بالنسبة لتقنية ليست جديدة بالكامل، تمكّنت برامج الذكاء الاصطناعي مُؤخَّراً من تحقيق إعادة ظهور مَسرحية بامتياز، فالقدرات التي أظهرتها الموجة الجديدة من برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي، من قبيل تشات جي بي تي Chat GPT والبرامج المماثلة له، وإتاحتها للجمهور على نطاق واسع، أدّت إلى تَغيُّر في إدراكنا لإمكانات هذه التكنولوجيا، بل وربما في تَخيُّلنا لشكل المستقبل عموماً. وإلى جانب الدهشة المُتراوِحة بين الإعجاب والرَهبة، فإن التساؤل حول مدى العمق الذي سوف يكون عليه تأثير انتشار الذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية يدفعنا إلى محاولة العثور على منهجية مفيدة لاستيعاب أبعاد هذا التطور. ولأجل ذلك، أَلجَأُ في هذا المقال إلى أفكار كلّ من ماكس فيبر (1864-1920) وهربرت ماركوزه (1868-1979)، التي حملت في وقتها آلياتٍ للتفكير ساعدت في فهم تطورات القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي أرغبُ بالاستفادة منها في إلقاء الضوء على مستقبل البشرية في ظل تطورات قرننا الحالي.
أعود هنا إلى كتاب يورغن هابرماس العلم والتكنولوجيا كإيديولوجيا، الذي يناقش في أحد محاوره أفكار ماكس فيبر حول أثر التكنولوجيا من حيث أنها تترافق حُكماً مع نشر العقلانية في المجتمع، مُركِّزاً على تعقيب هربرت ماركوزه القائل أن العقلانية العلمية المتأتية من انتشار التكنولوجيا ليست عقلانية مُطلقة تشمل كل مناحي الحياة، فهي تتضمن حكماً نوعاً من السيادة مُضمَراً فيها، ممّا ينفي العقلانية المُطلقة ويُلقي ضوءاً على تطوّر الدولة والحُكم والمجتمع في ظل التكنولوجيا. هذه الفكرة المُتمثّلة في شكل السيادة المُضمَر في التكنولوجيا هي ما أرغبُ بالانطلاق منه، لمناقشة شكل المستقبل في ظل ثورة مُتوقَّعة في مجال الذكاء الاصطناعي.
التكنولوجيا والعقلانية والسيادة
يمكن لِحَدسنا العام أن يُنبئنا أن انتشار العلم والتكنولوجيا يُحدِثان تغييراً في المجتمع، وربما نتفق أيضاً أن تعميم العلم يجعل المجتمعات أكثر تطوراً، بل إن الاستخدام الحالي لكلمة «تَقدُّم» غالباً ما يحمل معنى التقدم العلمي والتكنولوجي، وفي عملية الاصطلاح هذه من التخصيص ما يحملُ دلالة على مكانة العلم والتكنولوجيا في وعينا الحالي بالعالم.
هذا القوة التغييرية للعلم تجد لها مكانةً في فكر رائد علم الاجتماع ماكس فيبر، الذي يُخبرنا أن العلم والتكنولوجيا يؤديان إلى إحلال العقلانية في المجتمع، لأن التفكير العلمي اللّازم للإنتاج يَشترطُ العقلانية، ومع تعمُّق الرأسمالية تتغلغلُ العقلانية في كافة مناحي الحياة وتَحلُّ محلَّ الخُرافة وطرق التفكير الغيبية القديمة.
أما هربرت ماركوزه، فيُعقِّبُ على أطروحة فيبر بأن هذا التغلغل للعقلانية غير تام، بل هو مخصوص بالعقلانية المتعلقة بالإنتاج ولن يستطيع أن يُعمَّم على كامل مناحي النظام الاجتماعي، فهو وإن اتفق مع فيبر حول أن العقلانية المُرافقة للتكنولوجيا قد أزاحت التفكير الخرافي من المجتمع، وهو الأمر الجلل بلا شك، إلا أن هذه الإزاحة سوف تتوقف عند أعتاب فكرة السيادة. فالتكنولوجيا والعقلانية المُرافقة لها لن تعني بحسب ماركوزه إلغاء السيادة، وبالتالي لن تستطيع الحيلولة دون التسلُّط في المجتمع، بل ستفرض مثل أي وسيلة إنتاج أخرى شكلاً معيناً من السيادة، وهو ما يسميه ماركوزه شكلَ السيادة المُضمَر. وبذلك تبقى السيادة، كما هي دائماً، محورَ حركة المجتمع.
ففي المجتمعات الصناعية، يفرض التقدم العلمي وانتشار التقانة العالية نوعاً خاصاً من السيادة يرتبط بالحفاظ على استمرارية عمل الدولة والمجتمع، أو ما أسماه ماركوزه الجهاز، ولأجل الحفاظ على استمرارية هذا الجهاز يطرح ماركوزه حتمية اضطراد التقدم التقني، وبذلك تغدو التكنولوجيا مُعزِّزة لذاتها ولشكل السيادة المُضمَر فيها.
من المفيد هنا التأكيد على ما ذكره ماركوزه من أن هذه السيادة المُضمَرة في العلم والتقنية ليست نتيجة محاولات تَسلُّق أو استغلال للتكنولوجيا، تقوم بها الدول أو الأنظمة في وقت لاحق على انتشار التكنولوجيا، بل هي أمرٌ من طبيعة التقنية التي توفر للدولة نوع السيادة الخاص بالمنطق العلمي والتقني، وهي سيادةٌ تَترافُق غالباً مع تَراجُعٍ في قمع الدولة يُمكِننا أن نلاحظه في الدول المتقدمة صناعياً لصالح نوع آخر من القمع الناتج عن التقنية نفسها، يتمثل في سيطرة الدولة كجهاز كما وصفناه أعلاه، والذي يُبرِّر نفسه بأن التقنية التي تسمح لنا بالسيطرة على الطبيعة تُبرِّرُ أيضاً للمجتمع سيطرة الدولة على الأفراد وتوزيع الأدوار بكل ما يخلقه ذلك من سلطة وتراتبيات.
العقلانية في ظل الذكاء الاصطناعي
بناء على هذه الملاحظات، فإن شكل السيادة المُضمَر في التكنولوجيا هو نقطة جوهرية في تَخيُّل شكل الدولة والمجتمع، وعليه يجب أن نسأل، هل سيختلف الذكاء الاصطناعي عن التقنيات الحالية من حيث العلاقة بالعقلانية، ويختلف بالتالي عمّا طرحه ماكس فيبر بهذا الشأن؟ وهل سيشكل الذكاء الاصطناعي تَغيُّراً في التكنولوجيا يؤدي إلى تَغيُّر في شكل السيادة المُضمَر فيها كما طرحه ماركوزه؟ يبدو أن الإجابة هي نعم.
فالتقنية الحالية -ونستثني بطبيعة الحال خطَّ التطور المُتوقَّع للذكاء الاصطناعي- مرتبطةٌ بالتفكير العلمي ومُرتكِزةٌ أساساً على العقل البشري وقواه الفكرية، وهي بذلك تُبقي السيادة مشروطةً بالعنصر البشري لأن التفكير هو أساساً ميزةٌ يتمتع بها الفرد، وهي مركزية فردية تمثّلت في أشكال الحكم المنبثق من الإجماع الشعبي، والتي تحققت غالباً في نُظُم الحكم الديمقراطية.
أما خط التطور المتوقع للذكاء الاصطناعي، كما توحي به قدراته الحالية، فيتمثّل في العمل عن طريق التعلُّم الذاتي داخل صندوق مغلق لا يحتاج البشر إلى فهمه ليعمل بشكل فعّال، كما أنهم قد يكونون في وقت ما غير قادرين على هذا الفهم.
بذلك، وبما أن الذكاء الاصطناعي يُوفِّرُ منطقهُ الخاصَّ البديل، فإن ازدياد حضوره ربما ينقل كثيراً من المجالات خارج نطاق الاعتماد على التفكير البشري، ممّا يعني نوعاً من التقنية غير مرتبطة بالعقلانية البشرية بصفتها محاولةً للسيطرة على الواقع ومُبرِّراً للسيادة كما وصفها ماركوزه، بل تنتجُ سيطرة «اصطناعية» على الواقع بمعنى أنها مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، أو «لا بشرية» بمعنى أنها لا ترتبط بالعقلانية «البشرية» كما هو الحال في التكنولوجيا الحالية.
كما أن تقنية مثل هذه، «لا بشرية»، قد تؤدي إلى تراجع اهتمام البشر بالعقلانية نفسها وارتدادهم بالتالي إلى أنواع من التفكير الغيبي الذي يثق بأداء الآلة ككيان مُتعالٍ غير مُدرَك، وإن كان يختلف عن أي تفكير غيبي سابق بأنه عمليٌ جداً ودائمُ التحقق. وهو بهذا المعنى ارتدادٌ عن العقلانية كما وصفها ماكس فيبر إلى مراحل الخرافة، وهي نقلة يبدو غريباً أن تترافق -إن صح الاستنتاج- مع تَقدُّمِ العلم.
فالآلةُ التي غدت اليوم تتعلّمُ ذاتياً بطرق غير خاضعة لتلقين البشر داخل «صندوقها المغلق»، وهو شرط بعض أنواع الذكاء الاصطناعي، سوف تكون مع الوقت أفضلَ أداءً من البشر، كما أنها ستكون خارج نطاق فهمهم. وبذلك فإن هذه الثقة تتحول إلى نوع من الإيمان الغيبي، والذي يتميز عن كل الإيمانات الغيبية السابقة بأنه دائمُ التحقق على عكس الصلوات ونبوءات الأبراج وقراءة فناجين القهوة المقلوبة، مما يجعله إيماناً أشدَّ قوة.
عالمٌ كهذا تكون فيه قدرة الفعل للآلة بالمطلق، لكنها أيضاً لصالح الإنسان بالمطلق، هو عالمٌ يُفترَضُ أن شكلَ السيادة المُضمَر فيه هو شكل تاريخي ناتج عن إنتاج الإنسان للآلة في لحظة تاريخية لم تَعُد قائمة إلا في آثارها، سيادة مُضمَرة في فكرة الخلق أو الأولوية التي لا يمكن إعادة تكرارها، لأن الإنسان لا يعود قادراً على إعادة تفوقه العقلي الذي سمح له سابقاً بتحقيق الاختراع الذي وصل مستويات لا يمكن بعدُ للعقل البشري مجاراتها.
وكما ذكرنا، فإن هذا الإيمان الفعّال والموثوق يشكل خطراً على مركزية الإنسان كفكرة فلسفية وأخلاقية وسياسية، فهو يعني تَراجُعَ مركزية الإنسان كمُحتكِر للعقلانية نتيجةَ تَراجُعِ مركزيته الفكرية بصفته ناظراً إلى الطبيعة في سبيل فهمها، الفهم الذي لا يعود ضرورةً بعدُ لأن ذكاء الآلة يقوم بالعمل على أتمّ وجه لكن بمعزل عن عملية الفهم، فكأنها تُغني عنها. هي مفارقة غريبة أن نقوم بصنع آلة تُغنينا عن فهم الطبيعة لكننا لا نحتاج -وربما لن نستطيع- فهمَ عملها هي نفسها.
هذا التراجعُ لأهمية العقلانية، وبالتالي تقليل الأدوار العملية المطلوبة من البشر، سوف يعني إقصاءً مزدوجاً، فهو من جهة إقصاءٌ للبشر عن الأدوار العملية بمعنى انخفاض الحاجة لعملهم ووظائفهم، على الأقل كما نفهم شكل العمل البشري حالياً، ومن جهة أخرى تراجعٌ في أهمية دور التفكير العقلاني للبشر، بكل ما قد يُلقيه ذلك من آثار على فهمنا للمركزية الإنسانية وشكل السيادة المُضمَر وتَمثُّلاته الديمقراطية.
مركزية الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي
إذا ما قَبِلنا فرضية تطور الذكاء الاصطناعي ليُدشِّنَ عصراً جديداً من التكنولوجيا غير المُعتمدة على العقلانية البشرية، وبالتالي حدوث تغيُّر في شكل السيادة المُضمَر في النظام بما يعنيه ذلك من تَحوُّلات في معنى الحكم والديمقراطية وأدوار الدولة، تكونُ الصيغةُ الجديدة للسيادة، المُترافقة مع توقعات منحى تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي كما وصفناها أعلاه، صيغةً حتمية. هذا خصوصاً إذا ما وضعنا في الحسبان المعضلة التي نحن أمامها كما وصفها ماركوزه، والتي تتمثّلُ في أنَّ نوع السيادة المُضمَر في التقنية مُتعلّقٌ حُكماً بنوع هذه التقنية.
يعني هذا التغيُّر في شكل المجتمع أن على البشر إيجاد أدوار جديدة لهم، تضمن دورهم ليس في العمل بصفته مصدر دخل -إذ أثبتَ التاريخ أنه لطالما كانت التطورات التقنية مُؤذِنةً بإحلال أعمال جديدة محلَّ الأعمال القديمة- بل في شكل السيادة المُتغيّرة، والتي هي سيادة لازمة وضرورية لاستمرار المجتمعات البشرية وازدهارها، دور يضمن مركزيتهم فيها كما ضمنها المنطق العلمي والعقلانية بصفتهما خاصية بشرية خلال صعود الرأسمالية والثورة الصناعية.
اعتقادي أنه مهما كان شكل الإجابة عن هذا السؤال، فإنها لن تكون بأي حال في تقييد الذكاء الاصطناعي ووضعه في إطار المُحرَّم، بل من خلال الاجتهاد لإبقائه ضمن إطار المَفهوم والمُدرَك، والنظر إلى ما بعد الذكاء الاصطناعي والعمل على تجاوزه، ليس كهروب للأمام، بل كوسيلة للمحافظة على مركزية بشرية من نوعٍ ما.
أما نحن، في كل الدول الأقلّ تطوراً من الناحية التقنية، فإن هذا التحليل يجب أن يحفزنا لتحقيق تطور علمي يُمكِّننا من المساهمة في عملية الإنتاج، بدل الاقتصار على الاستهلاك الذي يضعنا على هامش العالم، ليس اقتصادياً فقط بل سياسياً أيضاً كما يَظهرُ في غياب الديمقراطية وقدرة الفعل الدولية، وهو موقعٌ هامشي سيجعل من التغيرات في شكل السيادة المُضمَر المُرافِق للتطورات المتوقعة في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي صدمةً أخرى تتلقاها مجتمعاتنا، كما تَلقَّت كل الصدمات التقنية الأخرى، وإن كان يُخشى أن يكون لها أثرٌ أكثر جذرية من موجات التطورات التكنولوجية التي شهدناها في المئتي سنة الأخيرة.