كان جلياً أنَّ في العقد المنصرم ما ينقصه كي يكتمل معناه. «ربيع عربي» مُتموِّج على طول العقد، «احتلوا وول ستريت» في نيويورك، «الستر الصفراء» الفرنسية، انتفاضة التشيلي وغيرها الكثير من الحركات الاجتماعية، ممّا تجاوز في عدده وفي تنوع تعبيراته ما اعتادت عليه عقود التاريخ. مجتمعاتٌ تغلي وتفور في كافة بقاع الأرض، وحصيلةٌ تتراوح بين الثورات المضادة والحروب الأهلية أو الإقليمية. حتى المجتمعات التي امتلكت أكثر الأراضي السياسية صلابةً حصدت نتائجَ تَفتَحُ على السؤال، مِن انتصار ترامب نجم تلفزيون الواقع الأميركي أو بولسونارو البرازيلي مروراً بفوز الممثل الأوكراني زيلينسكي برئاسة بلاده، إلى وعود الشباب الزائفة التي كانها ماكرون أو ترودو أو أوباما قبلهما، ليبدو وكأننا أمام عقد مُلتبس وغير مفهوم، أو كأننا الشهود على احتضار «عالمٍ قديم» وتَعثُّر ولادة «العالم الجديد». تُحيلُ اقتباسات المقدمة على مقولة المفكر الماركسي الشهير أنطونيو غرامشي: «العالم القديم انتهى، والعالم الجديد تأخَّرَ في الظهور. وما بين العتمة والضوء تتناسل الوحوش» الواردة في دفاتر السجن، والتي يصفُ بها عالم ما بين الحربين العالميتين الذي اتَّصفَ بظهور الفاشية والنازية.

غزة اليوم، بدماء أبنائها وحُطام عمرانها، تبدو وكأنها تُعلِن اكتمال العقد ووصوله إلى خواتيمه، لتقول لنا، بكل ما في البساطة والوضوح من وقاحة، إن الديمقراطية والرفاه أو «حلم المُعاصَرة» نادٍ حصري يُستبَعَدُ أن نحصل على بطاقة دخوله في الأجل القريب أو المتوسط أو البعيد. لحظة غزة تقول لنا إنه ما من «عالمٍ جديد» وإنه ما من شيء انتقالي في هذا «المَخاض»، وإن غياب الأفق والبربرية هُما عناوين أي عالمٍ جديدٍ ممكن، وإننا لن نحيا إلا في عالمٍ «تتناسل فيه الوحوش». بكلمات أخرى، تبدو هذه اللحظة أقرب إلى ورقة نعوة للمستقبل والسياسة، بل ولوجودنا كذوات فاعلة في هذا العالم. 

ما الذي يحدث حقاً في غزة؟ 

قد يبدو هذا التشاؤم غير مُبرَّر، فرغم سوداوية ما يحدث اليوم بالمعنى الإنساني، إلا أنه يفتح على التاريخ. فبعد وصول مسار تصفية القضية الفلسطينية إلى ذُراه عبر اتفاقيات أبراهام والتطبيع العربي، نجحَ حدث 7 تشرين في تعديل موازين القوى وفي إعادة القضية الفلسطينية إلى سؤالٍ سياسيٍ مُلحّ في الساحة الدولية، وإلى لحظة من التضامن والصحوة في أغلب مجتمعات العالم. ذلك على الأقل ما تشهدُ عليه تعبيرات التضامن العالمية، وجلسات محكمة العدل الدولية أو ما يحدث في الحرم الجامعي لأعرق الجامعات الأميركية أو حتى في مؤسسات الأمم المتحدة وكواليس الدبلوماسية الدولية، وهو ما يبدو في نبرة الكاتب اليساري البارز فواز طرابلسي خلال الندوة التي عقدها في بيروت في بداية شهر آذار بعنوان «فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي». 

نصاعةُ بيان الندوة وبلاغةُ محتواها، والجرأةُ في عقدها رغم سخونة اللحظة واحتمالات ارتدادها، صفاتٌ تجعل منها ما يشبه «الماستر كلاس». هويةُ صاحبها أيضاً تُساهم في ذلك، ففواز طرابلسي هو أحد أبرز وجوه يسار التحرُّر الوطني وصاحب تجربةٍ تاريخيةٍ مهمة في لبنان واليمن الجنوبي. هو أيضاً مؤلف عدد من الكتب والدراسات البارزة، ككتابه الساحر حرير وحديد، وكاتبُ افتتاحيات لـ«السفير»، ومُحرِّرٌ لدورية «بدايات» ومُترجمُ بعض كتب إدوارد سعيد. هو، من ناحية أخرى، من القلائل الذين حافظوا لليسار على ما تبقى من كرامته، بجذرية مواقفه واتّزانها قبالة الأحداث العاصفة التي عرفتها المنطقة، من مراجعته النقدية لتجربة الحرب الأهلية اللبنانية إلى مواقفه المتوازنة من ثورات الربيع العربي وتعقيداتها.

تُساعدنا هذه الندوة على فهم لحظة غزة من جهة، كما تُقدِّمُ مادةً خصبة لتفكيرٍ جاد في المحتوى التحرري للرؤية السياسية لما سميناه بـ«يسار التحرر الوطني». تبدأ الندوة من حيث يجب أن نبدأ، فتستعرضُ ما حدث ومعانيه لتُذكّرنا بأن حماس قد قامت في السابع من تشرين بواحدة من أكبر عمليات التحرر الوطني منذ خمسينيات القرن الماضي، ولعلها، حسب طرابلسي، الأكبر بعد معركة العاصمة الجزائر عام 1957، التي نقلت فيها الجبهةُ الوطنية للتحرير نضالها ضد الاستعمار الفرنسي إلى ساحات السياسة الدولية والرأي العام العالمي. 

عملية تشرين، بدورها، أوقفت مسار تصفية القضية الفلسطينية وأعادت إحياء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل وتمكنت من تحويل أسطورة الجيش الذي لا يقهر والحل الأمني الإسرائيلي إلى مادةٍ للتهكم وإلى دليلٍ راسخ على هشاشة وجود هذا الكيان برمته. استدعاء معركة مدينة الجزائر يبدو شديد البلاغة، فكما كانت هذه المعركة بداية نهاية الاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، بدا السابع من تشرين للكثيرين وكأنه بداية صيرورةٍ جديدة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ما جعل كثيرين يحلمون بسيناريو مشابه لما حدث في «ثورة المليون شهيد».

يؤكد طرابلسي في ندوته بأن «المسؤولية الأميركية كاملة» في عملية التدمير المنهجي لغزة وإبادة أهلها، ويعتبر أن الماكارثية الإعلامية الغربية ليست إلا «إبادة إعلامية» تُرافق الإبادة العسكرية. يؤكد فيما بعد بأن عملية حماس «توقعت ولم تتوقع ردّ الفعل الإسرائيلي» في الوقت نفسه، فالكلفة الإنسانية والدمار الحَضَريُ الهائل فاق بكل تأكيد توقعات حماس، ولكن «تأهُّبَ المقاومة» العسكري، والذي مَكَّنها من الصمود أمام الماكينة العسكرية الإسرائيلية، بخطوط إمدادها الغربية، طوال هذه الأشهر، يُدلِّلُ على عمق تخطيطها العسكري لهذه المواجهة. يعود طرابلسي ويؤكد على معاني الصراع سياسياً والنقاط الواجب التوقف عندها، وكأنه ينبّه «رفاقه» في حماس إلى النقاط الواجب تَذكُّرُها كي لا يتكرر حصاد جيله. يتطرّقُ أيضاً إلى المعاني الحقيقية للحلول المطروحة ويُضيف العديد من التعليقات والاستطرادات، والتي تميزت في أغلبها بالكثير من النباهة والخبرة والتمحيص. لا يُنهي طرابلسي ندوته دون أن يقدم بعض الأجوبة على أحد أكثر أسئلة السياسة إلحاحاً، سؤال «ما العمل؟»، ليقترحَ تنظيمَ حملة لنزع السلاح النووي من الشرق الأوسط، شرطَ البدء بترسانة إسرائيل النووية، وحملة لملاحقة المستوطنين وكياناتهم قانونياً وإعلامياً في كافة أصقاع الأرض. يقترحُ أيضاً إعادة إحياء الفرع العربي لحملة مقاطعة الشركات والكيانات الداعمة لإسرائيل وجيشها، دون أن ينسى الدعوة إلى تنظيم «حملات عارمة» لدعوة الجيوش العربية إلى العودة إلى ثكناتها والتفرُّغ للتدريب للمشاركة في الصراع العربي الإسرائيلي. 

في مضمونها التحليلي، تبدو ندوة طرابلسي شديدة الرصانة والجذرية وأقربَ لما يمكن أنه نسميّه بـ«الحسِّ السليم التحرُّري»، الذي يجب أن يتوفر لدى من يملك الحد الأدنى من حسّ العدالة والاطّلاع على المسألة الفلسطينية وتاريخها. في المقابل، تذهبُ الحملات التي يدعو لتنظيمها بكل تلك الرصانة، ليبدو ذلك وكأنه واحدةٌ من أكثر مفارقات اليسار حضوراً واستدامةاليسار القادر دوماً على إدهاش الإنسانية جمعاء بعمق تحليله، كما الحال مع رأسمال ماركس أو ندوة طرابلسي، لا يُقدّم في أجوبته على أسئلة الواقع إلا تلك الهشاشة التي طبعت مقولات «ديكتاتورية البروليتاريا» أو حملات طرابلسي!، وكأنه دعوةٌ للعودة إلى التحليل، وإلى التفكير ضدّ الذات، وضدّ «الحسّ السليم التحرّري» الذي قادنا إلى الإعجاب بتماسُك التحليل وعيانيته. 

يسار حالم على مذبح الحرّية

يبني تحليل طرابلسي تَماسُكه الداخلي على مجموعة من النقاط العمياء، المُهمَّشة أو المسكوت عنها، كمسؤولية حماس عن حدث تشرين وجرائم الحرب التي رافقته أو الكلفة الإنسانية الهائلة التي يدفعها أبناء غزة بعد الرد الإبادي الإسرائيلي، وهو غيابٌ وتهميشٌ قد يُساعدنا فَهمُهُ على معرفة سبب انتهائه إلى تلك الحملات. 

في رده على النقطة الأولى يبدو طرابلسي واضحاً، فـ«مسؤولية أميركا كاملة» على حدّ تعبيره، وهو ما يقترح اعتبار حماس ضحية الشرط الأميركي-الإسرائيلي، ما يُجبرها بالتالي على التصرف في منطق رد الفعل وما يجعلها في حِلٍّ من المسؤولية والأهلية عن أفعالها. باختصار، في شرط الفلسطينيين المذهل في قسوته، لا مكان للسياسة بالمعنى الذي اعتادت أنه تعنيه هذه الكلمة، ولا يمكن للسياسة إلا أن تتحول إلى مقاومة. وبكلمات أكثر تجريداً وإحراجاً للنظرية السياسية الليبرالية المهيمنة، تستحيلُ السياسة عندما لا يكون «حق الحياة» واحداً من «الحقوق الطبيعية».

الإصرار على سؤال المسؤولية في هكذا شرط، على ما قد يعتبره يسارُ التحرر الوطني، وكما يتجلَّى في الإعلام الرسمي الغربي، لا يمكن أن يكون إلا سذاجةً داميةً أو تواطؤاً خبيثاً، بهدف إسباغ الحقيقة طابعاً نسبياً وتحويل نضالات المقاومة الأهلية إلى نزاعات داروينية لا تستحق إلا القليل من الشفقة، والكثير من النفور. بل ويبدو الإصرار على سؤال المسؤولية، في عمقه، رؤيةً مُتهافتة تصرّ على تسامي الإنسان ومركزيته، كإرادة حرّة، و«تقويمٍ» تعالى بحُسنه على شرطه البرّي، وهو ما يُعاكس الخُلاصات الكبرى التي جادت وتجود بها العلوم الإنسانية والوضعية منذ قرون. 

فيما يتعلّق بالكلفة الإنسانية الهائلة، لا يبدو أن لدى طرابلسي ما يمكن أن يُقال، فمن يقتل عشرات الألوف هو إسرائيل وليست حماس. صحيح أن حرب تموز والعمليات السابقة لحماس والردود العقابية الإسرائيلية كانت كفيلة بتبيان مدى الفظاعة التي يمكن أن يجرّها حدث تشرين على أهل غزة، وأنه من غير المعقول ألا يرافق التخطيطَ لهكذا عملية بأنفاقها وتسليحها تخطيطٌ لمُتنفَّس إنساني لأهل غزة، إلا أنه في نهاية المطاف لا بد من «مديح الظلّ العالي» كي يتحرك مستنقع التاريخ، فالحياة ليست هنا، في هكذا شرط، «الحياة في مكان آخر»أستحضرُ رواية ميلان كونديرا «الحياة في مكان آخر» في هذا المقام بسبب بنيانها شبه النظري وعمق ارتباطها بمقولة الأحلام الكبيرة، التي ننتقد من خلالها التيارات اليسارية والليبرالية. ففي هذه الرواية قام كونديرا بالحفر في أساسات البُنى الشمولية، مقدماً مفهومه عن الشباب بوصفه عمراً غنائياً، يتحوّل بسببه الشاعر الرومانسي إلى مجرد مُسنَّن في ماكينة السلطة.، حيث المُستقبل وأحلامه الكبيرة. 

في تعاطف يسار التحرر الوطني مع المقاومة الفلسطينية، وتغاضيه عن مسؤولية هذه المقاومة عن بعض جرائم الحرب التي انطوى عليها السابع من تشرين، وعن الكلفة الهائلة التي لم تُفكِّر بأدنى شكل من الجدية في وقاية مجتمعاتها منها، ما يبدو شديد التناظُر مع الكثير من لحظات الثورة السورية، ليقترح إطاراً مُشابهاً للإطار الذي قاربَ من خلاله الكثير من السوريين، بما فيهم كاتب هذه السطور، الكثير من انتهاكات الإسلام السياسي، بأغلب تنويعاته «الوطنية»، من كتائب خالد بن الوليد الحمصية إلى حركة أحرار الشام. اعتقدَ بعضُنا في سوريا كدُعاة سياسة تحرُّرية بواقعيةِ أحلام التحرُّر الكبيرة، وهو ما دفعنا إلى العمل على تحقيقها بكل ما نملك من وسائل، ولأننا لا نملك الكثير، وجدنا أنفسنا على هامش الصراع، بعد أن احتلّت «المقاومة الأهلية» مركزه. لم نرغب بالتعالي على آلام اللحظة، وأَغرتنا تلك «العقلانية البراغماتية» التي لم نشاهد غيرها في عالم السياسة. الحصيلة، ذهبت أحلامنا إلى غير رجعة تقريباً ولم يبقَ لنا إلّا بعض «الوجوه الطيبة»، كما تقول إحدى أشهر الميمات السورية

يسارُ التحرُّر الوطني يُشبهنا، صاحبُ أحلام كبيرة لا تتوقف عند السيادة الوطنية ولا تنتهي عند بناء دولة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، هو أيضاً براغماتي، ومستعد للتغاضي وربما التحالف، ليس فقط مع حماس، وإنما مع ميلشيات إجرامية كحزب الله وغيرها من ميليشيات إيران في العراق وسوريا واليمن، والتي على حدّ تعبير طرابلسي، «تتضامن مع فلسطين وعن حق»، ومستعدٌّ لإعفاء هذه «المقاومة» من سؤال المسؤولية أمام المجتمع الدولي، ما يُعفيها من سؤال المسؤولية أمام مجتمعاتها المحلية وما ينسج علاقةً أبويةً بين المجتمعات وسلطاتها، لتتحول الأخيرة تدريجياً إلى عجينة تعركها أيادي المقاومة المباركة، وليتحول «التأديب» إلى الوسيلة الأكثر فعالية في الردّ على كل من يتطاول على المقاومة وأسيادها.  

بالمحصلة، أنتجت السياسة الحداثية اليسارية، في فلسطين وسوريا، بارتكازها على مقولة التاريخ وتهميشها لمقولة المجتمع، خطاباً يُغفل موت عشرات الآلاف وخراب مدنهم، وكأنه يودّ القول إنها «ضريبةٌ» حتميةٌ يجب دفعها على «مذبح الحرية»، ويجعل التغاضي عن انتهاكات «المقاومة الأهلية» شكلاً من أشكال العقلانية، ويُحوِّلُ سياستنا إلى بيعة متجددة لأسياد المقاومة. وهي المحصلة التي تزيد من إلحاح الدعوة إلى التفكير بلحظة غزة كلحظة تأسيسية، دلك أنها تُبيّنُ أنَّ المسألة لا تقتصر على سذاجتنا في مقاربة الحدث السوري.

طرابلسي مَجازٌ لحُسن تأهيل الكثير من نُخبتنا وسِعةِ اطلاعها وصِدقِ نضالها، والقضية الفلسطينية مسألة مفتوحة على السؤال منذ عقود. يمكننا انتقاد سياسته وهزالة أجوبتها وقصور خيالها، ولكن سيرته تجعل وَسمَهُ بالكسل الفكري خياراً قليلَ النزاهة، وهو ما يجعل هذه «السذاجة» أكثر بنيويةً، وما يقود إلى الاعتقاد بأن مأزق السياسة الحداثية، بالتنويعة التي يقترحها يسارُ التحرر الوطني، ليس مجرد حدث عارض على منطقتنا أو أيامنا. 

ليبرالية حالمة بدبلوماسية

دفعت بنيوية «السذاجة» اليسارية الحالمة قطاعات وازنة من النخب العربية الراغبة بمحتوى تحرري لسياستها إلى التفكير بسياسة مختلفة، وهو ما حثَّ مفكرين عرباً كباراً على إعادة تنصيب الموروث الماركسي النقدي على أُسس أكثر ليبرالية، لتُولَدَ مشاريعُ فكرية كبرى ترجمتها الصحافة العربية إلى رؤية ليبرالية تعتقد بمركزية الديمقراطية والمُعاصَرة. 

إن أردنا أن نكون أكثر عيانية، وأكثر التصاقاً بلحظة غزة، يمكننا العودة إلى الكاتب اللبناني حازم صاغية ومقالاته التي تتناول ما يحدث في غزة. فالمثقفُ اللبناني، الذي تقاطعَ مع طرابلسي في عدد غير قليل من المحطات قبل أن يفترقا، هو أحدُ ألمعِ الأقلام الصحافية العربية وأحد أكثر الأصوات الليبرالية تَماسُكاً وتَرفُّعاً، ما يجعله مدخلاً مناسباً للتفكير في مآزق خطاب الليبرالية العربيةأحاولُ استخدام مقولة «الليبرالية العربية» لتمييزها عن الليبرالية الغربية، بسبب الاختلاف البنيوي بين واقع كلا الخطابين. ففي الوقت الذي يحاول فيه الليبراليون العرب التفكير في سؤال الانتقال الديمقراطي، يستأثر الليبراليون الغربيون بالكثير من السلطة والهيمنة في مجتمعات ترسَّخَت فيها الكثير من التقاليد الديمقراطية. بأكثر ما يسمح به المقام من نزاهة. يَسمحُ صاغية أيضاً باستعادة ذلك التناظر المذهل الذي يجمع خطاب الليبرالية العربية مع خطاب يسار التحرر الوطني، فالنبرة المنتصرة التي تُميِّزُ ندوة طرابلسي، كانت نفسها ما ميّزَ خطاب صاغية طوال أيام الثورة السورية، التي كانت الحدثَ المأزق ليسار التحرر الوطني، وهي ما يغيبُ اليوم عن مقالات صاغية بعدما دار دولاب السياسة، وانكشفت الحداثة الغربية، وبوقاحة مكارثية، كـ«فيتو» وخط إمداد لضمان استمرار الإبادة.  

صحيحٌ أن ليبرالية صاغية، وهي ليبرالية سياسية في المقام الأول، تريدُ أن تصل بمجتمعاتنا وسلطاتها إلى شط المُعاصَرة عبر الاصطفاف في عالم الغرب السياسي بُغية تَمثُّل قيمه التنويرية، إلا أنه من العسف اختزالها في انتهازية تنتصر للأقوى، وإسقاط حقيقة كونها شكلاً من أشكال النقد الذاتي بعد مرارات التحرُّر الوطني وتركته السوفياتية. يُدينُ صاغية اليوم عنفَ إسرائيل الأعمى، ويتحدث ببلاغة عن «حداثةٍ استولى ذراعها على قلبها وضميرها»، دون أن يعني ذلك مُهاودةً في رفض كل خطاب يُحاول إدراج الحدث في صورة صراع «الجنوب العالمي» مع «رجل أبيض» مُتخيَّل.  

في المقابل، يدعونا صاغية، مقتدياً بريمون آرون، إلى بناء خطاب مسؤول، كما لو كنّا «مكان أولئك الذين يحكمون»، فيؤكد على ضرورة التفريق بين حماس وغزة، قبل أن يجزم أن إسرائيل وإيران وحماس يبيدون غزة، مُشيراً إلى مسؤولية حماس عن عملية تشرين والكلفة الإنسانية الهائلة للصراع، وإلى استخفاف حماس بحياة الناس عبر زجّهم في «شروط حرب لا يخطىء إلاّ الأبله في افتراض قسوتها الاستئنائيّة». 

عملية حماس، بالنسبة لصاغية، ليست إلا ترجمةً عمليةً لخطاب فاسد يرى أن «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلّا بالقوة». فهذا الخطاب الحربي لم يَقُدنا إلّا إلى المراوحة في الخراب، ولا يمكن أن يقودنا إلى رحبة السياسة، في الوقت الذي لا نملك فيه من القوة ما يسمح بافتراض هكذا تفسير للسياسة. السياسة لا يجب أن تعني أكثرَ من «فنّ الممكن»، أو فن «التسويات وأنصاف الحلول»، ولا يمكننا في ظلّ هكذا معطيات إلا «الالتفاف على القوّة ومحاولة تطويقها بالسياسة وبالمقاومة المدنيّة وبالنموذج الأفضل وبالرهان على التراكُم»أميلُ إلى الاعتقاد أن المقصود بالنموذج الأفضل في هذا الاقتباس، هو أن نكون «قدوة» في التزامنا بأخلاق الحداثة.، ليُصبحَ المكسبُ الكبير الممكن في نظر الليبرالية العربية هو «وقف الموت ومنع انتشار العنف». 

في الوقت الذي كانت فيه «المسؤولية الأميركية تامّة» في الخطاب اليساري، يأتي الخطاب الليبرالي العربي ليُلقي بأضوائه على نقطة اليسار العمياء ويُثيرَ مسؤولية حماس، بل وليؤكد على تواطئها الموضوعي في إبادة غزة. المناورة الليبرالية في هذه المحاججة تتجسّد في محاولة فصل حماس عن غزة، وهو ما لا يبدو شديد التلقائية، فحماس سادت في غزة بفضل صندوق الاقتراع، وكان تواطؤ السلطة الفلسطينية مع إرادة اسرائيل والمعسكر الغربي لمنعها من تشكيل حكومتها عقب فوزها الانتخابي السببَ الرئيسي لتفرُّدها على القطاع واستدامة وتعميق طابعها الميليشياوي. بالإضافة إلى ذلك، وفي ظل ظروف السجن المغلق الذي كانتهُ غزة طوال عقدين والعمليات العقابية المتكررة، لا تبدو حماس أكثر انفصالاً عن المجتمعات المحلية الغزاوية مما كانه الإسلام الجهادي الريفي في البيئات المحلية السورية خلال الثورة السورية. 

إدانة حماس، في ضوء هذه العلاقة المعقدة التي تجمع الحركة بمجتمعاتها المحلية، يبدو أقرب لإدانة مجتمعات محلّية، تُقاوم في ظل ظروف استثنائية في قسوتها، فيما يشبه صراعاً وجودياً تبدو فيه وكأن كل ما تقوم به ليس إلا رغبةً في انتزاع حق واحد، هو حق الحياة كذاتٍ فاعلة أو سياسية. قد تقوم في ظرفها ذلك بأفعال بربرية، ولكن لأن جَلَّادها عاد بها إلى عالم ما قبل السياسة والثقافة. لا تتساوى إدانة حماس مع إدانة أهل غزة بكل تأكيد، ولكنها تبدو كمن يرغب في تصوير الصراع كداروينية لا نحتاج لأن نمتحنَ ضمائرنا بأسئلتها. إنها نظير النسبوية اليسارية التي عانى منها السوريون في صراعهم مع سلطة الإبادة الأسدية، والتي نزعت عن الكثير من الأصوات اليسارية أي محتوى تَحرُّري. بكلمات أخرى، اعتبارُ أنَّ السياسةَ التحرُّرية في لحظة غزة تقتضي إدانة حماس يبدو أقربَ إلى الاستثمار السينيكي في سؤال المسؤولية.

المشكلةُ الأعمقُ في ذلك الارتباط الليبرالي الحميم بسؤال المسؤولية، هو تَصوُّرها للسياسة، بوصفها «فن الممكن»، أو تفاوضاً بين ذوات مسؤولة قوامه الكلمات و«المفاوضات وأنصاف الحلول». المشكلة أن هذا الخطاب ينسى بأنها إن كانت «فن الممكن»، فهي كذلك في ضوء ميزان قوىً مُحدَّد، وأنها كذلك عملٌ دؤوبٌ لتعديل هذا الميزان بما يسمح بالحصول على مُمكنٍ جديد. ليبرالية صاغية بتبنيها لهكذا فهم دبلوماسي للسياسة تنفي عن نفسها أي طاقة تحرُّرية، لتتحول إلى امتثالية واصطفاف، فيما مُناها هو كرمُ السفراء والدبلوماسيين. 

اقتراح التركيز على هدف وقف إبادة المدنيين لا يبدو أنسبَ الطرق لإضفاء محتوى تَحرُّري حقيقي على هذا الخطاب. لكي تكون السياسة تحررية، لا بد لها من وضع المجتمع/الناس في صلب اهتمامها، ولا بد لها من التفكير بما تعنيه الحياة الطيبة لهؤلاء الناس، ولكن ذلك ما لا يمكن أن يحدث عند اختزال هموم «الناس» إلى المأكل والمشرب و«الأمن والأمان»، أي «شرطهم البرّي». الناس، كلُّ الناس تقريباً، بحاجة لأن يكون لموتهم القليلُ من المعنى، وهو ما يريد خطاب «أوقفوا القتل» الليبرالي حرمانَ ناس غزة منه، وهو ما أرادهُ الخطابُ نفسه في اللحظة السورية. إن صمتت أغلب أصوات الغزاويين، ممّن لا يزالون قادرين على الكلام، عن آلام المعركة الحالية، فليس لأنهم سيُصدّقون بإلهية النصر الحمساوي، ولكن لأن هكذا نصر سيمنح موتَ أبنائهم القليل من المعنى، بما يُذكّرهم بإنسانيتهم ويرتقي بهم، ولو للحظات، عن «شرطهم البرّي». لا يمكن للسياسة التحرُّرية أن تنكر واقع ارتباط أهل غزة بحماس من جهة، ولا يمكنها أن توافق على اختزال اليسار مقاومي حماس إلى شرطهم البرّي لإعفائهم من المسؤولية، أو محاولة الليبرالية لاختزال أهل غزة في شرطهم البرّي لحرمانهم من أي رغبة في الولادة كذاتٍ سياسية من جهة أخرى. بكلمات أخرى، لا بد لها من أن تُصالِح المجتمع مع التاريخ. 

مآلات السياسة الحداثية 

يكفي استبدال غزة ببابا عمرو وحماس بكتائب خالد ابن الوليد واليسار بالليبرالية، لنكتشف عُمقَ تَناظُر لحظة غزة مع الكثير من لحظات الثورة السورية. ولذلك فضائلُ عديدة، فهو يدعونا لمعاودة التفكير في لحظتنا السورية، مع مسافة أبعد، وممارسة «نقد ذاتي» ما بعد الهزيمة. 

يُساعدنا هذا التناظر أيضاً على التفكير بالخطاب الليبرالي العربي بوصفه قرينَ خطاب يسارِ التحرُّرِ الوطني. فلا يكتفي هذا الخطاب بمشاركة سلفه إلهامَه اللينيني-السوفياتي، وإنما يتقاطع معه في الكثير من الصفات وبخاصة احتقاره للّحظة الراهنة وتأكيده على أن «الحياة في مكان آخر». يحلم اليساري بالقضاء على الشرط الإمبريالي كي تبدأ حياته الحقيقية في السعي لبناء دولة الديمقراطية والتنمية والسيادة، وهو ما يبدو خشبياً وأقرب للنكتة لمن يعلم أن أكبر أسطول بحري في العالم هو الأسطول الأميركي وأن ثاني أكبر أسطول بحري في العالم هو خفر السواحل الأميركي. الليبرالي، بدوره، يحلم بالقضاء على الشرط الإقليمي الإيراني، كي تبدأ الحياة الحقيقية الفعلية، أي السعي لبناء دولة الديمقراطية والمُعاصَرة والرفاه، وهو ما صدّقنا إمكانيته وما عوّلنا عليه في الربيع العربي، وما لم يُساعدنا في تحقيقه باراك أوباما رغم إصرارنا وطموحاته ومواتاة ظرفه، وهو ما تُحوِّلهُ لحظة غزة إلى نكتة لا تختلف كثيراً عن سابقتها اليسارية، بعد أن جاءنا التأكيد بأننا على رأس قائمة أعداء أسطول أميركا البحري وأسطول خفر السواحل أيضاً. 

كي يمضي اليساري/ الليبرالي تجاه حلمه بفاعلية، يتزودُ بالعقلانية السياسية، أي البراغماتية، فنجده يتحالف مع سلطات الممانعة/ الاعتدال، التي تسدد أكثر الضربات إيلاماً للهيمنة الأميركية/ الإيرانية، والتي تتقاطع معه في مركزية مقولة السيادة الوطنية/ المُعاصَرة. المشكلة أنه لا يمتلك من النفوذ ما يسمح له بالحصول على موقع الندّ في هذا التحالف، وأن حليفه القوي لا يرحب بالتعددية السياسية، فيجد نفسه مضطراً لاعتزال العمل السياسي والقبول بالموقع الذي رسمه له حليفه، كمستشار وواجهة أو صاروخ صوتي، ما يُفقده كل فاعلية سياسيةوفي أكثر لحظاته إشراقاً وتوفيقاً، يمكن لإحدى السلطات أن تلتفت لهكذا مثقف، ليلعبا سويّة لعبة خطرة، تستفيد فيها السلطة من الرأسمال التحرري الذي بناه المثقف لتخطيط مشروعها وتلميعه، في الوقت الذي يستفيد فيها المثقف من أموالها وشبكاتها لبناء مؤسسات تقترب مع الزمن وكثرة انشغالات مديرها العام، في بيروقراطيها وهرميتها وتواضع تحررية بنيانها ومحتواها، من مؤسسات الإسكان العسكري السورية. وما يُحوِّله ومؤسساته إلى ما يشبه جريدة الأخبار /الحياة، دون أن يمنعه ذلك من التأكيد، وعلى منابر مستقلة، على أهمية دور المثقف

ينزع هذا الخليط المُتفجِّرُ عن الخطاب اليساري/ الليبرالي أي محتوىً تَحرُّري، ويحصر أصحابه في قالب الكيانات الوظيفية، المُندرِجة في عالم سلطات الأمر الواقع، ما يمنع عنهم القدرة على بناء أي قوة في مُعادَلة الصراع على السلطة أو ضدها، وما يتسبب بعُقمهم سياسياً. الاحتمال الآخرُ الذي تقود إليه هذه المعادلة، المختلفُ عن احتمال الموظف أو الكيان الوظيفي، هو العيش على الهامش، والتحول إلى «مَرجِع عاجي» يقوم بعقد الندوات الهامة من وقت لآخر.

الثقافوية، مُحافَظة نرجسية

إن انطوى كلٌّ من يسار التحرُّر الوطني والليبرالية العربية على محتوى تنويري، فإن عوالم التنوير لا تتوقف على هذه المقاربات التاريخانية، والتي تحاول تنويرَ المجتمع عبر جهاز الدولة أو قوة السوق والعصر. أزمةُ هذه الخطابات قادت البعض إلى «العودة إلى كانط»العودة إلى كانط شعار فلسفي شهير، رفعته الكثير من الفلسفات الغربية اللاتاريخانية، في محاولتها للرد على هيمنة الأخيرة ونقدها أو تجاوزها. راجع صادق جلال العظم، «دفاعاً عن المادية والتاريخ»، المُحاورة الأولى، صفحة 77. والكانطية الجديدة ليُنتجوا «نقداً تَحرُّرياً» لا يتوقف عن اكتساب الصدى. الكاتب الصحفي الشاب محمد سامي الكيال تجسيدٌ حيٌّ لهذا التيار النقدي، ولديه من «الشجاعة» و«العناد» ما يجعله يمضي في تفكيكه النقدي للثقافة العربية وسياساتها إلى رحبة من الأسئلة الخصبة، وبخاصة في لحظة غزة، حيث ينزع عن فلسطين تعالي القضية ويُعيدها إلى كرسي السؤال، بل ويتخذها كفرصة للغوص في أعماق مستنقع الثقافة العربية ومساءلتها، عبر تحدي كل العوائق التي تمنع هكذا تفكير، سواء كانت لغتها أو شفوية بنيانها

يحاول الكيال تفكيك مقولة المقاومة ودورها البنيوي في السلطوية العربية، كما يحاول تعرية التلاعب الإيديولوجي الذي يحمله مشروع النصر الإلهي، أو حدود العالم الذي تسوده الميليشيات. يحاول أيضاً أن يُشير إلى تَهافُت منظومة الناشطية التي تعيش في ظل هكذا منظومة سلطوية، عبر التفكيك الجينالوجي لزيف راديكاليتها وسذاجة طابعه الحقوقي وسردياته القُطبية، وعبر فضح ارتباطها بمنظومة المقاومة التسلطية، ليُذكِّرنا بضرورة استعادة السياسة بعد تَحوُّلها إلى استجابات إنسانية عاجلة لموظّفين ينشطون في شبكاتها ويتمثلون خطبها وخطوطها الحمراء. يُسائل الكيال أيضاً عوالم الثقافة الشعبية المقاومة، بديناميات إعادة إنتاجها، أو نجومها ولا سياسية خطبهم، ليبدو وكأنه لا يرى مَخرجاً دون تحويل القضية الفلسطينية إلى سؤال، وتحويل الضوضاء إلى ذات فلسطينية فاعلة، تبتعد بالصراع عن مقولات «السكان الأصليين» و«الرجل الأبيض» وغيرها من مقولاتِ ما بعد الكولونيالية، والتي لا يستطيع أن يراها إلا بوصفها العرّاب الفكري لسياسات الهوية، والصوابية السياسية، وسطوراً برّاقة في السِيَر الذاتية التي يقدمها الناشطون للحصول على وظائفهم السخيّة في المنظمات غير الحكومية.

هو تحرُّريٌ نقديٌ إذن، لا تقنعه موضة «الغسل الفلسطيني»، التي تَسِمُ أغلبَ الثقافة العربية في لحظة غزة. وليست جهوده «الدونكيشوتية» إلّا محاولة «للخلاص من هذا الواقع»، عبر محاولة «بناء شبكة رمزية جديدة وعالم مفاهيمي مختلف». يأتي ذلك عبر اللوذ إلى فهم سلافوي جيجيك لفهم جاك لاكان لمفهوم «الواقعي» الكانطي، وهو الفهم الذي لا يعادل فيه الواقعيُ «القلب الصلب للعالم المادي، الموجود باستقلال عن وعينا والمفاهيم التي تشكّله، وإنما ينبثق نتيجة اختلال وانحناء الشبكة المفاهيمية التي نَعي بها عالمنا»، ليؤكِّدَ أن «ما يرعبنا ويبلبل وعينا ليس ظرفاً حتمياً أو قاهراً، بقدر ما هو إشكالياتُ وتناقضاتُ عالمنا المفاهيمي، وأيديولوجيتنا السائدة، المترسّخة في لا وعينا». كانطيّة الكيال هذه تُترجم نفسها برفض البقاء في خانة الضحية، أو التواطئ مع ميليشيات المقاومة أو دولة الاحتلال، وتمنحه «نظرة جديدة لحضورنا التاريخي والاجتماعي، وتجاوزاً لتصوّراتنا عن شعوبنا ودولنا وأمتنا، وإعادة التفكير بلُغتنا نفسها، وعندهاتزخر المقالات المذكورة سابقاً بهكذا قفزات غريبة نسبياً عن عوالم المنطق الصوري. قد تعجز أي قوة متوحّشة عن استغلال فلسطين وقضيتها، ونريح أنفسنا من تكرار النقد نفسه للغسل الفلسطيني».

في كتابه البديع دفاعاً عن المادية والتاريخ يعتبر صادق جلال العظم أن كانط كان آخر الديكارتيين العظامراجع «دفاعاً عن المادية والتاريخ»، صادق جلال العظم، الصفحة 84.، وما يدعوه لذلك الاعتبار هو تمسُّكُ كانط في فلسفته النقدية بمفهوم «الشيء في ذاته»، أي في إصراره على بناء نسقه الفلسفي عبر الاعتراف بوجود العالم المادي، خارج الذات العارفة وحدودها. الكيال، كحال أغلب الكانطيين الجُدد، يجترح رؤيته الفلسفية عبر التأكيد على ذاتية الواقعي، أي عبر نفيه للعالم المادي أو «الشيء في ذاته» من عالمه الفلسفي. لترجمة هذا الكلام المُجرَّد، يمكن القول إنَّ الكيال يعتقد أنه إن بنى في عقله عالماً مفاهيمياً يَعتبِرُ فيه كُلّاً من حماس ودولة الاحتلال قوى متوحشة، أو إن تمكَّنَ من مَفهَمةِ وحشية كلٍّ من حماس ودولة الاحتلال لِنَقلِها وفقاً لمقولات جيجيك من عالم الواقعي إلى عالم الرمزي، «عندها قد تعجز أي قوة متوحّشة عن استغلال فلسطين وقضيتها». وفقَ هذه الرؤية، لا يوجد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلا في العوالم المفاهيمية لعقولنا، ويكفي كي يفقد الصراع قيمته أن تُنصِّبَ هذه العقول برمجيةَ العوالمِ المفاهيميةِ الكياليّة. بالمختصر، ولِحَلِّ هذا الصراع الذي طال أكثر من اللازم، يجب أن نقرأ الكيال، أو على الأقل سلافوي جيجيك.

العودة لكتاب العظم مُفيدة ومُسلّية في التعرف على تراث الكانطية الجديدة الزاخر بهكذا مُقارَباتراجع المحاورة الثانية من كتاب العظم سابق الذكر.، والتي لا يتجاوز تهافتها المفاهيمي إلّا مُحافظتها السياسية وانعدامُ محتواها التحرُّري. التعليقات العنصرية مؤخراً لسلافوي جيجيك يمكن أن تعطي بعض المؤشرات على نوعية المحتوى التحرري الذي تنطوي عليه هكذا كانطية. 

من ناحية أخرى، إن كان يسارُ التحرّر الوطني أو الليبرالية العربية يستلهمُ التاريخ ليُعوِّلَ على الدولة أو الغرب لتطبيق سياساته التنويرية، فإن هذه التنويرية الثقافوية تبدو خرساء تماماً قُبالة سؤال السياسة والوسيلة. حتى إن اتفقنا معه في أن مشكلة الناس في أفكارها، وأن الحلَّ يكمن في تفصيل شبكة رمزية وعالم مفاهيمي جديد، فكيف السبيل إلى ذلك؟ التعويل على «الرجل الأبيض» وتنويرية قواه العسكرية، أم على وسائل أكثر سلمية كصندوق النقد الدولي ونُخب التنوير وبرامجها وأعمدتها في أجهزة الدعاية الإماراتية أو السيساوية والأسدية؟

يقترح صمتُ التنوير الثقافوي عن هذا السؤال استحالة احتواء هذه المقاربة على سياسة. إنها مقاربةٌ لا سياسية، هدفها إن افترضنا حُسن النيّة، هو الولادة كموضة ثقافية تحاول بسط نفوذها في «الوسط الثقافي». من يكتب مقالات لا تتكرر في عناوينها إلّا مقولاتٌ قادمة من علم النفس والتحليل النفسي، من إعاقات اللغة واكتئاب الحرب مروراً بضريبة الأخلاق المفرطة وحرمة المجتمعات المدمرة واقتصاد الألم واللذة، أو من العجز كثقافة عربية إلى دموية الانتباه والخراب والهوية الجماعية، يبدو كمن يريدُ أن يمنح نفسه موقع المُوبِّخ المُتعالي، والذي يصعب أن يحسده عليه أي خطاب تَحرُّري.

من جهة أخرى، يبدو التنوير الثقافوي، عبر تأكيده على لا-سياسية الحلول لمشاكل الواقع، مُجرَّد تعبير ثقافي آخر من تعبيرات المُحافَظة السياسية. انتقائية الخطاب تأتي لتؤكد ذلك وتضعه في موقع أكثر وضوحاً في عالم الواقع، بوصفه «القلب الصلب للعالم المادي»، فهذا الخطاب الراغب في نفي أي صفة تحرُّرية عن أي اجتهاد فكري قامت به التيارات التحررية المتمردة على المركزية الغربية، كنقده خُلاصة فتحي المسكيني بضرورة التفلسف غير الغربي، بل وتوتره قبالة هذه التيارات، يبدو أقربَ إلى حربِ مواقع في الوسط الثقافي ومؤسساته، أو، إن استعرنا قاموس بيير بورديو، أقربَ إلى مضاربة خطابية لا تسعى إلا لتحقيق شكل من أشكال التمايز الاجتماعي وبناء رأسمالها الرمزي، وإلا لماذا لا تشتبك شبكاته الرمزية وعوالمه المفاهيمية مع بنى المركزية الغربية وقيودها. 

في المحصلة، قد يمنح هذا الموقف الكانطي صاحبه من «الشجاعة» والمزاج ما يسمح له بالتفكير والكتابة والسجال حول هذه اللحظة، في ظل كل تعقيداتها وإحباطاتها، أو ما يشحن روحه بما يبدو وكأنه دونكيشوتية نبيلة، ولكنه سيبدو أيضاً في ترجمته العملية مُجرَّد نرجسية نخبويةاشتغال برهان غليون على النخبة العربية واغترابها، يجعل انتقاد هكذا خطاب تنويري نافلاً. وتنويعة مبتذلة على خطابٍ قديم جديد، يقول للغرب الذي يجلّ إن الثقافويين العرب أيضاًوهي ادعاءات سبقهم إليها كثيرون، بِدءاً بالصهيونية مروراً بالمارونية السياسية والشوفينية السلافية. هم من آخرُ متاريس الحضارة الغربية في المنطقة، وأنهم الأجدى بتقدير الرجل الأبيض، وأنهم يفهمون «الترتيب»، أو واقع الحال، بصلابة شبكاته الرمزية وبعوالمه الرمزية العصية على الكسر، ويُقدِّرونه أيّما تقدير.

كي نأخذ هذا الخطاب بالجدية التي يستحقها، سوريّاً، لا بد من التفكير به كمحاولةٍ للتوازن في عالم المهجر الأوروبي، فما يجمع الكثير من أصوات الثقافوية التنويرية على تبايُنها، من طرابيشي وهاشم صالح إلى الكيّال، هو تجربة المهجر الغربي والهزيمة، وهو ما يمكن أن تدفعه قراءة ثقافوية للتاريخ الأوروبي والحاجة إلى التوازن النفسي في ظل هكذا شرط إلى الانتهاء إلى هكذا مقولات، وهو ما يجد حاضنته لدى جمهور غير قليل من مهاجرين سوريين بدأوا بدفع الضرائب والانضمام إلى عالم «الرجل الأبيض»، بـ«شبكاته الرمزية وعوالمه المفاهيمية». 

السياسة التحرّرية وضرورة القطيعة

يقودنا ما يحدث في غزة إلى اعتباره تراجيديا تُدخِلنا في جحيم نهاية التاريخ، تاريخنا، وما يعنيه ذلك من إحباط واستقالة أو سينيكية، ولكن يمكن مقاربته باعتباره لحظةً تقول لنا أن هذا العقد قد اكتمل، وأن التاريخ اختارَ أجساد أهالينا وركام مُدننا كي يُسجّل دروسه عليها، وأنه كي يمنحنا شَرطُنا ما يتجاوزُ الإطلالة المميزة على جحيم السياسة أو خطاب الضحية، لا بد لنا من تحويل هذا العقد إلى لحظة تأسيسية والبناء عليها. تَحطُّمُ سوريا البارحة وغزة اليوم يمكن أن يتحول إلى لحظة للقطيعة، نلعنُ فيها هذا العالم كما لَعَنَنْا فنعلنُ ما يبدو وكأنه رغبةٌ للخروج منه، وما لا يجب أن يكون إلّا رغبةً بإعادة اختراعه.لا نقصد هنا الاكتفاء بالسباحة في عالم المفاهيم والشبكات الرمزية، وإنما عبر خلق رؤية ومفاهيم جديدة قادرة على تزويدنا برؤيةٍ أكثر محايثة ومزاجٍ أعلى في فعلنا السياسي.

عاش الفيلسوف سبينوزا لحظة قطيعة مشابهة، وعاد بفضلها بأنطولوجيا تَحرُّرية مذهلة، استبدلَ فيها التعالي، تعالي التاريخ أو الأحلام الكبرى، بالمُحايَثة، وتحولت فيها القدرة إلى مدخل لنيل الحرية في عالم الضرورة والحتميات، دون أن يعني ذلك لجوءاً للبراغماتية أو تخلّياً عن «الأخلاق». يمكن لهذه الأنطولوجيا التحرُّرية أن تنقلنا إلى مزاج يسمح لنا بتحويل تجربتنا المتطرفة في عدميتها، إلى أعمق نقد ممكن للحداثة باستعماريتها وعقلانيتها التقنية التي تبتلعنا، وفردانيتها النرجسية التي لا تمضي بنا إلّا نحو العجز أو الانفصام عن مجتمعاتنا.  

الخروج من الحداثة نحو عالم يَمنحُ أبناءَه ما يسمح لهم بالمضي نحو العيش الطيب، أو نحو عالم أكثر «شعرية»، ضرورةٌ لا يمكن تحقيقها إلا بالخروج بالسياسة من عالم تهيمنُ عليه مقولات الدولة والثورة والتاريخ والفاعلية إلى عالم تسوده مقولات المجتمع والمُحايَثة والبراكسيس والحياة الطيبة، وتنتقل فيه المركزية من قيم الحرية (الفردية) والعدالة (المساواتية) بتيولوجيتها واستحالتها إلى قيم أخرى أكثر مُحايَثةً وفاعلية، كالتفكير والجذرية والكَفاف والأُخوَّة. 

استثمر الكثيرون أعمارهم وهم يفكرون في معاني السياسة التحرُّرية، وهو ما منحهم الكثير من الجمال والمعنى والإشكاليات غير المحلولة، وما منحنا تركةً شديدة الثراء. قد يكون دربُ التحرُّر شائكاً وأشبه بمتاهة بلورية بلا معنى مُسبَق أو خاتمة، ولكنه غابة خصبة وولَّادة. خطواتنا العاثرة عليه جُبلت بالكثير من الموت والدمار، وبالجمال والمعنى، ولا يمكن أن نحظى بالعيش الطيب بكل ما تحمله الكلمة من معنى ما لم نتابع الخطو.