غالبًا ما تشهد آثار الكوارث تدفُّقًا ملحوظًا للدعم من الأفراد والمجتمعات حول العالم. تُوفِّرُ منصات وسائل التواصل الاجتماعي مساحة لازدهار جهود جمع التبرعات على مستوى القاعدة الشعبية، حيث يتجمّع عدد لا يُحصى من الأفراد والمنظمات معًا لتقديم المساعدة والدعم للمتضررين.
في الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في شباط (فبراير) من العام الماضي، لعبت مجموعات وسائل التواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في تحديد أماكن الأشخاص المفقودين، وتوفير المأوى للمدنيين النازحين، وتنسيق جهود الإنقاذ، حيث أظهرت هذه الجهود قوة العمل الجماعي والتضامن في أوقات الأزمات. ومع ذلك، وسط الجهود الحقيقية لتقديم المساعدة، هناك أيضًا حالات من الاستغلال والاحتيال، حيث استخدمَ البعض وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات جمع التبرعات للتكسُّب من هذه الكوارث، من خلال إنشاء جمعيات خيرية وهمية واستغلال حُسن نية المتبرعين.
في غزة، في ظلّ الجوع والبرد والنزوح والدمار والقتل المستمر (تجاوزَ عددُ القتلى أكثر من 34 ألف فلسطيني)، ومع الحديثِ عن استعدادات الحكومة الإسرائيلية لتنفيذ عملية برية في رفح، المدينة الواقعة في جنوب قطاع غزة على الحدود المصرية، والتي تُشكل ملاذًا أخيرًا لـ1.4 مليون نازح من الحرب، يحاولُ الآلاف من سكان غزة مغادرة القطاع بأي ثمن.
أطلقَ البعضُ حملات تمويل جماعي لجمع الأموال اللازمة لتأمين خروجهم أو خروج أهلهم من القطاع عبر معبر رفح إلى مصر، وهو الطريق الوحيد لخروج الناس، حيث تصل المبالغ المطلوبة للفرد الواحد إلى عشرة آلاف دولار كـ«رسوم تنسيق» يتم دفعها لشبكة سماسرة على صلات مزعومة بأجهزة المخابرات المصرية لوضع أسمائهم على القوائم. لجأَ آخرون إلى منصات التمويل الجماعي مثل GoFundMe لطلب المساعدة في تأمين العلاج الطبي في الخارج، أو الحصول على أموال لإعادة بناء المنازل التي دمرتها الغارات الجوية الإسرائيلية. وقال متحدث باسم منصة GoFundMe لمجلة تايم الأميركية إن المنصة شهدت إطلاق أكثر من 12000 حملة لجمع تبرعات للفلسطينيين في غزة منذ 7 أكتوبر، حيث تم جمع 77 مليون دولار بشكل جماعي حتى الآن، مُشيرًا إلى أن هذه الحملات تهدف في معظمها لجمع تبرعات للخروج من غزة، إضافة إلى تمويل الوصول إلى الإغاثة الإنسانية مثل الرعاية الطبية والغذاء وغيرها من الحاجات الأساسية.
لا يمكن إنكارُ مدى إلحاح هذه المناشدات، حيث يواجه الأفراد مواقف حياة أو موت حرفيًا، إما البقاء والموت جوعًا أو قصفًا أو مرضًا، وإما الخروج للنجاة. ولكن في هذا المشهد من اليأس والحاجة، تبرزُ ديناميكيات «التأثير» إلى الواجهة. وفي حين أن الدوافع وراء اللجوء للتمويل الجماعي وتسييل الصراع هي بلا شك متجذرة في الحاجة الحقيقية، فإن عدم المساواة في الوصول إلى الموارد والفُرَص يثير معضلات أخلاقية، فأولئك الذين لديهم الوسائل والتواجد عبر الإنترنت لحشد الدعم من خلال التمويل الجماعي وغيره قد يجدون أنفسهم قادرين على الخروج أو الحصول على المال للخروج أو العلاج أو السكن، في حين لا يحصلُ أولئك الذين لا يتمتعون بهذه الامتيازات على فُرص النجاة نفسها.
عدم المساواة وتسليع المعاناة
في السنوات الأخيرة، أصبحت منصّات التمويل الجماعي عبر الإنترنت مصادرَ أساسية للتبرعات والجهود الخيرية لجمع الأموال لكل شيء، بِدءًا من تمويل الدراسة في الخارج والإجراءات الطبية إلى تمويل شراء الأسلحة والمعدات العسكرية للجيش كما في حالة أوكرانيا. وفي حين أن التمويل الجماعي يوفر شريان حياة مُحتمَل للأفراد الذين يعيشون في ظل حرب أو كارثة إنسانية، وقد يزودهم بالوسائل اللازمة للنجاة من الخطر أو تأمين الإمدادات الأساسية، فإنه يُساهم بجزء منه في توسيع عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية. بشكل عام، يميلُ التمويل الجماعي إلى تفضيل أولئك الذين لديهم دوائر اجتماعية واسعة أو لديهم عدد متابعين أكبر على منصات التواصل الاجتماعي، كما تتطلّب هذه الحملات في العادة بعض المهارات مثل إجادة اللغة الإنكليزية والذكاء الإعلامي لكتابة قصص «عاطفية أو جذّابة» للمُتبرعين المحتملين حول سبب استحقاقهم للمساعدة.
يرى جيريمي سنايدر، أستاذ جامعة سايمون فريزر وخبير الأخلاقيات الحيوية، في كتابه مناشدة الجماهير: الأبعاد الأخلاقية والسياسية والعملية للتمويل الجماعي القائم على التبرعات، أن التمويل الجماعي عبر الإنترنت قد يُقدِّمُ المساعدة في تلبية الاحتياجات الفورية، ولكنه يُثير قضايا أخلاقية تتعلق بزيادة عدم المساواة الاجتماعية القائمة، ولا يحلّ المشكلات الأساسية أو النظامية التي دفعت الفرد للّجوء للإنترنت.
ويقول سنايدر في مقابلة منشورة على موقع جامعته بأن «التمويل الجماعي يَعكس عدم المساواة الموجودة داخل مجتمعنا. يمكن للأشخاص الذين يعيشون في مجتمعات ثرية نسبيًا ولديهم شبكات من الأصدقاء والعائلة والمؤثرين الاستفادة من هذه الروابط من خلال التمويل الجماعي. بالمقابل، فإن الأشخاص الذين يعيشون على هامش المجتمع ويعانون من التمييز عادة ما يحققون نجاحًا أقل». يُشير سنايدر إلى نقطة مهمة أخرى، وهي أن القائمين على حملات التمويل الجماعي يُواجهون ضغوطًا كبيرة لمشاركة تفاصيل حميمة عن حياتهم الشخصية وحاجاتهم علنًا، وهو ما يُهدّد خصوصية الفرد وأمنه الشخصي، وقد يعرّضون أنفسهم للاستغلال أو الأذى المحتمل.
مشاركة التفاصيل الشخصية على منصة التمويل الجماعي لطلب الدعم المالي تتجاوز المخاوف المتعلقة بالخصوصية والأمن؛ ويمكن أن تؤثر أيضًا على شعور الفرد بالكرامة وتقدير الذات، فقد يجد الأفراد أنفسهم يتصارعون مع مشاعر الإحراج أو الذنب عندما يكشفون عن تجاربهم الأكثر خصوصية وحميمية للتدقيق العام، حيث يضطر هؤلاء إلى تحويل «معاناتهم إلى سلعة» على أمل الحصول على الدعم. من هنا، فإن ديناميكيات المنافسة والتسليع الموجودة في منصات التمويل الجماعي تعكس جوانب من نظرية كارل ماركس في الاغتراب، وتُسلّطُ الضوء على التفاعل/العلاقة ما بين الرأسمالية والتكنولوجيا والتجربة الإنسانية.
تفترض نظرية ماركس عن الاغتراب أنه في المجتمعات الرأسمالية يصبح الأفراد مغتربين بشكل متزايد عن منتجات عملهم، وعن عملية الإنتاج نفسها. ويحدث هذا الاغتراب من خلال عدة آليات، بما في ذلك تحويل جهود العمال إلى سلعة يمكن شراؤها وبيعها في السوق. في سياق التمويل الجماعي، يقوم الأفراد في الأساس «ببيع» قصصهم الشخصية وتحويل المعاناة الإنسانية والصدمات إلى «محتوى قابل للتسليع»، حيث تُصبح التجارب الشخصية للألم والصدمات «مُشيَّئة» ويتم تسويقها من أجل الربح غالباً من قبل أولئك الذين لديهم المزيد من السلطة والموارد. الطبيعة التنافسية للتمويل الجماعي، حيث يتنافس الأفراد على الاهتمام والدعم من المانحين المُحتمَلين، يمكنُ أن تؤدي كذلك إلى تفاقم هذا الشعور بالاغتراب. في سوق مُشبَع بالقصص الشخصية عن المشقة والمعاناة، قد يشعر الأفراد بالضغط لإضفاء «الإثارة» على تجاربهم من أجل التميُّز وجذب التبرعات.
الشفافية
تُشكِّلُ الشفافية والمُساءلة قضية مهمة أخرى فيما يتعلق بالتمويل الجماعي وجمع التبرعات، بالنظر لسياقات مشابهة يمكن فيها إساءة استخدام الأموال أو اختلاسها، في ظل غياب الرقابة والشكوك حول ما إذا كانت المساعدات تصل إلى المستفيدين المستهدفين، خاصة في ظل الصراعات النَشِطة. في سوريا، حيث خلَّفَت الحرب ملايين النازحين والمحتاجين، أُثيرت أسئلة حول شفافية حملات الإغاثة وعدم العدالة في توزيع المساعدات (تَجاهُلُ شمال غرب سوريا مثلًا)، وحول أنّ الأموال قد لا تصل دائمًا إلى المستهدفين أو أنها تصل لشركات مملوكة لأفراد لديهم سجلات مثيرة للقلق في مجال حقوق الإنسان، إضافة إلى اتهامات لإدارات بعض المنظمات باختلاس أموال تحت مسمى «نفقات إدارية أو تشغيلية».
عدم الشفافية في توزيع المساعدات الإنسانية الضرورية التي تصل من الخارج عبر التبرعات هو جانبٌ أساسي آخر، وهو ما يقفُ وراء تَشكُّك الصحفي الفلسطيني سالم الرَّيس، الذي عاش كل تفاصيل الحرب ونزح مع عائلته إلى رفح، في جدية الحملات التي تهدف لإيصال المساعدات الإنسانية لغزة: «هناك الكثير من الأسئلة، مَن الجهة التي تستقبل أموال التبرعات لتوزيعها؟ لا يوجد جهات اختصاص أو رقابة على عمل هذه الجهات أو المؤسسات. وبحسب اطّلاعي ومُشاهدتي لعمل البعض، هناك سرقات كبيرة وأموال بآلاف الدولارات لم تُوزَّع على مستحقيها».
يُشير الرَّيس في مقابلة مكتوبة إلى أن غالبية الحملات التي هو على دراية بها هدفت للحصول على تبرعات بمبالغ مالية كبيرة بهدف السفر أو الخروج من غزة، «أي دفع رشوة حلال»، كما يَصفُها، لتنسيق سفر فرد أو أفراد من العائلة عبر معبر رفح. وعن ذلك يقول: «بالنسبة لي، أرى ذلك ضمن خطة تفريغ لمئات أو آلاف السكان من قطاع غزة، تفريغ مدفوع من جهات وأفراد في الخارج بحجة الحفاظ على الأرواح». ويُضيف: «هناك جانب غير عادل كذلك. مثلًا الناس إللّي ما بتعرف طريقة عمل رابط والحصول على تبرعات، هل يعني إنه راحت عليهم وحلال قتلهم؟».
ولكن هل تختلف المبررات الأخلاقية لطلب المساعدة للخروج من أجل العلاج لآلاف الجرحى والمرضى، بعد استهداف وتدمير النظام الصحي مثلًا، مقارنة بإعادة بناء منزل مُدمَّر؟ يتفق الرَّيس أن طلب المساعدة للعلاج الطبي أكثر إلحاحًا وإنقاذًا للحياة، في حين أن إعادة بناء منزل أقل أهمية بالمقارنة. ولكن السؤال هو من الذي يحدد إن كان ينبغي توجيه الموارد نحو احتياجات البقاء المباشرة مثل الرعاية الصحية والغذاء، أو نحو إعادة بناء البنية التحتية والمنازل لتحقيق الصمود على الأرض؟
يقول الرَّيس: «هناك بلا شك مبررات وحاجات أساسية لتأمين خروج المرضى من غزة، لكن هذا لا ينفي وجود عدم مساواة واضحة كذلك. قدرة البعض على الحصول على تمويل، ودفع مبلغ مالي مرتفع يتجاوز 5 آلاف دولار للشخص الواحد، حتى لو كان مريضًا، أدّت لقيام بعض الجهات بوضع أسماء من يدفع على قائمة الخروج على الحدود المصرية على حساب من لم يتمكن من الدفع؛ بمعنى أنه لا عدالة حتى في ملف المرض. والدتي مريضة فشل كلوي ونعاني بشكل كبير لتوفير الحد الأدنى لها من جلسات الغسيل الكلوي، ولكن لم أفكر أبدًا بالقيام بحملة لجمع تبرعات، وهناك كثيرون مثلي». ويُكمل: «أما بخصوص الحملات التي تهدف للتعويض عن هدم منزل أو خسارة عمل، الحرب لم تنته، لماذا يريد البعض الحصول على التعويض الآن؟ وهل هناك أوراق رسمية تثبت قيمة الدمار/الخسارة مثلًا؟».
تعقيدات لوجستية
بعيدًا عن التساؤلات الأخلاقية، يجب الاعتراف بمحدودية قدرة حملات التمويل الجماعي وجمع التبرعات على تلبية الاحتياجات بشكل فعّال. وعلى الرغم من أنها بمثابة الملاذ الأخير للكثيرين، إلا أن نسبة كبيرة من الحملات تفشل في تحقيق أهدافها، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة واشنطن عام 2021 أن 12 بالمئة فقط من الحملات المُستضافة بين عامي 2016 و2020 حققت أهدافها، في حين أن 16 بالمئة لم تتلقَ أي تبرعات على الإطلاق.
تشتد حدة التعقيدات بشكل خاص بالنسبة للفلسطينيين في غزة، حيث يعتمد كثيرون على جهات الاتصال في الخارج للمساعدة في إعداد الحملة وتلقي التبرعات نيابة عنهم. ونظرًا لأنه لا يمكن استخدام منصة GoFundMe إلا في 19 دولة، فإن العديد من الحملات المتعلقة بغزة يتم إعدادها في أوروبا أو أميركا الشمالية بحسب تقرير مجلة Time. يعتمد آخرون على حسابات PayPal المُسجّلة في أماكن أخرى، حيث أن الشركة لا تقدم خدماتها في غزة أو الضفة الغربية المحتلة.
هذا الترتيب يأتي مع مجموعة من العقبات النظامية واللوجستية. أحد التحديات الأساسية هو هيكل الرسوم الذي يتم تفرضه من قبل GoFundMe وPayPal، واللّتين تفرضان رسومًا على المانحين قدرها 30 سنتًا لكل مساهمة وتحتفظ بنسبة 2.9 بالمئة من إجمالي التبرعات كرسوم على النظام الأساسي الخاص بها (ترتفع الرسوم للمعاملات الدولية). في حين أن PayPal يغطي رسوم المعاملة إذا تم جمع الأموال لصالح مؤسسة خيرية، إلا أن هذه الرسوم لا يزال من الممكن أن تؤثر بشكل كبير على مبلغ الأموال التي يتلقاها منظمو الحملة. كذلك، تضيف الحالات التي يقوم فيها GoFundMe بتجميد الحسابات أو إغلاق PayPal للحسابات دون تفسير طبقةً أخرى من الصعوبة، حيث ذكر البعض لـبي بي سي أن GoFundMe قامت بتجميد حساباتهم لعدة أيام فيما تم إغلاق حسابات آخرين على PayPal لأسابيع دون تفسير.
في حال تم جمع المبالغ المطلوبة، التحدي الأكبر والأهم هو كيفية إدخالها إلى غزة. تسببت الحرب الإسرائيلية على غزة بتدمير معظم أجهزة الصرّاف الآلي، ولم يتبق سوى عدد قليل من خدمات ويسترن يونيون في المناطق المنكوبة. وعليه، يُضطر منظمو الحملة للاعتماد على أفراد العائلة والأصدقاء في الخارج لتوصيل الأموال بشكل مباشر أو غير مباشر إلى وسطاء في القاهرة، بما في ذلك احتمال خسارة الأموال في التحويلات ومواجهة الرشوة أو الفساد على طول الطريق.
ضمن كل هذه السياقات المُترابطة، تُمثّل المناقشات حول أخلاقيات التمويل الجماعي في حالات الصراع مُعضلة معقدة. فمن ناحية، هناك قلق من أن إثارة أسئلة أخلاقية قد يؤدي عن غير قصد إلى ثني المانحين المُحتملين عن دعم قضايا محقّة أو إلى وصم الأفراد الذين يحتاجون حقًا إلى المساعدة. بالمقابل، إنّ تَجاهُلَ هذه الجوانب، أو التغاضي عنها، يمكن أن يؤدي إلى تحويل الموارد بعيدًا عن أولئك الذين يعانون حقًا ولا يملكون الموارد أو العلاقات لطلب المساعدة.
إن انتقاد الأبعاد الأخلاقية للتمويل الجماعي ليس إدانة أو إصدارًا لأي أحكام على الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة في ظروف حياة أقل ما يقال عنها بأنها مستحيلة، بل هو اعترافٌ بالمظالم الهيكلية الأوسع التي تنتج عنها، وكذلك بالعوامل النظامية التي تسببت بها، بما فيها وحشية الحرب والاحتلال والحصار وأنظمة الحكم التي أجبرت كثيرًا من الناس على البحث عن حلول فردية.