فازت الكتلة المحافِظة، وصمدت الكتلة الاشتراكية، وصعدت الكتل اليمينية المتطرفة، وانهار البقية. هذه نتيجة الانتخابات الأوروبية باختصار. وفي اختزال أقسى، يمكننا القول إن انتخابات جديدة في أوروبا قد سُمِعَ صوتها كصرير سكين على صحن بورسلان.

الامتناع عن التصويت هو الرابح التاريخي للانتخابات الأوروبية. لا يرى الناخب ثقلاً حقيقياً للبرلمان الأوروبي في صنع القرار الاتحادي، حيث يهيمن صوت مجلس قادة الدول، الذي تُعبّر عنه توازنات المفوّضية. الانتخابات الأوروبية ميدانٌ مُحبَّب وحماسي للأحزاب الهامشية والمرشحين الشعبويين والتكتلات الساخرة أو المُعادية للسياسة، فقانون التصويت فيها، الذي يَعتبر كل دولة دائرة واحدة، يُتيح لهذه القوائم الهروب من قيود القوانين الانتخابية الوطنية، التي غالباً ما تُصمَّم لتسهيل تشكيل أغلبيات ولوضع عتبات عالية أمام التجارب الهامشية. واتصالاً بما سبق، نجد أن سلوك الناخب في الانتخابات الأوروبية يكون عادةً أكثر تهوّراً وانفعالاً وتطرّفاً ورغبة في معاقبة سياسييه المحليين من سلوكه في الانتخابات الوطنية، ففي الأخيرة يشعر أن صوته أكثر تأثيراً على تركيبة السلطة المباشرة عليه، وتدخل في قراره حسابات التصويت «المفيد». تُجبرنا هذه الوقائع على الحذر من الترجمة التلقائية لنتائج الانتخابات الأوروبية على الواقع الوطني لكل دولة عضوة، لكن ثمة خلاصات واضحة من ليلة أمس ومما سبقها من حملة انتخابية: 

أولاً، اليمين المتطرف صاعد: تترك الانتخابات الأوروبية زلزالاً في كل من فرنسا وألمانيا، الدولتان المركزيتان في القارة. ففي فرنسا تواصل مارين لوبان صعودها المدوّي، وتنجح في تحسين مواقعها وفي فرض نفسها على خصومها لدرجة أن إيقاف صعودها يكاد يكون الخطاب الوحيد لهم. سارعَ ماكرون بُعيد إعلان التوقعات الأولى إلى حلّ البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية، في خطوة تكتيكية قد تنجح أو تخفق، لكنها عاجزة عن تمويه الفراغ الاستراتيجي. في ألمانيا، ورغم أسابيع عصيبة مرّت عليهم مؤخراً، تفوّقَ حزب البديل على كل أحزاب التحالف الحاكم، محققاً المركز الثاني وطنياً وراء حزبٍ مسيحي ديمقراطي مُنزاح يميناً. فاز اليمين المتطرف في النمسا كذلك، وفاز حزب أوربان مجدداً في هنغاريا، حيث تُحقِّقُ انشقاقات الحزب الحاكم وحدها نتائج أفضل من كل المعارضة مجتمعة؛ وفي إيطاليا تتكرّس جورجيا ميلوني على صدارة السياسة في بلد حارق للنُخَب في العقود الأخيرة.

ثانياً، الكتل المركزية صامدة، نوعاً ما، وإلى حين..: عزّزت الكتلة المحافِظة من صدارتها، وحافظ الاشتراكيون الديمقراطيون على حصّة جيدة، رغم نتائج  الاشتراكيين الألمان التعيسة، وذلك بفضل نتائج مقبولة في دول الجنوب والشمال. ورغم الخسارة الفادحة للكتل الليبرالية والخضراء إلا أن الأرقام تقول إن ثمة أغلبية كافية للحفاظ على الملامح الأساسية للوضع الراهن في الموازين الاتحادية. كانت الأسابيع الأخيرة مُحمَّلة بإشاعات عن مناورات فرنسية لعقد صفقة تستبدل فون دير لاين في رئاسة المفوّضية بالتكنوقراطي الإيطالي ماريو دراغي، لكن الخيبة الماكرونية تترك أفقاً واسعاً لتجديد فون دير لاين في المنصب. قد تبقى فون دير لاين رئيسة للمفوّضية، لكن ضمن روحيّة وخطاب معاكسين بالكامل للتوافق الذي جاء بها لأول مرة: هي، حاملة لواء عزل اليمين المتطرف في وجه «أعدقائها» في الكتلة المحافِظة قبل سنوات، تتصرّف مؤخراً وكأنها رئيسة نادي معجبي ومعجبات جورجيا ميلوني، وريثة نوستالجيي موسوليني في إيطاليا.

وهذا يقودنا إلى ثالثاً، انزياح الإطار يميناً: ليس أن اليمين المتطرف قد فاز. لقد تقدّمَ اليمين المتطرف كثيراً بالفعل، لكنه لم يَفُز، وما زال منقسماً على نفسه، وبين أركانه صراعاتٌ جوهرية. ما فاز هو الانزياح، الشديد والمتشدد، لكل إطار النقاش السياسي يميناً، بالتحديد نحو مواضيع الهوية وقضايا الهجرة واللجوء والعداء للمسلمين. ائتلاف اليسار الألماني حقَّقَ نتائج هزيلة مقارنةً بانشقاق «يساري محافظ» تقوده سارة فاغنكنشت يضع العداء للهجرة في صُلب خطابه وبرامجه الانتخابية، ولم يستطع هذا الانشقاق مضاعفة نتائج الائتلاف الأم فحسب، بل تجاوز الحزب الليبرالي الشريك في الحكومة الفيدرالية. هذا مثال واحد عن الروح العامة في السياسة الأوروبية اليوم.

رابعاً، انهيار الخضر: تقول المحصلة السيئة لنتائج الأحزاب الخضراء في أوروبا الكثير عن الاستحالات في وجه تشكيل قطب سياسي أخضر. فوسط كارثة مناخية تُرى بالأعين المجرّدة، وفي سياق قفزة هائلة في الوعي البيئي العام خلال السنوات الأخيرة، نجد انتكاسة كبرى في هذه الانتخابات بعد سلسلة تَقدُّمات سياسية مهمة في العقد الأخير، تكللت بنجاحات حزب الخضر في ألمانيا. لا شك أن الموقف المُخزي للخضر الألمان بخصوص الحرب الإسرائيلية على غزة قد تسبب بأذية كبيرة لشعبية الأحزاب البيئية الأوروبية، خصوصاً بين الشباب وذوي الأصول المهاجرة، وهي أذية يصعب أن تكون عكوسة.

أما عن تأثُّر سياقنا السوري بالوضع الذي تُظهره هذه الأوضاع السياسية الأوروبية العامة فيمكننا قول شيئين: أولهما أن لا شيء في الأفق، لا في هذه الانتخابات ذات الأثر المحدود ولا في سلوكيات وتصريحات الدبلوماسيين الأوروبيين، يوحي بانعطافة سياسية أوروبية  بخصوص سوريا، إذ غالباً ما سنشهد استمراراً للمسار المنحدر الحالي، أي أولوية اتفاقات وصفقات منع اللاجئين من الذهاب إلى أوروبا، وترحيل ما أمكن منهم إلى حيث أمكَن، وإهمالاً لأي قضية سياسية تخصّ سوريا كبلد. 

وثاني الملاحظات السورية هي أن كتلة وازنة من الشتات السوري كان بإمكانها أن تصوّت بعد حصولها على الجنسيات الأوروبية. لا احصائيات ولا استطلاعات رأي واضحة بخصوص سلوك هذه الكتلة الانتخابية، لكن المُلاحظة العيانية تشير إلى أن الإقبال على التصويت لم يكن عالياً. مع ذلك، ثمة توجهان في التفاعل السوري مع الحدث الانتخابي الأوروبي يستحقان الدراسة: انخراط أعداد كبيرة من السوريين والسوريات، سيما من الأجيال الشابة، في مناصرة الأحزاب المناهضة لإسرائيل (مثل MERA25، الفرع الألماني لحزب يانيس فاروفاكيس) في اندماج إيجابي مع لحظة غزة يتجاوز محاذير ممكنة بخصوص مواقف هذه الأحزاب وقادتها ومثقفيها من المسألة السورية؛ وفي ضفة أخرى نجد السجال الكبير والمتشنج الذي أثاره تَرشُّح ريما حسن، الناشطة ذات الأصول الفلسطينية-السورية، ضمن قائمة فرنسا الأبية، والحنق الذي أثارته لدى جزء من الجمهور السوري المسيّس، في فرنسا وخارجها، لخطابها الخافت بخصوص نظام الأسد مضافاً إلى إشكالية زيارتها سوريا مؤخراً. أين وكيف نضع سوريا حين نمارس السياسة في شتاتنا؟ ومع أي حلفاء وفي وجه أي خصوم؟ هو سؤال مركزي لحاضر مسألتنا السورية ومستقبلها.