(1)

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 

قرآن كريم

(2)

«أمران فيهما غلو: نبذ العقل، والاقتصار عليه».

هذا ما كتبه باسكال، أحد عباقرة الثورة العلمية، الذي كشف مبكراً الانقسامَ الحاد بين العلم والماورائيات. بدأت اكتشافاته في الرياضيات وهو في سن الثالثة عشرة، واعتزل العلم ليتفرّغ للّاهوت وهو في نهاية العشرينيات، ليموت في سن التاسعة والثلاثين، قبل أن يُكمل عمله اللاهوتي. 

الانقسام أرهبَ باسكال: قدّمت الأرسطية، والمسيحية، عالَماً محدوداً مفهوماً متكاملاً، يسهل الولوج إليه والإقامة فيه بحميمية. أما العلم الحديث، فقطّعَ أعضاءنا من خِلاف: الإنسان عاجز، والمعرفة محدودة، والصمت يتسيّد:

«تلك الفضاءات اللامتناهية، لَتخيفني بصمتها الأزلي».

(3)

يَنقل المُصلِح السلفي الدمشقي، جمال الدين القاسمي، عن الأستاذ الإمام محمد عبده، أن الوسواس الخنّاس جزءٌ أصيلٌ من قوة الفكر فينا. وعندما نوازن الأمور في قلوبنا، متردّدين، نشعر به، «كأن الأمر عُرض فيها على مجلس شورى»؛ كأن البشر، في الأصل، يعيشون مع شياطينهم وملائكتهم، كأنهم منّا وفينا- وليسوا من الخارج، من عوالم أخرى أو من كيد الناس أو من السحر أو غيره؛ كأننا نحيا في ذلك المجلس، الداخلي الجواني، باستمرار: «فهذا الشيء الذي أُودِعَ فينا ونسميه قوة وفكراً – وهو في الحقيقة معنى لا يُدرَك كنهه وروحٌ لا تُكتَنه حقيقته- لا يبعد أن يسميه الله تعالى مَلَكاً ويسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء…».

(4)

لا نعرف من أين أتى السومريون، ولا العائلة التي تنتمي إليها لغتهم.

أول حضارة في تاريخ البشرية، تغرق في ألغازٍ لم نستطع فكّها؛ وربما، كما يعتقد الكثير من العلماء، لن نفكّها يوماً.

(5)

في رسالةٍ إلى الأميرة إليزابيث، يشرح ديكارت إحدى المعضلات التي تواجه الإنسان في عمله الأخلاقي: مهما حاول المرء أن يحسب خطواته، قد تكون نتائج ما يقوم به سيئة. هل نتخلّى عن أي فعل أخلاقي، إذن، لأن المستقبل غير مضمون النتائج؟
يُجيب ديكارت، ببساطة: لا؛ كل ما عليك فعله هو أن تتخذ القرار الذي تراه أخلاقياً، تِبعاً لمعلوماتك ورؤيتك لحظة اتخاذك القرار؛ وإن ثبت لاحقاً أن لقرارك نتائجَ سيئة، فلا يعني هذا، على الإطلاق، أنك قمت بفعل أخلاقي سيء.

هل كنّا مسؤولين، يوم تفاءلنا بالمستقبل ونزلنا إلى الشوارع، ضاحكين راقصين، عن الكارثة التي حلّت بنا اليوم؟ أم يكفي أننا، في تلك اللحظة، قُمنا بما نستطيع، كي نُغيَّر العالم؟ هل أخطأنا عندما احتفينا بالربيع؟ 

لم يحلم ديكارت بثورات سياسية، وابتعد، بحذر وحنكة، عن الكتابة في السياسة، وفي الأخلاق أيضاً: لم ينشر أي عمل في الأخلاق، بالرغم من أنه صرّحَ بأنها الدافع وراء عمله الفلسفي/العلمي. عاش حياته في عُزلة، على العموم؛ وهاجمَهُ رجال الدين والسياسة، إذ لم ينفعه حذره. انتهى به الأمر وحيداً في أقصى الشمال البارد، ليموت في بداية خمسينياته، بسبب طقس بارد وعناية غير حكيمة من أطبائه. قرار الهجرة إلى ستوكهولم، الذي أخذه الرجل لنشر فلسفته برعاية ملكة السويد، لم يُقدِّر عواقبه، التي أثبت الزمن أنها كانت كارثية على صحة المعتلّ الخمسيني…

(6)

محنة الإمام أحمد بن حنبل، التي حُبِسَ فيها وضُرِب، تركّزت على سؤال: هل القرآن مخلوق أم أزلي؟ حاول الخليفة المأمون، المثقّف والمطّلع على كل التيارات الفكرية الإسلامية واليونانية، فرضَ مذهبه الاعتزالي على الدولة. قاومه ابن حنبل، وحده تقريباً، ثم قاوم خلفاءَه: المعتصم، والواثق، والمتوكل. استسلم المتوكل أخيراً، وأنهى المحنة. 

تقتضي المحنة جمع الفقهاء، في كل الأمصار، كي يسلّموا بعقيدة الخليفة. ولا يجوز للقضاة أو الولاة أن يتولوا المناصب، إلا بعد أن يُكفّروا خصوم الخليفة الفكريين، ويتبنوا بشكل كامل ما يريده الخليفة. وبحسب الخليفة، من لا يقول بخلق القرآن مُشرِك، كافر، لأنه يقول بوجود ذات أخرى أزلية مع الله، هي علمه، هي القرآن. 

رفض ابن حنبل التسليم. كان الفقيه المتشدد المنزوي فقيراً، زاهداً، يرفض بشكل قاطع أن يتولى مناصب حكومية، ويرفض أن يعمل مؤدباً للخلفاء والوزراء وأبنائهم. إرثه في المحنة يبدو منشطراً، مُشتَّتاً بين موقفين مختلفين، وكلاهما ما زال موجوداً في قلب الفكر السنّي: 

من جهة، كان ابن حنبل أشبه بالمعتزلة أنفسهم، بيقينه الكامل؛ إذ يؤكد، بشكل قاطع، أن القرآن غير مخلوق، وأن من قال بخلقه، قد كفر. إذ كيف يمكن تَخيُّلُ الله بدون علمه، أو بدون القرآن؟ هل كان الله يجهل ما يقوم به؟ 

ولكن، من جهة أخرى، يتبنى ابن حنبل موقفاً لا-أدرياً، ويؤكد أن الكلام في الصفات وخلق القرآن وغير ذلك مرفوض، لأنه سيؤدي إلى أسئلة لا إجابات لها. في سؤاله عن صفات الله – التي لو أخذناها حرفياً كما ترد في القرآن، لأودت بنا إلى التجسيم، أي تَصوُّرِ بأن لله وجهاً ويدين ومشاعر وأفكار؛ ولو نفيناها كليةً، كما يريد المُعتزلة والفلاسفة، لوصلنا إلى اللاهوت السلبي: الله بدون صفات تماماً، ولا مشاعر، ولا علم، ولا يستمع لنا، ولا يكترث بنا- يقترح إمامُنا التوقيف، ومنع الكلام في أسئلة بلا إجابات: «لا أدري، هو كما وصف نفسه، لا أزيد على ذلك شيئاً». 

الموقفان يتعارضان، بالطبع. ويبدو أنه في الصفات يلتزمُ بالموقف الثاني بوضوح أكثر من موقفه في خلق القرآن. وفي الحقيقة، نهاية المحنة، أيام المتوكل، الخليفة نصف-الجاهل الأهوج، أدّت إلى منع الكلام في خلق القرآن، وليس إلى تكفير من قال بأنه مخلوق أو غير مخلوق. 

لو التزم ابن حنبل، ومعاصروه، وتلامذته وخصومه، بموقفه الثاني، وبموقف الخليفة الأهوج، لربما كنا أقدر على قبول بعضنا البعض. أو، لو كانت إمكانيةُ قبول الآراء المختلفة مفتوحة للجميع، انطلاقاً من هذا الموقف، بدون تكفير، لفُتِحتْ لنا أبواب التفاهم والاختلاف على مصراعيها. 

(7)

اشتُهر كونفوشيوس بعدائه للميتافيزيقيا. ومثل سقراط وأبيقور، لم يخاصم الدين ولم يتخلَّ عنه، بل سلّمَ به بشكل صريح ومباشر؛ ولكنهم نحّوه جانباً، عملياً. سخرَ من الصلوات التي يطلب فيها الناس أموراً شخصية، وحاربَ الخرافات. وقد التزم دوماً بما أسماه الطاويون «الطريق»، الطريق الذي ترسمه الآلهة وتمشي بحسبه سُنن الكون. أضحت فلسفتُه أُسسَ تعاليم أخلاقية وفكرية بدون ميتافيزيقيا تُثقلها وتُكبّلها. 

مع ذلك، تحوّلت الصين، من خلال الكونفوشية، إلى إمبراطورية بيروقراطية ذات تقاليد ثقيلة. 

(8)

لم أرتح يوماً لشعراء الميتافيزيقيا، ولم أستطع أن أبني علاقة متينةً مع ممثليها، كيوسف برودسكي، أو جيسواف ميووش، أو ريلكه. ولكنني، لأسباب جلية، أُصادِقُ مارينا تسفيتايفا، الغارقة في الميتافيزيقيا كليةً: لأنها، أولاً وقبل كل شيء، غارقة أيضاً في العالم الحسّي تماماً، في العالم الأرضي، في حياتها البائسة كلياً؛ وفي أشعارها التي تعكس التماعات ميتافيزيقية في أرضٍ لا تناسب تلك الالتماعات البهية، تجمع مارينا العالمَين؛ أو للدقة، تحاول جمعهما، وتفشل دوماً: هذا الفشل، بالضبط، ما يجعلها الأكثر صدقاً وتجلياً للعوالم كلها. 

في منفاها التشيكي، كتبت قصيدتها عن الله الغائب، الذي تؤمن به تقريباً، وتعطيه صفاتٍ تمزج بين وحدانية الأديان الإبراهيمية وعبث آلهة الأولمب والأديان الوثنية، فيما الحرب الأهلية الروسية تأكل أبناءها بدون رحمة:

وجهٌ بلا ملامح. 

قاسٍ. ماتع.

وفيكَ كل الذين ارتدوا 

أثواب الكهنوت وجدوا التناغم. 

 

أوراقٌ تَسّاقط على الأرض. 

حصىً متناثرة. 

كل الذين صرخوا

وجدوا الراحة فيك. 

 

المجد فوق الصدأ

-فوق الدم- فوق الفولاذ.

كل الذين سقطوا 

على وجوههم قاموا فيك.  

تحت السقف المعقود، انتظرنا جمعياً

النداءَ، المعماريَّ.

الشعراء، والملّاحون، كلّ واحدٍ منّا 

تعلّمَ أن يفقد الأمل. 

 

لأنه في حركةٍ مستمرة. وهو

بالفعل لا يتوقف. كتاب النجوم العظيم،

كل صفحاته، من الألف إلى الياء،

ليست إلا أثر عباءته. 

(9)

في حديقة صغيرة شبه-فارغة، مليئة بالأوراق الصفراء، كنتُ أراقب الغروب. رائحة مطعم الفلافل القريب، بزيت القلي المُقرف الضاري، تملأ الجو والروح. ولكن الغروب جليلٌ باهرٌ.  

تسألُني بعدائية وصَلَف:

«هل أنت مسلم؟».

أفكر بالفلافل. عمال المطعم العراقي لا يعرفون الفلافل، ليست من تراثهم. الفلافل فلسطينية وسورية فقط. الأوروبيون يأكلونها، لأنها نباتية. هذه المطاعم العربية المنتشرة في مالمو يجب إغلاقها وتشميعها بالشمع الأحمر. أيضاً، الطعام السويدي التقليدي فقير للغاية، وممل. ولكن الغروب… تتشتت مشاعري وأفكاري بين الفلافل والغروب. 

أُتمتم، بضيق وملل:

«ربما».

كنا نُراقب الأطفال، الذين يضحكون بدون توقف. يركضون ويركضون ويركضون. 

أُضيف، بشكل علمي:

«في تعداد الأقليات في السويد، أو الأكثرية في سوريا، أنا مسلم، بالتأكيد».

تشرح لي عن طفليها. أمهما فليبينية، وهي تعيش مع الأب. أعتقد أنها نرويجية، لستُ واثقاً. لا تقول لي ما حلَّ بالأم. سمعتُ شائعةً أنها انتحرتْ. خريف، خريف دافئ. الأطفال الفلبينيون والأم النرويجية يلبسون ملابس صيفية؛ وأنا وابني ملابس شتوية. 

أصرخ بابني، كي أتأكَّدَ من أنه بخير، بعد أن سقط بعنفٍ على الأرض. ينظر إلي، ويضحك. 

تقول إنها مسيحية. تذهب مرتين أو ثلاث إلى الكنيسة في السنة. ولكنها مسيحية، بالتأكيد. الأب السويدي، أبو الطفلين الفلبينيين، لا-أدري. ولكن الأطفال مسلمون. أسلم الأب، أي ادّعى أنه تحوَّلَ إلى الإسلام، عندما تزوج الأم في لندن. هكذا قوانين المسلمين، لا يسمحون بزواج المسيحي من مسلمة، والأطفال مسلمون بحكم القانون.

الأطفال يلعبون على السور الصغير القرميدي، الذي لا يعلو أكثر من نصف متر. يصعدون إليه، ويمشون فوقه على مهل. توازنٌ دقيق، خلّاب، صعب.

تقول إن أمها مسيحية متشددة، ولا تحب الطفلين. تأخذ كتابي، وتقلّبه. الشعر العمودي يبدو غريباً تماماً بأيدي الأجانب: عمودان متوازيان، بينهما فراغ صغير، ليختفي مفهوم البيت الواحد، ويبقى جمالٌ منقّط فارغ لا يُدرَكُ، كرسومات البشر الأوائل في الكهوف. 

أقول:

«أبو القاسم الشابي، تونسي، مات في الثامنة والعشرين من عمره. أعتقد أنه لا-أدريٌ، أيضاً».

تقول إنها لم تلتق الأم قط. الطفلان لا يتكلمان الفلبينية، بل الإنكليزية والسويدية. تبتسم، بصدق. التجاعيد قرب العينين تقول إنها في منتصف الأربعينيات. رشيقة. على فخذها الأيمن وشم تنين كبير، يتأرجح مع خطواتها، يقفز، يتمايل، يُخاتل، يسخر، يتلاعب بها. 

تسألني، مرة أخرى، ولكن بمسحةٍ من الحزن والتردد هذه المرّة:

«إذن، هل أنت مسلم؟».

تسقط طفلتها من السور. تبكي كأن القيامة الآن، كأن الكون كله لن يواسيها. ابني والطفل الآخر يُتابعان مسيرتهما إلى آخر السور المكسور، بدون أن يَلتفِتا إلى ما حصل. تمضي النرويجية، لتضمّ الطفلة الباكية، التي ترضى بمجرّد ضمة حضن دافئ. 

يغادرون على عجل، بدون أن ينتظروا إجابتي. 

(10)

24 على أَنَّ توما أَحَدَ الِٱثنَيْ عَشَر، ويُقالُ لَه التَّوأَم، لم يَكُنْ مَعَهم حِينَ جاءَ يسوع.  

25 فقالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: «رَأَينا الرَّبّ». فقالَ لَهم: «إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن». 

26 وبَعدَ ثَمانِيَةِ أَيَّامٍ كانَ التَّلاميذُ في البَيتِ مَرَّةً أُخْرى، وكانَ توما معَهم. فجاءَ يسوعُ والأَبوابُ مُغلَقَة، فوَقَفَ بَينَهم وقال: «السَّلامُ علَيكم!»

27 ثُمَّ قالَ لِتوما: «هاتِ إِصبَعَكَ إِلى هُنا فَٱنظُرْ يَدَيَّ، وهاتِ يَدَكَ فضَعْها في جَنْبي، ولا تَكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِنًا».

28 أَجابَه توما: «رَبِّي وإِلٰهي!».

29 فقالَ له يسوع: «أَلأَنَّكَ رَأَيتَني آمَنتَ؟ طوبى لِلَّذينَ يؤمِنونَ ولَم يَرَوا».

إنجيل يوحنا. الأصحاح العشرون 

(11)

تغيَّرَ الشعرُ الصيني بالتدريج، قبل أن يستقر على شكله المتعارف عليه منذ عصر إمبراطورية تانج حتى سقوط آخر سلالة إمبراطورية صينية، آل تشينغ، في بدايات القرن العشرين. البوذية، التي دخلت البلاد بالتدريج منذ القرن الثالث الميلادي، اختلطت مع الطاوية، ليصبح الشعراء كلهم رهباناً فيها، وفي الوقت نفسه، ملتزمين بخدمة الناس في بيروقراطية تلتزمُ بالكونفوشية. النتيجة المدهشة مزيج من اليومي، والتأمّل الهادئ، ومسحة من الشكّ، في جو صوفي بوذي. 

كان تاو تشين (TAO CHIEN/365-427)، أول شاعر يجوس في متاهات المزيج الصوفي-اليومي، ليتحوَّلَ إلى رهبنة رقيقة منفتحة على الناس. على العكس من مبالغات بوذية ومسيحية وإسلامية متكررة مملة، تدعو إلى اعتزال الناس كلهم والانصراف إلى الآلهة، التزمَ شاعرُنا بِعُزلة بهيةٍ رجراجةٍ: بصحبةِ العائلة، والقليل من الأصدقاء، والعمل اليدوي، وقراءة الأعمال الكلاسيكية. هذا نموذج العُزلة الصوفية الذي يقترحه. 

لن يحقق مجداً في حياته، ولن يسعى إليه. ولكنه سيصبح مرجعية لكل الشعراء العظام، وسيستعيده وانغ وي ودو فو، ويبجّلونه. 

في الترتيلة الثالثة من قصيدته الشهيرة، «شرب النبيذ»، يُشاركنا حيرته الحنون:

أعيش في بلدةٍ تخلو من أحصنة

السباق وجلبة العربات، وأتساءل

 

كيف؟ كل محلّة 

ينتحيها العقل قصيّةٌ. 

 

أقطف الأقحوان من سوريَ الشرقي؛

بعيداً، أرى الجبال: نسيمُها

 

منعشٌ في الغسق، وطيورٌ

تحلق عائدة. كل هذا يعني شيئاً ما،

 

شيئاً مطلقاً. كلما حاولتُ 

شرحه، أنسى الكلمات. 

(12)

لم يكن بُناة الإمبراطوريات القديمة يسعون لبنائها. على الأغلب، فتح عمرو بن العاص مصر بدون موافقة الخليفة عمر في المدينة. ولم يكن سقوط الإمبراطورية الفارسية مفهوماً للفاتحين. 

دخل القائد الروماني بومبي سوريا الكبرى، متوجِّساً، وهو يلاحق قراصنة اتخذوا من شواطئنا ملاذاً لهم، وأبقى الممالك القائمة المحلية على حالها بدون تغيير، تحت حكمه، فسادَ سلامٌ مؤقت وازدهارٌ خرج بالمنطقة من حالة الحروب التي رافقت تَفكُّكَ إمبراطورية السلوقيين. تدريجياً، سيقرّرُ الرومان حكم سوريا بشكل مباشر، بعد أن فهموا هم أنفسهم أنهم حكامنا، وأزالوا كل الممالك والإمارات المستقلة. 

العثمانيون فتحوا سوريا ومصر في معركة سريعة، لم يخططوا لها طويلاً، ولم تكن في نيات أسلافهم: انتعشت سوريا ومصر، ومدنها الكبرى، وأقلياتها، في القرنين الأولين من حكمهم، نتيجة اتصالها بمحيط أوسع، ولعودة حركة التجارة، والاستقرار السياسي.

يبدو التاريخ مُتأرجحاً، فضفاضاً، لا يشبه ما يكتبه الفاتحون عن أنفسهم، بعد قرونٍ من الحكم، والثقة، والغرور. 

(13)

نحتَ توماس هكسلي -تلميذ داروين وصديقه والناطق باسمه- مصطلح «اللا-أدرية agnosticism» ليقول لنا إننا لن نعرف الأجوبة الكبرى في الدين. ووضع في زمرة اللا-أدريين أشهر فيلسوفين في الغرب: ديفيد هيوم وإيمانويل كانط، وهو نفسه، وتشارلز داروين شخصياً. 

بين المؤمنين بالدين الواثقين من أنفسهم أصحاب اليقين المطلق، وبين النافين له ولكل الميتافيزيقيا بشكل كلي، على طريقة ماركس وباكونين وأوجست كونت وسيغموند فرويد، لم تُحقِّق اللا-أدرية النجاح الذي تنبّأ لها به هكسلي. 

قد تكون اللا-أدرية، والاعتراف بالجهل، والتواضع بخصوص قدراتنا العقلية، أحد دروب التسامح، والانفتاح، وقبول الآخر، كما يؤكد برتراند راسل. 

ولكن ليس بالضرورة؛ فقد اشتهر هكسلي نفسه باحتقاره للثقافات غير الأوروبية، وبدعمه غير المحدود للإمبراطورية البريطانية ولمشاريعها الاستعمارية!

(14)

من ليَ ألّا أقيمَ في بلدٍ                      أُذكَرُ فيه بغير ما يجبُ

يُظَنُّ بيَ اليُسرُ والديانةُ والعلـ              ـمُ، وبيني وبينها حُجُبُ

كلُّ شهوري عليّ واحدةٌ                   لا صَفرٌ يُتّقى ولا رجبُ

أقررْتُ بالجهل، وادّعى فَهَمي             قومٌ، فأمري وأمرُهم عجَبُ

والحقُّ أني وأنهم هَدَرٌ                     لستُ نجيباً، ولا همُ نُجُبُ

والحالُ ضاقتْ عن ضمِّها جسدي        فكيف لي أن يضمّه الشَّجَبُ؟

ما أوسعَ الموت، يستريح به ال          جســمُ المعنّى، ويخفِتُ اللَّجَبُ

أبو العلاء

(15)

بدأ التأويل الرمزي على يد الرواقيين، ثم أخذه فيلون الإسكندري، فيلسوف اليهود المصري، ليصالح الدين السامي مع الفلسفة الإغريقية: أَوّلَ الدين عقلياً، ليناسب ما توصلت إليه الفلسفة الإغريقية. الفكرة وراء ذلك غريبة، عجيبة، مثيرة: النص لا ينطق حرفياً، بل عليك تأويله. 

المسلمون سيخوضون معارك فكرية عميقة حول مفهوم التأويل: ابن عربي والصوفيون، والشيعة وطوائفهم المنشقة، سيلجؤون للتأويل الباطني (أي الرمزي) كي يثبتوا لنا مقولات لا تبدو للوهلة الأولى جليةً. المعتزلة سيلجؤون للتأويل، كي يُفسّروا آيات القرآن التي يصف الله فيها نفسه بأوصاف إنسانية جسمية: «وجوه ناضرة، إلى ربها ناظرة»، وسيستخدمون التأويل لرفض تجسيم الله. ابن رشد يريد مزاوجة الدين والعقل: لا يمكن أن يخالف النص الديني العقل والعلم؛ لذا عندما يختلف العلم وظاهر النص الديني، علينا تأويل النص الديني ليوافق العلم. وهذا أحد مفاتيح الثورة العلمية، وبه آمن غاليليو وكبلر. اعتمد الأستاذ الإمام محمد عبده طريقة المعتزلة- التي تقترب من طريقة ابن رشد كثيراً- ليُزاوج العلم والدين، ليجعلنا نعيش في هذا العالم الحديث، ونكون جزءاً منه. وبهذه الطريقة، بالطبع، نستطيع قبول داروين، وغاليليو، والانفجار العظيم، حتى عندما يبدو أنها لا تتفق مع ظاهر النص القرآني.

أهل السنّة ترددوا كثيراً، وفضّلوا أن يبقوا ملتصقين بالنص الحرفي، ليُعلنوا أن هذا ما وصف الله نفسه به، وأنهم لا يُؤولونه ولا يقبلون بالتجسيم. الإمام الغزالي أجازَ التأويل، ولكن بالحد الأدنى، ورفضَ مبالغات المُتصوّفة والشيّعة.

في الحقيقة، بعض تأويلات ابن عربي وابن رشد والإسماعيلية تشطّ بطريقة مُريبة، ولا يبدو الحل السنّي مقنعاً. 

وفي التنزيل الحكيم:

{وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا}

(16)

مكانة فولتير في تاريخ الفلسفة غير واضحة: من جهة، يكاد يكون الاسم الأكثر شهرة في التنوير، والأكثر صخباً وتأثيراً بلا منازع؛ من جهة أخرى، لا يوجد عمل فلسفي واحد يُخلّد عمله بين الفلاسفة الكبار، على العكس من هيوم وروسو وكنط، فلاسفة هذه الحقبة بالمعنى الحقيقي.

ولكن لفولتير ميزة الكتابة الواضحة الذكية الساخرة. يسخر فولتير، قبل كل شيء، من تقديس البشر، ويرى أنً كل البشر خطّاؤون منقوصون: فرنسيس بيكون مُرتشٍ؛ وجون لوك ضعيف جداً في الرياضيات؛ وديكارت داعي الفضيلة له ابنة غير شرعية أَحبَّها بصدق لا حدود له؛ نيوتن مهووس بشخصه وبإنجازاته، وبمحاولاته العجيبة في السحر، وبتأويلات صوفية عجيبةٍ للإنجيل؛ الكويكرز طائفة مسيحية تدعو للسلام وتلتزم بالأخلاق، ولكنهم أنصاف مجانين يرتجفون عندما يكلمون الله، وهم يكلمونه بكثرة؛ اليهود، كما يبدون في العهد القديم، متوحشون دمويون، ولكنهم متسامحون في خلافاتهم الفقهية بين من يؤمن أو لا يؤمن بالجحيم وخلود النفس؛ باسكال عبقري ولكنه كاره للبشر ولنفسه وللحياة…

هناك مقولة خاطئة تماماً، يُردّدها جماعة ما بعد الحداثة ونُقّاد التنوير، تقول بأن التنوير آمنَ بالعقل تماماً وبمقدراته الفائقة، وتجاهلَ الجسد. في الحقيقة، فولتير، أبو التنوير، جادل دوماً بأن قدراتنا محدودة، كأفراد، وكجماعة بشرية: ستبقى الأسئلة الميتافيزيقية بلا إجابات، ولا يستطيع عقلُنا أن يجيب عن أي منها، سواء في الخلود أو طبيعة الروح أو ما بعد الموت، وللجسد حق علينا كما للروح والعقل؛ وكل ما يجب فعله هو العمل باستمرار: العمل بقلب منفتح نابض، ساخر متسامح، مليء بالشفقة. يعرف فولتير أن الفضيلة لا تُكافأ دوماً في عالمنا هذا، يعرف هذا ويكتب عنه، ويسخر منه: أمله بأن نفعل ما باستطاعتنا، حتى لو لم يعد علينا هذا بالخير.

أمّا عن مكانته في تاريخ الفلسفة، فلم يَسعَ إلى ما يفوق قدراته، وبقي متواضعاً في كونه تلميذاً لفلاسفة أعمق منه.

(17)

بشار بن برد، الفارسي الأعمى، البصْريّ الكوزموبوليتاني، أول شاعر مثقف في تاريخ العرب. يستطيع المرء، مُطمَئناً، أن يؤرّخ لانطلاقة رحلة الشعر العربي التجريدية معه. يجعل الشعر مرآةً لنفس حائرة ثائرة، لا مرآةً لقبيلة أو لحكمة جمعية. ضاع نصف ديوانه، وحفظتْ لنا خزائن تونس، بمفارقةٍ غريبة، نصفه الأول. 

يُعاتب بشار نفسه، ويقرّعها، ويعرف أنها أمارةٌ بالسوء: هجّاءٌ عابثٌ ساخرٌ ساخطٌ، يتحدى الخلفاء والفقهاء والمتكلّمين، ولا يستطيع ضبط مشاعره وكلماته. يتغزّل بالجواري، اللواتي يسخرنَ من فقره وقُبحه. بشار، واجه نفسه، ولم يتغلّب عليها؛ وبقيت حياته، كشعره، أنقى وأصفى مرآة لعصره، ولحيرة الفرد أمام نفسه:

خُلِقْتُ على ما فيَّ غير مُخيَّر                         هواي، ولو خُيّرت كنت المهذّبا

أريد فلا أُعطى وأُعطى ولم أُرِد                      ويقصر علمي أن أنال المُغيّبا

وأُصرَفُ عن قصدي وعلمي ثاقب                    فأرجع ما أعقبت إلا التجنّبا

لعمري لقد غالبتُ نفسي على الهوى                  لتسلى، فكانت شهوة النفس أغلبا

 ومن عجب الأيام أن اجتنابها                         رشاد، وأني لا أطيق التجنّبا

(18)

عاش هوكوساي، الفنان الياباني المعروف عالمياً وتجارياً بلوحة يتيمة: الموجة، أيامه الأخيرة فقيراً مكسوراً. حفيده الوحيد، المُدلَّل، سرق كل ماله كي يقامر، واحترق بيته بعدها في حادثةٍ تتكرر باستمرار في ذلك العصر ببيوته الخشبية الفقيرة. تنقّلَ، وهو على أعتاب التسعين، بين منازل جيرانه وأصدقائه، وبقي يرسم بقلبٍ لا يكلّ. 

اشتُهر هوكوساي بلوحاته عن جبل فيجي: الجبل نفسه، يتجلى من أماكن مختلفة. وقد غيّرَ معنى الفن الياباني في تلك اللوحات، بثورته على التقاليد التي تُعنى بمواضيع مادية برجوازية، ليجعل علاقة الطبيعة مع البشر محور الفن. تأخرت ثورته كثيراً، ولم تبدأ إلى أن تجاوز الخمسين من العمر. 

في لوحاته الأخيرة، يرسم حيوانات من التراث الصيني-الياباني المشترك. أشهرها لوحةٌ مزدوجةٌ عن تنين ونمر: يظهر النمر ملتوياً، عجوزاً، شبه-مبتسمٍ، ماكراً، مُتحفِّزاً، مُرهَقاً، واثقاً، كأنه يطير بقفزته تلك في الفراغ، في التيه الأعظم؛ فيما يبدو التنين، الخارج من فوهة جبل فيجي تائهاً، حائراً، واهناً، كأنه لا يفقه الحكمة التي اشتُهر بها. 

تحولت اللوحات التي تُجسد العلاقة مع الطبيعة، إلى مُساءَلة الحكمة والطبيعة ذاتها. 

(19)

لو لم تكن الحرب قائمة، لو لم تكن سوريا أغنية في صحراء، لأمضيتُ وقتي بعيداً عن الأرق، أقرأ وأترجم لشاعرات يُضئنَ الطرق في كل الاتجاهات: شيمبورسكا وبلاجا ديميتروفا ونينا كاسين، سائلاً نفسي أسئلة لا إجابات عنها: هل للأدب النسائي ميزة مختلفة عن الذكوري لأنه كُتب بأيد نسائية؟ هل ما يجمع شاعراتي المُفضَّلات كونهنّ من أوروبا الشرقية، أم أنها محض صدفة لا معنى لها؟ هل ينقذ الشعرُ العالَم؟

كانت بلاجا ديميتروفا أكثر عمقاً وحزناً من زميلتيها، وأكثر تورطاً في السياسة بمعناها المباشر: انتُخِبت نائبة للرئيس عقب التحول الديمقراطي في بلغاريا، وسرعان ما داهمتها مخاوف عن مستقبل لا يشبه ما حلمت به لأكثر من نصف قرن تحت الحكم الشيوعي. كتبت عن القضايا النسوية، شعراً ونثراً، واتهمت الحب بالقسوة: كل حب قاتل لحب سابق؛ وكل حب، بالضرورة، وصمة حزن لمن لم -أو لا- يحب؛ كل حب أناني جداً، ولا مَهرْبَ من هذا. 

ولكن الحرب قائمة، كما كانت قائمة في السنين الصعبة السوداء التي عاشتها الشاعرات الثلاث؛ والأرق لا مهرب منه، واليأس، والاكتئاب، والعجز؛ والنكبة الثانية تُبَثّ على الهواء مباشرةً؛ وصورٌ تتشابه دوماً على الرغم من فردية الضحايا التي لم تعد تُثير أحداً. 

لو لم تكن الحرب قائمة، لأمضينا الأبدية نقرأ شعراً وهّاجاً رقراقاً لشاعرات حسّاسات جميلات قاسيات صريحات، ولتركنا العالم يغرق فيما لا يعنينا.

لو لم تكن الحرب قائمة، لرَدّدنا كل يوم قصيدة ديميتروفا البسيطة القصيرة، التي كَتبتْها وسط كل الحروب القائمة، حولها وفيها، عن غايات حياةٍ لم تُحقِّق منها الكثير: 

دائماً، كنتُ مشغولةً

عن تحقيق غاياتي في الحياة.

كنتُ دوماً مشتّتةً، متأخرةً،

أُفوّت المواعيد.

ولكن الآن،

عندما أنظر إلى الوراء،

أعرف كم كنتُ سأفقد

لو سعيتُ إليها بمثالية

(بالمناسبة، ماذا كانت غاياتي؟)