يتناول الأستاذ حسام جزماتي في مقالته الأخيرة في موقع الجمهورية: أبو محمد الجولاني أمام تحديات وجودية، 14 آذار (مارس) 2024، المآلات المُحتملة التي قد يواجهها قائدُ ما بات يُعرف مؤخراً باسم «هيئة تحرير الشام»، جاعلاً الأخير، بممارساته المتسلّطة، رمزاً لأكبرِ مشاكل سكان المنطقة الخاضعة لسلطة فَصيِله شمالي سوريا، مُختصِراً المشكلة بـ«النزعة الطغيانية» عند الرجل، مع ما صاحبها من ممارسات استبدادية من خلال «ذراعه الباطشة»؛ جهاز «الأمن العام» الخاضِع لسلطته المباشرة.

والحقيقة أن عدة قراءات للمقالة لم تَقُدني إلى السبب الحقيقي، أو أقلّه الرئيسي، الكامن خلف تلك الحالة «الطغيانية» التي بات الرجل يُمثّلها، إلى درجة بات فيها مطلبُ سكان المنطقة الأول هو تنحيته والتخلُّص من طغيانه. نعم، هناك شرحٌ وافٍ للكثير من الجوانب المتعلِّقة بتطور ظاهرة «الجولاني»، إن صحَّ أنه وحدهُ يمكنه أن يشكِّل ظاهرة، ولكن الأمر برمَّته لم يتجاوز حدود وصفِ الرجل بأنّه انتهازي، بارع، يستثمر كل الفرص المتاحة أمامه لتثبيت قبضته على أنفاس البلاد والعباد، ككل طاغية سبقه، أو قد يلحق به. عدا هذا؛ من جعل الطاغية كذلك؟ ما هو السياق العام الذي تشكلت خِلاله تلك الظاهرة؟ ما هي القوى الفاعلة، إقليمياً على الأقل، التي ثبّتت خُطاه باتجاه الوصول إلى ما وصل إليه؛ والأهم، ما هي البدائل الحقيقية لتلك الظاهرة؟ البدائل التي يجب بالتأكيد أن تتجاوز مجرد تغيير اسم «القائد العام»، كل هذه أسئلة لم يتطرّق إليها المقال جملة أو تفصيلاً.

وفي الواقع، أجد أن مقال الأستاذ حسام قد بُنِيَ بأكمله على افتراض أن المرجعية العامة الحاكمة في المنطقة الواقعة تحت قبضة «النصرة»، كائناً ما كان مُسمّاها الجديد، وبقية «الفصائل» هي مرجعية إسلامية بالكامل، وبالتالي لا مجال لنقاش أي فكرة تأتي من خارج هذه المرجعية لتُحاجِجَ في مدى كونها أمراً نابعاً من رغبات أغلبية سكانها، أم هي أمرٌ مفروضٌ من قبل قوى إقليمية محددة جعلت تلك الفصائل، وأبو محمد الجولاني بـ«بطشه» على رأسها، قوى أمرٍ واقع. المقصود بتلك القوى بالطبع تركيا وقطر بشكل مباشر ودون لفٍّ ودوران.

الركون إلى تلك «المرجعية الإسلامية» بصفتها أمراً مفروغاً منه، هو ما مكّنَ المقال من المضي في تناول «النزعة الطغيانية» عند الجولاني بصفتها المشكلة، وليست مجرد واحدة من تجلياتها السطحية؛ إذ ما الذي يمنع «حزب التحرير» الإسلامي بصفته معارضاً لـ«طغيان» الجولاني ولكن من على يمينه (وهو الحزب الذي وصفه الكاتب نفسه بأنه «متشددٌ نظرياً سلميٌّ عملياً») من توليد «جولاني» آخر خاص به، يَسومُ العباد سوء العذاب؟ في حال قررت تركيا وقطر، مثلاً، رفع الغطاء عن الجولاني وعن فصيله كله، ومنحه لهذا الحزب.

وعلى هذا، فالسؤال الذي كان يجب أن يُطرَح هو: ما الذي سيستفيده سكان المنطقة المبتلاة بحكم هكذا فصائل من الخلاص من الجولاني؟ وهم ما زالوا خاضعين للمنطق نفسه الذي حكمهم في ظل الجولاني وعُصبته، بدءاً من التدخل في كامل شؤون حياة البشر؛ كود لباس صارم، شرطة أخلاقية، حسبة دائمة الحضور والتوثُّب لإثبات وجودها بصفتها أداة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبقوة السلاح دائماً؛ وليس انتهاءً عند إعادة صياغة كاملة للمناهج الدراسية للأطفال، بحيث يصبح «أبطالُنا» هم إرهابيون دوليون، وغيرها من تلك السلوكيات التي لا يمكن وصفها، حتى في حال توفر حسن النوايا المطلق، إلا بأنها كاريكاتور لدولة البعث نفسها، وفي ذروةٍ لم يَحلُم البعثيون بالوصول إليها، وبالذات في طريقة إخضاع السكان، ولكن بقالب إسلامي.  

الإحالة إلى تلك «المرجعية» بصفتها أمراً مفروغاً منه، لأن الشارع السوري شارع «إسلامي» أصلاً، هو مُصادرة لرأي هذا الشارع شديد التنوع، كما كل «الشوارع» في العالم. وهو «الشارع» نفسه الذي فجّرَ ثورة في مواجهة استحالة كاملة، كان وما زال، يمثِّلها نظام الاستبداد الأسدي، ليس من أجل أن يُستَبدَل بشار الأسد بالجولاني وأضرابه. على الأقل، يمكن الحديث عن كتلة وازنة من بين أولئك الذي خرجوا في تلك الثورة، لم يكن دافعهم هو أن نظام الأسد «علماني» أو «علوي»، أو أنهم يريدون نظاماً «إسلامياً»، تحديداً «سنياً»، يمثّلُهم.

النظر إلى مجمل السياق العام الذي يعيشُ الشمالُ السوري في ظله الآن، محكوماً بـ«قوى أمر واقع»، يقودنا إلى القول إن «مُسلَّمة» أن الشارعَ السوري شارعٌ «إسلامي» هي ورقة أراد الطرفان الإقليميان المسيطران في الشمال السوري، تركيا وقطر، تثبيتها بأي ثمن لتسليم السلطة في المناطق الخارجة عن سلطة النظام لأزلامهم، وعدم تركها عُرضة للتنازع مع قوى أخرى ليست خاضعة للسيطرة المباشرة لهاتين القوتين الإقليميّتين، وشبكات التنفيع المحلية التابعة لهما.

طبعاً، فرضية أن القوى البديلة غير الخاضعة للسيطرة التركية القطرية ليست أفضل من تلك الخاضعة لهما ليست فرضية خاطئة في مجملها، في حال كان الحديث يقتصر على قوى «مسلحة»، وبالتالي خاضعة لإملاءات المُمّول والمسلِّح والمدرِِّب أياً كان. ولكن هناك «قوى» أخرى على الأرض، مدنيّة وغير مسلحة، كانت موجودة وتم محوها، بالمعنى الحرفي للكلمة، من الوجود. اعتقالات واغتيالات وقتل تحت التعذيب (تم إعدام ألفين من المعتقلين في سجون الجولاني حسب المقال نفسه) وإخفاء قسري، وسواه من الممارسات التي طالت الكثير من الناشطين، ذوي الثقل والحضور الهائلَين، أمام رأي عام سوري تشكّلَ في خضَّم تلك الثورة المهولة، وقبل وجود تلك القوى المسلحة، وكان النصيب الأكبر من تلك العمليات في منطقة الشمال السوري تنفّذه «جبهة النصرة» هذه بالذات!

وبالتالي يمكن، والحال هكذا، السؤال حول مدى «شفافية» الفكرة القائلة، أو الافتراض المُضمَر، بأن الشارع السوري، خصوصاً في الشمال السوري، هو شارع «إسلامي» بالكامل، والناس تموت اعتقالاً وغيلة وبهذه الأعداد، وعلى أيدي تلك التنظيمات الإسلامية!

ويمكن، لمن يريد شواهدَ ملموسة حول صحة التشكيك بتلك الـ«إسلامية» المُفترضة بصفتها مُسلَّمة، العودة إلى أصوات أهل غزة خلال كارثتهم الأخيرة، وهم يشيرون وبوضوح إلى أن حماس لم تكن خيارهم المفضّل، وأنها فعلياً كانت سلطة أمر واقع تم تثبيتها بقوة السلاح والبطش، وبالمال القطري (هل لاحظنا تشابه ما مع الظرف في الشمال السوري؟!). وهذا واحدٌ فقط من أصابع الاتهام التي وجهها أهل غزة علانية إلى الدور القطري الذي يسعى إلى نفوذ وتأثير إقليمي ودولي، إن تمكَّن، وعلى حساب دماء أولئك الأبرياء.

يمكن بهذا الصدد مراجعة كل ما يكتبه الكثير من النشطاء الغزاويين الموجودين الآن في غزة، شمالاً وجنوباً، على صفحاتهم في الفيسبوك، منذ بدء الاجتياح الإسرائيلي للقطاع. والاستنادُ إلى حسابات شخصية على الفيسبوك بات حلاً لكثيرين مُنِعت عنهم «المين ستريم ميديا» (الجزيرة مثال)، لأن نقل معاناتهم لا يطابق «الصورة» التي يريد هذا «الإعلام» نقلها عن غزة «الصامدة» حتى آخر طفل!

مقارنة غزة مع إدلب أمرٌ لا مفر منه، وهو يفرض نفسه على كل أولئك الذين يتابعون ما يحدث في كلا المنطقتين. من ناحية القبضة المحكمة لفصيل أو مجموعة فصائل ذات لون «إسلامي»؛ التمويل المباشر ومن جهة واحدة: قطر، والاتّكاء على «حلف» مع قوة إقليمية للإمداد بالسلاح والتدريب، تركيا في حالة إدلب، إيران في حالة غزة. هذا بالإضافة إلى اكتظاظ سكاني هائل، وحصار مفروض. وبالتالي فإن الظروف في غزة قبل 7 أكتوبر، هي نفسها في إدلب والشمال السوري كلّه الآن، بل إن «العدو»، يكاد يكون واحداً. 

حالة إدلب والشمال السوري هي في جذرها حالة ارتهان، وإلى نفس تركيبة القوى الإقليمية المسعورة في تثبيت نفوذها وأزلامها ولو على شبر تراب من سوريا (غزة أيضاً كذلك، والمؤلم أننا قريباً قد نضطّر إلى أن نقول إنها «كانت» كذلك). إنه الارتهان نفسه الذي أَوصَلنا إلى تلك الوضعية، التي بات فيها «الجولاني» وحده هو المشكلة. الوضعية التي كنا نُعيِّرُ بها من لم يخرجوا ضد نظام الأسد مباشرة، وكانوا يكتفون بإحالة المشكلة إلى «ظاهرة الفساد» لا أكثر، مطالبين بتغيير محافظ حمص!

الإشارة إلى هذه الوضعية، بوضوح ودون أيّ مُماحكة، ليست أضعف الإيمان، إنها ببساطة الشرط اللازم جداً، كبداية للوصول من الإيمان إلى أقواه: التغيير، وباليد. وهذا أمرٌ لا مفرّ منه أبداً، إن أردنا تجنُّب مصير غزة الآن.