لا مثال يحكي قصّة السينما السورية خلال حوالي الـ40 سنة الفائتة كمثال المُخرج السينمائي السوري عبد اللطيف عبد الحميد الذي غيّبه الموت قبل أيام في دمشق. حيث شكّلَ المُخرج انعكاساً بالغ الوضوح لمجموعة كبيرة من قيم ومعايير هذه السينما إن لم يكن لكلّها، من معيار انتمائها الخالص، منذ عقود، إلى البيئة المحليّة بأدوات الواقعية السوفييتية، إلى انتمائها القيمي الوفي للقطاع العام ومِن خلفه السلطة السياسية بطبيعة الحال. كما أنه كان انعكاساً للاستثناء في هذه السينما أيضاً، بمعنى أن تُصبح السينما السوريّة العامة سينما شبّاك تذاكر يوماً ما، فهذا يعني غالباً أن الفيلم من إخراج عبد اللطيف عبد الحميد.
مصادفة «الفيلم الجماهيري السوري» هي العامل الأول والأهم في إعطاء عبد الحميد فرادةً ما مقارنة بزملائه من السينمائيين السوريين في مطلع تسعينيات القرن الماضي. فتلك المصادفة التي نادراً ما تحدث في سينما تُنتَج بإشراف الدولة، لغايات إيديولوجية بالدرجة الأولى، ودون الاهتمام بالربح، إن حدثت فإنها تُشير بلا شك إلى صانع ذكي، يحاول استخدام أدواته ضمن المُتاح والمسموح، ليقدّم صورة جذّابة ولافتة وقادرة على الحشد أمام صالات السينما. وستحقق له بالتأكيد مكانة مرموقة إذا ما التزم بالقيم الكبرى للفن من وجهة نظر النظام السياسي، وستسخّر له الأدوات للمزيد من الأفلام. وهو ما حدث في حالة عبد اللطيف عبد الحميد.
وُلِدَت جماهيريّة رسائل شفهيّة 1991، وقبله وأقل منه ليالي ابن آوى 1988، مِن قدرة عالية على رسم وضبط الشخصيات النمطيّة في الريف العلوي السوري الذي ينتمي إليه المخرج، والذي أدرك باكراً قُدرته على تحويل حكاياته وشخوصه النمطيّة إلى أفلام ممتعة، فيها من الكوميديا ألوان متعددة، ومن التراجيديا قصص مُحمَّلة برسائل مؤثّرة واقعيّة، ورسائل تعبويّة شموليّة لا شك في أنها كانت بطاقة مرور الفيلم من السلطات الرقابيّة، التي لم تكفّ يوماً عن منح الأفضليّة لعبد اللطيف عبد الحميد، منذ أوّل أفلامه وحتى آخرها.
حاول عبد الحميد مراراً الخروج من عباءة النمط الذي كلّما كسا أفلامه به، كساه الجمهور به أيضاً. كان كلّما خرج من الضيعة عاد إليها بطريقة ما، فلا الرومانسية المدنيّة في نسيم الروح منحته طريقاً جديداً في السينما، ولا السريالية في صعود المطر كانت بيئة فنيّة يمكنه أن يقدّم من خلالها نفسه كمخرج يمكنه اللعب بعيداً عن بيئته الأولى. أفلامه التي ليست من بطولة أب علوي قاسٍ وامرأة علويّة مستضعفة وحولهما فلاحو الجبال الفقراء، كانت أقل شأناً، بل وأقل قيمة واحترافية من مثيلاتها لدى صانعين سوريين آخرين، من أمثال الراحل نبيل المالح ومحمد ملص.
رسمت القرية الحدود المُثلى لعدسة عبد الحميد، واللهجة العلويّة المنطوقَ المثالي لقرّاء الحكاية، في فترة كانت فيها تلك اللهجة أداة سلطة بطريقة ما، يستخدم أقوى قافاتها ضُبّاط ورجال أمن، ويتلو شعارات البعث فيها مسؤولون وأمناء فرق حزبيّة يحكمون البلاد. كان لعبد الحميد أن قدّمها على لسان فلاحين بسطاء يتمسكون بالأرض التي تُعيلهم، يربطهم الراديو بالعالم الخارجي، يقتلهم الفقر والجهل والعادات البالية، ولا تزورهم المدن إلا بمخططات الهدم والترحيل والاستملاك، أو التطويع في الجيش لقتال العدو. شخوص صادقة بريئة، يُحبّها الجمهور لسنوات طويلة، يكرّر جُملَها وينتظر المزيد منها، فتفتح الجهة الإنتاجية الوحيدة الباب مشرعاً للمُخرِج ليصنع المزيد، فيكرر ما صنعه سابقاً بأشكال مشابهة، ويعيد إنتاج الشخصيّات ذاتها مراراً بقصص تُوفِّرُ القرى، وكذلك طفولة المخرج الغنيّة بالطرقات الجبليّة والينابيع والوحل المتراكم على طريق المدرسة البعيدة، الكثيرَ منها.
كغيره من فنانين عاملين برعاية قديمة ومباشرة من قبل القطاع العام، كان مطلوباً من عبد الحميد أن يفي دَين المؤسسّة العامة بطريقة ما، فيوجّه عدسته بالاتجاه نفسه الذي تتّجه فيه بنادق الجيش السوري، لصناعة السينما التي تنتمي إلى المرحلة، وإلى طريقة النظام في التعاطي مع الراهن. ورغم محاولات عبد الحميد الواضحة للحفاظ على القيمة الفنية السينمائية في أفلامه ما بعد 2011، جاءت بقيمة متدنيّة فنياً، بما حملته من إيديولوجيا فجّة مباشرة قادرة على الحط من قيمة أي عمل فني، مهما كان الصانع محترفاً. ولعلّ الاستثناء الوحيد في هذا السياق هو فيلم العاشق، أول أفلام المخرج بعد 2011، حين قدّم نفسه بدور أب فلاح بعثي قرويّ ردد شعار البعث لعقود طويلة أمام الوادي المطل على بيته، وعندما شاخ بُحَّ الشعار وضعف الصوت، وعاد الوادي بالصدى يقول «واحد واحد واحد… الشعب السوري واحد»، الشعار الذي أطلقته شوارع الاحتجاج السوريّة. هذه المحاولة كانت أقصى ما يمكن للمخرج أن يواكب به الراهن على طريقته.
سريعاً جاءت أفلام أخرى مشى فيها المخرج في ركب سواه من المخرجين الأوفياء للنظام السوري بما قدّموه ويستمرون في تقديمه، من أفلام مُفتقِدة للقيمة الفنيّة مقابل إتخامِها بالرسائل السياسية والإيديولوجية المباشرة الفجة، ويبدو أن الميزة الوحيدة لعبد الحميد في مرحلة الرداءة السينمائية تلك، هو أنه فضّلَ ألا تمتلئ أفلامه كليّاً بالأسلحة والرصاص والدماء، وحاول الحفاظ على قصص الحب كحامل للحكاية السينمائية. بمعنى أوضح رفض أن يُنتج أعمالاً بمستويات أعمال زملائه من المخرجين، مستويات فتحت أبواب الإنتاج لهم على مصراعيها بعد 2011؛ مثل جود سعيد وباسل الخطيب اللذين أنتَجا أفلاماً فيها من الرصاص والشعارات ما يزيد عن وثائقيات حرب تشرين المُنتَجة في أقبية التلفزيون السوري.
افتقدَ عبد الحميد خصوصيّته تدريجياً في المرحلة الثانية لتجربته، أي ما بعد 2011، فما هو مطلوب قبل هذه السنة مختلف عمّا هو مطلوب بعدها. وليس القصدُ هنا الشروط الرقابية أو الرسائل المفروضة من قبل الجهة العامّة المنتجة، إنما قيمة السينما بشكل عام اختلفت في عين النظام وعين الجمهور أيضاً بعد هذا التاريخ، حيث لم يَعُد فيلم قادم من القرية بحكاية من حكايتها البسيطة اللذيذة الخفيفة والمعبّرة كافياً. ولم تَعُد تلك الشجاعة السهلة التي اعتاد عبد الحميد سابقاً الاتّصاف بها في بعض أفلامه ذات قيمة، وذلك بسبب طريقة التفريغ المحدودة والمُرخَّصة من قبل السلطة؛ كأن يمر سجين سياسي في فيلم ما، أو مسؤول حزبي غبي وفاسد في فيلم آخر. بعد 2011 كان أمام السينمائي السوري طريقان، إما أن يُنتِجَ فيلماً برعاية المؤسسة العامة أو لا يُنتج أبداً. ولم يكن غريباً عن المخرج المُدلَّل في المؤسسة أن يستمرَّ في المكان الأسهل والأمثل له للاستمرار في الإنتاج.
دافعَ عبد الحميد عن القطاع العام بقوّة في مواقع مختلفة، وفضّلَ الإنتاج فيه حين رأى أن الرقابة الحقيقية وشروط الإنتاج المجحفة تتمثّل في القطاع الخاص وليس العام، وأن الرقابة العامة على السينما في سوريا منطقيّة، ووجد المؤسسة العامة للسينما قطاعاً أبوابه مفتوحة لكل من أراد إنتاج السينما، وهو الذي عايش مرحلة كانت فيها تلك المؤسسة عقبة حقيقية أمام كثير من الحالمين بالصناعة السينمائية، مرحلة لفَظَت فيها المؤسسة مخرجين كثراً لخلافات ماليّة وإدارية وفنيّة وقيميّة أيضاً، ولفَظَت فيها البلاد عشرات المبدعين الذين اختاروا الموت في المنافي على أن يضطروا لطرق باب محمد الأحمد، مدير مؤسسة السينما ثم وزير الثقافة، الابن البار للمؤسسة الثقافية الفنية الرسميّة الطيّعة المنتمية الخالصة، صانع السينما الأهم لسنوات طويلة في سوريا.