تدفعنا النقاشات الدائرة حول المقاومة الفلسطينية وحماس ولحظة 7 أكتوبر إلى الشعور بالحاجة للعودة مجدداً إلى المقدّمات، إلى التذكير بالطغيان الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني منذ عقود، وإلى التذكير بتفاوت موازين القوى الهائل لصالح إسرائيل وحلفائها، ثم أحياناً إلى الحديث عن بديهيات مثل أن «المقاومة حق مشروع».

بالمقابل، هناك ضرورة لاستمرار نقد فصائل المقاومة وأدواتها واستراتيجياتها، ونقاش المكاسب التي تُحققها في مقابل الثمن المدفوع، لكن مع ضرورة التنبُّه إلى عدم تَحوُّلِ هذا النقد إلى مناكفة بلا طائل. يقتضي ذلك أن نضع نصب أعيننا ضرورة الإجابة على سؤال «ما الذي نريده نحن اللواتي والذين لدينا انتقادات على نموذج المقاومة الراهن؟»، وقف الإبادة؟ نظام حكم ديمقراطي؟ حل سياسي عادل؟ السلام بغض النظر عن وسائل تحقيقه؟ أياً يكن، يبقى السؤال جوهرياً، إذ يُمكننا من خلاله تتبّع البدائل الممكنة لنموذج المقاومة الحالي من أجل تحقيق هذا المُراد.

لكن قبل النقد والبدائل، لا بدّ لنا من الاعتراف أن كثيرين في كلّ مكان من العالم يعتقدون اليوم أن الأحداث التي تجري حالياً في الضفة الغربية وقطاع غزة قد بدأت مع الساعات الأولى من يوم 7 أكتوبر، وبهذا استطاعت إسرائيل حصد تعاطف دولي مكّنها من إدانة الجانب الفلسطيني بعد تصويره على أنه الطرف الدموي الشرس الذي لا يقبل السلام. وحتى بالنسبة لمن يعرفون كيف كانت الأمور قبل السابع من أكتوبر، فإن كثيرين منهم يتجاهلونه اليوم، أو يمرون عليه بشكل سريع، ليبدو كما لو أن حماس وسلاحها قد انبثقا من العدم، ولهذا فإن التذكير بالمقدمات ليس تكراراً مملاً.

التذكير بالمقدمات كضرورة

حققت حركة حماس فوزاً كاسحاً في الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، وقاد ذلك إلى إجراءات إسرائيلية ضد مؤسسات السلطة الفلسطينية التي باتت حركةٌ غير موافقة على «مسار السلام» جُزءاً منها، وإلى نزاع على السلطة بين حماس وفتح انتهى بسيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007 وبقاء الضفة الغربية تحت سلطة فتح. شدّدت إسرائيل حصارها على قطاع غزة الذي كانت قد انسحبت منه عام 2005، وأعلنته «كياناً معادياً» وفرضت قيوداً صارمة على حركة الوقود والبضائع والأفراد منه وإليه.

قد تكون بعض الأرقام مفيدة كي نتذكر ما الذي يعنيه هذا الحصار اقتصادياً ومعاشياً. قبل السابع من أكتوبر، كان الاحتلال يفرض منطقة عازلة تتراوح بين 100 و300 على طول حدود قطاع غزة، وتضمّ تلك المنطقة «العازلة» حوالي 30 بالمئة من أراضي غزة الصالحة للزراعة. كما فرضَ الاحتلال منطقة صيد محدودة في البحر، كان يُوسّعها في إطار «إعلان حسن نوايا» مؤقت، بينما يقوم في أحيانٍ أخرى بمعاقبة سكّان القطاع عبر تقليصها. وذلك في قطاع ضيق مكتظّ بالسكان، تتجاوز نسبة البطالة فيه 45 بالمئة، ويعتمد 80 بالمئة من سكانه على المساعدات. 

عسكرياً، شنّت إسرائيل أربعة هجمات عسكرية مدمّرة على القطاع خلال سنوات الحصار؛ هجمات 2008 و2012 و2014 موثقة مع أرقام الضحايا والخسائر المادية الهائلة في هذا التقرير، حيث أسفرت عن مقتل الآلاف وتدمير عشرات آلاف المنازل والمنشآت المدنية والبنى التحتية؛ أما العملية الأخيرة قبل 7 أكتوبر فقد كانت في 2021؛ وتميّزت بتركيز الجيش الإسرائيلي هجماته الجوية والمدفعية على البنية التحتية من شوارع وآبار مياه ومرافق العامة، إلى جانب المقدرات الاقتصادية والإنتاجية.

سياساً، كانت إسرائيل قد «نجت» عام 1995 بـ«أعجوبة اغتيالية» من استمرار إسحاق رابين في الحكم، وهو الذي وقَّع مع ياسر عرفات اتفاق أوسلو الذي قاد لتأسيس السلطة الفلسطينية. بعد ذلك بنحو عام وصل رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو إلى السلطة، وهو اليميني المدعوم من اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفاً والمُتحالف معه رسمياً الآن، وطوال هذه السنوات تنصّلت إسرائيل من كل مضامين اتفاق أوسلو، الذي لم يبقَ من نتائجه شيءٌ سوى سلطة عباس العاجزة في رام الله.

ومنذ وصوله إلى السلطة صرَّحَ نتنياهو مراراً أن إسرائيل لن تقبل بحل الدولتين، وأن السلطة الفلسطينية يجب أن تتخلى عن تلك الفكرة تماماً، وعليها أن تؤمن بأنها سلطتها لا تتعدى طبيعة سلطة الحكم الذاتي داخل حدود إسرائيل. وفي خطاب له في الأمم المتحدة قبل شهر واحد من أحداث السابع من أكتوبر، عرض نتنياهو رؤية إسرائيل لمنطقة الشرق الأوسط الجديد، من خلال خريطة مُسِحَت عنها أي إشارة للضفة الغربية أو قطاع غزة، ذلك بينما واصلت إسرائيل تعزيز خططها الاستيطانية في الضفة الغربية عبر السنوات، في مسعى واضح لنسف كل مفاعيل أوسلو وتقويض كل إمكانية لقيام دولة فلسطينية.

على الجانب الفلسطيني، قدّمت حركة حماس نفسها منذ البداية على أنها حركة إسلامية هدفها مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، أو على الأقل هكذا أراد لها مؤسسها وزعيمها الروحي الشيخ أحمد ياسين أن تكون. لكنها دخلت الصراع السياسي بعد أن رفضت بشدة اتفاقات أوسلو كما فعل اليمين الإسرائيلي (وهنا ليس اتهاماً مبطناً بل دعوة للتفكير)، وانتهى الأمر إلى صراع داخلي على السلطة بين حركة مؤدلجة إسلامياً، وقيادة حركة فتح الساعية للبقاء في السلطة والحفاظ على مكتسبات أوسلو. نجمَ عن ذلك تضاربٌ شديدٌ في المقاربات والمنطلقات بين هاتين الحركتين؛ واحدة تؤمن بالتفاوض مع إسرائيل لإقامة دولة فلسطين فوق أراضي 1967، لكن الحال انتهى بها إلى مجرّد جهاز أمني يقمع الفلسطينيين، وأخرى رفضت كل أشكال التفاوض في البداية استناداً إلى شعارات إسلامية، وتحولت لاحقاً إلى مناورات براغماتية أوصلتها إلى السلطة على جزء من الشعب الفلسطيني، ما أزاح عن منتقديها عبء «قدسيّتها» كمقاومة للاحتلال فقط، إذ أصبحت واحدة من السلطات الاستبدادية الكثيرة في منطقتنا.

في هذه الظروف جرت عملية السابع من أكتوبر: حكومة إسرائيلية متطرفة يمينية تعمل علناً على إنهاء الوجود السياسي الفلسطيني، وتتوالى اتفاقات التطبيع العربية معها رغم ذلك، وانقسامٌ فلسطيني بين سلطة استبدادية تحمل «خطاباً وطنياً» وتعمل فعلياً كحارس للاحتلال، وسلطة أخرى استبدادية أيضاً تحمل خطاباً إسلامياً وتقاوم الاحتلال.

نقد بلا بدائل

منذ لحظة 7 أكتوبر والنقاشات محمومة ٌحول الموقف ممّا فعلته حماس، وحول مسؤوليتها تجاه المدنيين في غزة، ودورها كتنظيم مسلح ذي أجندات غير وطنية وغير جامعة، والصراع السياسي الفلسطيني الفلسطيني القائم. يتم نقد حماس من عدة مداخل: في إسلامويتها أولاً، أي في كونها تنظيماً يحمل أجندة غير وطنية ويهدف لإقامة حكم قائم على أسس دينية؛ وفي سلطويتها ثانياً، أي سلطتها الاستبدادية على الفلسطينيين كما مارستها خلال حكمها بقطاع غزة؛ وفي عنفها أخيراً، بـ«سلاحها المُرتَهن»، أو «خياراتها غير المسؤولة» التي حمَّلَت المدنيين في غزة أثماناً هائلة برضاهم أو بغيره.

وعلى وجاهة مداخل النقد هذه، وعلى ضرورة نقاشها بشكل جدي أيضاً، فإنها تبقى ضمن الإطار النظري بشكل قد لا يتعدى أحياناً «تمني» ظهور شكل مقاومة مختلف؛ مقاومة ديمقراطية أو نسوية أو مستقلّة بمرجعية وطنية أو لاعنفية. وهذه كلها أشكال مقاومة مرجوة، لكن دون تَوافُر أدوات وأُطُر سياسية واقعية لتحقيقها. وفي حين أن المقاومة مستمرة حتماً باستمرار الطغيان، وفي ظل غياب البدائل، فإن مقاومة العنف بالعنف هي فعلاً مقاومة، حتى لو جاءت على يد قوى غير تحرّرية وبغض النظر عن أي نقد، وربما هي أيضاً المقاومة الوحيدة التي يمتلكها الفلسطينيون الآن، وعليه فإن شيطنتها وتصوّر إمكانية تجريدهم منها أمورٌ ستبقى بلا طائل طالما أنه ليس هناك بدائل على أرض الواقع يمكن المقاومة من خلالها.

في السياقات التاريخية المختلفة نماذجُ كثيرة لمقاومة مسلحة وعنيفة جاءت بنتائج إيجابية من ناحية طرد العدو أو إنهاء نظام استبدادي أو غير ذلك، لكن نتائجها على المجتمعات المقاوِمة نفسها كانت كارثية؛ وفي حالات كثيرة تم استبدال العدو الخارجي بسلطة داخلية مستبدة شديدة العدوانية، ما جعل كُثُراً اليوم يتمنَون عودة الاحتلال إلى أراضيهم لتخليصهم من سلطات بلدانهم القمعية، وهو ما نرى بعض أمثلته في الحالة السورية.

لكن متى حدث هذا في سوريا؟ حدثَ بعد أن اتّجهت بعض أطراف المعارضة السورية وجزء كبير من جمهور الثورة إلى حمل السلاح في ظل غياب البدائل، ثم تَحوَّلَ بعضهم إلى تنظيمات جهادية وسلطات ميليشياوية تبطش بالمدنيين كما الأسد. وما أفسحَ المجال أمام هذا المصير ليس بطش الأسد وحده، إذ بدأ حملُ السلاح دفاعاً عن النفس أمام مجازر مهولة وعنف رهيب مارسه النظام السوري منذ بدايات الثورة، لكن أيضاً غياب البدائل الواقعية التي يمكن من خلالها ردّ الطغيان، وكذلك الاستهانة بالمسار السياسي التفاوضي وإمكانياته، وتنزيهُ النفس لدى كثيرين عن الانخراط في السياسة والهربُ منها نحو الناشطية.

يمكن أن يُقال الكثير في ما سبق، لكننا في صدد عرض التشابه مع الاستعصاء السياسي في الحالة الفلسطينية، حيث يحلُم الكثيرون بحل سحري ينهي وجود الأسد كما وجود إسرائيل. لقد انتُزع منا مفهوم المقاومة بفعل السلاح وتنظيماته، وبفعل بطش الأنظمة التي تشكّل «محور المقاومة» بشعوبها. أُفرغت الساحات السياسية، وفضَّلَ كثيرون وكثيرات البقاء نظيفين على شط النقد دون الاستعداد لتحمل مشقة الدخول في المعتركات السياسية. وليس القصد هنا هو لوم الراغبين بهذا الانعزال أمام هول العنف والمذابح، وأمام ما نعرفه من ضخامة الأموال التي يتم ضخها والدعم الذي يتم تقديمه للإبقاء على الصراع العنيف قائماً، سواء لأنظمة الاستعمار والاستبداد أو لأنماط المقاومة السائدة في مواجهتها، لكن القصد هو ضرورة التفكير في سؤال: لمن نوجه نقدنا؟ وأي أهداف نأملها من نقد لا يمكن ترجمته إلى برامج عمل واقعية؟ 

المقاومون يقاومون، بالشكل الذي يعرفونه ويتبنّونه ويؤمنون به، وإن لم تكن تلك المقاومة مُرضية فهذا لا يجرّدها من كونها مقاومة، وفوق ذلك، مقاومة ليس في الميدان بديلٌ عنها.

أي بدائل واقعية ممكنة؟

في فرضية مُعمَّمة ومنتشرة بشدة، تُعرَّف السياسة على أنها انفصالٌ عن الأخلاق. وفي انصياعٍ واعٍ أو لا واعٍ لتلك المقولة، نُقدّس الناشطية ونفرُّ هرباً من الأحزاب والانخراط في الصراعات السياسية. لكن الرفض والنقد لشكل المقاومة التي تعتمدها حماس وحلفاؤها يحتاج، إلى جانبه وفي ظله، دخولَ المعترك السياسي بنماذج وبدائل واستراتيجيات أخرى لإثماره.

وليس مستحيلاً أو بعيداً عن الواقع تَصوُّر بدائل عملية لبناء استراتيجيات نضالية على أساسها، في فلسطين وفي غيرها. وفي فلسطين بالذات، هناك محاولات ونماذج على عدة صعد لأنماط أخرى من المقاومة والعمل النضالي.

تُشكّل انتفاضة الحجارة نموذجاً وطنياً مقابلاً للنموذج الفصائلي المسلح الذي تقدمه حماس، وكان من إنجازتها خلخلة التماسك الإسرائيلي، حيث شهدت إسرائيل تصاعداً في احتجاجات مواطنيها على سياسات دولتهم بشكل لم تشهده قبلاً ولا بعداً. لقد حوَّلت انتفاضة الحجارة الجيش الإسرائيلي القاهر، صاحب الطائرات المتطورة والمدفعيات الدقيقة، إلى جيش يحمل العصا ويطارد الأطفال في الأزقة، واستقطبت الرأي العام العالمي، وساهمت بشكل حاسم في الدفع باتجاه مفاوضات جدية.

وكبديل عن أسلوب العمل السياسي الذي تمثّله حماس، يمكن النظر في تجربة «المبادرة الوطنية الفلسطينية»، وسعي أمينها العام مصطفى البرغوثي للعب دور الوسيط بين فتح وحماس مراراً؛ الأمر الذي انتهى بتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية عام 2007، في تجربة كانت تاريخية لو تم استثمارها، ولو لم يتسبب الانقسام الفلسطيني بين سلطة رام الله وحماس في دفنها.

ويمكننا التفكير أيضاً في بدائل لاعنفية؛ وهي بدائل واقعية يمارسها الفلسطينيون اليوم لمقاومة الاستيطان من خلال ما بات يعرف بالمقاومة المكانية، ويحوي تقريرٌ صادرٌ عن شبكة السياسات الفلسطينية بعنوان: الاستيلاء الإسرائيلي المستمر على الأراضي: كيف يقاوم الفلسطينيون على نماذج لا عنفية عديدة يمارسها الفلسطينيون اليوم. لا يفهم الاحتلال إلا لغة العنف، بالطبع! وهذا تحديداً ما يجعل من العنف استراتيجية ضعيفة الجدوى ومكلفة في مجابهته؛ أن تستخدم أداته المفضلة، وهو أكثر خبرة وقدرة على استخدامها.

قد يجد البعض أن هذه الطروحات غير واقعية وغير قابلة للتحقيق، خاصة في ظل فشل المحاولات السابقة في الوصول إلى أهدافها النهائية، لكن بالإمكان التركيز على الإنجازات المرحلية تاريخياً، والاستفادة منها والبناء عليها والتعلم من أخطائها. ليس مستحيلاً حشدُ الفلسطينيين تحت راية وغاية واحدة وهي طرد الاحتلال من الأراضي الفلسطينية، لكن الحفاظ على استمرارية هذا الحشد على المستوى الوطني يحتاج إلى بديل سياسي تقدمه الأطراف المعنية، أي جميع القوى والتيارات الفلسطينية التي لديها انتقادات على استراتيجيات المقاومة شبه الوحيدة التي يملكها الفلسطينيون اليوم، والمتمثلة بحماس؛ بديلٌ يملك استراتيجية ثابتة ونفساً طويلاً واستعداداً لبذل جهد مُضنٍ.

قد تفشل التجربة، طبعاً، لكن المقابل الوحيد لعدم استمرارية المحاولة هو الاستسلام، الاستسلام لشكل المقاومة السائد، وربما أيضاً الاستسلام لإسرائيل وقوى الطغيان المتنوعة في المنطقة.