مقدمة
هيمنَ الجدلُ حول العقوبات أحادية الجانب على سوريا، التي فُرضت رداً على الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد، على العديد من المحافل الإقليمية والدولية. وناقشت الجهاتُ الفاعلة، من المجتمع المدني إلى المجتمع الإغاثي والمؤسسات متعددة الأطراف وغيرها، تأثيَر العقوبات على سوريا، وفي الوقت نفسه مدى شرعيتها. ما تفتقده هذه المناقشات وضوحاً هو مناقشةٌ أكثر واقعية للتدابير التي ينبغي على الدول الخاضعة للعقوبات اتّخاذها.
فبينما يجادلُ البعض في أن العقوبات على سوريا تعرقل العمليات الإنسانية وتنتهك حقوق الشعب السوري، يرى البعض الآخر أن فساد النظام السوري وعنفه هما المسؤولان الرئيسيان عن أي آثار سلبية على حقوق الإنسان ووصول الخدمات الأساسية؛ يتجلّى أسلوب العمل هذا في إخضاع المساعدات الإنسانية للصفقات العسكرية والسياسية.
غنيٌ عن القول أن الدول التي تفرض العقوبات مُلزَمة حسب القانون الدولي بضمان ألّا تُسفِرَ أنظمة عقوباتها عن آثار سلبية على حقوق السكان المدنيين في الدول المُستهدَفة. تسعى هذه المقالة بالمقابل إلى توضيح التزامات الدول الخاضعة للعقوبات بموجب القانون الدولي، وإيراد أمثلة لفشل الوفاء بهذه الالتزامات الدولية.
التزامات الدول الخاضعة للعقوبات
بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، يقعُ على عاتق الدول الالتزامُ باحترام وحماية وإعمال حقوق الشعوب الموجودة على أراضيها أو ضمن ولايتها القضائية، من دون تمييز. يستتبع هذا الالتزام اتّخاذَ الدول إجراءات إيجابية لتيسير التمتع بحقوق الإنسان.
في 1997، قامت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المُكلَّفة بتفسير ومراقبة تنفيذ الدول للعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بإيضاح التالي:
«فرضُ العقوبات لا يُلغي الالتزامات ذات الصلة لتلك الدولة الطرف أو ينقصها بأي حال من الأحوال. وكما في حالات مماثلة أخرى، تكتسب تلك الالتزامات أهمية عملية أكبر في أوقات الشدة على وجه الخصوص. وهكذا فإن اللجنة مُطالَبة بأن تبحث بعناية مدى ما اتخذته الدولة المعنية من خطوات ’بأقصى ما تسمح به مواردها المُتاحة‘ لتوفير أكبر حماية ممكنة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل فرد يعيش ضمن ولايتها. وبينما تُقلِّلُ العقوبات حتماً قدرة الدولة المتضررة على تمويل بعض التدابير الضرورية أو دعمها، تظل الدولة ملتزمة بضمان عدم وجود تمييز فيما يتعلق بالتمتع بهذه الحقوق، وباتخاذ كل التدابير الممكنة، بما في ذلك التفاوض مع دول أخرى ومع المجتمع الدولي لتخفيض الأثر السلبي على حقوق الفئات الضعيفة داخل المجتمع».
بناءً على ذلك، يظلُّ النظام السوري مُلزَماً قانونياً بإعمال حقوق الإنسان للسوريين في هذا الصدد، واتّخاذ جميع التدابير الممكنة للتخفيف من الأثر السلبي للعقوبات على السكان.
ممارسات النظام السوري
في حين ادّعى النظام السوري أنه اتَّخذَ جميع التدابير الممكنة للتخفيف من آثار العقوبات، فقد ساهم في فرض مستويات معيشة غير إنسانية على المدنيين من خلال منع الوصول المتساوي والحرّ إلى السلع الأساسية والموارد الصحية، وتعزيز وحماية الفساد والمحسوبية. اتَّضحَ ذلك في عدة حالات، ولا يقتصر على الأمثلة الواردة أدناه.
في 2021، أدت الأزمة الاقتصادية في سوريا، إلى جانب الدمار الهائل الذي أصاب البنية التحتية، والهجمات التي استهدفت المخابز والمحاصيل من قبل النظام السوري وحلفائه، إلى نقص حاد في القمح. فاقمَ الأزمةَ غضُّ الطرف من قبل النظام عن التمييز في توزيع الخبز، وانتشار الفساد والقيود على الكميات المدعومة التي يمكن للناس شراؤها، ممّا أدّى إلى تفاقم الجوع. وفي العديد من الحالات، قامت المخابز المدعومة من الحكومة بالتمييز ضد النازحين داخلياً ورفضت خدمتهم. كما رَوَّجَ النظامُ لإعادة تأهيل المخابز بطريقة تمييزية، حسب الانتماءات السياسية لسكان الأحياء.
بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للنظام الصحي بسبب الهجمات المتعمدة التي شنّها النظام السوري وحلفاؤه على المستشفيات، فقد فشلَ النظام في توزيع معدات الحماية الشخصية على أطقم العاملين في مجال الرعاية الصحية أثناء جائحة كوفيد-19 بطريقة غير تمييزية. وخضعَ الوصول إلى الموارد الطبية والحصول على معدات الحماية للتمييز حسب مواقع سكن المدنيين، كما أُبلِغَ عن حدوث نقص حاد في وصول الإمدادات الطبية إلى المناطق الريفية التي كانت تخضع سابقاً لسيطرة فصائل المعارضة.
في الشمال الشرقي، تأثرت سلباً حقوق السوريين في الصحة والغذاء بسبب إغلاق معبر اليعربية (تل كوجر). وأدّت ممارسات النظام السوري في هذا الصدد إلى تحويل مسار المساعدات، وتوزيع الإمدادات الأساسية عبر الحدود بشكل تمييزي، ومنح الموافقات الانتقائية للمنظمات الإنسانية التي يمكنها العمل ضمن المناطق الخاضعة لسيطرته، والاحتياجات التي يسمح بتلبيتها.
علاوة على ذلك، أغلقت القوات الموالية للنظام حي درعا البلد في حزيران (يونيو) 2021، وحاصرت آلاف المدنيين في درعا لمدة 60 يوماً. كما منع النظام المنظمات الإنسانية من تقديم الغذاء والمساعدات الأخرى.
في أعقاب الزلزال الذي دمّر أجزاء من سوريا في شباط 2023، استغلَّ النظام السوري الأزمة من خلال دعوته إلى رفع العقوبات، وتلاعبه بإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة. استغرق النظام أسبوعاً كاملاً قبل أن يسمح بوصول المساعدات المُنقِذة للحياة عبر الحدود، وأعاقَ وصولها إلى الناجين في مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال الشرقي للبلاد. إضافة إلى ذلك، حظر النظام وصول الوقود والخيام والمواد الغذائية والمستلزمات الطبية والمعدّات إلى الأحياء الكردية في مدينة حلب؛ ثم هاجم المناطق المتضررة في الشمال الغربي، مُسفِراً عن سقوط ضحايا مدنيين وإلحاق الضرر بالبنى التحتية المدنية.
بحسب الوزير السوري للاقتصاد والتجارة الخارجية، فإن التحايل على العقوبات أصبح «حِرفة سورية». يدحضُ هذا البيان رواية النظام بأن العقوبات هي المُسبِّبُ الرئيسي للأزمة الإنسانية والاقتصادية في سوريا.
خاتمة
إن النظام السوري يفشلُ بشكل واضح في التزاماته القانونية الدولية بالتخفيف من أثر العقوبات وإعمال حقوق الإنسان للسوريين دون تمييز. ويُشكِّلُ الفساد الذي يتغلغل في هياكل الدولة عائقاً رئيسياً أمام التمتع بحقوق الإنسان في سوريا. يتبجّحُ نظام الأسد بنجاحه في التهرُّب من العقوبات، ويُحمِّلُها في الوقت نفسه مسؤولية معاناة السوريين.
إن المناقشات الحالية حول العقوبات المفروضة على سوريا تُعزِّزُ في الغالب رواية النظام، في حين تقع المسؤولية الأساسية عن حماية السوريين على عاتقه. لذا، من المهم أن يأخذ الخطاب في الاعتبار الالتزامات القانونية الملقاة على عاتق النظام السوري، وفشله في الوفاء بها.