سمعتُ خبر المظاهرة الأولى في سوريا وأنا أتسكّع مع صديقي وليد في مخبز الحلويات المجاور لبيتنا، والذي قضيتُ فيه أوقاتاً طويلة، هرباً من دراسة متراكمة للبكالوريا ولمُتابعة أخبار الربيع العربي. 

رائحة الکليجة والكعك منتشرةٌ على طول الشارع. نقفُ على عتبات رصيف المخبز العالية المُواجِهة للشبابّيك الخلفية لشُعبة حزب البعث في المدينة، وكأنّ شبابيك المبنى تُراقبنا. كنّا نهمس ونغمزُ لبعضنا منتظرين بثقة انفجار الثورة في سوريا، وفي عامودا تحديداً، حيث تربينا على ذكرى انتفاضة قامشلو عام 2004 وإسقاط تمثال الأسد الأب، مُتباهين بِقدم المدينة في الثورات وتاريخها الحافل بالسياسة والثقافة وبمجانينَ عُقلاء. 

كان وليد واحداً من هؤلاء، يتحدث عن المُغني محمد شيخو كبطل قومي، وتشعر بأن في قلبه جمرة نار معتّقة كرائحة الكليجة التي يخبزها. كنتُ متشوقاً لانتفاضة جديدة تكتمل هذه المرة بعد معايشة انتفاضة قامشلو كطفل في العاشرة من العمر، حُبِسَ في البيت ومُنِعَ من الخروج لمشاهدة حرق مكاتب حزب البعث.

***** 

عرفتُ السياسة في عمر مبكر. لم يكن ذلك خياراً، بل طبيعة حياة في الجزيرة السورية «بن خت»«بن خت» بالكردية تعني جنوب الخط، والمقصود به سكة القطار التي رسمت الحدود السورية التركية على طولها، وقسمت عوائل كثيرة عن بعضها بين ماردين وسهول الجزيرة السورية.. غالباً ما فشلت العوائل في الجزيرة السورية قبل 2011 في تحييد أطفالها عن السياسة حفاظاً عليهم وخوفاً من المخابرات، وخاصة العوائل الكردية المنخرطة في الأحزاب المحظورة منها أو المسموحة. أرادت لي عائلتي السفر لإحدى الدول الأوربية من خلال منحة دراسية، للظفر بمستقبل معقول على خطى والدي في تشيكوسلوفاكيا. ولكن جاءت الثورة وتغيرت كل الخطط والمشاريع. 

انتسبت عائلتي في معظمها إلى الحزب الشيوعي السوري «جناح يوسف فيصل»، وانتسب بعض الأقارب الآخرين للأحزاب الكردية السرّية. عمل جدي مع خالد بكداش واعتُقل بسبب تعاونه مع الأحزاب القومية الكردية وتهريبه لنشراتهم الإخبارية. أما عمي فنجا من الموت بعد إطلاق مدير ناحية عامودا النار عليه وهو مستعصٍ في أرضه خلال انتفاضة قرية علي فرو الشهيرة في الجزيرة السورية، والتي قادها الفلاحون الكرد ضد قوانين الحزام العربي أو «الحزام الأخضر» في منتصف الستينيات. 

كانت تلك الأحداث تُوجّهني للسياسة دون إدراك: كنتُ من جيل كردي يضعُ كل العلل في الإمبريالية الأميركية، لكنه يهلل لدخولها العراق وسقوط صدام، جيل اختبرَ الثورة في انتفاضة القامشلي وإن عن بعد بحكم العمر. كان مستحيلاً إذاً، بعد كل ذلك، إبعادنا عمّا بدأ في سوريا في ربيع 2011.  

*****

اقترب مني وليد، صديقي صاحب المخبز، ليهمس لي دون أن يسمعه الزبائن بأن «الثورة ستنطلق لا محالة، فالكُرد معارضون بالفطرة، ولا بدّ أن تخرج التظاهرات هنا أيضاً». أشعرني كلام وليد بالثقة والراحة، وأصبحت مُتيقناً أن الثورة قادمة، لأقتنع أكثر بإلغاء فكرة السفر. أين أسافر وقد بدأت نصبح سوريا للتو وطناً. 

اتّسمت التظاهرات في عامودا بأجواء احتفالية، انتهت معظمها بسلام وقلّما تدخلت قوات النظام فيها، بل تجنبتّنا إلا في بعض الاستثناءات: الاقتراب من المباني الأمنية أو تماثيل الأسد. رغم هذا، كان لا بدّ من الحذر أثناء المشاركة في المظاهرات.

في مظاهرة مسائية ذات يوم حاولنا غناء أغنية القاشوش لأول مرة؛ «أنا حافظ الأغنية» قلتُ بخجل. لا أذكر كيف أني وجدت ميكرفوناً في يدي وغنيت. رفعت رأسي بعد انتهائي من الأغنية لأرى حلقة رقص كبيرة حولي، وقد توقّف ترتيدُ شعارات المظاهرة تماماً من أجل الأغنية. ارتجفَتْ يداي وقدماي في البداية، وفزعت، لكن سرعان ما شعرتُ بتحرر كبير، وأعدتُ غنائها مرات عديدة في تلك الأمسية. لكنها كانت المرة الأخيرة التي أحمل فيها ميكروفون في مظاهرة، فخبرُ غنائي كان قد وصلَ إلى بيتنا قبل عودتي ذلك المساء.

***** 

كانت الثورة لحظة حقيقة، ولحظة تَشكُّل كينونتنا الخاصة، ضمن العائلة والحي وأمام مُدرّسينا. رفضتُ كل الإملاءات وكل السُلطات، وأولها العائلة وخوفها غير المُبرَّر بالنسبة لي. قررتُ بدلاً من السفر إلى الخارج ودراسة فرع علمي ما، التوجُّه إلى دمشق لدراسة الإعلام في أيلول (سبتمبر) 2012، على الرغم من تصاعد وتيرة العنف في العاصمة ومحيط المدينة الجامعية في تلك الفترة. أتذكر كيف ضرب انفجار كبير في أسبوعي الأول مبناً تابعاً للجمارك، هزّ كل المدينة الجامعية وأسقط إبريق الشاي المغلي من يدي عند منتصف ليل أحد الأيام، وأَعقبته اشتباكات طوال الليل. 

كم كانت سذاجةُ البدايات جميلةً بِخلّوها من الخوف العارم، أَقلّه بالنسبة لي. 

أتذكر كيف أوقفني أحد الحواجز ليُحقِّق العسكري معي بسبب كسر بسيط يكاد لا يُرى بالعين في بطاقة هويتي الشخصية، مُتِّهماً إياي بكسرها عمداً. أعتقد أن أحد المشايخ المؤيدين للثورة وقتها كان قد طلب من الثوار كسر هوياتهم الشخصية. تسامحَ معي العسكري حين عرف أني قادم من عامودا، أو هذا ما أوحاه لي على الأقل. أعضاء اتحاد الطلبة كانوا مُسلَّحين ومنتشرين في كل مكان، أما «الصديق» الوحيد الذي تعرّفتُ عليه خلال أيامي الأولى، فقد اكتشفتُ مصادفة أن أخاه «الموظف» الذي يزوره باستمرار كان موظفاً في الأمن العسكري، وأنا الذي كنتُ قد أخبرته عن مشاركتي في مظاهرات عامودا. أتذكرُ أيضاً تَودُّدَ الكثير من الطلبة المؤيدين للنظام للكُرد، وسماعي لجمل غريبة مثل «إنتو من جماعتنا» عند معرفة أني من عامودا. ماذا أُجيب؟ لستُ من جماعتكم؟ سيكون انتحاراً. 

عدتُ إلى القامشلي لقضاء عطلة عيد الأضحى، بالتزامن مع دخول فصائل «مُعارِضة» إلى رأس العين في أواخر 2012، وخرجَتْ دمشق بعدها من حساباتي. فبُعيد وصولي إلى القامشلي اكتشفتُ أن اسمي في تسريبات لأسماء المطلوبين للأمن السياسي. يبدو أني نجوت بأعجوبة. كنت أتجول في العاصمة قرب أبشع فروع التعذيب دون أن أعرف أني مطلوب.

***** 

معركة رأس العين 2012 شكّلَتْ بداية الشرخ بين المعارضة السورية والشارع الكردي المنقسم أصلاً إلى أجسام متعددة. وكان من الطبيعي أن تخرج أربع أو خمس مظاهرات مختلفة في مدينة صغيرة مثل عامودا في اليوم والتوقيت نفسه. 

العام الأول من الثورة شهد اختلافات فكرية وتنظيمية مع أجسام المعارضة السورية بشأن شكل سوريا المستقبل، وبشأن مطالب القوى الكردية؛ مثل الفدرالية والاعتراف الدستوري بالشعب الكردي واللغة الكردية. وكنا نحن شباب المظاهرات ننفر بشكل خاص من خطاب الأحزاب الكردية التقليدية القومي الضيّق. لكن معركة رأس العين نَحَّتْ هذا الخلاف الكردي-الكردي لصالح صراعنا جميعاً مع قوى المعارضة السورية المُسلحة.

جاء دخول الفصائل إلى رأس العين دون أي تنسيق مُسبَق مع القوى الثورية المحلية، وأسفر عن نزوح الآلاف من أهالي المدينة، ومُنعت التنسيقيات من رفع الشعارات والرايات الكردية. دخول الفصائل المسلحة عبر الحدود التركية واتّسامها بطابع إسلامي أثار حفيظة الأحزاب القومية التقليدية والقوى الشبابية معاً. توحَّدَ الشارع الكردي لأول مرة، ودخلت قوات حماية الشعب أولى معاركها ضد هذه الكتائب. ومع صعود قوات حماية الشعب كفاعل عسكري نَشِط في المنطقة، جذبت العديد من الشباب المقاتلين من جميع الأحزاب وليس فقط من من مؤيدي حزب الاتحاد الديمقراطي. 

لم يكن لـ«تحرير» رأس العين أي قيمة حقيقة في معركة إسقاط النظام السوري طالما بقيت المدن الكبرى معه، بل كان الهجوم عليها تنفيذاً واضحاً لأجندة تركية، وفيما بعد ستعود بعض هذه الفصائل وعلى رأسها تلك التابعة لنواف البشير إلى التصالح مع النظام، وستتلقّى دعماً إيرانياً. خسرت الثورة السورية جمهوراً كردياً واسعاً، وارتفع الخطاب القومي الكردي الذي لم يكن يشدّني أو يمثلني. تصدَّعَ خطاب المواطنة والثورة وبات يبدو غير واقعي، وتسرَّبَ الفتور إلى العديد من شباب جيلنا وأنا منهم. حاولنا تعويض الشِقاق الثوري بالعمل المدني، لكن دون نتائج تُذكَر. 

***** 

غيَّرَ شتاءُ وصيف 2013 الكثير. تدهورَ الوضع الاقتصادي بتسارُع كبير، وبدأت تظهر حلول العبور للعمل المؤقت أو الموسمي في كردستان العراق. استمر الحراك الثوري بالانحسار والتراجع مع تقدم وتوسع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي واستيلائها على مقرات النظام. في حزيران (يونيو) من ذلك العام، اعتقلت قوات الحزب عدّة نشطاء من عامودا، فشهدت المدينة إضرابات ومظاهرات ضد الحزب، وبعد عشرة أيام من الاعتصامات قامت قواتٌ تابعة لحزب الاتحاد بمهاجمة المظاهرات واعتقال العشرات وحصار المدينة وحظر التجوال فيها ليومين. سقط ستة قتلى بين الناشطين الشباب، من بينهم جاري ابن الـ 16 عاماً. أنهى حزب الاتحاد بذلك الحراك بالكامل. ما زلتُ أتذكر تلك الليلة، وأؤمن بأني نجوت مصادفة. أنقذتني دعوة للتدخين على جانب التظاهرة من الموت.  

أعود مرغماً إلى البدايات، وإلى كلام وليد: «نحن الكرد معارضون بالفطرة، لا شك أننا سنخرج في الثورة». لم يكن الحافز الأول بالنسبة لي استقلالَ كردستان أو إقامة كيان قومي. لم يطالب أحد بذلك في الواقع، أقله على المدى القريب أو المتوسط. كما لم أكن منخرطاً في العمل الحزبي والسرّي قبل الثورة، وكذلك كان معظم أصدقائي. في بداية الثورة كان خطاب المُواطَنة السورية مُسيطراً، ولا شك أنه جذبنا جميعاً: القوميون واليساريون، غيرُ المُسيسين كما الإسلاميون. لكن هذا الصوت انحسرَ بشدة، وكأنه أُريدَ له أن يكون أقلية مقابل خطاب سائد شعبوي.

من عفرين، ربيع العام 2018، جاءت لحظة إدراك أكبر لهذه الهزيمة المتأنية، وأصِفُها بالمتأنية لأنها استلذَّت باستدراجنا للإبقاء على الأمل. كانت عملية احتلال عفرين من فصائل سورية مُعارضة مدعومة من تركيا أشبه بالصفحة الأخيرة لعلاقتنا، نحن الكُرد السوريون، مع أقراننا من السوريين ومع المعارضة السياسية. شعرنا بالخذلان من كل الجيران والحلفاء وشركاء الوطن المُفترَضين. والآن هناك من يجدد الدعوات لقوات النظام السوري لحماية مناطق الكثافة السكانية الكردية من فصائل المعارضة والجندرما التركية، الذين سنّوا سيوفهم على رقاب «الكرد الملاحدة».

يكره الكردُ اليوم لفظَ الثورة، ربما. لم أعاود الحديث مع وليد ذاته، لكني تحدثتُ إلى كثيرين، عن حال البلد وأحوالنا في المنفى وعن الهزيمة البطيئة. ما يؤلم، بعد ثلاث عشرة سنة، أن الكرد السوريين، انتظروا الثورة السورية منذ زمن بعيد. منذ سقوط صدام حسين، وانتفاضات الكُرد في «سر خت»«سر خت»: شمال الخط. يُقصَد بالخط سكة القطار التي رُسِمَت الحدود بمحاذاتها. لم يكن هناك حدود فاصلة بين قضاء ماردين والقامشلي، حتى جاءت سكة القطار وسُميت شعبياً بهذه التسمية. يسمي كرد الجزيرة حتى اليوم كردستان تركيا سر خت (شمال الخط) والقسم المُلحق بسوريا بن خت (تحت الخط)، ومنذ انتفاضة 2004. لا يكره الكُرد السوريون الثورة لأنهم خسروا أموالاً أو امتيازات اجتماعية مثل فئات مدللة اقتصادياً مثلاً! ولم يتهرّبوا من الثورة خوفاً من التنكيل: بل إن التنكيل لازمهم لعقود حتى صَعُبَ تخيّلُ حياتهم دونه. لا يمقتُ كُرد سوريا الثورةَ لأنهم مستفيدون من النظام أو غيره. بل كرهوا الثورة بعد أن ماتوا وهُجِّروا باسمها وتحت رايتها.

بعد 13 عاماً من حلم جميل، استيقظتُ عليه كمُراهِق تمسَّكَ حينها بالبلد ورفضَ السفر ليكون جزءاً من التغيير، لكنه بات اليوم يخشى أن يُعلن عن اشتياقه للحلم، لأن الانتماء لذاك الحلم على المستوى الكردي الشعبي والوطني والأهلي بات أقرب للخيانة. 13 عاماً، تحولت الثورة فيها من حلم إلى ذنب، وأجهد أنا دون جدوى لمصارعة ذنب الثورة وذنب النجاة.