في كلوب غريتشن الواقع في حي كرويزبرغ في برلين، وعلى المنصة التي ستستضيفُ لاحقاً عروض الأداء والرقص، مع خلفية من مقاطع فيديو لأشهر نجمات بوب التسعينيات العربي وبريق الغليتر على وجوه وأزياء الحاضرين، عُقِدَت الجلسة النقاشية المُمهِّدة لفعاليات مهرجان قديرة للدراغ العربي؛ الفن الذي انتشرت المعرفة حوله أكثر خلال العقد الماضي بفضل مُنتجَات ثقافة شعبية اشتهرت على نطاق واسع، مثل برنامج رو بول دراغ ريس (Ru Paul Drag Race) الذي انتشرت عروضه في عواصم عالمية، على شكل أمسيات ترفيهية تدخلُ فيها أحياناً عناصر المناصرة والتوعية لصالح قضايا المجتمعات الكويرية.
الجذور الأولى لفن الدراغ قد تعود إلى قرون مَضَت، ومن باب الضرورة التي فرضتها الظروف آنذاك، كما في حالة المسرح الشكسبيري بين القرنين السادس والسابع عشر، حين كان على الرجال تأدية الأدوار النسائية بسبب سطوة الكنيسة التي قَصَرت إمكانية التمثيل المسرحي على الرجال. برزت حينها أسماء رجال اشتهروا بتأدية الأدوار النسائية مثل جون رايس؛ أول من لعب دور الليدي ماكبث وكليوباترا، ويُرجَّح أن للجذور المسرحية للدراغ أثراً حتى على اكتسابه لهذا الاسم، نظراً لكون الفساتين النسائية التي ارتداها المؤدون من الرجال ذات ذيول تَجرُّ على الأرض، أو ما يسمى «الشاحط» بالعامية. بدأ فنُّ الدراغ كضرورة ولكنه سرعان ما جذب المؤدّين من الهويات اللامعيارية ومن محبي الفن نفسه لتأدية الأدوار النسائية، والتفنُّن في اختيار الملابس والهيئات المُبتَكَرة والشخصيات التي سيظهرون بها على الخشبة.
بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، بدأت تنتشر الظاهرة المؤسسة للـ«ديفا» كما نعرفها اليوم، أي التركيز على فردانية الشخصيات النسائية التي يبتكرها كل مؤدٍ، ووجود جماهير من المعجبين لهذه الشخصية النجمة، تحضر هنا شخصيات مثل جوليان التنج التي أدّاها وليام دالتون وظهرت في عدة عروض غنائية كوميدية وأفلام هوليودية. تَعرَّضَ الفن لنكسة في الثلاثينيات، ومن ثم، بعد الحرب العالمية الثانية، اشتبك أكثر مع مسارات النضال لأجل حقوق وحريات الجماعات المهمشة، وكان جزءاً من احتجاجات ستون وول التي شكّلت نقطة فارقة في تاريخ هذا النضال. ترافقَ ذلك أيضاً مع التقاء فن الدراغ أكثر مع موسيقى البوب، وفي الوقت الحالي دخلت الكثير من المصطلحات القادمة من عوالم الدراغ والتي نقلتها برامج مثل رو بول وPose إلى عالم التلفزيون، ومنه إلى جماهير أوسع من حضور حفلات الدراغ، منها: «Werk» وهي النسخة الشعبية الكويرية من كلمة عمل، و«Throwing shade» لوصف من يقوم بانتقاد شخص آخر علناً بطريقة تَحمِلُ استخفافاً، و«Sashay away» المُستخدَمة لإبلاغ متسابقة في مسابقة الدراغ بخسارتها.
بدأت فكرة قديرة كسلسلة حفلات بوب عربي ومساحة كويرية في شباط (فبراير) 2023، وأقيم منها خمس حفلات حتى الآن. تشبه سيرة المديرة الفنية للمهرجان وفنانة الدراغ حسندرا سيرة بدايات فنّ الدراغ نفسه، كونها قادمة من خلفية أداء مسرحي، وكذلك كونها اتّجهت إلى فن الدراغ للضرورة في البداية بعد انتقالها إلى برلين، إذ كان من الصعب أن تكون ممثلة بلغة أخرى. تقول عن ذلك في حوار لها مع الجمهورية. نت إنّه كان عليها أن تذهب بعيداً لتعود إلى المنزل، وترى أن مهرجاناً كقديرة من الممكن أن يبني جسراً بين الشتات وبين المشهد في عواصم عربية كبيروت. هذه العلاقة مع ما يحدث في الوطن العربي كانت حاضرة في المهرجان منذ الجلسة النقاشية الممهِّدة لفعالياته. لا ينفصل مشهد الدراغ والمساحة التي تود الحفلات تنظيمها للمجتمع الكويري عن قضايا أخرى، مثل العنصرية المتصاعدة في ألمانيا ومحاصرة الصوت الفلسطيني، والاستشراق ومناقشة النوستالجيا وحضورها الفني من وجهة نظر نقدية.
شملَ برنامجُ المهرجان مجموعة ورشات عمل عن فن الدراغ والمكياج، وأخرى عن موضوعات شائكة وراهنة مثل الغسيل الوردي، أو إعادة صياغة وتشكيل الرموز والشيفرات الهوياتية الكويرية العالمية في سياقات عربية. حَمَلَت الجلسة النقاشية التي افتتحت العروض عنوان الظلال التي نَجُرّ، وحضرت فيها كل من الدي-جي الفلسطينية الأردنية دم تك، ومحمد شوقي حسن المخرج والكاتب مصري، وميسان حمدان الكاتبة والطباخة والناشطة الكويرية من فلسطين، وكانت بتيسير المُصمِّم والباحث اللبناني عماد جبرايل. انشغل قسم كبير من الجلسة بنقاش تمثيلات الهويات الجندرية غير المعيارية من خلفيات مهاجرة في دول الشتات الأوروبية، وتطرقت إلى المفاوضات الصعبة التي يضطر أصحاب وصاحبات الهويات الكويرية المهاجرين-ات في المجتمعات الأوروبية إلى خوضها عند ممارستهم-نّ للعمل الفني والإبداعي، حيث يتم وضعهم-نّ غالباً في قوالب نمطية، ويتم تبسيط نضالهم-نّ وعزل العوامل السياسية والثقافية المتداخلة والسياسات الاستعمارية عن صراعاتهم-نّ مع البُنى السياسية والاجتماعية في دول الشتات (ألمانيا في هذه الحالة).
بعد انتهاء جلسة النقاش، افتُتحت السهرة بعروض لمجموعة من فناني-ات الدراغ من جنسيات ودول متعددة، من لبنان وعُمان وتونس وسوريا وليبيا. خلال دقائق قليلة، وهي مدة العروض المنفصلة، استطاع فنانو الدراغ التعبير عن موضوعات كويرية يتقاطع فيها الشخصي مع السياسي، وقد يصُعب الحديث عن كل عرض بشكل منفرد بسبب تنوع العروض وكثرتها واختلاف الأساليب الفنية المُستخدمة، لكن بشكلٍ عام، يمكننا القول إن العروض اشتبكت مع ثلاثة موضوعات عريضة؛ أولها موضوعة الهوية الكويرية والتحولات التي تطرأ عليها عند الانتقال أو الهجرة من المجتمعات المحلية إلى مجتمعات أوروبية وغربية. ثانيها موضوعة امتلاك الذاكرة الجمعية من وجهة نظر كويرية. وثالثها، موضوعة انعتاق الجسد الكويري من القيود المجتمعية والسلطوية عليه والفخر به.
بعضُ العروض تصّدت للموضوعات الثلاثة في آنٍ واحد، مثل العرض الذي قدمته فنانة الدراغ سلمى زَهور والذي أخفت خلاله جميع ملامح وجهها وجسدها تحت زي مستوحى من النقاب، وحضرت فيه كراقصة ترقص على إيقاعات شرقية، ومن خلفها لوحة تُذكِّرنا في كل مرة بكلمات مثل «شاذ، حب، لوطي، إرهابي». إذ اجتمعت جميع العناصر الفنية لتُقدِّمَ رسالةً غرضها هو التحرر من الصورة النمطية الغربية عن الشخص الكوير من خلفية عربية، وتحرير الجسد الكويري من قيود الهويات المعيارية عن طريق إخفاء جميع ملامحه. وكذلك الأمر بالنسبة لكوير فلافل، التي قررت مواجهة المركزية الأوروبية من جهة والقيود السلطوية على الحريات الجنسية من جهة أخرى، في عرض أدائي قصير كان جسدها فيه هو خط الدفاع الأول في هذه المواجهة.
عبّرت بعض العروض أكثر من غيرها عن جوانب فردانية، تناولت مواضيع الحريات الجندرية مثل العرض الذي قدمته زازا تيازا، والذي يعكس رسالتها من خلال تقديم عروض الدراغ، وهي «تشجيع الناس على أن يكونوا-يكن على طبيعتهم-ن، وألا يخجلوا-ن ويكسروا-ن الحدود النمطية للجندر، وأن يروا-ن أنفسهم-ن جميلين-ات وفخورين-ات بأنفسهن-م». والأمر ذاته ينطبق على القصيدة المُصوَّرة من أداء سرجون، والتي تناولت بشكل أساسي موضوعة البيت/الوطن؛ الخروج منه والحنين إليه.
استعادت غالبية العروض الراقصة نوستالجيا أواخر التسعينيات وأوائل الألفينيات من خلال الموسيقى وأغاني نجمات البوب العربي: نوال الزغبي ونيكول سابا وروبي وغيرهنّ. ولم يقتصر الأمر على الموسيقى بل أيضاً على برامج وعروض تلفزيونية اشتهرت في تلك الفترة، مثل برنامج ستار أكاديمي أو حفل ملكة جمال لبنان، أو إعلانات تجارية تلفزيونية. تُفهَم هذه الاستعادة في سياق إعادة امتلاك الذاكرة الجمعية من قبل المجتمعات الكويرية، والتأكيد على انتمائهم لمجتمعاتهم-نّ وسياقاتهم-نّ التي نشأوا فيها. بالإضافة إلى تأصيل هذه الهويات الجندرية المتنوعة في المجتمعات والسياقات العربية، في الوقت الذي تُهيمن فيه الصورة النمطية السائدة للأشخاص الكويريين، سيّما في المجتمعات الغربية، بصفتهم أشخاصاً هاربين-ات من مجتمعاتهم-ن، وتُختزَل علاقتهم مع أوطانهم ومجتمعاتهم في علاقة نبذ أو كراهية.
نجحت أغلب العروض الراقصة والخيارات الموسيقية بإشعال حماس الجمهور والتفاعل معه، واستطاع كل فنان-ة دراغ توجيه رسالة سياسية نضالية الطابع بأسلوب فني خاص. لكن انشغال عروض الدراغ بالبُعد السياسي للنضال الكويري، تحديداً في علاقته مع الآخر الأوروبي، أدّى إلى غياب الجانب (الكويري-الكويري) عن أغلب فعاليات المهرجان. والقصدُ هنا أن مهرجاناً كهذا قد يكون الفرصة الأمثل لطرح موضوعات وقصص كويرية تُخاطب مجتمعات الميم عين من خلفيات مهاجرة عربية في أوروبا، وعلى مستوى أعمق من خطوط المواجهة الأولى التي تفرضها العلاقة مع الآخر الأوروبي، أو الآخر المعياري. وربما شكّلت اللحظة السياسية الراهنة المتزامنة مع الحرب على غزة والقيود على حرية التعبير والتضامن مع الفلسطينيين-ات في ألمانيا ضغطاً إضافياً يصعب تجاهله، ولعبت دوراً في توجيه بوصلة المهرجان نحو أبعاد سياسية ونضالية ظهرت بشكلها المباشر والأبسط في عروض الدراغ التي قُدِّمت في المهرجان.