج ذلك بالإفراج عن القحطاني نفسه، رأس القضية.

أثارت هذه الحركة، ذهاباً بالاعتقال وإياباً بالإفراج عن العسكريين، الذين خرج بعض أبرزهم يمشي بصعوبة إثر التنكيل، وما رووه عن الإساءات المعنوية، موجةُ استنكارٍ لم تقتصر على إخوانهم في الجناح والجماعة وحاضنتهم الأهلية، بل تعدّت ذلك إلى عدد من المشايخ (صنّاع الرأي هنا) ممن كانوا يدعمون مشروع الهيئة في وقت ما أو يلتزمون الحياد. إذ لم يَبدُ ما جرى مُهيناً لمن وقع عليهم فقط، بل أيضاً لكل الجمهور الذي كان عليه أن يصدّق الروايتين الأولى والثانية دون أن توضع بين يديه، أو تحت أبصار ممثليه، أي أدلة عليهما. ومن هنا فُتحت على قيادة «الهيئة» أبواب مُساءلة إدارتها الفردية للأمور وما يجري داخل سجونها الأمنية من انتهاكات. بعد أن كان الاعتراض على هاتين القضيتين محل اهتمام فئات محدودة من السكان.

فقد شاعت الشكوى من شخصية الجولاني بين عدد من القادة السابقين في «الهيئة»، ممن عايشوا رغبته في الإمساك بالمفاصل المهمة وتهميشه المستمر لمجالس الشورى الشكلية المُتعاقبة، واعتياده الجلسات الضيقة والاتفاقات الشفوية التي يسهُل الانقلاب عليها لاحقاً، وحبّهُ الظهور والاستعراض وكراهيته الفعلية لأي شركاء يستحقون هذا الوصف.

أما الاعتراض على انتهاكات حقوق الإنسان لدى «جهاز الأمن العام»، فقد مرّ بمراحل مختلفة تبعاً لطبيعة نزلاء هذه السجون. فحين كان وجه «الهيئة» الظاهر هو أنها تنظيم جهادي من فروع «القاعدة» أو مشتقاتها، كان أمنيوها يلاحقون الناشطين المدنيين أو العلمانيين وبقايا كوادر فصائل «الجيش الحر» التي فككتها «الهيئة» واستولت على مقراتها وسلاحها. وكان هؤلاء المعتقلون يحظون بتغطية إعلامية، وإن كانت قليلة الفائدة، نتيجة انضوائهم في مشروع ثوري يملك مهارات المناصرة وعلاقاتها وشرعيتها. أما حين انقلبت «الهيئة»، بعد أن أجهزت على الخصوم الأولين في مناطق سيطرتها، إلى يمينها وصار همها اعتقال الدواعش وضبط المتطرفين وتحديد إيقاع المهاجرين الجهاديين؛ فقد صار معظم نزلاء سجونها الأمنية من هؤلاء الذين لا يتمتعون بظهر قوي. واقتصرت المطالبة بهم على نظرائهم وأهاليهم وعلى بعض المنظمات الحقوقية التي استمرت في رصد الانتهاكات بغض النظر عن طبيعة التهم. ومنذ أقل من عام شنّت «الهيئة» حملة اعتقالات في صفوف «حزب التحرير» الإسلامي، المتشدد نظرياً والسلمي عملياً، نتجت عنها تظاهرات مستمرة لنساء معتقليه أسهمت مؤخراً في طرح قضية «سجناء الرأي» في المجال العام.

خاتمة

يسخرُ عارفو الجولاني، من مؤيديه وخصومه، من احتمال أن يتخلى عن قيادة «هيئة تحرير الشام» أو عن منصب «قيادة المحرَّر» الذي أوحى به إلى إعلامه واختصَّ به وحده. ولا يعود ذلك إلى شهوته العارمة للسلطة فقط، بل لأن أي احتمال آخر لا يضمن له الاستقواء بالجماعة التي يتزعمها، وابتزاز الخارج بحاجات ومصالح ملايين البشر الذين يحكمهم طوعاً وكرهاً؛ سيشكل تهديداً شخصياً لن يقتصر على مستقبله بل سيتعداه إلى حياته. فعلى رأسه وضعت السلطات الأميركية عشرة ملايين دولار، في عملية تنتظر التنفيذ بمجرد أن ينتهي تهديده: «أنا أو الفوضى الجهادية». وعلى الأرض تراكمت أعدادُ من يطلبون الثأر منه لأسباب إيديولوجية أو أهلية، خاصة إذا صحّت الأرقام المعقولة المتداولة عن بلوغ عدد من أعدمهم «جهاز الأمن العام» في السنوات الأخيرة ألفين من المعتقلين، بمحاكمات وإجراءات ومَدافن سرّية.

وبالفعل، ففي اجتماع مُوسَّع عقده قبل يومين من تاريخ نشر هذا المقال، أي في 12 آذار الحالي، مع من أسماهم إعلامُهُ «القوى الثورية والفعاليات المدنية والمؤسسات العامة»، واصطحب إليه رئيسَا «الشورى» و«الحكومة» أيضاً؛ أوضح أنه بلغ أقصى ما يستطيع فعله من الاستجابة لما يسميه «المطالب المحقة»، مُهدِّداً أن ما يتجاوزها «خطوط حمراء» سيتم التعامل معها «بشكل شديد» بعد ذلك، لأنها تهدد «ما وصلنا إليه من مكتسبات».

من وجهة نظره وصل الجولاني إلى سقف ما يمكن قبوله. فقد خرجت عن هذا الاجتماع قراراتٌ تحدُّ من سلطاته؛ على رأسها تشكيل «مجلس استشاري أعلى» من «أهل الشوكة والرأي والاختصاص والكفاءة العلمية»، مهمته النظر في «السياسات والقرارات الاستراتيجية»، وتشكيل جهاز رقابي أعلى، وإعادة تشكيل «جهاز الأمن العام» ضمن وزارة الداخلية في «حكومة الإنقاذ»، مما يُفترَض أن يُغيّر طبيعة عمله وينقله من السرية إلى العلانية، فضلاً عن تشكيل «ديوان المظالم والمحاسبة» لتلقّي الشكاوى عن الانتهاكات. واقتصادياً قُرِّرت إعادة النظر في «السياسات» المتبعة ومكافحة الفساد ومنع الاحتكار.

تُكبّل هذه البنود صلاحيات الجولاني وفريقه المقرّب لو طبّقت فعلاً. لكنها تطويق اضطراري لمطالب المحتجين الذين سيجدون أنفسهم أمام خيارين صعبين؛ مواجهة العصا التي لوّح بها قائد «الهيئة» جدياً، أو السماح له بانتزاع دورة حياة جديدة سيقضيها في التلاعب على القرارات وتفريغها من محتواها، بانتظار انفجار موجة جديدة من التظاهرات.