«شهدت سنة الـ48، ولادة جديدة لأم علي، حين دُفعت وعائلتها خارج طبريا وداخل التاريخ». تتوالى صور وفيديوهات أرشيفية من النكبة في فيلم باي باي طبريا، فيلم السينمائية الفلسطينية – الجزائرية لينا سويلم الذي افتَتح فعاليات مهرجان الدورة الخامسة عشر للفيلم العربي في برلين، لتشكِّل ما يشبه توطئة بصرية تاريخية لمشهد فلسطيني معاصر خيّم بثقل فظائعه على برنامج المهرجان، الذي اتخذ قرارات سياسية تقيم الصلات بشكلٍ فاعلٍ مع ما يحدث في هذه اللحظة من التاريخ على الأراضي الفلسطينية، وتنضم لموجة مستمرة من المقاومة الثقافية في ألمانيا، بما يخص العمل الثقافي والنشاط الحقوقي الفلسطيني، المستمرة منذ عقود والتي تكثّفت في الأشهر الأخيرة.

«لم يكن الحديث عن فلسطين في ألمانيا سهلاً يوماً، لكنه اليوم يكاد يكون مستحيلاً»؛ جاء هذا في كلمة مديرة المهرجان باسكال فخري في أمسية الافتتاح. «يعيش القطاع الألماني الثقافي حالة من الرعب والرقابة، الرقابة الذاتية بدأت تتحول إلى أمرٍ اعتيادي».

منذ تأسيسه عام 2009، أفرد مهرجان الفيلم العربي في برلين مساحة كبرى من برنامجه للسينما الفلسطينية. «لأن القضية الفلسطينية جزء محوري من الهوية العربية» بحسب ما أضافته باسكال فخري في كلمتها.

سيرة سينمائية للنكبة

في مشهدٍ حافلٍ بالمفارقات، دارت أفلام المهرجان في صالات سينمائية في برلين، التي تُخيّمُ على الشوارع خارجها مشاهدُ الرقابة والملاحقة والترصّد لأشكال النشاط والتضامن مع الحق الفلسطيني، وبالتزامن مع فض الشرطة الألمانية لاعتصام خيّمَ أصحابه أمام مبنى البوندستاغ – البرلمان – الألماني. فصلت بين عروض الأفلام على الشاشات فواصل رقمية فنية مستوحاة من ألوان العلم الفلسطيني.

عائلاتٌ تَهيمُ على وجهها دون هدىً وشبّان في وضعية استسلامٍ أمام حواجز عسكرية منشأة حديثاً تقطّع أوصال الأراضي المحتلة. بَدَت هذه المشاهد الأرشيفية من النكبة كقطعةٍ مكمّلة لمشهد الكولاج الذي يرسمه فيلم باي باي طبريا، الذي يسرد عبر سيرةٍ عائلية جزءاً من تاريخ الاحتلال والشتات الفلسطيني الممتد حتى مخيم اليرموك وأوروبا خلال العقود التي تلت النكبة. قد يتساءل المرء عما يمكن أن يضيفه فيلم سيرة عائلية آخر، ولكن فيلم باي باي طبريا لا يبدو معنياً بسرد عِبَرٍ من السيرة العائلية، بقدر ما يحاول تتبع ملامح غنية بالتفاصيل من حيوات نساء أربعة أجيال، كلّ حياة منها تُجسّد ملمحاً من ملامح سيرة النكبة المستمرة حتى اللحظة؛ من تمزق شمل العائلة، حيث تنتهي إحدى بنات أم علي، الجدّة الكبرى للعائلة، بمفردها خارج الحدود في سوريا ويبقى جزء من العائلة ضمن حدود دولة الاحتلال الناشئة حديثاً، إلى الارتحال من قرية إلى قرية تحت وطأة الأحداث الطاحنة لمعارك الاحتلال الأولى، والوقوف على حدود دول مجاورة وأمام خيارات ستؤثر على مسار حياة بأكمله، بين قطع الحدود والهجرة أو التشبُّث بالأرض والقرب قدر الإمكان من مكان الارتحال.

تُمثِّل مشاهد تركيب صور ومواد أرشيفية على لوح زجاجي إعادة تشكيلٍ رمزية لتاريخ الحق المهدور الذي سلب هذه العائلة مسار حياة اعتيادي. تلعب والدة المخرجة الممثلة الفلسطينية هيام عباس دوراً محورياً فيه وتسرد صفحات من تاريخ عملها مع مسرح الحكواتي.

لم تسلَم صالات السينما التي استضافت عروض المهرجان من مضايقات رسمية شكّلت ظاهرة في الآونة الأخيرة لأنشطة مشابهة، حيث بات من العادي أن تتلقّى دور العرض التي تستضيف فعاليات فلسطينية اتصالاتٍ من الشرطة تتراوح بين الاستجواب والتهديدات المبطنة. وكانت الشرطة قد منعت في وقتٍ سابق إقامة مؤتمرٍ فلسطيني باقتحام مبنى المؤتمر وقطع الكهرباء عن القاعة.

أشخاص غير مرغوب بهم

«نستيقظ كل يوم لنسأل أنفسنا هل لا يزال هناك مكان لنا في هذه البلاد؟ نسأل أنفسنا كمهرجان وكأفراد داعمين للقضية الفلسطينية». في اختيارات تحمل صدى أسئلة مشابهة، وَرَدَت في كلمة افتتاح المهرجان، حمل أحد برامج خيارات الأفلام عنوان برسونا نون غراتا أو منبوذون ومنبوذات. برسونا نون غراتا هو مصطلح قانوني لاتيني يستخدم لتوصيف الأشخاص غير المرغوب فيهم-ن، ويعبر كعنوان لهذا الجزء من برنامج الخيارات عن شتّى أشكال ومستويات التهميش والنبذ التي تواجه شخصيات الأفلام والناجمة عن صدامهم مع بنى مسيطرة سياسياً واجتماعياً. برزت ضمن خيارات هذا القسم أفلامٌ مثل وداعاً جوليا السوداني لمحمد كردفاني، مسلطاً الضوء على العنصرية التي يواجهها سكان جنوب اليمن. ووثائقي كازابلانكا لأدريانو فاليريو الذي يلامس قضية الهموم اليومية والإجرائية للمهاجرين في أوروبا عبر قصة المغربي فؤاد المقيم في إيطاليا، ووثائقي لن تتركنا الطيور لمحمد صبّاح ودانيال ديفي الذي يتناول موضوع الأمراض الجنسية المعدية بالبناء على شهاداتٍ حقيقية جمعها المخرجان لنساء ورجال من بيروت يتحدثون فيها عن تجاربهمن مع عدوى الأمراض المنقولة جنسياً.

فلسطين التي لا حدود لها

«لا حدود لفلسطين» كما يورد السينمائي اسكندر عبد الله في بيان برنامج بقعة ضوء: هنا هو مكان آخر اقتباساً عن المخرج الفلسطيني إيليا سليمان، والذي يحضر فيلمه إن شئت كما في السماء ضمن خيارات هذا البرنامج.

توجد فلسطين «وإن أعازتها السيادة الإقليمية. توجد وإن افتقرت إلى حدود متفق عليها، إلى معابر ممهدة ومفتوحة. توجد فلسطين في تفاصيل الصور، في تتابعها بعقولنا، في تمثُّلاتها بوجداننا، فيما احتفظنا به داخل سرائرنا من خبرات وتجارب».

انطلاقاً من هذه الرؤية تحضر الخيارات السينمائية التي تتناول فلسطين وقضيتها في البرنامج، دون حدّها بفضاء جغرافي وبمسارٍ دون غيره من مسارات دعمها ومناصرتها، بأصواتٍ وعدسات أدارها سينمائيون وكتّاب من كافة بقاع العالم، فمن مشاهد مخيمات الفدائيين والتأملات في شكل الممارسات والنضال السياسي آنذاك، كما تحضر في فيلم جان لوك غودار هنا وهناك، إلى أفلامٍ كلاسيكية عربية تناولت القضية الفلسطينية مثل فيلم المخدوعون لتوفيق صالح عن رواية غسان كنفاني رجال في الشمس، وفيلم باب الشمس ليسري نصر الله والمنام لمحمد ملص.

بالإضافة إلى أفلامٍ أحدث عهداً، تتناول القضية من منظورٍ أقرب زمنياً وبعد عقود على ترسيخ ممارسات ممنهجة لكيان الاحتلال؛ مثل فيلم الـ54 سنة الأولى – دليل مختصر للاحتلال العسكري (2021) لآفي مغربي.

صوت الآخرين

قدّم المهرجان فرصة للاطلاع على المنتجات العربية من الأفلام القصيرة والتي قلّما تجد مساحةً للعرض والنقاش خارج إطار المهرجانات المشابهة، وبرز من بينها فيلم صوت الآخرين لفاطمة كاشي، والذي برهن عن إمكانية وجود زاوية جديدة قادرة على التقاط تفاصيل حساسة لقضايا سبق وأن تم تناولها كثيراً؛ مثل الظرف الحياتي والإجرائي الهش للمهاجرين، من خلال شخصية مترجمة تواجه هذا الواقع متسللة بين الثغرات المتاحة الممكنة في القواعد المهنية الصارمة المفروضة عليها لدى حضورها كمترجمة جلسات تدوين الشهادات مع اللاجئين واللاجئات. كذلك تميّز الفيلم اللبناني إذا الشمس غربت في بحر الغمام لوسام شرف بتقديمه لرؤية مبتكرة لعلاقات القوة والسلطة في إطار ساخر، عبر قصة حارس في موقعٍ أعمال إنشائية على شاطئ بيروت، مهمته منع المارة من التنزه على الشاطئ والوصول إليه.

على خصوصية مسار مهرجان الفيلم العربي وتمسُّكه منذ تأسيسه بتحويل برنامجه إلى مساحة للتعبير الفلسطيني سينمائياً، لكنه اليوم وتحت وطأة الظرف السائد، لا يختلف عن أي فعالية ثقافية عربية تختار ألمانيا وبرلين تحديداً مكاناً لها، من حيث تحوله إلى مساحة نضالية تتشبث ببقايا فسحة للتعبير تتقلص يوماً بعد يوم، بمواجهة منظومة قمع تشتبك فيها الحكومة – مصدر التمويل الرئيسي – مع المؤسسات الثقافية المتواطئة والصامتة والشريكة، وكذلك تشترك مع بقية هذه الفعاليات، التي تقف على خط المواجهة، في الوقوف أمام تحدي إيجاد توازن بين لعب هذا الدور الناشطي مع المحافظة على حيوية اختيارات برامجه وسويتها الفنية، في أجواء حوار وتفاعل تبدو عقيمة حتى اليوم في ألمانيا.