عام 2020، بعد اجتياح وباء فيروس كورونا العالم، أُجبِرَ الإنسان على أن يواجه سيناريو جديد من سيناريوهات الموت وحيداً ومعزولاً دون احتضان وملامسة من يحبهم. كانت العزلة مُحفِّزة لي للتفكير في جدوى خلاصيّ الفردي. لم أستطع، على المستوى الشخصي، مقاومة ما تفرزه هشاشة الشعور بالوحدة، فبّتُ أعود بذاكرتي إلى الشخص الذي كنتُه قبل عقد كامل من الزمن، أي في عام 2010.
*****
في دمشق، في شهر أيار (مايو) 2010، تعرّفتُ على مخرجة أفلام وثائقية إسبانية. كنتُ حينها في الثالثة والعشرين من العمر، وكانت هي في الستين، وتعمل على فيلم وثائقي بعنوان مؤقتٍ آنذاك: وجوه من الشرق الأوسط. نشأَتْ بيننا صداقة وصُحبة لطيفة، وطلبَتْ أن تُصوّر معي مقابلة وتضعني ضمن فيلمها.
عند الساعة الثالثة بعد الظهر، اصطحبتني إلى بيتها الذي كانت قد استأجرته في دمشق القديمة في منطقة القيمرية. جلسنا في أرض الديار، بجانب البحرة الرُخامية الصغيرة في الوسط. أحضرَتْ الكاميرا وثبتتها على الحامل (Tripod) وسألتني: هل نبدأ؟ كانت هذه المرة الأولى في حياتي التي أقفُ فيها أمام كاميرا احترافية، وعندما نظرت إلى العدسة شعرتُ بالارتباك.
قالت: في البلد التي تعيشُ فيها، سوريا، شبابٌ مثقف ومنفتح على العالم، وفي الوقت نفسه هناك فقر وتفاوت طبقي واضح، و«وضع سياسي معقد»، ولا يوجد أي تغيير ملحوظ، فالناس هنا تخاف الحديث في السياسة. هل تتوقع أن يتغيّر هذا الواقع؟
فاجأني السؤال، وشعرتُ أنني عاجز عن النطق، وبدأ العرق يسيل من أعلى جبيني، ومن رقبتي وظهري، أحاول جاهداً التفكير في بعض الكلمات التي سمعتُها؛ «مثقف، منفتح، فقر، وضع سياسي معقد؟».
نظرتُ إليها، كانت هي أيضاً تتعرّق، وتتأمل شجرة الليمون الكبيرة التي تقع في إحدى زوايا البيت. وفجأة نظرت إلى عينيَّ مباشرة، وابتسمت، فابتسمت أنا أيضاً. قالت: «Stop». دَخَلتْ إلى المطبخ وأحضرت كوبين من عصير الليمون البارد، وعُلبة مناديل ورقية. جفّفنا عرقنا وأشعلنا سيجارتين وبدأنا نُدخّن ونشرب العصير. وبعد أن انتهت الاستراحة قالت: لنبدأ من جديد.
أعادَتْ عليَّ السؤال نفسه، وأجبتُها بكلام عائم وكليشيهي جداً؛ بأننا في سوريا نعيش تحت سلطة مستبدة تتحكم بكل شي في هذا البلد. وقلت لها أيضاً، أن هذا الوضع «السياسي المربك» لا يعجبني، وأشعرُ بالسخط على النظام السياسي في البلد، لكنني أشعر بخيبة أمل أيضاً من المجتمع الذي أعيش فيه. وبدأت أتحدث عن السلطة الدينية المُتحالفة مع السلطة السياسية، وعن أن التغيير يبدأ بسن قوانين مدنية تُحجِّم دور السلطة الدينية، وعن ضرورة أن يكون هناك قوانين مدنية، وتحديداً فيما يتعلق بالزواج المدني وقانون الأحوال الشخصية.
كانت الحياة الإجتماعية في سوريا تبدو ظاهرياً متماسكة من خلال تمسُّكها بالأعراف والتقاليد العائلية والدينية والمجتمعية. لكني كنتُ أرى هذا النوع من التماسك سطحياً. وكان كل فرد يحاول التفكيرَ خارج إطار العادات والتقاليد، أو التمرُّدَ على ما يفرضه الدين من تشريعات، يُوصَمُ بالعار، وقد تكون حياته مهددة بالخطر ومغضوباً عليه.
إحدى الهموم التي كان بعضنا يتشاركها قبل الثورة هي قضية جرائم الشرف، والتي كانت إحدى القضايا الكابوسية التي نحاول تغييرها داخل سوريا، ذهبت ضحيتها نساء أحببنَ رجالاً من ديانة أو طائفة مختلفة؛ عائلات تعاقب نساءها بالقتل، وقانون لا يعاقب القاتل إلا بالسجن لمدة عام واحد فقط، يخرج بعدها حراً طليقاً وكأن شيئاً لم يكن.
*****
في بداية شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه، وفي جلسة دردشة خفيفة مع والدي، بَدَأ خلالها بطرح أسئلة وجودية عليّ، مثل «وبعدين؟»، «أيمت بدك تفكر بشكل جدي بمستقبلك؟».
كان والدي في ذلك الوقت مُستاءً من شكل حياتي العشوائية، إذ أنني وتزامُناً مع فترة الدراسة الجامعية، وعلى مدار ثلاث أعوام (2008، 2009، 2010)، عملتُ في متجر صغير لبيع الأسطوانات الموسيقية في دمشق القديمة. عَمَلٌ رأيتُ فيه فرصة للابتعاد عن أي وظيفة «روتينية» تُشوّشُ ذهني وتُبعدني عن القراءة، وعن حلمي، الذي كان وردياً جداً وقتها، بأن أكون أديباً. ورغم مثابرتي على قراءة الصحف والمجلات الثقافية، إلا أنني لم أفكر في العمل والكتابة بالصحافة وقتها.
أخبرتُ والدي بأني أفكّر في التوقف كلياً عن ممارسة أي عمل. وبكل ما أملكه من حسٍّ شاعري قلت له، في حين بات وجهه يُعبِّر عن غضب عارم، بأنني أرغب في «ترك الحياة في المدينة» نهائياً، والذهاب للعيش في المزرعة الصغيرة التي نملكها في ريف دمشق، بمنطقة حمورية، والتي كانت شبه مهجورة لأن والدي ليس لديه الوقت للاهتمام بها، كما أنه يعاني من إعاقة في قدميه تمنعه من الحركة بشكل طبيعي. قلت له: سأُجهّز الغرفة الصغيرة الموجودة هناك، وأبني حماماً ومطبخاً، وأستعين في البداية بمُزارع يساعدني في زراعة الأرض، وأتعلم منه كيفية الاهتمام بها، وفي الوقت نفسه أتفرغ أكثر للقراءة والكتابة.
وضعتُ خطة لتنفيذ المشروع، وهي أنني سأبقى في عملي في متجر الموسيقى، لغاية شهر حزيران (يونيو) من عام 2011 الذي كان على الأبواب. ستة أشهر كافية لأجمع مبلغاً صغيراً من المال يكفيني لتمويل خُطّتي في خوض تجربة العيش في أرض زراعية، وفكرتُ في نفسي: في حال أثبتُّ فشلي في الكتابة، سأكون مزارعاً.
*****
انزاحَ عبء التفكير في الخلاص الفردي، والذي كان أشبه بحلم يقظة يتكرر يومياً، مع بداية الثورة السورية منتصف آذار (مارس) من عام 2011. لم أستطع تطبيق تجربة تعلّم الزراعة ومنحة التفرغ للكتابة التي أردتُ منحها لنفسي، وتحوَّلَ الحلم المُتخيّل، في المرحلة السلمية من الثورة، إلى رغبة بالخلاص الجماعي. والذي كنتُ أتمناه في ذلك الوقت هو ألّا أُضطر للسفر خارج سوريا والابتعاد عن عائلتي. كنتُ أحب الحياة في مدينة دمشق، وكان ينتابني شعور دائم بأنني عشت حيوات عديدة في هذه المدينة وليس حياة واحدة.
تحطَّمَ خيالي الثوري «الرومانسي» بخلاص جماعي بعد قصف النظام السوري للغوطة الشرقية بالأسلحة الكيماوية في ريف دمشق بتاريخ 21 آب (أغسطس) 2013، وباتت الذاكرة مليئة بصور عمليات الإبادة والمجازر وتدمير مدن وأحياء بأكملها على رؤوس قاطنيها. وبهتت صورة الخلاص الفردي التي كانت تَرسم في المخيلة أحلاماً عن النجاح والإنجاز والاستقرار المادي كـ«فرد»، وتَحوَّلت إلى الجري والهرولة للنجاة، ومجرد القدرة على البقاء على قيد الحياة.
لم يكن قد مضى على سفري من سوريا وإقامتي في مصر وقتها سوى ستة أشهر. كنتُ أُراقب أهالي الغوطة من خلال مقاطع الفيديو التي انهالت على صفحات السوشيال ميديا لأناس ماتوا اختناقاً وهم نائمون، وأطفال كانت أجسادهم ترتجف وتختلج، وحدقات أعينهم تتّسع، ولا يَعون ما هو الشيء السامّ الذي دخل أجسادهم وغيّبهم عن الوعي. كان من الممكن أن أكون أحد ضحايا الكيماوي لو لم أخرج من ريف دمشق في عام 2012.
بعدها بسنوات قليلة، دُمِّر بيت عائلتي والحي الذي عشتُ فيه. وعند هذا التحوُّلُ للحال والأحوال، تغيَّرَ لون الخلاص الفردي، من الوردي الجميل إلى الأزرق القاتم الكئيب. أُرغِمتُ على اختيار الخلاص الفردي بصورته القاتمة، وعلى الخروج من سوريا إلى ما اعتقدتُ أنه مدة قصيرة ومؤقتة هرباً من الموت وطلباً للنجاة، لكنني أدركتُ بعد الكيماوي واستمرار القتل والدمار وتهجير الناس من أحيائهم في الغوطة الشرقية، وبقاء النظام السوري، بأن العودة باتت مستحيلة.
*****
ظلَّ همُّ الخلاص الفردي يُلاحقني مثل كابوس، لا بل مثل لعنة. وبقيتُ اثني عشر عاماً أنظر إلى الخلف متأملاً رحلتي مع الأحلام الفردية والجمعية التي تشابكت وتحطمت، وصولاً إلى لحظة تأمُّل مشهد بشار الأسد في القمة العربية الأخيرة بتاريخ 18 أيار (مايو) 2023.
اثنا عشر عاماً، بات أقصى ما يحلم به المرء هو أن يدافع عن حقّ هشاشة روحه بأن تعبر عن نفسها. عن الحق بأن يصرخ ويتألم من تراكم صور الإبادة والتهجير والاقتلاع والشتات التي لحقت بنا كسوريين، دون اتهامه بالمظلومية. وعن الحق بكتابة نصوص توثّق المسارات الشخصية للـ«فرد» وتقاطعاتها مع المسار المأساوي الجماعي دون التعرُّض للتنمُّر (اعتبِر هذه الجزئية، عزيزي القارئ، بمثابة فاصل إعلاني على اليوتيوب)، أو التعرّض للسخرية بعبارات «حاجة تكتبوا نصوص ذاتية… هي مو صحافة هي خواطر… حاجة تتمحوروا حول ذواتكم… يا صحافة المدونات»، والتي نتعرَّضُ لها كشريحة من كتاب وصحفيين سوريين وعرب، عندما نكتب نصوصاً توثق تجاربنا الفردية ضمن سياق الحدث العام.
وكأن الكتابة التي تمزج بين المسارين الشخصي والعام، واختيار الكاتب الانطلاق من خياراته ومسارات حياته لتأريخ وتوثيق أحداث سياسية واجتماعية عامة حدثت في بلاده، ليست أموراً ذات أهمية. لهذا النوع من الكتابة، والتي تكون في بعض الأحيان كتابة أدبية أو مزيجاً من الريبورتاج الصحفي والسرد الأدبي، تاريخٌ طويل وكتّابٌ أثرت كتابتهم فينا، مثل السيرة الذاتية للكاتب الأميركي تشارلز سيميك ذبابة في الحساء، أو كتاب الـ صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين للكاتب النمساوي توماس بيرنهارد، ومؤلفات آني إرنو، ووصولاً إلى مقالات الكاتب الصحفي المصري هاني درويش، التي جُمعت بعد رحيله في كتابين: إني أتقادم ويوميات الملل الثوري. فحين يتحول الخلاص الفردي إلى ندبة سببها هزيمة المشروع الجماعي، عند لحظة الهزيمة تلك، تأتي الرغبة المُلحّة في هذه الكتابة كي تنتزع حق روايتها من الرواية الرسمية للحدث العام.
*****
أغلب الشباب السوريين الذي هاجروا إلى أوروبا، أو ممن يقيمون في بلدان عربية ولا يستطيعون العودة خوفاً من الاعتقال، أو هرباً من «الخدمة العسكرية»، لم يستطعوا التعافي إلى الآن من «عقدة الناجي» التي تلاحقهم يومياً. كثرٌ من شباب سوريا وشاباتها، ممن لم يستطيعوا الخروج برفقة عائلاتهم التي دفعت كلَّ ما تملك أو استدانت ثمن رحلة نجاة أبنائها، يعيشون يومياً مرارة الفقد وألم البعد، وانتظار أي انفراجة أو معجزة تلم شملهم مع أهاليهم.
كان من الممكن أن نغادر منازل عائلاتنا ونعيشَ بعيدين عنهم، مع ضرورة العودة إليهم وزيارتهم كلما اشتقنا إليهم. لكن ما حدث هو اقتلاعٌ مرعب، أغرقنا نحن وعائلاتنا وأحبابنا بآلام لن نتعافى منها إلا باقتلاع أسبابها. وكل ذلك تُرجِم َعبر الشعارات التي ارتفعت في الاحتجاجات التي انطلقت أواسط شهر آب (أغسطس) من العام الماضي في محافظة السويداء، وتحديداً اللافتات التي حملتها النساء والأمهات المُشارِكات في المظاهرات مثل: «ما بدي إبني بتابوت… رسالة من أم» أو «شبع قلبي وجع… بدي حازم يرجع» و«لم أنجب ابني ليسافر»، و«عودة اللاجئين ضرورة والماء والكهرباء حق وليس منّة أو ’مكرمة‘ من أحد». وكان أحد المشاركين قد حمل لافتة كَتبَ عليها رسالة لابنه الوحيد؛ «رسالة إلى ابني الوحيد يوسف: أرجوك بعد أن تكمل تعليمك أن تعود إلى حضني وإلى أهلك وإلى سورية، فنحن بحاجتك».
الشباب الذين خرجوا في مظاهرات السويداء كانوا أطفالاً أو مراهقين حين اندلعت الثورة، وهم الآن شباب في العشرينيات، وبالتأكيد يحلم معظمهم بحياة فردية أفضل بعد أن كانوا شاهدين على الأثمان الكبيرة التي دفعها الجيل السابق لهم من أجل رحلة التحرُّر الكبيرة في سوريا أولاً، ورحلة الخروج من سوريا بعد ذلك. لا أتحدث فقط عن الخسارات الكبيرة الواضحة، بل أيضاً عن أثمان لا تُرى بالعين المجردة، شيءٌ أشبه بنصل السكين التي تنخر روحنا كلّما طالت المسافة بيننا وبين عائلاتنا، ولم يُسعفنا الوقت أن نعيش حياة طبيعية بصحبتهم. وعلى الرغم من كل هذه الأثمان وربما بسببها، عادت الاحتجاجات إلى البلاد.
رسائل شعارات السويداء واضحة: الخلاص الفردي والخروج من البلاد له أثمانه أيضاً، والخلاص الجماعي إن لم يختره جيل الشباب الحالي، الذي خرج بعد أكثر من اثني عشر عاماً من الثورة السورية، فإن أجيالاً لاحقة ستُجبَر على اختياره.