يمكن القول إن نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة في تركيا تُشكِّلُ انقلاباً كبيراً في التوازنات السياسية، من المُحتمل أن تكون له تداعيات على المرحلة القادمة، في الطريق إلى الانتخابات النيابية والرئاسية في العام 2028. فبِصرف النّظر عن أنها انتخابات الإدارة المحلية، ولن تغير شيئاً في السلطات التنفيذية المركزية والتشريعية والقضائية، لكنها تُعطينا صورة عن موجة تغيير صاعدة في المجتمع دفعت السلطة للشعور بالقلق العميق بشأن ما هو قادم، وغيَّرَت المزاج المُعارض الذي كان غارقاً في مشاعر القنوط والسوداوية واللا جدوى في أعقاب هزيمة تحالف المعارضة في شهر أيار (مايو) الماضي، باتجاه التفاؤل والأمل والقدرة على الفعل والتغيير بعد ليلة الأحد الطويلة.
فاجأت النتائجُ البيئةَ المُعارِضة ربما أكثر من البيئةِ الموالية، وفاجأت أكثر حزبَ الشعب الجمهوري الذي كان يخشى فقدان البلديات التي بحوزته، ناهيك عن الفوز بمزيد منها كما حدث بالفعل. أما في حزب العدالة والتنمية، فبدا أن المفاجأة لم تكن كبيرة لأن ذوبان شعبيته كان قد بدأ منذ الانتخابات العامة الماضية التي دخلها مُعزَّزاً بتحالفٍ عريضٍ إضافةً إلى حليفه الثابت حزب الحركة القومية، وكان يُراهن، في الانتخابات المحلية فقط على فشل خصمه، الشعب الجمهوري، لا على نجاحه الخاص بالنظر إلى معاناة جمهوره، وعموم الشعب، من آثار الأزمة الاقتصادية التي أُضيفَت إليها آلام محاولة الخروج منها بقيادة الفريق الاقتصادي الجديد الذي عينه أردوغان بعد التغيير الحكومي في حزيران (يونيو) 2023، من خلال العودة إلى السياسة الليبرالية الكلاسيكية التي تتطلب في بدايتها «شداً للأحزمة» قاسياً على الطبقات الدُنيا.
حاولت الأصوات الموالية للسلطة، في وسائل الإعلام، التقليلَ من شأن انتصار حزب الشعب الجمهوري بردِّ ذلك إلى انخفاض معدلات مشاركة الناخبين في الانتخابات (وهذه حقيقة) وإلى تصويت ناخبي حزب المساواة والديمقراطية لمصلحة أكرم إمام أوغلو في اسطنبول، ولمُرشَّحي الشعب الجمهوري في المحافظات الغربية عموماً (هذه أيضاً حقيقة). ولكن في الحالتين، لم يَقُل لنا هؤلاء لماذا لم يذهب ناخبو العدالة والتنمية إلى صناديق الاقتراع، ولا لماذا أدلى ناخبو المساواة والديمقراطية بأصواتهم لمُرشَّحي الشعب الجمهوري في الغرب. كذلك لا يقدمون تفسيراً لتراجُع شعبية حزبهم في المناطق الكردية بصورة كبيرة لمصلحة حزب المساواة والديمقراطية.
اختراقات في سياسات الهوية
لقد كانت مُختلَف العمليات الانتخابية منذ مطلع القرن تعكس ما يسمى في الأدبيات السياسية بـ«سياسات الهوية»، فاستقرّت التيارات والأحزاب السياسية على نسب ثابتة تقريباً، مُنقسِمة وفق عَالِمِ الاجتماع السياسي بكير آغردر إلى ثلاث هويات سياسية: الإسلامية – القومية المحافظة، والعلمانية – اليسارية، والكردية، وجدت انعكاسها الشفّاف على الخريطة الجغرافية، لتتركَّزَ الأولى في وسط الأناضول وشماله، والثانية في غربه وجنوبه الغربي على سواحل بَحرَي إيجة والمتوسط، والثالثة في شرقه وجنوبه الشرقي، مع حدوث اختراقات طفيفة بين عملية انتخابية وأخرى لم تؤثّر كثيراً على الصورة العامة الموصوفة هنا. وبالأرقام، كان مجموع التيار المحافظ الإسلامي – القومي يتراوح بين 40-50%، مقابل 25% للتيار العلماني، و10% للحركة الكُردية، مع توزع النسبة الباقية بصورة مُتغيِّرة.
ما حدثَ يوم الأحد هو أن سلوكَ الناخبين في تركيا على أساس الهوية قد انكسرَ إلى حد ما، فاخترقت أصواتهُم تلك الحواجز، وإن لم تتلاشى هذه تماماً. ولعلَّ أبرزَ ما يمكن التأكد منه في هذا الشأن، بصورة تقريبية، هو أن قسماً من الناخبين التقليديين للعدالة والتنمية قد اتّجه للتصويت لأحزاب أخرى، الرفاه من جديد، وخودا – بار الإسلامي، والشعب الجمهوري والمساواة والديمقراطية في المحافظات الشرقية والجنوبية الشرقية.
ويمكن اعتبارُ تصويت ناخبي المساواة والديمقراطية لمُرشَّحي الشعب الجمهوري اختراقاً لجدار الهوية الكردية. صحيح أن هذا المَسلَكَ هو تكرارٌ لما حدث في الانتخابات البلدية السابقة في 2019، وفي الانتخابات الرئاسية 2023، لكن ذلك كان بتحالف مُعلَن أو شبه مُعلَن مع الشعب الجمهوري، في حين أن تياراً وازناً في الحزب دعا ناخبيه علناً للتصويت لمُرشَّحيه الخاصين في الانتخابات الحالية. فإما أن هذا الناخبَ رفضَ الامتثال لهذه الدعوة، أو أنه تصرَّفَ بانسجام مع التيار الآخر المتمثل في الرئاسة المشتركة المُنتخَبة حديثاً، التي لم تعلن عن موقفها بقرارٍ صريحٍ يعارض توجهات ذلك التيار الغالب المذكور، بل اكتفت بالتلميح.
تَوجُّه مزدوج لدى حزب المساواة والديمقراطية
الواقع أن تطورات غير مألوفة حدثت، في بضعة الأشهر الأخيرة، داخل حزب المساواة والديمقراطية، كشفت بمجملها عن وجود تيارين بشأن استراتيجية الحزب في الانتخابات المحلية. فقد ظهر كلٌّ من ليلى زانا ليلى زانا: هي واحدة من ستة نواب كُرد دخلوا البرلمان في العام 1991 على قوائم الحزب الاشتراكي الديموقراطي الشعبي (سلف الشعب الجمهوري الحالي). ظهرت في المجلس في يوم القسم يُحيط برأسها شريط بالألوان الثلاثة للعلم الكردي، واختتمت قسمها بعبارة مُضافة تلتها باللغة الكردية تُدافع فيها عن «الأخوّة بين الشعبين التركي والكردي»، الأمر الذي أدى إلى ردود فعل غاضبة في القاعة، وبعد تصريحاتٍ أدلت بها أثناء زيارة لها إلى واشنطن، في 1994، تم رفع الحصانة النيابية عنها وعن زملائها الكرد الخمسة الآخرين وتم اعتقالهم على باب البرلمان. وحكمت عليها في محكمة أمن الدولة بـ15 سنة سجن. دخلت البرلمان مرة أخرى بين العامين 2011 – 2015. ظلت مُعتكِفة في قريتها منذ العام 2018، لتظهر أخيراً في مقابلة مع إحدى وسائل الإعلام في شهر كانون الثاني (يناير)، ثم خطيبةً في عيد النوروز في ديار بكر. وأحمد ترك أحمد ترك: سياسي كُردي مخضرم، كان واحداً من المجموعة التي دخلت البرلمان في العام 1991، وتعرَّضَ لما تعرضت له زانا. كما شغل منصب رئاسة بلدية ماردين في وقتٍ سابق، وهو نائب في البرلمان حالياً. وصلاح الدين دمرتاش صلاح الدين دمرتاش: الزعيم السابق لحزب الشعوب الديموقراطي، رشَّحَ نفسه لرئاسة الجمهورية في العام 2018 ونال 8.40 بالمئة من أصوات الناخبين. وقادَ حزبه في انتخابات حزيران (يونيو) 2015 النيابية على قوائم مستقلة للمرة الأولى في تاريخ الحركة الكردية، فتخطّى حاجز 10 بالمئة وتمكَّنَ الحزب من إدخال 80 نائباً إلى البرلمان ليحتل المرتبة الثالثة بين الأحزاب المتنافسة. تم اعتقاله في خريف العام 2016 باتهامات متنوعة، ولم تكتمل محاكمته إلى اليوم. ورفضت السلطات القضائية إطلاق سراحه رغم قرارات محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بهذا الخصوص، وتركيا من الدول الموقعة عليها، مع وجود مادة دستورية تمنح قرارات تلك المحكمة أولوية على القرارات القضائية المحلية في حال تعارضها. ، على وسائل الإعلام أكثر من مرّة وعبَّروا عن اتجاه يدعو إلى اتّباع الطريق الثالث، مُنتقدين الالتحاق بأحزاب أخرى لا تنظر إلى الكرد إلّا بوصفهم «خزّاناً للأصوات الانتخابية» غير مكترثة بمشكلاتهم وقضيتهم. الطريق الثالث في هذه الحالة هو انتخاب مرشحي الحزب في كل المدن حتى لو لم تكن لبعضهم أي حظوظ بالفوز، فمن شأن ذلك إظهارُ القوة الحقيقية للكتلة الكردية ووزنها السياسي، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الأحزاب الأخرى تأخذهم في الاعتبار عند وضع سياساتها. وتضمَّنَت تصريحات القيادات المُشار إليها كلاماً واضحاً حول انفتاح الحزب على الحوار مع «جميع الأطراف»، وإن كانوا قد ربطوا الحوار مع الشعب الجمهوري باحتمال قيام تفاهمات انتخابية، مقابل حديثهم عن أن أي حوار مع العدالة والتنمية يتعلق بمرحلة ما بعد الانتخابات.
كان هذا التوجه منسجماً في العموم مع قرار الحزب الذي اتُّخِذَ منذ أشهر بتقديم مرشحيه المستقلين في جميع المناطق. ثم اتُّخِذَ قرارٌ آخر لا يتعارض مع الأول لكنه يُعتبَر حلاً وسطاً بين التوجّهَين «المستقل» و«التحالفي»، مفاده ترك الباب مفتوحاً لتفاهمات محلية مع حزب الشعب الجمهوري وفقاً لكل منطقة على حِدة. ولم يُعلَن عن وجود تفاهم محلي من هذا النوع فيما خصّ اسطنبول وأنقرة بالذات، بل إن الحزب رشَّحَ اثنين من وجوهه الوازنة لرئاسة بلدية إسطنبول، وفقاً لنظام «الرئاسة المشتركة» الذي يعمل به الحزب، الأمر الذي أثار امتعاض حزب الشعب الجمهوري لأنه اعتبر ذلك خدمة مجانية للحزب الحاكم وإضعافاً لحظوظ كل من إمام أوغلو وياواش في الفوز برئاستي بلديتي إسطنبول وأنقرة على التوالي. سبق أن أشرتُ في مقالة نُشرت في الجمهورية إلى إعلان زوجة صلاح الدين دمرتاش رغبتها في الترشّح لرئاسة بلدية اسطنبول، وكَشفَتْ تلك الحادثةُ عن وجود خلاف داخلي في الحزب بين تيارين، لكنّ أَبعادَ خطوة دمرتاش ستنكشف لاحقاً في كلمة ألقتها ليلى زانا في احتفال نوروز في 21 آذار (مارس)، وفي رسالة من دمرتاش قُرئت في المناسبة نفسها. فقد عبّرًا معاً عن توجهٍ جديد يدعو السلطة القائمة، وأردوغان بالذات، لإطلاق مشروع جديد للحلّ السلمي للمسألة الكردية، يكون طرفه الآخر عبد الله أوجلان، أو لإحياء المسار الذي انقطع في العام 2015.
الخلاصة أن الحزب تصرف بتكتيك مزدوج، هو ما أسميته بالحل الوسط، فصوَّتَ ناخبوه لمرشحي الحزب الخاصّين في المناطق ذات الغالبية الكردية، ولمرشحي الشعب الجمهوري في المناطق التي لا أمل له بالفوز فيها (على الأقل قسمٌ راجحٌ منهم). ويمكن القول إنه كان تكتيكاً ناجحاً بالنظر إلى نتائج الانتخابات هنا وهناك، لكن الحزب لم يتمكن من تجنب سخط السلطة بسبب مساهمته في فوز الشعب الجمهوري في مناطق كثيرة، أهمها اسطنبول، أو في تثقيل الفوز بزيادة الفارق مع مرشح السلطة، حيثما كان مرشح الشعب الجمهوري قادراً على الفوز حتى بدون دعم الناخب الكردي (كأنقرة).
قطفُ ثمارٍ متأخر لحزب الشعب الجمهوري
جاء النجاح الكبير المفاجئ لحزب الشعب الجمهوري رغم الظروف الذاتية غير المؤاتية (بلا تحالفات، عدم استقرار الوضع تماماً داخل الحزب بعد تغيير قيادته، التشاؤم السائد في صفوف ناخبيه التقليديين بعد هزيمته في الانتخابات العامة والرئاسية قبل أقل من سنة…)، ورغم أن منافسه الرئيسي وظَّفَ كل إمكانيات الدولة لتمكين مرشحيه من الفوز في دوائرهم (من ذلك مثلاً أن 17 وزيراً من الحكومة نزلوا إلى الساحة في الحملة الانتخابية لمراد قرم في إسطنبول، فدقوا الأبواب طالبين التصويت له. وكذلك نقلُ جنود إلى بعض المحافظات في الجنوب والجنوب الشرقي للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع، بذريعة تأمين العملية الانتخابية). أثار هذا النجاح التساؤلات عن أسبابه الذاتية، بعيداً عن الدور الراجح لأخطاء الخصم والظرف الموضوعي عموماً.
ثمة من ربطوا هذا النجاح بصورة مباشرة بالتغيير في قيادته، بعد فشل القيادة السابقة في انتخابات أيار (مايو) 2023. الواقع أن ما حدث يمكن اعتباره، إلى حدٍّ ما، قطفاً مُتأخِّراً لثمار جهود القيادة السابقة، كليجدار أوغلو بالذات، في مشروعه الطموح للانفتاح على بيئاتٍ طالما كان الحزب منغلقاً عليها، وبخاصة البيئة المحافظة والكُرد والجيل الشاب. بيد أن كليجدار أوغلو كان مُحاطَاً بطاقمٍ عجوز من بيروقراطية الحزب الثابتة على مرّ العقود، وكان إلى ذلك يمارس سياسته الانفتاحية بطريقة الهُواة كما يشير العارفون بدواخل هذا الحزب. وكان الإرث الإيديولوجي الثقيل يُكبِّلُ يديه في مساعيه. المفارقة أن كليجدار أوغلو بالذات هو الذي قرّبَ إليه التيار الشاب، الذي سينقلبُ عليه لاحقاً ممثلاً بـ أوزغور أوزل وأكرم إمام أوغلو، اللّذين يتضح من مَسالكهما وتصريحاتهما أنهما ماضيان على الطريق نفسه الذي خطّه سلفهما.
لعب اختيار أوزل لمرشحي الحزب من الشباب والنساء دوراً مهماً في تحقيق النتائج، وعلى سبيل المثال تمكنت مرشحته في دائرة أوسكودار في إسطنبول من تحقيق فوزٍ كبيرٍ على منافسها، وهي منطقة مُحافِظة معروفة كإحدى القلاع التقليدية لحزب العدالة والتنمية، وقبله لحزب الرفاه في التسعينيات. والفائزة امرأةٌ عصريةٌ في نحو الأربعين من عمرها، لم يتوقع أحدٌ الفوز لها. كذلك اختار مرشحاً كردياً في مدينة آدي يمان استطاع أن ينتزع رئاسة البلدية من حزب العدالة والتنمية، رابحاً بذلك منطقة نفوذٍ جديدة تماماً للشعب الجمهوري. وشهدت هذه المدينة التي ضربها زلزال 6 شباط (فبراير) أكبر تظاهرةٍ احتجاجية في ذكرى الزلزال، رُفع فيها شعار مؤلم هو «مدينتنا اليتيمة». ناخبو المدينة المنكوبة، الذين منحوا السلطة فرصةً أخيرةً في انتخابات أيار فصوت 66 بالمئة منهم للحزب الحاكم، سحبوا الثقة منها ومنحوا تفويضهم هذه المرة لمنافسه الرئيسي.
وثمة من يشيرون إلى أن النسبة الغالبة من فئة الشباب الذين يصوتون للمرة الأولى قد صوتوا لمرشحي الشعب الجمهوري، مقابل نسبةٍ صغيرةٍ منهم للحزب الحاكم.
حادثة وان
في مدينة وان جنوب شرق الأناضول ذات الكثافة السكانية الكردية فاز مرشح حزب المساواة والديمقراطية عبد الله زيدان بحصوله على نحو 65 بالمئة من أصوات الناخبين، متجاوزاً منافسه من العدالة والتنمية بمقدار الضعفين (إضافة إلى فوز الحزب بجميع البلديات الفرعية في المدينة وعددها 14). ثم قررت محكمة محلية مسؤولة عن العملية الانتخابية حرمانه من هذا الفوز، ومنحَ رئاسة البلدية لمنافسه عبد الأحد أرواسي مُرشَّح العدالة والتنمية.
وكانت الذريعة القضائية على الشكل التالي: سبق لزيدان أن سُجِنَ بعدما حُكِمَ عليه بنحو ثلاث سنوات سجناً بتهمة نشر دعاية لصالح منظمة إرهابية (المقصود حزب العمال الكردستاني). وتضمَّنَ الحكم أيضاً حرمانه من الحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك حقه في الترشح في الانتخابات والتصويت فيها لمدة 3 سنوات. وخرج من السجن بعد إتمام مدة حكمه، وتقدَّمَ بطلب إلى المحكمة المختصة لاستعادة حقوقه، فوافقت المحكمة على طلبه في نيسان (أبريل) 2023. وفي الخريف قدَّمَ كل الأوراق المطلوبة إلى الهيئة العليا للانتخابات، فتمت الموافقة على ترشيحه. ثم «حدث شيء» عشية الانتخابات، فأصدرت المحكمة نفسها قراراً جديداً تُبطِلُ فيه قرارها السابق فتسحب منه حقوقه السياسية التي سبق أن أعادتها إليه.
وفي الخامسة إلا خمس دقائق من مساء الجمعة 29 آذار (أي في نهاية الدوام الرسمي في الدوائر الحكومية)، قبيل يومين من موعد تصويت الناخبين، مع العلم أن اليوم التالي، السبت، هو يوم عطلة أيضاً، أبلغت هذه المحكمةُ المحكمةَ المحلية الأخرى المسؤولة عن الإشراف على الانتخابات بقرارها الجديد، فقامت الأخيرة بحِرمان زيدان من فوزه ومنح رئاسة البلدية لأرواسي. يمكنُ الاعتراض على القرار الجديد لدى محكمة التمييز ومحكمة النقض قبل أن يصبح مبرماً، ولكن لا يمكن القيام بهذه الإجراءات القضائية في الدقائق الخمس المتبقية على العطلة، هذا إذا تبلَّغَ الشخص المعني ومحاموه بالقرار أصلاً.
أثار هذا القرار غضباً عارماً، فتدفَّقَ الناس إلى الشوارع للتعبير عن احتجاجهم على ما وصفوه بـ«سرقة إرادة الناخبين»، ليس في وان فقط بل في نحو 14 مدينة أخرى، وتصدّت الشرطة للمظاهرات، فأعلن وزير الداخلية عن اعتقال 340 شخصاً على خلفية المشاركة فيها. ومنعَ والي المدينة التجمُّعات ونَشْرَ البيانات وجَمّعَ التوقيعات وغيرها من الأنشطة المعارضة لمدة 15 يوماً. بالمقابل، صدرت تصريحات استنكار من قادة المعارضة من حزب الشعب الجمهوري والحزب الشيوعي، اللّذين أرسلا وفدَين تضامُنيين إلى المدينة، كما عقدت قيادة حزب المساواة والديموقراطية اجتماعاً طارئاً في مدينة وان.
وقدَّمَ المرشح اعتراضاً رسمياً للهيئة العليا للانتخابات، فقررت هذه، في اليوم التالي أن الفائز هو عبد الله زيدان. لكن الاعتراضات على قرار حرمانه من حقه لم تقتصر على المعارضة، بل شملت أسماءَ بارزةً من حزب العدالة والتنمية نفسه، فأعلن حياتي يازجي، أحد نواب رئيس الحزب ومن كادره المؤسس، ارتياحه لقرار الهيئة العليا الذي «أنهى حالة الجنون» بحسب وصفه، ويقصد بها حرمان الفائز من فوزه. لكن أحد مستشاري رئيس الجمهورية، ويدعى محمد أوجوم، نشر تغريدةً هاجم فيها من أسماهم «الليبراليين الجدد» داخل السلطة، وفُهِمَ أن كلامه مُوجَّه ليازجي وآخرين ممن استنكروا ما حدث.
أظهرت هذه الحادثة أن ثمة في السلطة مَن لم يستوعبوا دروس الهزيمة في الانتخابات، ويكررون ما اعتادوا عليه من ممارسات غطرسة القوة التي أشار إليها أردوغان أثناء حديثه عن أسباب الهزيمة الذاتية. كما أظهرت مدى قوة الجمهور الذي استطاع في يومٍ واحدٍ استعادة الحق لأصحابه. وأخيراً كشفت النقاب عن خلافاتٍ مُحتدِمة بين قيادات العدالة والتنمية في مناخ خسارة الانتخابات، حيث يتم البحث عن أكباش فداء لتحميلهم أسباب الخسارة. فهذا النوع من السِجالات العلنية لم يكن مألوفاً في السنوات الماضية، بعدما تمّت تصفية أكثرية القادة المؤسسين الذين كانوا يعبرون عن آرائهم بِحُرّية.