بعد عبورٍ سريع على مسألة الأبعاد بين الدرجات الموسيقية وتغيُّرها مع الزمن من استخدام فيثاغوري إلى آخر يستخدم أبعاداً غير متطابقة معه، سنتوقّف عند مسألة افتراق التقاليد المحلية في التعامل مع الأنغام/المقامات، وغياب هيمنة مطلقة لتيارٍ واحد، ثمّ عند مسألة متأخرة نسبياً هي العلاقات ما بين المقامات واشتقاق بعضها من بعض، قبل أن نختم بمسألة استخدامها للـ«تأثير» وإشاعة جو معين لمُشاكَلة معنى الكلام موضوع التلحين.
أبعاد الأجناس والأنغام
يمكن أن نتتبّع تطور فهم الأنغام وعرضها عند الأقدمين، من الإطار الفيثاغوري كما ذكرنا إلى ما يشبه مقاماتنا الحالية.
فإذا كان إسحق الموصلي قد وضع نظام «المجاري والأصابع»، وابن المنجم يوضِّح لنا كيفية تفسير ذلك، فإنه وضعه على أساس التقسيم الفيثاغوري أساساً. فالأَبعاد بين النغمات تنقسمُ على أساس الديوان الكامل أو «الذي بالكل» (جواب نغمة الوتر المطلق، مثلاً من درجة ري إلى ري) و«الذي بالخمس» (أي الدرجة الخامسة انطلاقاً من الوتر المطلق، مثلاً من ري إلى لا) و«الذي بالأربع» (أي الدرجة الرابعة، مثلاً من ري إلى صول)، وجمعُ «الذي بالخمس» و«الذي بالأربع» يساوي الديوان الكامل (أي الأوكتاف)، والبعد الطنيني أي بعد تون (أو صوت) واحد وهو تِسْعُ الوتر وهو عينهُ البعدُ الفارق بين «الذي بالخمس» و«الذي بالأربع»، ومن ثم تقسيم «الذي بالأربع» إلى طنينَين (مثلاً ري يليها مي ثم فا دييز) و«بقية» (وهي ما يبقى بين آخر الطنينَين إلى الدرجة الرابعة، أي بين الفا دييز والصول، وهو قبل استخدام الأوروبيين للسلّم المعدّل أقل قليلاً من نصف طنين). فإذا اعتبرنا أن السبابة على تسع الوتر تُولِّدُ البعدَ الطنيني، وضغط الخنصر على ربع الوتر يولد البعد «الذي بالأربع»، فإن البنصر سيقعُ على ما يساوي الطنين الثاني بعد السبابة، ويظل لدينا إمكانية استخدام الوسطى لدرجة وسيطة تقع بين الدرجتين الثانية والثالثة. ولتفادي حدوث نوع من الكروماتية كان استخدام الوسطى والبنصر على الوتر نفسه ممنوعاً، إلا إذا كان للتفنُّن والتلاعب بين الأنغام، لا داخل المقام الواحد (بحسب ما يرد في رسالة ابن المنجم ص.8 ـ 11، وعند الحسن الكاتب، الباب الخامس عشر). وبناءً على هذا الترتيب للأصابع، يُنتِج عود إسحاق الموصلي (الذي تسوى أوتاره على أساس رابعات تامات) عشر درجات متمايزة على وترينفي الواقع، ينتج عن تسوية الأوتار والدساتين، بحسب ما ينقل ابن المنجم عن إسحاق، تسع درجات متمايزة على وتري المثنى والزير، وتنتج العاشرة من نقل الأصابع على وتر الزير أبعد من الدستان الأخير، لأنهم كرهوا أن يضيفوا وتراً خامساً لها وحدها، أو ينتج قرارها من البنصر على المثلث.، ومنها تتولّد أنغامه (أو مقاماته). ولم تكن لهذه المقامات أسماءً، وإنما كان يجري وصفها بناءً على درجة ابتدائها (السبابة مثلاً) واختيار الوسطى أو البنصر، كأن يقال سبابة في مجرى الوسطى أي أن البدء يكون بالسبابة وتليها الوسطى وليس البنصر، فيتولد ما يشبه جنس الكرد.
ومع دخول التأثيرات الفارسية والخُراسانية، وربما بقايا تأثيرات محلية عراقية ومصرية قديمة من أيام اليونانيين واختلاط اللهجات العالمية في الإسكندرية، أُضيفَت درجات مختلفة في التوسط (المجنبات والزوائد) وتمايزت الوسطى القديمة ووسطى الفرس ووسطى العرب (وهي عند الحسن الكاتب وسطى زلزل، بينما يميز ابن الطحان بين الاثنتين. وربما كان ذلك لاختلاف الاصطلاح بين العراق ومصر. وهي الأقرب إلى ما نسميه اليوم بربع الصوت، أو ربع تون). ومع إدخال درجات وسيطة متنوعة (الوسطى القديمة ووسطى الفرس، ووسطى العرب) وما سُمي بـالمجنبات والزوائد، صار من الممكن تقسيم الطنين (أو الصوت أو التون الواحد، مثل البعد من الدو إلى الري) إلى أجزاء متنوعة مختلفة عن القسمة الأقدم إلى طنين أو بقية (وهي كما أسلفنا حاصل طرح طنينَين تامَّين من رابعة تامة). وتسبَّبَ ذلك على ما يبدو في بداية بروز تسميات جديدة، فابن سينا يورد في «الجماعات» أي مجموع الأجناس التي يتألف منها سلم ما، (جوامع علم الموسيقى، ص. 149 وما يليها) بعض الأسماء منها ما يعرف بالمستقيم (وهو بحسب وصفه ما سيسمى لاحقاً الراست، ومعناه على ما يروى المستقيم بالفارسية) ومنها ما يُنسَب إلى الري (ولعله تحريف من الرها، حيث سيُطلَق لاحقاً اسم الرهاوي على أحد المقامات)، ومنها ما يُنسَب إلى أصفهان، وآخر أُورِدَ إنه يسمى بالسلمكي، لكنه لا يذكر أسماءً أخرى.
هذه الأسماء سنجدها بتوسُّع كبير وتفصيل لاحقاً عند الأرموي، إلا أن حديث ابن فضل الله العمري (في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) مع جمال الدين عمر بن خضر بن جعفر، المعروف بابن زاده الديسني المشرقي، وهو تلميذ الأرموي بحسب الترجمة التي يوردها العمري له، يُشير إلى ظهور مرحلة وسيطة من التسميات، بين طريقة إسحاق الموصلي وبين الأسماء اللاحقة التي نرى بداياتها عند ابن سينا وابن الطحان والحسن الكاتب، حيث باتت بعض السلالم (أو ربما الأجناس) تسمّى بأسماء المجنب والمزموم والمحمول والمنسرح والمطلق والمعلق، وسيحاول الديسني وضع ترجمة لهذه المرحلة الوسيطة التي لم تصلنا عليها شواهد مباشرة إلى لغة عصره (أي المصطلحات التي وصلتنا من طريق الأرموي، وهي الأقرب إلى تسمياتنا اليوم، وإن اختلف المسمى أحياناً)، فيقول مثلاً إن المطلق هو الراست والمعلّق هو العراق والمنسرح هو الأصفهان…إلخ.
وستؤدي زيادة الدساتين إلى قسمة الديوان (أو الأوكتاف، أو كما قالوا «بعد ذي الكل»، أي المسافة من نغمة إلى جوابها، مثل الدو إلى الدو الأحدّ منها) إلى درجات أكبر عدداً من درجات إسحاق العشر، ويصل عددها إلى 17 درجة بحسب ما سيرد لاحقاً عند الأرموي. وفي القرن التاسع عشر باتت 24 درجة اختلف العرب في تحديد هل هي متساوية (بحسب رأي محمد العطار، أستاذ ميخائيل مشاقة) أم غير متساوية. وقد اضطّر هذا التزايد في احتمالات الدرجات الفارابي، وتبعه ابن سينا، إلى إعادة تقسيم الأجناس النغمية (المبنية من أربع نغمات، Tetrachord، على قياس «الذي بالأربع») إلى أنواع مختلفة بحسب ورود أبعاد الطنين والبقية و«المجنب» (أي البعد المتولد عن استخدام الوسطيات المستحدثة، وهو شبيه وإن كان غير مطابق لما سيسمى عندنا تجاوزاً ثلاثة أرباع التون)، وتصنيف الأنغام بناءً على تركيب جنسين فوق بعض ومعها ما سُمي بالفاصل الطنيني لاستكمال الوصول إلى ديوان كامل (أو أوكتاف).
هذه التقسيمات توسّعَ فيها صفي الدين الأرموي في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد، معتبراً كل جنس رباعي أو خماسي «بحراً» أو «دوراً» ومُعطِياً عشرات التراكيب المحتملة من مزاوجاتها، مع الإشارة إلى تنافر بعضها الذي يمنع من استخدامها وعرض احتمالات نقل نغمة معينة من درجة إلى درجة أخرى (ما يسمى بالتصوير)، لكنه عرضَ أيضاً للمرة الأولى تقسيم السلّم النغمي إلى ديوانين (الذي بالكل مرتين) وليس إلى ديوان واحد، أي إنه وسَّعَ المدى النغمي لكل سلّم، وأوضحَ للمرة الأولى أسماء هذه المقامات والأنغام في زمانه (ونحن نستعملها هنا بالمعنى نفسه)، كالأبوسليك والراست والحجازي…إلخ. وأشار الأرموي إلى مقامات مُركَّبة، أي تمزج بين أجناس مختلفة، وأخرى تُكرّر الجنس نفسه على الدرجة الأولى ثم الرابعة مثلاً.
وقد تعرضت هذه التقسيمات لتغييرات عدة كان اللاذقي (توفي نحو 1495 م)، وهو ربما من أواخر المنهجيين الذين كتبوا بالعربية، من الواعين بها، فهو يشير في الرسالة الفتحية مثلاً إلى اختلاف مضمون جنس العشاق مثلاً بين القدماء (طنين طنين بقية) وبين معاصريه (طنين بقية طنين، وهو أقرب إلى العشاق المصري الذي وصل إلينا) ويشير إلى مثل هذه الاختلافات بين العصرين أيضاً، عصر المتقدمين وعصر المتأخرين أي معاصريه، في ما يتعلق بالإيقاعات.
لكن الاختلافات، إضافة إلى زيادة الأبعاد بتأثير زيادة اختلاط الأقوام وتعقيد قسمة النغم، قد تكون راجعة أيضاً إلى أسباب إقليمية.
التقاليد المحلية المتعددة
بعدَ الأرموي وشُرّاحه، يمكن ملاحظة افتراق تقليد محلي مصري، وربما آخر شامي، عن تقليد المدرسة الأرموية التي تعرف بالنظامية أو المنهجية، وهذا التقليد المصري يمثله ابن كر في منتصف القرن الرابع عشر للميلاد.قد يكون ابن كر، المولود لأبٍ موسيقي، ترك بغداد متأثراً بالشام، إذ ينقل فضل الله العمري عن ابن كر نفسه أنه قد تتلمذ في الموسيقى على أبي عبد الله الزركشي الدمشقي، وكان فقيهاً بسفح قاسيون ثم نزح إلى مصر، كما ينقل عنه الصلاح الصفدي أنه تتلمذ على علاء الدين ابن التراكيشي، الذي درس في الشام وتوفي في القاهرة سنة 1309 م.
ففي عرضه للمقامات يُركّزُ ابن كر على جنس رباعي أصلي هو جنس الراست، ويضيف إليه درجة تقع بين أولاه وثانيته وتتناقض مع واحدة منهما، أي لا يجوز استعمالها مع استعمال أُولى الراست وثانيته مُجتمعتين. ويُستَخرجُ من هذه الوحدة الأصلية واستثنائها مقامات عديدة، بعضها يتقاطع اسمه مع ما ورد لدى الأرموي رغم الاختلاف الكامل في التفكير في المقام وطريقة تركيبه وعرضه. ومن ملامح وجود تقليد محلي مختلف في مصر رفضُ ابن كر الصريح لهذه التسميات رغم اطّلاعه عليها، وكذلك رفضه لافتراض العلاقات الاشتقاقية ما بين النغمات (وهو ما سنعود إليه)، بخلاف أتباع المدرسة المنهجية أو النظامية، واكتفاؤه بتعبير «تركيب النغمات». ومن مظاهر هذا الافتراق أيضاً اختلاف وصفه وتعريفه وتصنيفه للإيقاعات عن طريقة الأرموي ودوائره.
أما الحصكفي غير البعيد زمناً من ابن كر، فهو بدوره مختلف في التفكير في المقامات وفي عرضها عن ابن كر كما عن الأرموي، فهو لا يشير إلى الأبعاد ونظريات تقسيم السلّم ولا إلى النغمات الخارجة عن التقسيم المعتاد لسلّم الراست، بل يعيد جميع المقامات إلى ثلاث درجات لا يحدّد أبعادها (يسميها الراست والبيت الثاني والبيت الثالث) ويحدد الدرجات الأخرى بناء عليها، فما هو دون الراست بدرجة فهو بيتُ الركن وتحته بيت الذيل وأسفله البيت الأسفل، ثم يصف حركة النغم من أجل التعبير عن المقامات، كأنْ يشرح مثلاً نغم «العشاق» قائلاً «خذ من البيت الأول إلى البيت الخامس إلى البيت الأسفل» أي إنه يصف مساراً ينطلق من درجة الراست إلى خامستها، أي النوى أو البنجكاه، ثم يعود انخفاضاً حتى قرار النوى أو ما نسميه اليوم باليكاه. وهذه الطريقة الوصفية تطوّرت وانتشرت كثيراً إثر ذلك في الفترة القروسطية (كما لدى الصيداوي، أو في مخطوط الشجرة ذات الأكمام، ثم وصولاً إلى العثمانيين وإلى مشاقة).
كما نلاحظ عند الحصكفي ضيقَ المجال النغمي، فكلٌّ من نغمات الراست والعراق والزيرفكند عند الحصكفي مؤلّفٌ من ثلاث درجات فحسب (أي أنها لا تكتمل حتى على هيئة جنس رباعي تتراكورد)، والأصفهان من أربعة، ووحده العشاق من ثماني درجات فيكون سلّماً يبدأ من منتصفه (وهو كسلّم يُطابق الراست بحسب وصف الأرموي، ويشابه أيضاً أحد أنواع الراست التي أشار إليها الخلعي في الموسيقى الشرقي، وكذلك مقام اليكاه بحسب وصف الخلعي له). كما نرى عند الصيداوي الراست والماياه ثُلاثيَين، بينما الأصفهان والزوركند من خمس درجات والعشاق من ست درجات…إلخ.
وهذا الاختلاف الكبير بين تقليد سوري شمالي قرب ديار بكر، وتقليد مصري، وتقليد شُرَّاح الأرموي في آسيا الوسطى، دليلٌ ملموسٌ على انعدام وحدة النظرية الموسيقية في العالم الإسلامي آنذاك، وغالباً على ممارسات مستقلة أيضاً، ودليل على أن «المدرسة المنهجية» لشُرّاح الارموي لم تكن مهيمنة بالقدر الذي يُظَنّ أحياناً.
علاقات الأنغام واشتقاقاتها الغامضة
من ناحية «المدرسة المنهجية»، خاصة في القلب التركي ـ الفارسي لآسيا الوسطى حيث انتشرت بقوةتنظر مسألة ترجمة كتاب «الأدوار» إلى الفارسية وأثره في أطروحة د. أنس غراب (لا سيما ص. 5 و6)، جامعة السوربون (باريس الرابعة) 2009، Commentaire Anonyme du Kitab Al Adwar، امتدّ التأثير القروسطي للمشاكلات الفلكية والطبيعيةرفضها الفارابي بحزم، ص. 89 مثلاً وتبعه الحسن الكاتب، ص. 135 وكذلك ابن الأكفاني (ت. 1348) في «إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد» (ص. 220) الذي يلاحظ مثلاً عدم إمكان وجود موسيقى في الأفلاك لعدم وجود اصطكاك فيها ولا قرع، نافياً أن يكون ذلك سبباً لانفعال النفس بالموسيقى، ويراه «يشبه أن يكون رمزاً» أي كلاماً رمزياً لا على وجه الحقيقة. ليشمل أيضاً المقامات. فمثلما كان الكندي (في رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى وفي رسالة في اللحون) وإخوان الصفا يرون في آلة العود وأوتارها الأربعة مثلاً مشاكلة مع الطبائع الأربع للجسد أو غير ذلك من الرباعيات، فإن تابعي الأرموي سيعتبرون أن أصول المقامات أربعة يُشتقّ منها ثمانية فروعٍ (فيكون لدينا من «الشدود»ويرى ابن الأكفاني (ص.218) أن النغمات تُنسَب إلى «شدود العود لشهرته»، وغالب الظن أن المقصود هو الدساتين التي كانت تشد على الأوتار. وهذا يُرجِع إطلاق اسم «شد» بمعنى مقام إلى تأثير مرحلة «المجاري والأصابع» حيث ينسب المقام إلى دستان يبدأ منه سلمه، ويسمى الدستان باسم الإصبع المستعمل للضغط عليه (دستان السبابة مثلاً). أي المقامات الأساسية اثنا عشر، بحسب الأبراج) وينشأ من الجمع بين أصلين أواز، فتنشأ ست أوازات، ثم نشأت الشُعَب، على اختلاف بين الكتّاب في تصنيف ما هو فرع وما هو أواز وما هو شعبة وما هو بحر (و«البحر» في الأصل، عند الأرموي، هو نفسه الجنس أو الدائرة أي رباعي الدرجات Tetrachord). وستستمر هذه المُشاكلات الفلكية والطبيعية، التي بدأت في المصادر العربية من الكندي (رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى)، حتى القرن العشرين، فنجدها مثلاً في سفينة عبد الوهاب السيفي مخطوط، وفي كتاب درويش الحريري صفا الأوقات مع جداول لِما يُستحسَن أداؤه بحسب الأوقات وبحسب مهن الجمهور الحاضر.
ثمة وضوحٌ في ما هو «مُركَّبٌ» لدى الأرموي وشُرّاحه، كما هو الحال عند مبارك شاه في النصف الثاني من القرن الرابع عشر للميلاد على الأرجح (والشرح مُتاح على موقع مكتبة قطر الوطنية) وعند اللاذقي، حيث يكون التركيب بين الأجناس أو الأقسام (سواء رباعية أو خماسية) أو بالانتقال التدريجي على درجات مقام معين (كأن يقال إن البوسليك والنوى والعشاق دائرة واحدة، فإذا ابتدأنا من ثاني درجة في العشاق كنا في النوى، ومن ثالث درجاتها كنا في البوسليك)، لكن خلافاً لذاك الوضوح فإن علاقات الاشتقاق، التي تنشأ منها الفروع والأوازات والشُعَب، غامضة.
وليس واضحاً لنا ما يبرر علاقات الاشتقاق هذه سوى الرغبة في الربط بأرقام لها طابع سحري وربما فلكي عند أصحابها (وهو ما كان قد بدأ به الكندي في رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى ورسالة في اللحون، وتَواصَلَ كما نرى مثلاً عند الصيداوي والأربلي)، كأن تكون الأصول أربعةً كالطبائع والأمزجة، والشدود (أي المقامات الأساسية) اثنا عشرة كالأبراج.
وقد يكون في أصل العلاقات الاشتقاقية هذه ما أشار إليه بعد قرون علي بن عبيد الله السيلكوني من أنَّ العلاقة هي بين البردوات (أو الفردوات بعبارة شهاب الدين العجمي Gotha 1300)، وهي كلمة متعددة المعاني أيضاً، فهي قد تعني تارة السلّم أو المقام (كما عند الحصكفي حيث البرداوات ثمانٍ تُشتَقُّ من الأصول الأربعة وتجمع إليها ليكون عندنا اثنا عشر مقاماً أساسياً)، وقد تعني تارة أخرى الدرجة الموسيقية (مثلاً في مخطوط الشجرة ذات الأكمام وفي الاصطلاح الموسيقي العثماني). فالسيلكوني يعتبر أن توافق «لون الزنكلا» في حال حافظنا على امتداد «درجة الراست»، و«انطباقه» في ذلك المد، هو معنى هذه العلاقة الاشتقاقية، فيبدو وكأن الأمر هو في الحقيقة مسألة هارمونية للتوافق بين أصوات استقرار هذه الأجناس، وليست إضافة ولا تبديلاً على درجات مقام محدد. لكن الأصل البعيد لهذه لعلاقات الاشتقاقية قد ذهب طيَّ النسيان، ولمّا تعرّضت المقامات للتغييرات في أسمائها ومسمياتها، لم يبق منه غير أسطورته وربطه بالطبائع والأفلاك.
بعد ذلك ازداد التفنُّن فجرى الحديث عن الفروع والشُعَب وعن الهزات (التيفاشي، متعة الأسماع، متاح على موقع النجمة الزهراء، وهذه «الهزات» قد تكون انتقالات مقامية، أو قد تكون أدواراً إيقاعية، فسياق الكلام غير كافٍ لتفسيرها) ثم عن النهزات والتلميعات (عند ناصر العودي ويبدو انه يقصد بالنهزات والتلميعات انتقالات سريعة من جنس إلى آخر ثم العودة، أو من درجة إلى أخرى ثم العودة، وهو ما يذكر بـ«التشبيعة» عند الفارابي ص. 963 التي يشترط أن تكون من خارج السلم الأساسي أيضاً) والمركبات، وما هو مركب من فرع وأواز وما هو مركب من أصل وأواز إلخ، إلا أن مضمون هذه العلاقة الاشتقاقية أو التركيبية يظل غامضاً وعلى الأرجح مُلفَّقاً.
لكن من اللافت أن هذا التفنّن الزائد ترافقَ مع انحسار في المدى النغمي عمّا وصل إليه في عهد الأرموي (ديوانان)، فأغلب الأنغام الموصوفة عند العرب في المرحلة التي تلت الأرموي حتى منتصف القرن التاسع عشر لا تتجاوز أحياناً الدرجات الخمس (وقد تقلّ عن ذلك مثلاً عند الحصكفي، الذي يحدد الراست بكونه من ثلاث درجات فقط، أو الشرواني حيث «بحر الدوكاه» هو درجتان فقط وما يضاف إليهما ليس سوى تزيين، أي إنه عملياً يُجري اختزالاً كبيراً للجملة الميلودية إلى نواتها الأصلية، وشبيه بذلك أيضاً ما يرد في الشجرة ذات الأكمام من وصف لمدى نغمي ضيق، وإن اختلف عن الحصكفي) وصولاً إلى ديوان واحد على الأكثر (كنغم العشاق وهو من ثمان نغمات عند الحصكفي). ذلك قبل أن يعود التنظير فيتوسَّعَ ويصير من الشائع في الممارسة استعمال ديوان وخامسة، ويصير من الشائع في التنظير الحديث عن ديوانين (ينظر مثلاً عرض الشيخ علي الدرويش، المتأثر بتعليمه الاسطنبولي الحديث، للمقامات في مؤتمر الموسيقى العربية الأول سنة 1932).
وقد تغيّرت على النحو نفسه طريقة تسمية المقامات (التي بدأت بنظرية الأصابع والمجاري، ثم الاصطلاحات الوسيطة كالمزموم والمحمول، ثم الأسماء الأقرب إلينا كالراست والعراق وغيرها، زمن الأرموي)، ومن خلال المقامات المُصوَّرة على غير درجتها الأصلية والمقامات المركّبة من مقامين سابقين، ومع تغيُّر أهمية المقامات وشعبية بعضها التي حلّت محل أخرى عبر القرون، وصلنا منذ أواسط العصر العثماني إلى التصنيف الحالي الذي يعتمد أساساً (مع بعض الاستثناءات) على المقاربة التالية: المقامات التي تعتمد درجات سلّم الراست أساساً لكن تبدأ من درجات مختلفة منه ستعتمد اسم الدرجة التي تبدأ منها (مثلاً دوكاه، أي الدرجة الثانية، وسيكاه أي الدرجة الثالثة، وبنجكاه أي الدرجة الخامسة، إلخ)، ثم المقامات التي تتغير فيها درجة واحدة على الأقل عن الأصل ستأخذ أو ستَمْنح. إذ لا نعلم من سبق، اسم الدرجة أم اسم المقام، ولعل ذلك مُتغيّر بحسب المقامات فمنها ما سبق ومنها ما لحق. اسم هذه الدرجة (كالحجازي مثلاً، أو الزنكلاه)، ثم المقامات التي يكون فيها التركيز حول درجة محورية وإن لم تكن بالضرورة مستقرّ المقام ستأخذ أو ستمنح اسم هذه الدرجة (مثل النوى والحسيني مثلاً)، والمقامات المركّبة ستأخذ أسماء ما رُكِّبت منه (مثلاً عجم كردي، أو حجاز كار كردي)، والمقامات المصورة سيتركّب اسمها من اسم المقام الأصلي ثم اسم الدرجة التي صُوِّر عليها (مثل حجاز النوى، وراست الجهاركاه). وتبقى هنالك استثناءات قد تكون مرتبطة بأصلٍ جغرافي سحيقٍ للمقام («النجدي» مثلاً أو «الأصفهان») أو بابتكارات موسيقيي البلاط العثماني المتأخرة (مثل «رونق نما» و«شوق أفزا» وسوى ذلك).
بهذا نرى أن أساليب إطلاق الأسماء وجمع الأنغام في فصائل وعائلات، وافتراض أن بينها علاقات اشتقاقية (غامضة المعنى قد تكون مرتبطة بأرقام «سحرية فلكية») ما انفكّت تتغيّر باطّراد ولم تَثبت على حال، وكانت بالضرورة مرتبطة بتغييرات الممارسة وازدهارها أو انحسارها، وانحسار المدى النغمي معها أو اتساعه، فضلاً عن الأسباب الإقليمية واختلاف التقاليد المحلية. لكن نظرية «تأثيرات» النغم والرغبة في محاكاة المعاني ظلت مستمرة بقوة على ما سنرى.
أنواع الأنغام واستعمالاتها
كانت بعض الإيقاعات تعتبر «قبضية» (أي «مقبضة» تثير الحزن) و«بسطية» (تثير الانبساط) وحماسية وما إلى ذلك، ويوافق بعضها الأشعار المفرحة (مثل الأهزاج والأرمال الخفيفة، بحسب الكندي رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى، ويسميها الإيقاعات السرورية والطربية) وبعضها يوافق الأشعار المُحزنة (مثل الثقيلين الأول والثاني بحسبه أيضاً). وبالمثل، قُسِّمَت الأجناس النغمية أيضاً، ومن بعدها المقامات، تقسيما مماثلاً. ويورد ابن الطحان (الباب الخامس) حديثاً عن اللحن الانبساطي والانقباضي واللحن السكوني واللحن المعلق الذي ينم عن قلق النفس وغضبها. بينما ينقل الحسن الكاتب (ص. 28) عن الفارابي (ص. 1180 وما يليها) التمييز بين «الألحان القوية» و«الملينة» و«المعدلة» (وقد تسمّى استقرارية أو حافظة، لأنها تُبقي النفس على حالة الاعتدال وتحفظها). ويمكن في هذا الأمر تفهُّم موقف الفارابي الراغب في مشاكلة معنى الكلام الملحن مع الإيقاع والنغم من أجل إفهامه وتقوية أثره، أو ما كان الأقدمون يوردونه بصيغة، ربما كانت مأخوذة من اليونانيين، «أن الموسيقار الفاضل يجلب اللحن نحو المعنى» بأن يضع الألحان في «ما يشاكلها من الأشعار» (ابن الطحان، الباب الخامس، والحسن الكاتب، الباب الثاني والعشرون).
ويورد ابن الطحان (البابان الرابع والخامس) أن على الألحان أن يُحاكَى بها «كلام المتكلم في الرضا والغضب، والسرور والهم والحزن والفرح…إلخ» ويذكر مصطلحات مثل التفجُّع والبكاء والتأوّه وسواها (الباب السادس والعشرون)، أما الحسن الكاتب فيذكر مصطلحات مثل الضجرة والزجرة والتأوّه والنوح والقهقهة (تشبه الضحك العالي المتكسر) والتنهُّد (وهو اتباع النغم بنفس عالٍ) وغير ذلك (الباب الثالث والعشرون).
لكن التأثير القروسطي أدّى أيضاً إلى تقسيم المقامات إناثاً وذكوراً (الكندي، رسالة في اللحون وغيره مثل شهاب الدين العجمي)، وإلى ربطها كما فعل الكندي (رسالة في أجزاء خبرية في الموسيقى) وكثيرون بعده بساعات الفلك وطبائع الأجساد وأنواع المهن التي يمارسها المستمعون أو الشعوب التي ينتمون إليها (الأرموي وشهاب الدين العجمي والموصلي وسواهم)، وورد ذلك في جداول مختلفة بقيت متداولة حتى القرن العشرين، على الضد من رفض الفارابي العقلاني لمثل هذا الربط بين الموسيقى والأفلاك. وأطرفُ ما يَرِدُ في بعض المخطوطات ربطُ المقامات ببحور الشعر، فيكون الراست للطويل والكامل، والعراق للوافر والمديد مثلاً إلخ، وذلك بغض النظر عن مضمون الشعر نفسه.من أقوال منسوبة إلى ابن غيبي، أي عبد القادر المراغي، مخطوط Gotha 1350/ 3 ، أما العودي فيرى أن الطويل والبسيط والرمل لائقون بالراست، والرهاوي يليق به الخبب والمتدارك. وأما العجمي (Gotha 1300) فيرى الوافر والمديد للراست والبسيط والرمل للأصفهان…إلخ. فلا يوجد اتفاق بين كتاب هذه المرحلة على هذه المسألة، كما لا تطابق بينهم في معظم المسائل الأخرى.
وتتكرّر الدعوة إلى نوع من العلاقة بين الجو الذي يشيعه الكلام وبين ما ينبغي أن يكون عليه المقام أو الإيقاع بشكل متواتر، إلى حد يبعث على الشك في أنه كان بالفعل مُتَّبعاً. إذ يبدو وكأنه دعوة إلى تصحيح ما كان يحصل فعلاً من مخالفة لهذه التوصية. غير أن بعض أوصاف الغناء، لا سيما عند الحسن الكاتب وابن الطحان وقبلهما عند الفارابي، تدلّ على أن في بعض تقنياته أحياناً تمثيلاً للبكاء أو لصراخ الأطفال أو غير ذلك من تقليد الأصوات، وربما كانت من ضمن التقنيات التي يعتمدها الملحنون والمؤدون في إشاعة أجواء معينة في أعمالهم.
وسننتقل في القسمين الثالث والرابع من هذه المقالة إلى مسألة القوالب التي يتم التلحين على أساسها وكيفية انتظامها في وصلات، والتطورات التي طرأت عبر الزمن على تلك القوالب والوصلات.