تُخاطبُ الإنتاجات التلفزيونية الترفيهية الجانبَ الاستهلاكي من حياة المُشاهد عادة، متقرّبة من واقعه وتفاصيل حياته، ومستخدمة كل أشكال التطويع التقني ومحتواه بما يتناسب مع مزاج المشاهد التلفزيوني، مُحاولةً إيجاد صيغ مثالية لمقاومة ملله وبالتالي التخلي عن خيار المشاهدة بضغطة زر.
لا تبتعد هذه الواقعية الحياتية كثيراً عن إحدى وظائف الفن على اختلاف وسائطه: التطهُّر من الآثام. يتم فعل التطهُّر على الوجه الأمثل عبر رصد السلبيات الموجودة في حياة المجتمع والأفراد، حتى لو تم ذلك بصيغة مبالغة، لتسليط الضوء الكاشف على زوايا مُعتمة يفضحها العمل ويُعريها بقصد التنبيه إليها، وهي المرحلة الأولى من مراحل التغيير، فالمجتمع الذي يريد أن يتطور هو المجتمع الذي لا يخاف عيوبه، ولا يرى في النقد «نشراً للغسيل الوسخ».
يذكر شيخ المخرجين السوريين هيثم حقي في كتاب بين السينما والتلفزيون واقعة أن أحد أصحاب الفنادق الكبرى طلبَ أن يقرأ المَشاهِد التي طُلب تصويرها في كافيتيريا الفندق في مسلسل دائرة النار، ليرفض إعطاء إذن بالتصوير بعد قراءتها. تُصوِّرُ المَشاهِد لقاءات فتاة بشابٍ يحاول أن يغرّر بها، بحسب وصف الكاتب حقي، وبرَّرَ صاحب الفندق رفضه بأنه لا يريد أن «ينزع سمعة الفندق الكبير».
تُمثّل هذه الواقعة ظاهرة مألوفة في التعامل مع الأعمال الفنية ورصدها لملامحَ من الواقع. كم من عمل درامي صوَّرَ جانباً من الواقع في بلد، ما أغضب أهله وأثار احتجاجاتهم. ويورد المدافعون عن «حرمة البيوت» مُحاججة إضافية بالقول إن على التلفزيون أن يكون مهذباً لأنه يدخل البيوت دون استئذان.
يظهر الكباريه أو الملهى في العديد من أعمال الموسم الدرامي 2024، منها ولاد بديعة، وتاج، والصديقات، مع وظيفة ودور مختلف لهذه المساحة المكانية في كل منها.
يلعب الملهى في مسلسل ولاد بديعة (كتابة علي وجيه ويامن الحجلي وإخراج رشا شربتجي) عدة أدوار؛ فهو مسرحٌ لصراع الإخوة وتصوير جوانب مختلفة من الفوضى والفساد المستشري في البلاد، ومسرحٌ لتَطوُّر شخصية سكر (سلافة معمار)، التي استأجرت الملهى من صاحبه بحصتها من ميراث عارف الدباغ (فادي صبيح)، مقابل السماح له بالسهر كل يوم على حساب المحل بعد خسارته اليومية تحت إدارته.
من راقصة في الملهى إلى مالكةٍ وشخصية إدارية، يُوفّر لها المكان قوة مالية ومعنوية. تستفز سيرة حياة سكر وخياراتها إخوتها شاهين (سامر اسماعيل) وياسين (يامن الحجلي)، ويترصّد أخوها غير الشقيق مختار (محمود نصر) هذا المكان كهدفٍ للانتقام منها، عن طريق تحريض أحد جيران الملهى للتبليغ عن أنشطة الملهى باعتباره مصدراً للإزعاج في منطقة للسكن العائلي.
وكما كان الملهى في ولاد بديعة مسرحاً للصراعات، يلعب كذلك دوراً في إخمادها في عدة مواضع. تدعو سكّر لجلسة صلح بين إخوتها ومن ضمنهم مختار في سهرة في الملهى، ولكن هذا الصلح سرعان ما ينهار مع تتابع الأحداث.
يلعب الملهى أيضاً دوراً محورياً في نيّة التطهُّر لدى مالكته في إطار محاولتها للإنجاب، إذ تبحث عن كل أشرطة الفيديو المسجلة لها وهي ترقص لتُتلفها مع بدلات الرقص، متوجِّسة من فكرة أن تتحول سيرتها إلى وصمٍ لمولودها المُنتظَر، ومن ثم تتخلى عن إدارة الملهى منتقلة إلى العمل في قطاع البناء بمساعدة أخيها ياسين.
إن الخط الدرامي للمكان – الملهى – هو عتلةٌ أو مدماك في بناء حياة الراقصة سكر نحو حياة جديدة، هاربة من السيرة الماضية وسمعتها السابقة وسعيها للتطهّر من ماضيها.
يستخدم الكاتبان، وجيه والحجلي، خطاً درامياً آخر للملهى عبر مُتابعة سيرة أحد الأشقاء، ياسين، ورصد جانبٍ من حياة التهميش وعلاقات القوة التي يفرضها واقع الفساد والفوضى؛ من خلال سيرة نساء يتواجدنَ بصحبة ياسين، ومنهن من يكنَّ قادماتٍ من تجارب حياتية قاسية يلفُّها البؤس والظلم بما يتضمن الابتزاز، وباحثاتٍ عن مكاسب مادية تسد جزءاً من احتياجات هذه الحياة الشاقة.
في مسلسل تاج (تأليف عمر أبو سعدة وإخراج سامر برقاوي) نجد استخداماً وتوظيفاً مغايراً للكباريه. تُواظب الشخصية الأساسية تاج (تيم حسن) على لعب القمار، وفيه يُوقّع على سند دين مُستحق لرياض (بسام كوسا)، في إطار خدعة تهدف إلى اصطياده للتخلي عن الوصاية على ابنته وتسليمها إلى طليقته نوران (فايا يونان) مقابل عدم تسديد قيمة الوصل.
تتتابعُ الأحداث التي يبقى الملهى مركزاً لها، لينتهي تاج بالعمل كحارس للملهى والتشبيك مع زيزي (نورا رحال)، الفنّانة التي تؤدي فقراتها في الملهى، لمقاومة الاحتلال الفرنسي. تتعدد وظائف الكباريه في مسلسل تاج من مكان للعمل إلى مسرحٍ للمؤامرات المختلفة، الشخصيةِ منها وتلك التي تتشابك مع الأوسع نطاقاً، والتي تشمل كلاً من التجمّعات التي تنسِّق للعمل ضد الاحتلال الفرنسي، والأخرى التي تعمل بالتنسيق مع أجهزة استخباراتية عالمية.
التوظيف الثالث للكباريه في الموسم الجاري جاء في العمل الدرامي الصديقات (تأليف أحمد السيد وإخراج محمد زهير رجب)، إذ يَظهر كحامل رئيسي لخطوط درامية تتجمّع فيه وتتفرق منه، فكان يجمع «الراقصات القطط» في مقتبل حياتهنّ ومسيرتهنّ، قبل أن تتفرق طرقهن وتتغير حياتهن مع الزمن.
تدعو صاحبة الملهى جميع الراقصات إلى سهرة، تقدم فيها راقصةً جديدة في فقرةٍ ترصد التغيرات التي مرت بها كل من الراقصات السابقات، وكذلك الاحتدامات النفسية والصراعات التي تحركها دوافع الغيرة والمطامح المادية، والتي يكثفها شِجارٌ يقع في الملهى بين أحد الزبائن وساهرين آخرين تنتهي برميه خارج الملهى.
هكذا يكون الكباريه جزءاً رئيسياً من البناء الدرامي في مسلسل الصديقات كمكان وحكاية، وكذلك الوظيفة الترفيهية للشخصيات في العمل.
يلعب البناء الدرامي الخاص بكل مسلسل دوراً في توظيف الكباريه كمسرحٍ للأحداث. يأخذ في مسلسل «تاج» خطاً خارج المألوف درامياً ووظيفياً، بينما يقترب أكثر من تمثيله التقليدي كمكان للعمل وكسب الرزق في أعمال مثل «ولاد بديعة» و«الصديقات»، وكفضاءٍ تدور فيه خطوط تعبر عن أحداث وحاجاتٍ معينة كالترفيه والعلاقات العاطفية.
التنوع في التوظيف الدرامي للملهى هو جزء مما هو موجود في الحياة ذاتها التي يستقي كُتّاب الدراما قصصهم منها، وكما تواجدت في هذه الحياة شخصيات واقعية مثل صاحب الفندق الذي رفض تصوير مشاهد لقاء شاب وفتاة، كان هناك مقابلٌ درامي لها متمثلاً في شخصية سكّر في ولاد بديعة، والتي تحاول التطهّر والتنصّل من ماضٍ تنظر إليه الشخصية كسيرة من الخطايا، عبر نبذ السيرة التي احتضنها الملهى كمسرحٍ للأحداث.