عزيزتي

أتذكرين تلك المرّة التي قُلتِ لي فيها إنّك تخافين من الألم الذي يمشي يدًا بيد مع الحُبّ أينما حلّ؟ ما قُلتِه حينها وخزَ روحي لكنني فهمتكِ، لأنّي بتُّ أعرف أنّنا نُخلَق باحثات وباحثين عن الحبّ لنحيا من خلاله في عالمٍ يُثرثَر عنه طوال الوقت دون أن يُتأمَّل في دلالاته حقًّا، فنجد أنفسنا في رحلة تَقفّي أثرِ إبرة في كومة قشّ دون أن نعرف شكلها أو المشاعر التي قد تُولِّدها إذا لمسناها. عالمُنا يرى في الحبّ شمّاعة يُعلِّق عليها قصصاً خائبة عن القتل والإهانة والذل، ويَنهوس بتعليبه وابتكار شروط لمن يُسمَح لهنّ ولهم باختباره ويُغلِّفه بالغموض والأسى والحسرة. وفي خضمّ كل هذه الضوضاء نكبر لندرك أنّ أغلبنا يسعى لاختباره دون أيّ فكرة عن ماهيّته. لا أعرف الكثير عن الحبّ يا عزيزتي، لأنّي مثل معظم سكّان وساكنات هذا الكوكب أعيشُ محاولات مستمرّة لاستيعابه واكتشافه وممارسته، لكنّي أودّ أن أشاركك في هذه السطور ما توصّلتُ إليه في هذه الرحلة، علّنا نفهم معًا مكانَ الألم في الحبّ ونستكشف كيف لنا أن نختبره ونحن في عالم يتغيّر فيه كلّ شيء، إلّا إصرارنا على حصر الحبّ في كلّ شيء وأي شيء سوى معانيه الأصيلة.

رفيقتي،

التغيير هو الثابت الوحيد، فالتحوّلُ المستمرّ شرطٌ أساسي لاستمرار الحياة. والحبّ يحمل معه الكثير ممّا نتوق إليه؛ الألفة والمودّة والشغف والتقارب مع آخر غريب يغدو روحًا خليلة مع الوقت، لذا نريد الحبّ استثناءً للقواعد الكونيّة. نريده مؤكَّدًا وثابتًا ودائمًا ومثاليًا، نريده قادراً على ضمان عدم فقداننا لشعورنا بالاتّصال مع الحياة من خلاله على الأقل. كيف لا، ونحن نتعارك يوميًَا مع اللّايقين المُختبئ في طيّات فقداناتنا المستمرّة؟ فقداننا لآمالنا في ثورات حبسها الاستبداد في المعتقلات وحقائب السفر المقفلة بمفاتيح ضائعة، أو رماها ميّتة في قاع البحار وتحت سابع أرض. فقداننا لأصواتنا التي سمعناها تملأ الشوارع قبل أن تَخفتَ تحت ركام القهر. فقداننا لبيوتنا وأزقّتنا وناسنا وطقوسنا اليوميّة. فقداننا لشعورنا بالانتماء للبشريّة بعد أن رأينا «الأقوياء» فيها ينتقون من يستحققنَ ويستحقّون الحرّيّة والعدالة بفوقيّة واستعراض قوى. فقداننا لأحبّة أُجبِروا على الرحيل أو اختاروه لإنهاء معاناتهم. فقداننا لقدرتنا على رؤية الحياة تنبض بين أشلاء أرواحنا المتشرذمة. كلّها نهايات يا رفيقتي؛ نهايات تجلبُ معها لحظات موت صغيرة تلتحم فتنسج شبحاً أبيض ضخماً يُقنعنا باستمرار بأنّ حيواتنا في هذا الجزء من العالم ثانويّة وعليها أن تبقى قابعةً في هامش يَضيقُ مع كلّ حرب أو غزو أو إبادة. ويُقنعنا بأنّ الأثمان التي ندفعها لن تقع إلّا على عاتقنا لأنّنا خُلقنا على كوكب مختلّ الموازين. من الطبيعيّ أن نخاف من اللايقين وسط كلّ هذه العبثيّة، لكن الحبّ نهرٌ متغيّر يروق له مجراه، فكيف لنا أن نختبره دون اللجوء إلى محاولات مستمرّة لإيقاف تدفّقه خوفًا من المعاناة؟ كيف لنا أن نحبّ وسط كلّ هذا الاستخفاف بالحياة؟ كيف لنا أن نجرؤ على الحلم بتفاصيل أيّامنا مع من نحبّ ونحن نتحزّرُ موعدَ اللحظة التي ستذوبُ فيها أجسادنا تحت وطأة عِلَل هذا العالم وتتّحد ذواتنا مع الكون؟

حبيبتي،

هذه الأجساد التي أحدّثك عنها، جسدي وجسدكِ وجسدها، تشعر باستمرار أنّها مُربَّطة ومُثقَلَة بسلاسل مصفوفات السلطة متعدّدة المستويات. وفي كلّ مرّة تنبض بالرغبة والحياة تُدرك أنّها لا تزال متّصلة بأجساد أمّهاتنا وجدّاتنا بأحبال سرّية ظَننا أنّها قُصَّت عند ولاداتنا. أحبال نشعر بفضلها بجموحهنّ ورغباتهنّ وقهرهنّ واستسلامهنّ وسخطهنّ وقوّتهن تسري في شراييننا. نشعر بأرحامهنّ تحتفي بالخلق أو تودّع أجنّة لم يُرِدنها، وببظورهنّ تحتقن وتنتفض مُعلِنة انتصارهنّ على القمع، وبمهابلهنّ تُطلق إلى العالم دماءً خجولة أو حيواتٍ مندفعة، وبأثدائهنّ ترتعش لكلّ ظلم يشعرنَ به وكلّ لمسة توقظ فيهنّ الساحرة المتمرّدة الشافية. هنّ وحيواتهنّ يُطالبننا باستمرار بالحفاظ على ذكراهنّ وبالتحرّر ممّا كَبَتَهُنّ ويَكبتنا، فنراهنَّ في مخاوفنا ورغباتنا وقطيعتنا مع أجسادنا، ونعرف أنّنا امتدادٌ لهنّ وأنّنا لسنا وحدنا، لكنّنا نعرف أيضًا أنّه علينا الاستمرار بخوض معاركهنّ ومعاركنا. فمتى لنا أن نحبّ ونحن نحارب؟ كيف لنا أن نحبّ ونحن غاضبات وراغبات بالانتقام لأنفسنا ولسلالة النساء اللواتي عشنَ قبلنا؟ 

صديقتي،

ندرك جيّدًا، أنا وأنتِ، أنّ هذا التحرّر يتطلّب منّا الكثير من التعرّي. ذلك التعرّي الذي يجعلنا نقشّر طبقات القهر المتراكمة على جلودنا ونتأمّلها بعناية، واحدة تلو الأخرى، ونرى ندوبَنا ونحبّها ونمسح عنها التقرّحات المزمنة لتُشفى. مخيفٌ ومؤلمٌ هذا الانكشاف يا صديقتي، فماذا لو لم نحب ما سنرى؟ ماذا لو طالَبتنا هذه المواجهة بإزالة أقنعة رسمناها بعناية لنختبئ وراءها من العالم؟ ماذا لو طالبتنا بهدم ما بنيناه – بوعي أو دونه – من تصوّرات عن أنفسنا والآخرين والأخريات على مدار سنوات؟ ياه، كم هي مُرعبة هذه التأمّلات في المرآة! وكم يتكثّف ويستشري هذا الرعب في كلّ مرّة تأتي فيه روح أخرى تلامسنا طالبةً التعرُّفَ على ما وراء الأقنعة بفضول وحب. فماذا لو آذتنا أو آذيناها؟ ماذا لو أكّدت على مخاوفنا بأنّ العالم مرعب وغير جدير بالثقة؟ ماذا لو رأتْ بوضوح ما نُفضِّل كَنسه تحت سجّادة الإنكار وهَرَبَتْ منه؟ جميعها أسئلة مشروعة يا صديقتي، لكن كيف لنا أن نحبّ حقًّا من تحت السجّادة؟

خليلتي،

مع كلّ هذا والكثير ممّا لم أحدّثك عنه بعد، من الطبيعيّ أن نَقلق ونخاف ونفضّل الاختباء من الحبّ، ومن الطبيعيّ أن يصاحب الألمُ شيئًا من تجاربنا معه وأن يكون أحيانًا من أصعب الأفعال في عالم بدائيّ يفضّل ثنائيّات الأبيض والأسود على البحث والاستكشاف، ويُقنعنا باستمرار بأنّ من الحبّ ما قتل. أنا يا خليلتي أرى الحبّ بريئًا من هذه التهمة. أرى فيه حياةً وتعلّمًا وشغفًا وقوّة. أرى فيه مساحة نموّ مستمرّة قد تكون مُتعِبة أحيانًا، إذ تضيق خلالها علينا أفكارُنا وممارساتُنا التي ورثناها دون معاينتها بعين فضوليّة، مثلما كانت تضيق علينا ملابسنا في الصغر كلّما كبرنا قليلًا، وقد نجد أنفسنا عالقين وعالقات أحيانًا لبعض الوقت في ما هو بالٍ وغير مريح ومُقيِّد. لا بأس في ذلك، ففي عالمنا الحاليّ لا بدّ للحبّ أن يكون فعل مقاومة مستمرّة. فلنقاوم إذن! فلنجعل من قلوبنا وسادات لبعضنا البعض نرتاح عليها من كلّ ضيق وخوف ونستقي منها الشجاعة التي نحتاجها لنثق في مجرى اللايقين ونتعرّى ونغوص في الأعماق ونتفاجأ ممّا نجده فيها، ولنفهم معاني الحبّ الأصيلة ونسمح له بأن يُحيينا ويوقظنا من تحجُّرنا ويشفي عالمنا من عِلَله. 

عزيزتي، حبيبتي، رفيقتي، صديقتي، خليلتي، دعينا نحبّ ونحيا وندفعُ بالحبّ حدودَ المُمكن، دعينا نراه يُوسِّع مساحات الحرّيّة ويُقلّص تجويفات الألم.