عندما نقرأ كلمة «الوحدة» فإننا قد نتخيّلُ شخصاً يجلس وحيداً، أو نتذكّرُ شعوراً نَمرُّ به من فترة إلى أخرى، لكن الوحدة ظاهرة اجتماعية أساساً، نحتاج إلى فهمها ومعرفة أسبابها والتفكير في أدوات للتعامل معها، ويكتسب هذا أهمية خاصة بالنسبة للسوريين والسوريات بعد ظروف التهجير واللجوء وتحطيم المجتمع وتبعثر العائلات.

وقد بدأ علماء الاجتماع الاهتمام بسؤال الوحدة من خلال التركيز على فئتين اجتماعيتين: الكبار في السن، والنساء الوحيدات، أو الأمهات الوحيدات بشكلٍ أخصّ: حالة من يفقدون الشريك، الآباء والأمهات الذين يبدأ أطفالهم واحداً تلو الآخر بالانشغال بقضايا الحياة وهمومها، أو بالسعي لتأسيس عائلاتهم الخاصة، الأمهات المشغولات بتربية أطفالهنّ والعمل من أجلهم من دون شريك-ة لإعانتهنّ، كلها حالات تُمهّد الطريق أمام طيف الوحدة كي يجتاح حياتهم-ن. ولا شكّ أن نمط الحياة الحديث، خصوصاً في الدول الصناعية و/أو الرأسمالية، المُتمثّل في السعي الدائم لتلبية المتطلبات المعيشية، يساهم في تعزيز أسباب الوحدة، خصوصاً إن نظرنا إلى الأرقام في بعض الدولة الأوربية؛ على سبيل المثال: تسعة ملايين شخص في بريطانيا يعانون من الوحدة من أصل عدد سكان يقارب 65.5 مليون شخص، وهو ما دفع رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي في عام 2018 لتعيين سكرتير دولة لشؤون الوحدة. في فرنسا، يعاني 20 بالمئة من السكان الوحدة (بشكل يومي تقريباً)، أي ما يقارب 11 مليون شخص بالنسبة لمجموع السكان، وذلك استناداً لبحث صادر في عام 2022

وتزداد أهمية سؤال الوحدة مع تَصاعُد الأزمات في العالم، من الهجرات المتزايدة لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، إلى موجات اللجوء هرباً من الحرب أو لأسباب متعلقة بالمناخ، والتي تُجبِر الأفراد على ترك بيئاتهم بحثاً عن أماكن أكثر استقراراً. في عالمنا اليوم مُسبِّباتٌ لا حصر لها للوحدة: مواقع التواصل الاجتماعي وما تتركه من آثار نفسية في بعض الأحيان مع تصاعد موجات الكراهية، كذلك صعوبات تشكيل صداقات جديدة مشابهة لدائرة الأصدقاء في البلد الأم، تُمثّل فقط بعض الأسباب التي من شأنها تعزيز مواجهة الأفراد للوحدة في المجتمعات المستقبلة.

حتى العام 2021 سجَّلَ السوريون أكبر عدد لطالبي اللجوء في أوروبا. أَفترضُ هنا، وانطلاقاً من أن الإنسان ككائن اجتماعي يسعى دائماً للتواصل مع الآخرين والبقاء ضمن من يأنسُ بهم من أفراد المجتمع، أن السوريين الوافدين إلى أوروبا لا بد وأنهم تَعرَّضوا لحالة من الوحدة في فتراتهم الأولى أو ربما حتى بعد اعتيادهم على ظروف المجتمعات المضيفة، بالإضافة لكون المجتمع المضيف أساساً يعاني من نسب وحدة مرتفعة بين أفراده، ما يترك أثره بشكل أو بآخر على السوريين المقيمين في المجتمع ذاته. لفهم هذه الظاهرة اعتمدتُ على طريقتين اثنتين: أولاً مشاهدات عامة من خلال علاقاتي مع المحيط بالإضافة لقراءات مستمرة لكتابات السوريين والسوريات، وثانياً مقابلة شخصية مع علياء التي سترافقنا في هذه المقالة لتُحدّثنا عن تجربتها مع الوحدة، حاوت من خلال حديثي معها فهم الظاهرة موضوع الدراسة عن طريق أحد من عايشوها حقيقةً.

عن أي وحدة نتحدث؟ 

في البداية، لا بد من التمييز بين مصطلحين متشابهين ظاهرياً إلا أنهما مختلفان في الجوهر، العزلة والوحدة. العزلة اصطلاحاً هي الابتعاد، عزل الشيء هو فصله عن اتحاده مع آخر، فالعُزلة الاجتماعية تشير إلى الحالات التي يكون فيها التواصل نادراً (من حيث العدد أو الفترة الزمنية، أو التواتر)، وبجودة ضعيفة، من ناحية ممارسة أدوار اجتماعية أو محادثات متبادلةL’Institut National De Santé Publique Du Québec, « Lutter contre l’isolement social et la solitude des personnes aînées en contexte de pandémie », 19 juin 2020, P.3.. أما الوحدة فيمكن أن تتمثّل في حالتين اثنتين: وحدة فيزيائية، كشخص يقطن وحيداً في منزل، أو وحدة نفسية كشخص محاط بالناس لكنه يشعر بوحدة خانقة. بحسب المعهد الوطني للصحة العامة في مقاطعة كيبيك في كندا، يمكن لفرد أن يمتلك القليل من التواصل وأن يكون معزولاً اجتماعياً، لكنه لا يعاني من الوحدة، في حين أنه من الممكن لفرد آخر أن يمتلك الكثير من التواصل الاجتماعي وألّا يكون في عزلة اجتماعية إلا أنه يعاني من الوحدةIbid.. ممّا سبق يمكننا أن نميِّز بين الوحدة والشعور بالوحدة.

ما يعنينا هنا هو الشعور بالوحدة كظاهرة اجتماعية تُرافق بعض الأفراد في حياتهم دوناً عن الوحدة المُختارة التي شرطُها الأساسي هو الآخر، فلا يمكن للفرد أن يدّعي حبه للوحدة دون وجود أفراد آخرين يرغب بالابتعاد عنهم لبعض الوقت، فالتطلُّع للوحدة مشروط بوجود أفراد آخرين يُسبغون المعنى على هذه الوحدة. بمعنى آخر، الرغبة في قراءة كتاب وحيداً، هي حاجة للابتعاد عن ضجيج الحياة اليومية المليئة بتفاصيل الآخرين من حولنا، الرغبة بالوحدة هنا نابعة من الأفراد المحيطين بنا والذين يمنحون وحدتنا معناها. من هنا نستنتج أنه إذا كان لوجود الآخر ما يمنح المعنى لخيار الوحدة، فإن غيابه يجعل منها عبئاً يُثقل كاهل من يعيشونها. هنا لا بد من الإشارة إلى أن «الآخر» ليس بالضرورة إنساناً، بل يمكن أن يكون مكاناً، فالفضاء الذي نحيا فيه يترك أثره علينا بشكل ما، وهو ما سنحاول إيضاحه فيما يلي.

البيئة ودورها في تشكيل الوحدة

لفهم ظاهرة الوحدة لا بدّ لنا من فهم الفضاء الذي نعيش فيه، بهدف تبيان كيف يؤثر المكان في الأفراد وكيف يؤثرون فيه، آخذين في الاعتبار الاختلافات بين المجتمعات الأوروبية. بصورة عامة، «تُشكّل ألمانيا الدولة الأولى لتمرّكز السوريين في أوروبا، تأتي بعدها السويد، فيما تتأرجح فرنسا ما بين الاثنتين»Manon-Nour Tannous. « Les réfugiés syriens envahissent l’Europe. », La Syrie au-delà de la guerre. Histoire, politique, Le Cavalier Bleu, 2022, pp. 145-152.. في هاتيك الدول تتمثل الوحدة أولاً بالبيئة غير المعتادة للقادمين الجدد، ففي الشمال الأوروبي كالسويد مثلاً، قد تعكس الطبيعة الباردة للبلد صوراً من الكآبة وافتقاد الدفء. نقول فيما نقول بعاميتنا «روحي عم ترجف»، هو تعبير يحمل الوجهين، ويعكس في إحدى صوره فقدان الآخر المشابه لنا. في ألمانيا مثلاً، نجد كثيراً من المقاطعات قليلة السكان، والتي تحاول الدولة نقل القادمين الجدد إليها بُغيَة إحياء المدينة الفاقدة للحياة. فالبُعد عن مراكز المدن، وقلة عدد الولادات، حَوّلت بعض المدن لأماكن شبه مهجورة نتيجة قلة ساكنيها. لكن ما يبحث عنه قادمٌ جديد هو فرد يماثله، ينتمي لجماعته التي خرج منها، ناهيك عن الصعوبات التي تواجه السوريين لحظة وصولهم من فقدان لغة تواصل مشتركة وافتقارهم لخارطة الدخول في متاهة البيروقراطية للدولة المُستقبِلة. في حديثي مع علياء (اسم مستعار)، وهي شابة سورية مقيمة في ألمانيا منذ قرابة العشر سنوات، رَكَزَتْ على الصعوبات التي واجهتها في سنواتها الأولى في ألمانيا، والتي شكّلت في رأيها أقصى السنوات التي عانت فيها من الوحدة:

علياء: بكل بساطة، أنت تأتي إلى مكان لا تعرف فيه أحداً وتبدأ من الصفر، تاركاً كل شيء خلفك. بعض الناس يأتون ولديهم معارف هنا، تختلف تجربتهم عن الأشخاص القادمين من دون معرفة أيٍّ كان، والذين يبدأون حياتهم من الصفر. أنا بدأتُ الدراسة في مدينة صغيرة جداً ولا أعرف فيها أي أحد، أقمتُ مع أناس ألمان، محبين وداعمين، لكن لم يكونوا أصدقائي ولم يشبهوني بكل بساطة. كنتُ في عراك مع الحياة لوحدي، خصوصاً في عامي الأول، لم يكن لدي أصدقاء مُقرَّبون؛ لوحدي بمعنى لم يكن لدي أناس قريبون مني، أتحدث معهم، أذهب إلى منزلهم…

إذاً، في البداية نبحث عمّا اعتدناه في مجتمعنا الأم، عمّن يُشبهنا ونُشبهه، كتعبير علياء «لم يكونوا أصدقائي ولم يشبهوني». لعلّ عملية البحث عن أشباهنا باللغة والعادات لا إرادية، كوننا في عالم تقصرُ فيه المسافات يوماً بعد يوم، بحيث أنَّ فهم الأشياء من حولنا يتطلب سرعة تأقلم لا يملكها عقلنا المُعتاد على استيعاب تدريجي للأمور. في كتابه الذاكرة الجمعيّة يتحدث موريس هالبواشموريس هالبواش (1877ـ1945): عالم اجتماع فرنسي، تلميذ إميل دوركهايم مؤسس المدرسة الفرنسية لعلم الاجتماع. عن علاقة الجماعة بمحيطها أو ما يسميه «إطارها المكاني»، إذ يذكر أنه: من الصحيح القول إنّ أكثر من اضطراب نفسي يترافق مع نوع من القطيعة بين ذهننا وأفكارنا من جهة، والأشياء من جهة أخرى، ويترافق كذلك مع عدم القدرة على التعرُّف على الأشياء اليومية، إلى درجة أننا نجد أنفسنا فيها ضائعين في محيطٍ غريب ومُتحرِّك تنقصنا فيه كل نقطة ارتكازموريس هالبواش، «الذاكرة الجمعيّة»، ترجمة نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2016. ص153.. لذلك نحتاج دوماً إلى فترة زمنية لنألَفَ المكان الذي نقطن فيه. في البداية يجتاحنا شعور غريب كوحشة غير مفهومة في مكان لا يشبه أي شيء في الذاكرة، ولا نملكُ مُرتكَزاً له في أذهاننا. نحاول مع مرور الوقت أن ننشر تفاصيلنا في المكان لنألفه، صور للأصدقاء، أو ملصقات لأماكن أو لعمل فني مرتبط بمكان قديم قابع في الذاكرة، أو سماع الموسيقى الذي قد يُحيي ذاكرة سمعية تُعيدنا إلى مكان آخر يكسر وحشتنا الآنية. قد نسير في طريق جديد فنُشبِّهه بأحد الطرق القديمة المحفورة في أذهاننا، ممّا يخلق علاقة مع هذا الطريق فنسعى للمرور فيه بشكل متكرر. يُعَدُّ ابتكار تقنيات لتجاوز ما نمر به أحد وسائل الدفاع التي نحاول إتقانها؛ على سبيل المثال اتّخذت علياء من المكتبة العامة للمدينة مكاناً تلجأ إليه كل يوم، تقضي فيه ساعات مُطوَّلة دون إنجاز ربما، لكنها محاولة للبقاء في فضاء عام، وخلق روتين مُعيَّن لاعتياد المكان. من جانب آخر، بفضل الثورة التقنية حتماً، يدفعنا الافتقار لفرد «يشبهنا» في محيطنا الحالي للبحث أبعد من «إطارنا المكاني». استطاعت علياء إيجاد صديقة في مدينة أخرى تحدثها باستمرار، يتشاركان تجاربهما معاً، وربما يكون وجودهم في البلد ذاته، رغم بعد المسافة، قد أعانهم على التخفيف من الوحدة المُعاشة: «كنت أتحدث على الهاتف مع صديقة لي، كنا نتحدث رغم اختلاف التجارب، هي كانت وحيدة أيضاً، نتحدث ونتشارك عن يومنا وعن حياتنا. كُنّا نتواصل». هذا التواصل، لغةً ومجازاً، هو ما كانت تبحث عنه علياء وربما صديقتها أيضاً، خاصة عندما نعلم أن العلاقة مع من هم في سوريا قد فقدت معنى التواصل الذي يحتاجه الإنسان في حياته الاجتماعية. في سؤالي لعلياء عن تواصلها مع من هم في سوريا كانت إجابتها كالتالي:

علياء: أتحدثُ مع من هم في سوريا، كنتُ على تواصل، ولكن دون سرد، لأن الوضع مختلف جداً، معاناتك مختلفة فلا تشعر بأنه من المناسب الحديث عما تمر به. تصبح المشاركة صعبة، تشعر بأنك مُرفَّه وأن الوضع أفضل، فتخجل من مشاركة مشكلاتك.

علاء: في هذا الوقت تشعرين بأن مشكلتك كبيرة أم صغيرة؟ 

علياء: لم أكن بخير أبداً، كنت حزينة. 

لعلّ هذه ما نسميه اقتلاع الإنسان من جذوره. نفقد حتى صلة التواصل مع مجتمعنا الأم لأن ما يمرّ به الناس هناك لا يُقارَن بحجم مشكلاتنا اليومية، كل ما اعتمدته علياء هي محاولات للتآلُف مع المكان الجديد، كآليات دفاع أو ربما بدائل آنية للتأقلم مع محيطها الغريب. 

يضافُ إلى تأثير البيئة علينا انطباعاتُنا حيالها، فالوضع الاجتماعي ومشكلاتنا وما نمر به في يومياتنا لا بدَّ أن يطبع المكان بصور تترسخ في الذاكرة. وبكل تأكيد تتراوح هذه التأثيرات من شخص لآخر، فبعضنا يتأقلم مع البيئة المحيطة أسرع من الآخر، لكن ما يجمع السوريين بشكل عام هو فقدانهم لرأسمالهم الاجتماعي، إذا ما استعرنا تعبير بيير بورديويُعرِّفُ بيير بورديو (1930 ـ 2002) الرأسمال الاجتماعي بأنه: مجموعة من المصادر الحالية أو المحتملة والتي تتعلق بامتلاك شبكة مُستدامة من العلاقات المؤسَّسة تقريباً على المعرفة والاعتراف المتبادل، أو بمعنى آخر، بالانتماء لجماعة ما، كمجموعة من الأفراد الحائزين ليس فقط على خصائص مشتركة، ولكن أيضأ متحدين عن طريق روابط دائمة ونافعة.، رأسمال اضطروا لتركه خلفهم لحظة خروجهم من البلد، يتمثّلُ في مجموعة العلاقات التي كنا نستند عليها في سوريا، دائرة أصدقاء قريبة نمضي معهم أوقاتنا، نتشارك ذات الهموم والطموحات، نتحدث اللغة ذاتها، أقرباء يحيطون بنا، ومجتمع قد فكَّكنا طلاسمه من لحظة الولادة. افتقادُنا لرأس المال هذا لا بد وأن يترافق مع مواجهة صعوبات، ترسمُ مدى قدرتنا على تجاوز تصوراتنا عن المكان، على سبيل المثال: في لحظة الانتهاء من المسيرة الإدارية لطلب اللجوء، يسعى بعض السوريين-ات إلى تغيير المدينة التي استقروا فيها منذ لحظة وصولهم، ولهذا التغيير أسباب مختلفة، لكن ألا ترتبط في أحد أوجهها مع تصورات سلبية رسمناها عن المكان خلال مرحلة طلب اللجوء؟ لكن فكرة الانتقال هنا لا تخلو أيضاً من صعوبات جديدة، مليئة بالوحدة. بعض السوريين يَرَون الانتقال إلى مدينة أخرى كعودة إلى نقطة الصفر، ،على الرغم من كوننا في ذات البلد، لكن نشعر كأننا وصلنا حديثاً.

علياء: عند انتهائي من الدراسة، تركت المدينة. أتيتُ إلى برلين. أيضاً لا أعرف أي أحد، فعدتُ إلى وحدة جديدة، حتى مع وجود الكثير من السوريين، وأناس على معرفة بهم منذ زمن، لكن لم أتمكن من التوافق مع أي أحد من هؤلاء الناس، وذلك بسبب صعوبة الدخول في مجموعات مُؤسَّسة مسبقاً. كل شيء صعب في هذه المدينة، المدينة بالطبع مليئة بالناس، وكبيرة جداً ومرعبة. أخذ مني الوقت للاستقرار في برلين حوالي ثلاث أو أربع سنوات، وأنا لا أبالغ، بسبب أن المدن الكبيرة تمنحك الفرص ولكن عليك بذل الكثير من الجهد، وانت لا تملك الطاقة، لأنك تستخدم هذه الطاقة في الانتقال واعتياد العمل، وفي ذات الوقت التعامل مع أي مشكلة تمر بها. برلين، برلين كانت صعبة جداً، الكثير من الناس في برلين يشعرون بالوحدة بسبب حجم المدينة، وبسبب أنه هناك مجموعات مؤسسة مسبقاً، فمن الصعب جداً(…) الدخول في مجموعة جديدة، صعب جداً ومُجهِد، أنا لم أكن الشخص القادر على بذل جهد.

رغم أنّ علياء جاءت إلى أوروبا لأغراض دراسية ثم العمل فيما بعد، إلا أن الجدير بالذكر هو أن عدم القدرة على العودة إلى سوريا متى شئنا، ولو حتى للزيارة، يجعل منا كسوريين وسوريات لاجئين-ات حتى إشعار آخر. لا ترتبط صفة اللجوء هنا بوضع إداري في الدول المستقبلة، بل باستحالة العودة إلى البلد الأم متى شئنا، وهذا يساهم بحد ذاته بشعورنا بالوحدة لأن اللاجئ يفتقد لهوية جامعة، فالمجتمع الذي ينتمي له لم يعد موجوداً بصورته القديمة، وبناءُ هوية جديدة ضمن المجتمع المُضيف هي عملية أقل ما يمكن وصفها بأنها معقدة. قد أشار كل من ريتشارد ريشتمان وديدييه فاسان في كتابهما امبراطورية الصدمة إلى فكرة «أن الولادة في وسط أمة تجعل من الفرد كائناً ذا سيادة. اللاجئ لم يعد يشارك في السيادة ضمن دولته الأصل حيث اضْطُهِد، ولا يشارك بها في الدولة المُستقبِلة حيث يرتجي الحماية»Didier Fassin, Richard Rechtman, L’empire du traumatisme, enquête sur la condition de victime, Champs essais, 2011. P.372.. فقدانُ المواطنية جزءٌ لا ينفصم عن شعورنا بالوحدة في هذا العالم، السعي الدائم للحصول على جنسية دولة ما هو محاولة لاسترداد ذواتنا، وملء مكان مقفر في دواخلنا، والانتماء لمكانٍ فقدناه لحظة خروجنا من بلدنا الأم.

ملجأ آمن

في مسلسل الفصول الأربعة، يستيقظُ نجيب (بسام كوسا) صباحاً ليجد نفسه «وحيداً في المنزل»، وهذه العبارة هي عنوان الحلقة. يُلقي نظرة على صورة زوجته (مها المصري) ماجدة أو مجدة كما يناديها، ليلقي عليها كلمة «صباح الخير»، هذه الكلمة غير المعتادة من قِبَله في الأيام العادية، عندما تملأ زوجته المنزل هي وابنته وابنه. يُمضي نجيب نهاره مُتعثِّراً بالمشكلة تلوى الأخرى، ليجتاحه شعور الافتقاد لزوجته التي لم يلحظ وجودها إلا لحظة غيابها. على امتداد الحلقة يُجري نجيب حديثاً مع زوجته الغائبة حول مواضيع مختلفة، عن الماء الساخن في الصباح، وفنجان القهوة، والبرد في المنزل لا بسبب فقد التدفئة بل فقدان الدفء ربما، يتنقّلُ في حديثه بين شتى المواضيع، ليصل إلى مجاعات العالم وافتقار الناس للشعور بالآخرين. تنتهي الحلقة نهاية صادمة، إلا أنه لا يمكن إنكار أن كاتبة الحلقة، دلع ممدوح الرحبي، استطاعت تصوير الشعور بالوحدة بواقعية صارخة.

يسعى بعض السوريين في الغربة إلى متابعة المسلسلات السورية القديمة كظاهرة تُعينهم على إعادة خلق بيئة مألوفة تكسر حالة الاغتراب المُعاش، نوع من تشكيل عالم صغير مُفتَقد. فمُشاهدة مسلسل قديم مرتبط ربما بفترة زمنية كان فيها العالم أبسط، والهموم محدودة بنوع الطعام الواجب تحضيره خلال العرض، هذا الشعور الذي نحاول إعادة توليده في لحظة المُشاهدة يُحوّل المكان الصغير من حولنا إلى ملجأ آمن، يختصر الزمن في لحظة العرض فقط، جاعلاً العالم أخفَّ وطأة. لكن ما يجعل حالة الوحدة بين السوريين فريدة هو أن الحنين ليس لوطن بعيد، بل لوطن لم يعد له وجود حتى، شيء من قَبيل ما عبَّر عنه عدي الزعبي في مقدمة مجموعته القصصية نصف ابتسامة: «أحياناً، يكتب المنفيُّون عن حنين إلى بلدٍ يشتاقونه ويتمنون العودة إليه. لا يشبه هذا حنين السوريين: البلد تغيّرَت بالكامل، بل اختفت. نحِنُّ إلى مكانٍ لا وجود له، إلَّا في الذاكرة»عدي الزعبي، «نصف ابتسامة»، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2022، ص7.. يحاول بعض السوريين الحفاظ على ذاكرتهم وحنينهم المستمر لسوريا بالعودة بالزمن عن طريق مسلسل سوري يجدون فيه ملجأهم، نوستالجية لا تنتهي، قد تكون نعمة في بعض الأحيان، لكنها لا تخلو من نَقمة زمنٍ ماضٍ لا يمضي.

للملجأ الآمن أشكالٌ أخرى أيضاً، قد يتمثّل في شخص قريب تخوض معه هذه الحياة بكل صعوباتها، هو ليس بالضرورة شريكاً، فصديقٌ مُقرَّبٌ واحد قد يغير قواعد الوحدة المعاشة إلى مغامرات جديدة في المدن الضخمة. لعلياء صديقة بحسب تعبيرها قد «غيرت حياتها»، فقد تملّكت من القوة بوجودها ما لم تكن قادرة على خوضه بنفسها. لكن حتى مع مرور الزمن، تعود علياء لتؤكد على الاختلاف بين أصدقائها الألمان وأصدقائها من السوريين-ات، فعلاقاتها مع أصدقائها الألمان لا تصل في عمقها لسوية علاقاتها مع أصدقائها السوريين-ات.

علياء: بصراحة، بعد فترة زمنية في ألمانيا، علمت أنه بإمكاني أن يكون لدي أصدقاء أجانب، لكن لا يصل «الكونيكشن» معهم إلى عمق علاقاتك مع الناس، بصراحة القادمون من سوريا بشكل محدد بالنسبة لي. أتحدث هنا بشكل شخصي بالنسبة لي، لا يتغير عمق علاقتي مع الناس إلا عندما يكون أحد أصدقائي من العرب. لذلك واجهت الكثير من الصعوبات للدخول في مجموعات. قبل انتقالي من المدينة السابقة إلى برلين تعرّفتُ على صديقة سورية هناك، انّتَقَلَتْ فيما بعد إلى برلين لأني أقطن فيها، انتقالها إلى برلين غيَّرَ حياتي، لأنه مع هذه الصديقة استطعت الدخول في أجواء مختلفة، لأنه عندما تكون مع أحد آخر تصبح أقوى، تذهب عندما تُدعى إلى شيء، وفي حال لم يعجبك تترك المكان أنت وهذا الشخص، أما الشخص بمفرده من الصعب أن يأخذ مثل هذه الخطوات.

دور النظام الاجتماعي في تشكيل الوحدة 

لا يتفق إميل دوركهايم (1858 ـ 1917) مع كون الإنسانية نابعة من غريزة أنانية، على العكس يرى من خلال بعض الأمثلة التاريخية أن الإيثار مُتجذّر في علاقات العائلة أولاً من ثمَّ القبيلة، وهذا الإيثار ينحدر أساساً من تضامن «solidarité» اجتماعي، ففي كل مكان، بحسب رأيه، «حيث يوجد مجتمعات، يوجد الإيثار، لأنه يوجد تضامن»Émile Durkheim. De la division du travail social. Presses Universitaires de France, 2013. P.174.. مع ظهور المُلكية الخاصة، ومن ثم اتساع المجتمعات الحضرية، ظهرت الحاجة لتقسيم العمل، والذي يعتبره دوركهايم شرط توازن المجتمعات المتقدمة. لكن كلما اتسع تقسيم العمل في المجتمع، تزداد معدلات الفردانية «individualisme». هذه الأخيرة تُضيّق دائرة العلاقات الاجتماعية، فيقتصر الفرد على علاقاته في العمل وعلاقاته العائلية، بالإضافة لدائرة صغيرة من الأصدقاء. هل يؤدي تقسيم العمل هذا إلى المساس بأخلاقية المجتمع؟ حتماً لا، يعتبر دوركهايم أن «الإنسان لا يكون كائناً أخلاقياً إلّا لأنه يعيش في المجتمع»Durkheim, Émile. De la division du travail social. Presses Universitaires de France, 2013, P.394.، ليضيف على ذلك «أنّ واجبات الفرد حيال نفسه، هي في الواقع واجباته حيال المجتمع»Ibid. P.395.. ما علاقة الوحدة بهذا الكلام؟ تظهر الوحدة فيما أسميه النقاط العمياء لتقسيم العمل، أي أننا نجدها إلى حدّ كبير بين فئات الشباب في فترة المراهقة والعشرينيات من العمر، وبين الكبار في السن. بمعنى آخر مع من لم ينخرطوا بعد في معادلة تقسيم العمل، أو من خرجوا منها للتو، هنا تأتي أهمية العائلة ودائرة العلاقات المبنية خلال سنين العمر للتخفيف من مظاهر الوحدة.

يُشير القادمون إلى أوروبا إلى تعقيد الحياة في هذه الدول، وهو أمر مفهوم فلا أحد ينكر التعقيدات البيروقراطية للدول الصناعية، والذي دفع حنّة آرنت يوماً إلى تمثيلها «بالطغيان من غير طاغية»Hannah Arendt, Du mensonge à la violence, essais de politique contemporaine, édition Calmann-Lévy, 1972. P.242.. على أن القدوم من خارج المنظومة الاجتماعية لتقسيم العمل، مع افتقاد لرأس المال الاجتماعي سابق الذكر، يمثل أحد الأسباب الرئيسية للشعور بالوحدة بين السوريين في أوروبا. البعض يسعى لدخول سوق العمل ومواكبة تَدفُّق الحياة، إذا حالفه الحظ وكان نصيبه من العمر ليس بالكثير بعد، البعض الآخر ينطوي على نفسه لفهم عالمه الجديد في محاولة لإبطاء إيقاع الحياة من حوله. ستوضح ذلك بشكل أفضل كلماتُ علياء:

علياء: إيقاع الحياة مختلف كثيراً، في سوريا، تقوم بكافة الأمور في النهار وتكون سعيداً رغم امتلاكك للكثير من الهموم، لكن لا تملك الوقت للتفكير فيها، هنا يكون لديك الوقت، لكن أنت لديك الوقت للتفكير بمشكلات الحياة و«الصفن»، لكن برأيي هذه مصيبة، أنا في سوريا كنت أكثر سعادة من هنا، حتى لو أن وجودي هنا فتح لي مجالاً لأكتشف نفسي أكثر وأعرف عن نفسي، بمعنى أنا هنا في مرحلة من حياتي، بالطبع هناك أمور في حياتي أنا سعيدة فيها، وأنا ممتنة كثيراً لذلك، و لم أكن أرغب بالبقاء في سوريا، لكنني أشعر أن ما يختلف في سوريا هو أن الشخص يكون مشغولاً بكل شيء، لمرحلة لا يملك من الوقت للتفكير بمن هو أو الأهداف، وهذه الأمور التي تشغل بال الناس ويتحدثون عنها باستمرار. بمعنى، هنا لا بد من التفكير بالحياة والأهداف والمهنة وماذا عليك أن تفعل. اختلفَ الأمر علَي، أتخيّلُ أن الحياة كانت أبسط. وهنا أيضاً يوجد هم الأوراق والإقامة و الإيجار، والفواتير، وأمور بيروقراطية تعيش من خلالها في توتر وقلق لا يوجد في سوريا. في سوريا موجودة لكن بشكل أقل، لأن النظام هنا رأسمالي جداً، في سوريا لم تكن مفهومة طبيعة النظام (…)، بطريقة ما أنت بإمكانك البقاء عند أهلك، أو البقاء في المنزل الذي تربيت فيه، إذا كان هناك من إمكانية. هنا تحتاج كل شيء، أوراق وتسجيل وعمل لاستخراج الإقامة لتحصل على الجنسية، والعمل من أجل الحصول على التقاعد، هكذا الحياة أصعب، تفاصيلها أكثر، وتشعر بأن عملك أطول هنا.

تندرجُ ضمن النظام الاجتماعي مجموعة من القيم والمفاهيم، ولا بدّ أن يترك التفاعل بينها وبين ما نملكه من معتقدات وأفكار أثره على طرائق تفكيرنا، إذ تتنوع التغييرات الفكرية على القادمين الجُدد بحسب آلية التعاطي مع البيئة التي يعيشون فيها، وهذا يختلف من شخص لآخر، فالبيئة المحيطة لا بد وأن تمارس ضغوطها على الأفراد دافعةً بهم لاتخاذ سلوكيات مختلفة. هنا نعود إلى موريس هالبواش، إذ يقول إن «تَغُّير مكان أو مهنة أو عائلة، لا يقطعنا تماماً عن روابطنا القديمة مع جماعاتنا. ولكن قد يحصل أن تكون التأثيرات الاجتماعيّة في حالات مشابهة أكثر تعقيداً لأنها أكثر عدداً وأكثر تشابكاً»موريس هالبواش، الذاكرة الجمعيّة، ترجمة د. نسرين الزهر، بيت المواطن للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 2016، ص66. لذلك قد تُترجَم التغييرات الفكرية إمّا بشكل تَلاحُم مع ثقافة المجتمع المُضيف، بل وتبّني قضايا جديدة بعيدة نوعاً ما عن قضايا المجتمع الأم، أو على العكس قد يحصل أن تكون التغيرات عمليةَ انغلاق ورفض للثقافة المُضيفة، وقد نعتقد بأنها صورة من صور التعصب، إلّا أنها أقرب لرد فعل حيال تأثيرات يُعتقَد بأنها تمثل تهديداً بالقطيعة مع ثقافة المجتمع الأصل. ما أودُّ الوصول إليه هو أن هذه التفاعلات تؤدي إلى الشعور بالوحدة في بعض الأحيان، خصوصاً بين أبناء الجالية نفسها من السوريين. لربما لا تتناسب القضايا الجديدة المُتبناة مع ثقافة المجتمع الأصل بالنسبة للبعض، أو أن التمسّكَ بقضايا المجتمع الأم دوناً عن قضايا المجتمع المضيف غير مقبولة من قبل البعض الآخر، وهنا يرى الأفراد أنفسهم مجبرين على انتقاء أصدقائهم من أبناء الجالية نفسها أولاً، ومن ثمَّ البحث عمّن يُشاركهم الأفكار ذاتها من أبناء المجتمع المُستقبِل. الانتقائية في اختيار الأصدقاء تلعبُ دوراً مهماً حيال مستوى الشعور بالوحدة، فبناءُ علاقات اجتماعية وثيقة مع من يشبهوننا في اللغة والعادات أسرعُ بطبيعتها من بناء علاقات مع أفراد لا يشاركوننا الصفات ذاتها. لكن ما العمل عندما تكون الانتقائية تستهدف من نبحث عنهم أساساً في المجتمع المضيف؟ يصبح الموضوع أعقد نوعاً ما.

علياء :أنا لا أعيش إلّا مع أجانب، أترى التناقض؟ بالنسبة لي الأجانب يقيمون بعض الحدود، يعرفون حدودهم، فأنا بحاجة، بشكل شخصي، عند دخولي للبيت ألا أتحدث دائماً أو أتواصل، أشعر بأنه مع الأجانب تخلق مساحة صغيرة شخصية للإنسان (…)، مع العرب علاقاتنا مختلفة أبسط وأسهل، لكن في المنزل لا يشعر المرء بأنه بحاجة إليها، لأننا أيضاً، ثقافياً، بيننا الكثير من الأمور المختلفة، بمعنى أنّ الألمان أو الأجانب بإمكانك أن تتحدث إليهم في خصوص بعض القواعد التي تحتاجها في المنزل، مع العرب قد تستحي (…)، بالإضافة لذلك أنا شخص كوير حالياً، أنا أشعر بنفسي كشخص كوير، فأنا لا أعلم من هؤلاء الناس، فأخشى أن يكونوا لديهم رُهاب المثلية ويحاكموا كويريتي، حتى في حال كانوا متفتحين ذهنياً، أشعر بأني أحبُّ امتلاك خصوصيتي.

خروج علياء من سوريا ساعدها على فهم نفسها بشكل أفضل، على الرغم من كل ما واجهته من صعوبات، ورغم الوحدة التي عايشتها فهي ممتنة لكل هذه التغييرات، على أن التغييرات ذاتها تُشكّل عائقاً في علاقاتها مع من «يشبهونها»، ومن تتفق معهم أكثر حتى الآن من أفراد المجتمع المُضيف. من تبحث عنهم في لحظات وحدَتِها، هم من تخشى محاكماتهم فيما يخص حياتها الخاصة، في هذا المعضلة تماماً تكمن إحدى مسببات الوحدة التي يأتي أثرها مضاعفاً، لأن من يمثلون المَخرَج المحتمل لتجاوز ظروف الغربة، قد يشكلون عقبة تزيد من حِدَّتها. يضاف إلى ذلك أن الانتقائية قد تكون من الصعوبة بمكان في بعض المدن الصغيرة، فإذا كان الفرد ضمن مدينة مليئة بأبناء بلده، يكون المجال مفتوحاً أمامه لعملية انتقاء سهلة، يتقارب فيها مع يشابهه فكرياً ويبني مع الوقت علاقات مع أبناء المجتمع المضيف، لكن في المدن قليلة السكان أو أعداد السوريين فيها قليلة نسبياً، سوف يصعب على الفرد انتقاء أصدقائه، فإما أن يسعى لبناء علاقات مع من يلتقيهم في يومياته، أو أن ينطوي على نفسه باحثاً بلا جدوى عمّن يماثله.

علياء: تجربتي باختصار. أهم شيء في حياتي، منذ خروجي إلى الآن، حتى عندما كنت في سوريا، الناس، من هم من حولك، بمعنى، عندما لا يكون هناك أناس تكون الحياة صعبة جداً، أشعر أن وجود شخص واحد في الحياة تطمئن عليه ويطمئن عليك، مثل صديقتي القاطنة في مدينة أخرى، أمرٌ مهمٌ جداً. تعلم أن هناك شخصاً في حال انزعاجك تستطيع أن تتحدث إليه عن العودة في نهاية اليوم، ولو كان شخصاً واحداً فقط، لأن العلاقات الاجتماعية تصنع فارقاً كبيراً، وحياتي في المدينة الصغيرة تغيرت عندما تعرفتُ على أشخاص بعض الشيء، بقيت وحيدة لأن هؤلاء الأشخاص كانوا أجانب وليسوا قريبين جداً مني، ولم أستطع الاتصال معهم بشكل جيد، لأني قادمة من سوريا مباشرة، اصطدمت بالثقافة فوراً، لا أتشاركُ معهم الكثير من الأمور، لكن على الأقل كنت أخرج مع المجموعات وأجلس صامتة حتى، لكن كان أفضل من أن لا أقوم بأي شيء (…)، صعوبة هذه المدينة أنها صغيرة، لا يرتادها الكثير من الناس.

من أجل عالم خالٍ من الوحدة

لا يمكن إيجاد حلول لظاهرة الوحدة ما لم يتم فهمها والحديث عنها، ذلك قد يُعيننا على تجاوزها أو حتى التخفيف من وطأتها. الشعور بالوحدة لا يقتصر على المغتربين فقط من السوريين، بل حتى من يقطنون في سوريا، ممن فقدوا علاقاتهم الوثيقة سواء بالتغييب أو الموت أو حتى بُعد المسافة مع من هم في الخارج. قد نعتقد خطأً أن المجتمع في سوريا غير معرض لظروف الوحدة التي تواجه من هم في الخارج، على اعتبار أن النظام الاجتماعي مختلف. لكن بالرغم من كون تبيان الحقيقة على أرض الواقع غير متاح، إلا أن كتابات السوريين-ات توصل صوراً دقيقة لواقع الحال، أشير على سبيل المثال لمقالة منى رافع، كوكب زمردة، كإحدى تجليات الوحدة المُعاشة اليوم في سوريا. يضاف على ذلك أن استرجاعاً سريعاً لنمط التنظيم الإداري للمحافظات في سوريا، يُمكِّننا من ملاحظة عدد الطلاب والطالبات ممن يضطرون لترك سكن عائلاتهم بهدف إتمام دراستهم في محافظات أخرى، أو سكان المناطق الطرفية المضطرين للتوجه إلى مراكز المدن قاصدين العمل، وكلُّها عوامل تمهد الطريق لاجتياح الوحدة حياة الناس.

سلّطَ حديثي مع علياء الضوءَ على بعض أسباب الوحدة بين السوريين والآليات المتبعة لتجاوزها، ولعلَّ توسيع الدائرة إلى أجيال سابقة قد يعطينا أفكاراً أكثر، ويُوسِّعَ دائرة فهمنا لظروف الوحدة، خاصة أجيال السوريين-ات ممن كانوا يقطنون في أوروبا قبل وجود وسائل الاتصال المتاحة اليوم. يجب فهمُ الوحدة، ويجب الحديث عنها، خاصة عندما نعلم أنه في مراحلها القصوى قد تؤدي إلى نتائج خطيرة على أفراد المجتمع، تصل أحياناً حدَّ الانتحار. في أوروبا شهدنا بعض الظواهر، ولا يمكن استبعاد وجود ظواهر أخرى في سوريا. لا يمكن الجزم بوجود علاقة سببية بين الوحدة والانتحار، لكن لا يمكن استبعاد وجود نسب غير مصرح عنها في سوريا، فيما الوصول إلى إحصائيات عن الموضوع قد يكون مستحيلاً بسبب ازدراء الشخص المنتحر لأسباب متعلقة بالتقاليد والعقائد، وفي الوقت ذاته غياب إحصائيات رسمية موثوقة لمختلف الظواهر الاجتماعية.

لا حلول سحرية للوحدة، لكن بإمكاننا العمل على بعض الأدوات التي بين أيدينا، كالتضامن الذي أشار إليه دوركهايم بين أفراد المجتمع، خاصة بين السوريين والسوريات، فتعزيز الروابط بين أفراد متقاربين في الثقافة كما أشرتُ أعلاه أسرع من تعزيزها مع أفراد من ثقافات مختلفة؛ أن نأخذ بأيدي بعضنا بعضاً ربما هو الحل. حتى في حال غياب هذا الخيار، ارتيادُ الأماكن العامة، كما فعلت علياء، قد يساعد على بناء صداقات جديدة، وارتياد بعض الأماكن بشكل متكرر يخلق علاقة غير مباشرة مع رواد المكان الآخرين، قد تثمر مع الوقت صداقات. الوحيدون في هذا العالم لا يتحدثون عن وحدتهم، لكن قد يعينهم اتصالٌ من صديق، رسالة صغيرة من قريب، على الخروج من وحدتهم الآنية. عموماً، الحديث عن الوحدة ضرورة، فما لم نعترف بوجودها لن نتمكّن من معالجتها، ولا بد من قرعِ ناقوس الخطر قبل الحاجة إليه، فذلك أجدى من فوات أوانه.