بعد مرور أقل من عشرة أشهر على آخر انتخابات، يعود الناخبون في تركيا إلى صناديق الاقتراع في 31 آذار (مارش) الحالي، لاختيار مرشحيهم المفضلين في البلديات ومخاتير القرى وأحياء المدن. ثمّة ما يسمى في وسائل الإعلام التركية بـ«إرهاق الناخب» بعمليات الاقتراع المتتالية في العقد والنصف الأخيرين، وذلك على رغم توحيد موعد الانتخابات النيابية والرئاسية منذ العام 2019. فقد أُجريت منذ العام 2009 إلى الآن 15 عملية اقتراعٍ عام بين انتخابات واستفتاءات شعبية، أي بمعدل مرة كل عام! لكن معدلات الإقبال على تلك العمليات لم تنخفض رغمَ هذا الإرهاق، الذي لا يقتصرُ على التعب الجسدي والتوتر النفسي وحدهما، بل هناك أيضاً مبالغ فلكية يتم إنفاقها على عمليات الاقتراع والحملات الانتخابية للأحزاب والمرشحين، والتي تزيد بدورها من الضغط النفسي على عموم السكان وتشغلُ وسائل الإعلام طوال أشهر.
وتشمل الحملات الانتخابية، إضافة إلى الأخبار والحوارات والتصريحات والإعلانات مدفوعة الأجر في وسائل الإعلام، البوسترات ولوحات الإعلانات في شوارع المدن، والتجمُّعات الجماهيرية في الساحات العامة حيث يُخاطبُ المرشّحون أو ممثلو الأحزاب الجمهورَ المحلي بصورة مباشرة، كما السيارات التي تجوب الشوارع مغطاة بصور المرشحين وشعاراتهم، وتطلقُ مكبرات الصوت فيها «الأغنية الانتخابية» للمرشح أو حزبه، وهذه ظاهرة ربما تنفرد بها تركيا، وتستثمر فيها أموالاً طائلة. وتكلّف الأحزابُ السياسيةُ شركات إعلان خاصة بتنظيم حملاتها الانتخابية، وشركات أخرى لاستطلاع الرأي تعمل على «قياس نبض الناخب» في مختلف المناطق وعموم البلاد، يوماً بيوم، وتُوجِّهُ نتائجُ هذه الاستطلاعات المرشّحَ والحزبَ ومديري الحملات الانتخابية إلى ما يتوجّب عليهم فعله، لاستكمال النواقص وسد الثغرات للحصول على أفضل النتائج الممكنة في صناديق الاقتراع.
غير أن إحدى خصوصيات الانتخابات المحلية الوشيكة هي أنها ستجرى تحت ظل نتائج الانتخابات النيابية والرئاسية التي جرت في شهر أيار (مايو) الماضي، وقد كانت نتائجها ثقيلةً على المعارضة في حين خرج منها تحالف السلطة بثقة كبيرة. لا بد إذن من استعادة بعض آثار تلك النتائج على مختلف أحزاب السلطة والمعارضة معاً، وما جرى في صفوف التحالفات التي تنافست في الانتخابات.
المعارضة
دخلت البيئة المعارضة انتخابات أيار بتفاؤل كبير بالفوز، وبأنَّ هذا الفوز سيفتح أبواب التغيير بعد أكثر من عقدين من حكم حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، وسيحلُّ «الربيع» الذي طالما انتظره المتضرّرون منهما، ليعقب شتاءً كان الأقسى في العقود الأخيرة بعد زلزالي السادس من شباط (فبراير)، اللّذين كانت آثارهما الإنسانية والعمرانية والاقتصادية المهولة أحد العوامل التي راهنت عليها المعارضة في تحقيق فوزها المأمول على تحالف السلطة.
وبقدر هذا التفاؤل جاءت خيبة الأمل كبيرة أيضاً في البيئة المعارضة، التي سادها مناخ من فقدان الأمل والسوداوية في النظر إلى المستقبل القاتم، من وجهة نظرها، حيث سيمتدُّ عهد أردوغان والتحالف الإسلامي-القومي خمس سنوات إضافية على الأقل. فلا كارثةُ الزلزال خفّضت من شعبية التحالف الحاكم، ولا التضخُّمُ المنفلت وغيره من مظاهر الأزمة الاقتصادية فعلت. وشكّلَ فوز حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان بغالبية الأصوات في أبرز الولايات التي ضربها الزلزال صدمةً لأحزاب المعارضة، على رغم الشكاوى التي ارتفعت في تلك الولايات من بطء الحكومة في الاستجابة لمتطلبات الكارثة، ومن مسؤوليتها عن ارتفاع حجم الخسائر البشرية والعمرانية بسبب سياسة منح تراخيص البناء بلا ضوابط في جغرافيا قائمة على فوالق زلزالية معروفة.
في هذه الأجواء عقد حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، مؤتمره العام الذي شهدت كواليسه صراعاً بين تيارين وانتهى إلى تنحية زعيم الحزب كمال كليجدار أوغلو، الذي تم تحميله المسؤولية عن الخسارة بسبب إصراره على ترشيح نفسه للرئاسة كما بسبب إدارته السيئة للتحالفات، وانتخاب أوزغور أوزال ليحل محله بدعم قوي من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي صعد نجمه في السياسة التركية منذ العام 2019، وبات يشار إليه كمنافس قوي على منصب الرئاسة في المستقبل.
وتفيض الخلافات داخل الحزب إلى وسائل الإعلام، فيتحدّثُ العالمون ببواطنه عن وجود تيار داخل صفوفه ما زال موالياً كليجدار أوغلو ومستاءً من التغيير الذي حدث في قيادته، من المحتمل أن يلعب دوراً سلبياً في الانتخابات البلدية كما يتوقّع بعض المراقبين.
ومن الأخطاء التي يُشار إليها إصرارُ الحزب الجمهوري على ترشيح لطفي سفاش، رئيس البلدية الحالي، لرئاسة بلدية هاتاي (لواء اسكندرون) مجدداً، رغم استياء أهالي المنطقة من استجابته السيئة لتحديات كارثة الزلزال التي كانت الولاية واحدة من أكثر الولايات تضرراً منها. وقد عبّروا عن هذا الاستياء علناً في اجتماع جماهيري كان خطيباً فيه، إضافة إلى وسائل الإعلام التي نقلت مشاعرهم.
وانفرط عقد التحالف السداسي المعارض بدءاً بحزب الجيد بزعامة مِرال آكشنر؛ التي شنّت حملة منظمة ضد الشعب الجمهوري منذ الأيام الأولى التي تلت انتخابات شهر أيار. معروف أن الزعيمة اليمينية ذات الخلفية القومية المتشددة كادت تتسبب بفرط عقد هذا التحالف في شهر آذار 2023، على أثر إعلان كليجدار أوغلو رسمياً ترشيح نفسه باسم التحالف للانتخابات الرئاسية، إذ اعترضت على هذا الترشيح واقترحت بدلاً منه واحداً من رئيسي بلديتي إسطنبول أو أنقرة المنتميَين للحزب الجمهوري أيضاً. صحيحٌ أن الخلاف قد تم احتواؤه لاحقاً، لكنه أصاب الحملة الانتخابية بجرح كبير، حتى أن بعض المراقبين يخمّنون أن خسارة كليجدار أوغلو أمام أردوغان بفارق ضئيل قد تكون بسبب ناخبي الحزب الجيد، الذين ربما لم يصوتوا له وفق ما تُمليه واجبات التحالف.
وبخروج الجيد رسمياً من تحالف المعارضة، تفكّكَ الأخير تماماً بعدما خرجت الأحزاب الأخرى الصغيرة منه أيضاً، وأعلنت أنها ستخوض «المحليات» بصورة مستقلة حتى لو لم يكن لديها حظوظ في الفوز برئاسة أي من البلديات الكبيرة، فهي تراهن على مناطق معينة حيث تتمتع كل منها بنفوذ فيها قد يُترجَم إلى فوز موضعي ببلديات فرعية، فضلاً عن أن الانتخابات تشكل فرصة لها لاختبار نمو شعبيتها أو تراجعها.
ويعاني الحزب الجيد بدوره من أزمة داخلية كبيرة تجلّت في استقالات مهمة من صفوفه ومن كادره القيادي، وذلك بسبب سوء إدارة آكشنر للعلاقة التحالفية مع الحزب الجمهوري. ومعروفٌ أن قسماً من العلمانيين المُستاءين من أداء قيادة حزب الشعب الجمهوري كانوا قد وجدوا في الحزب الجيد عنواناً بديلاً لممارسة السياسة، فانضموا إليه باعتباره حزباً معارضاً، ليروا عدم نزاهة آكشنر في علاقتها التحالفية فيما اعتبروه «خدمة مجانية» قدّمتها لتحالف السلطة في الانتخابات. وألمحت آكشنر في أحدث تصريح لها بأنها «قد تعود إلى بيتها» إذا لم يُحقق حزبها النتائج المأمولة في الانتخابات المحلية، في إشارة إلى احتمال اعتزالها العمل السياسي.
وعقد حزب الشعوب الديمقراطي أيضاً مؤتمره العام واتخذ اسماً جديداً هو حزب المساواة والديمقراطية، بعدما كان قد خاض انتخابات أيار على قوائم حزب الخضر اليساري. وقد سادت صفوف الحزب خيبة أمل مريرة من المرشح الرئاسي كليجدار أوغلو الذي صوتوا له، هم وقاعدتهم الانتخابية الكبيرة، بعد عقده صفقة مع زعيم حزب النصر أوميد أوزداغ عشية الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، ليس فقط من وراء ظهرهم، بل كذلك من وراء ظهر شركائه في التحالف والهيئة القيادية في حزبه بالذات، إذ لم يستشر أحداً في ذاك التحالف. وزاد الطين بلّة كشفُ أوزداغ لبنود الاتفاق المكتوب بينهما بعد أسابيع من الانتخابات، والتي تضمّنت وعدَ كليجدار أوغلو له بمنحه وزارتين ورئاسة جهاز الأمن القومي في حال فوزه بمنصب رئاسة الجمهورية.
أدى ذلك إلى اتخاذ حزب المساواة والديمقراطية قراراً بخوض الانتخابات المحلية بمرشحيه الخاصين، تاركاً هامشاً لاتفاقات موضعية مع الحزب الجمهوري في بعض المناطق. لكن إسطنبول وأنقرة غير مشمولتين في هذا الهامش، فقد رشَّحَ حزب المساواة والديمقراطية مرشّحيه المستقلين في أهم المدن الكبرى.
وفي شهر كانون الثاني (يناير) الماضي، فاجأت باشاك دميرتاش، زوجة الزعيم الكردي صلاح الدين دمرتاش المعتقل منذ ثماني سنوات، الرأيَ العام بتصريحها لوسائل الإعلام عن رغبتها في الترشُّح لمنصب رئاسة بلدية إسطنبول «إذا رأى الحزب ذلك مناسباً». وقد فوجئت قيادة حزبها بهذا التصريح، وضغطت عليها كي تتراجع عن نيتها، ففعلت. ورشَّحَ الحزب مرشّحَين قويَين بدلاً منها لـ«الرئاسة المشتركة» بناءً على نهجه القائم على توزيع المناصب بالتساوي بين الجنسين. وقد كان هناك ما يشبه الإجماع لدى المراقبين على أن هذه المبادرة من صنع صلاح الدين دمرتاش، الذي يريد مواصلة نفوذه القوي داخل صفوف الحزب من خلال زوجته. صحيح أن إعلان الأخيرة عن تراجعها عن ترشيح نفسها قد تضمّنَ قولها إنها ليست على خلاف مع قيادة الحزب، وإنه تمّ اتخاذ القرار بشكل جماعي، لكن هذه الحادثة وما انتهت إليه كشفت عن وجود شرخ داخل الحزب بين صلاح الدين دمرتاش والقيادة الجديدة، من غير أن يَظهرَ ذلك أمام الرأي العام. وثمة تحليلات ذهبت في اتجاه أن دمرتاش كان يسعى من خلال ترشيح زوجته إلى استدراج صفقة تحالفية مع الشعب الجمهوري، تنسحبُ بموجبها من السباق الانتخابي في مرحلة لاحقة لمصلحة إمام أوغلو مقابل شروط سياسية معينة.
وقد عبّرَ أقطاب حزب الشعب الجمهوري ووسائل الإعلام المقرّبة منه عن استيائهم من حركة دمرتاش، معتبرين أن ترشيح زوجته «خدمة» مجانية للسلطة، بل افترضوا وجود مباحثات سرية بين الحزب وحزب العدالة والتنمية بهدف انتزاع مكاسب معينة؛ ككسر عزلة أوجالان في السجن، والتوقُّف عن سياسة عزل رؤساء البلدية المنتخبين واستبدالهم برؤساء معينين موالين للسلطة، أو إطلاق سراح دمرتاش الذي لم تنته محاكمته إلى الآن رغم السنوات التي أمضاها في السجن. وينطلق الشعب الجمهوري في ذلك من اعتبار أصوات الناخبين الكرد «في الجيب» كلّما تعلّقَ الأمر بالاختيار بين السلطة والمعارضة، وهذا ما ينطبقُ على الانتخابات المحلية في بعض المدن الكبرى، حيث لا حظوظ لمرشحي المساواة والديمقراطية الخاصين بالفوز برئاسة بلدياتها الكبرى، ومن شأن تقدمه بمرشحيه الخاصين أن يخصم أصوات ناخبيه من «حصة» مُرشَّحِ الشعب الجمهوري، الذي ينافس بقوة مُرشَّحَ العدالة والتنمية، كحال إسطنبول وأنقرة وأزمير وأضنة. ثمّة خشية حقيقية في أوساط حزب الشعب الجمهوري من خسارة بعض تلك البلديات التي فاز بها في الانتخابات البلدية السابقة (2018)، وذلك بسبب الخلافات الداخلية في الحزب بعد تغيير قيادته وانفراط عقد التحالف المعارض.
ردَّ حزب المساواة والديمقراطية على تلك الاتهامات بالقول إن أصوات ناخبيه ليست مضمونة «في جيب أحد»، وإنه لا يُجري صفقات سرية مع أي حزب، وإنه منفتحٌ على الحوار العلني مع جميع الأطراف، ويمكن أن يجري محادثات مع حزب العدالة والتنمية للمرحلة التالية على انتخابات 31 آذار بشأن قضايا الديمقراطية والحل السياسي للمسألة الكردية، وليس حول الانتخابات المحلية التي سيخوضها بمرشحيه الخاصين.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى حزب النصر بقيادة أوميد أوزداغ المعادي للاجئين، والذي شهدت شعبيته تصاعداً مشابهاً لتصاعد حزب أربكان، ويحصل على نحو 6 بالمئة من أصوات الناخبين في استطلاعات الرأي، الأمر الذي قد يشير إلى تصاعد مطّرد لموجة مناهضة اللاجئين والأجانب في البلاد بموازاة تفاقم الوضع الاقتصادي. ويشارك ها الحزب، الذي يعتبر نفسه معارضاً للسلطة، في الانتخابات البلدية بمرشحيه المستقلين.
جوهرة التاج اسطنبول
في اجتماع جماهيري في مدينة أفيون قالت بورجو كوسكال، مرشحة حزب الشعب الجمهوري لرئاسة بلدية المدينة، إنها إذا فازت في الانتخابات «ستكون أبواب البلدية مفتوحة للجميع باستثناء حزب المساواة والديمقراطية»!. سارعَ زعيم الحزب أوزغور أوزال الذي كان برفقتها على المنصة إلى محاولة احتواء الموقف بالقول إن كلامها كان مجرَّدَ «زلة لسان». لكن كوكسال أعادت التأكيد على موقفها النابذ للناخب الكردي من خلال تغريدة على منصة X في اليوم التالي. أما ردة الفعل الكبيرة فقد جاءت من رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو, الذي قال إن «عليها أن تبحث لنفسها عن عمل آخر غير رئاسة بلدية، أو عن حزب آخر».
ذلك أن تصريح كوكسال الذي سيصفهُ الرئيس أردوغان، بعد أيام، في مدينة آغري أقصى شرق الأناضول، بـ«العنصري» قد تكون له نتائج على انتخابات إسطنبول أكثر من أي دائرة انتخابية أخرى، فإمام أوغلو يعرف أن الناخبين الكُرد في اسطنبول، الذين يُقدَّرون بالملايين، كانت لهم مساهمة كبيرة في فوزه في انتخابات آذار (مارس) 2018 وإعادتها في حزيران (يونيو) من العام نفسه. وكان إمام أوغلو يأمل أن يصوت له قسم من ناخبي المساواة والديمقراطية، مدفوعين على الأقل برغبة إفشال مرشح حزب العدالة والتنمية وليس حباً بالحزب الجمهوري.
وتنظرُ كل من السلطة والمعارضة إلى معركة الانتخابات البلدية في اسطنبول بوصفها «أم المعارك»، ويُضفيان عليها دلالات تتجاوز حقيقة كونها محلية إلى كونها ممراً إلى «الفوز بتركيا» من خلال التنافس على منصب رئاسة الجمهورية. وعبارة «من يفوز باسطنبول يفوز بتركيا» إنما قالها الرئيس أردوغان بالذات في انتخابات سابقة، وهو الذي وصلَ إلى رئاسة الحكومة ثم رئاسة الجمهورية انطلاقاً من رئاسة بلدية اسطنبول في التسعينيات. فإذا دخل حزب المساواة والديمقراطية انتخابات إسطنبول بمرشح قوي، وهو ما حدث بالفعل، سيكون على إمام أوغلو «سد العجز» في عدد الأصوات من مصادر أخرى، هذا بالإضافة إلى خسارته أيضاً لأصوات ناخبي الحزب الجيد الذين كانوا قد صوتوا لمصلحته في الانتخابات السابقة، في حين سيصوتون الآن لصالح مرشحهم الخاص أيضاً. كذلك يخشى إمام أوغلو، ومن ورائه الحزب الجمهوري، أن يؤثر الشقاق الداخلي بين أنصار القيادة القديمة وتلك الجديدة في النتائج، من خلال انخفاض محتمل في نسبة المشاركة في الاقتراع بالقياس إلى الانتخابات السابقة.
أما في العاصمة أنقرة فيبدو مرشح الحزب الجمهوري منصور ياواش متقدماً على منافسه من العدالة والتنمية بفارق عشر نقاط على الأقل في استطلاعات الرأي، وحتى بيئة حزب العدالة والتنمية نفسها تبدو وكأنها مستسلمة للهزيمة المحتملة منذ الآن حسب كثير من المعلقين.
تحالف السلطة
لم يَنجُ تحالف الجمهور بدوره من شيء من التفكك بعد انتخابات أيار، رغم فوزه في البرلمانيات والرئاسيات معاً. صحيح أن نواة التحالف الصلبة بين العدالة والتنمية والحركة القومية قد حافظت على تماسكها، لكن حزب الرفاه من جديد بقيادة فاتح أربكان، ابن الزعيم التاريخي للتيار الإسلامي، خرج منه وقدم مرشحيه الخاصين في معظم المدن التركية. كان صعود هذا الحزب مفاجئاً في الانتخابات النيابية، حيث حصل على قرابة 3 بالمئة من أصوات الناخبين في عموم البلاد، وأدخل خمسةً من مرشحيه إلى مجلس النواب. ويُقدِّرُ المراقبون أن تلك الأصوات قد جاءته من القاعدة الانتخابية لحزب العدالة والتنمية، وهو ما يعني خسارة صافية لتلك النسبة من أصوات الحزب الحاكم، الذي سيسدّ هذا النقص من خلال أصوات حزب الحركة القومية لمرشحيه.
ويتّسم خطاب الرفاه من جديد بتشدّد ديني يُزاود فيه على خطابات كل من العدالة والتنمية في السلطة والسعادة في المعارضة معاً، فهو يدعو إلى إلغاء المادة المتعلّقة بحماية النساء والأطفال من العنف داخل الأسرة من قانون العقوبات، وإلى التسامح مع زواج القاصرات تحت السن القانونية، إضافة إلى اقتناصه فرصة الحرب الإسرائيلية على غزة ليوجّه انتقادات حادة إلى سياسة السلطة «المتوازنة» تجاه طرفي الصراع في غزة، وامتناعها إلى الآن عن قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل.
وإذا أخذنا باستطلاعات الرأي شبه اليومية التي تجري هذا الشهر، سنرى أن حزب أربكان قد ضاعف من شعبيته بالقياس إلى الانتخابات البرلمانية، فتجاوزت نسبة 5.5 بالمئة. وظهر استياء أردوغان من منافسة مرشحيه لمرشحي العدالة والتنمية في تصريحات لاذعة اتَّهمَ فيه أربكان، من غير أن يسميه بالاسم، بطعنِه في الظهر. وعلى رغم ضآلة النسبة المشار إليها فهي قد تكون حاسمة في تحديد الفائز في بعض الدوائر ذات النتائج المتقاربة في الاستطلاعات، وبخاصة مدينة اسطنبول التي تتقارب فيها توقعات استطلاعات الرأي بين حظوظ كل من إمام أوغلو ومرشّح العدالة والتنمية مراد قرم.
قال أحمد داوود أوغلو في تصريحات، على إحدى قنوات التلفزيون، إن سبب اختيار أردوغان لقرم مرشحاً لرئاسة بلدية إسطنبول؛ هو رغبة الأول في اختيار شخص لا يخرج عن طاعته وتوجيهاته في بلدية تُشكّل مَنجماً للريوع. ويُحقَّق قرم هذا الشرط على أكمل وجه برأي داوود أوغلو، فهو وزير سابق في إحدى حكومات العدالة والتنمية، ليس له حضور في قيادة الحزب، إضافة إلى افتقاده للكاريزما بالقياس إلى منافسه إمام أوغلو. أضف إلى ذلك أن «عثرات» قرم أثناء حملته الانتخابية قد شغلت وسائل الإعلام وتداولتها مواقع التواصل الاجتماعي بالسخرية؛ من ذلك مثلاً اعترافه أمام الجمهور بأنه قادَ سيارته ذات مرة بلا رخصة قيادة، ودعا جمهوره، في اجتماع آخر، إلى التصويت له لأن «من شأن ذلك أن يبهج قلوب المحاصرين في غزة» على حد تعبيره! وفي مناسبة افتتاح أحد مشاريع السلطة في مجال الخدمات في اسطنبول، نسي موضوع المناسبة وسأل عنه الذين يقفون بقربه على المنصة.
ولكن ما الذي يجعل نتائج استطلاعات الرأي تتوقع له نسبة من الأصوات قريبة من نسبة التصويت لإمام أوغلو، على رغم جميع نقاط الضعف المشار إليها؟
إنه أردوغان الذي يعتبر أن معركة انتخابات إسطنبول هي معركته الشخصية، فضلاً عن معركة حزب العدالة والتنمية في عموم تركيا. فهو يجوب المدن والأحياء ويخاطب فيها جمهوره الذي يفوق بحجمه جمهور حزبه، طالباً التصويت لمُرشَّحي حزبه، واضعاً في الميزان ثقل شعبيته وجميع مهاراته الخطابية والسجالية ضد الخصوم، ومُغدِقاً بوعود وفيرة للمرحلة المقبلة. فمن سيُدلي بصوته لقرم سيفعل ذلك كأنه يدلي بصوته لأردوغان. وفي مدينة أنطاكيا التي زارها عشية الذكرى السنوية للزلزال، خاطب أردوغان جمهوره قائلاً ما معناه إن الانسجام بين البلدية والإدارة المركزية يفتح أبواب الخدمات على المدينة، وإن غياب هذا الانسجام يحرمها من الإمكانيات. لاقى هذا التصريح استياءً كبيراً في البيئات المعارضة التي رأت فيه ابتزازاً صريحاً مفاده (إذا لم تنتخبوا مرشحنا سيتم حرمانكم من كل شيء). ثمة من اعتبر هذا الكلام مجرد هفوة عابرة، لكن كلاماً بالفحوى نفسه تكرَّرَ على ألسنة مرشحين للحزب الحاكم في مناطق مختلفة، الأمر الذي فُهِمَ منه أن هذا الابتزاز سياسة واعية وثابتة.
على غير صلة بالانتخابات المحلية، قال أردوغان في أحد الاجتماعات الجماهيرية إن «هذه آخر انتخابات أخوضها في حياتي السياسية»، ليتحوّلَ هذا التصريح إلى موضوع للتكهنات. فما زالت البيئة الموالية لأردوغان لا تتقبل خروجه المحتمل من المشهد السياسي في نهاية فترته الرئاسية الثالثة في العام 2028، وفق ما يسمح به الدستور له. كذلك لا ترى البيئات المعارضة أن شخصاً كأردوغان يمكن أن يغادر المشهد السياسي طواعيةً، على رغم وضوح النص الدستوري. ولم يمض سوى يوم واحد على تصريح أردوغان حتى «وجدَ» نائب رئيس مجلس الشعب (البرلمان) بكير بوزداغ «مخرجاً» دستورياً يُتيح لأردوغان الترشُّح للمرة الرابعة، بل ولعدد مفتوح من المرات، لرئاسة الجمهورية. فثمة نص دستوري آخر يسمح بذلك إذا لم يكمل الرئيس ولايته الدستورية إلى نهايتها لسبب أو لآخر، بقرار من مجلس الشعب يُتَّخذُ بأكثرية نسبية. ولم يأت أي ردّ من أردوغان يُعلن فيه بصراحة عدم رغبته في التجديد لولاية جديدة، بل كان قد ربط كون الانتخابات المحلية الحالية «آخر انتخابات يخوضها» بأنَّ الدستور لا يسمح بأكثر من ثلاث ولايات.
من العوامل التي قد تؤثر سلباً على نسبة التصويت لمرشحي السلطة هو رفع المعاشات التقاعدية بنسبة خيّبت آمال المتقاعدين في ضآلتها، في الوقت الذي ما زال وحش التضخم يحرق جيوبهم وجيوب عامة الناس من ذوي الدخول المنخفضة. وتعود أهمية هذا العامل إلى أن المتقاعدين يشكلون كتلة كبيرة تُقدَّر بـ16 مليوناً، وهو ما يعني عدداً مماثلاً من الأصوات في صناديق الاقتراع، إضافة إلى أن قسماً كبيراً منهم يُصوَّتون دائماً لحزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان، الذي قال حين أعلن بنفسه عن الزيادة المذكورة في المعاشات إن الميزانية لا تسمح بأكثر من ذلك.
وسيكون للناخب غير المُسيَّس دورٌ حاسمٌ أيضاً في تحديد النتائج. فثمة كتلة تعبر عن نفسها في جميع استطلاعات الرأي بالقول «لم أحدد بعد لمن سأدلي بصوتي»، أو بالامتناع عن الإجابة على السؤال بهذا الخصوص (10-15 بالمئة من المستطلعة آراؤهم). ويعتبر خبراء في شؤون الانتخابات التركية أن هذه الكتلة تختلف عن كتلة المضادين للسياسة (a-politic) الذين يمتنعون عن المشاركة السياسية، في أنها تشارك في التصويت لكنها ليست محسوبة على حزب معين وإنما تُحدّد قرارها في اللحظات الأخيرة بتأثير عوامل متغيرة، ويمكنها إذا تصرفت في اتجاه واحد، وهذا مُستبَعد طبعاً، أن تُغيّرَ النتائج تغييراً دراماتيكياً. وتزداد أهمية هذه الكتلة في الانتخابات المحلية لأنها بطبيعتها لا تتعلق بالسياسة العامة للدولة، بل بالشؤون المحلية والخدمية، وتزداد أهمية شخصية المرشح ومزاياه، في هذا الحساب، بالقياس إلى الأحزاب التي ينتمون إليها أو التيارات الإيديولوجية التي يمثلونها.