لطالما تعرَّضَ ناشطون سوريون معارضون لحملات تشهير وتهديد بسبب مواقفهم، وعلى مر السنين لم يكن ذلك مفاجئاً، إذ اتُّهم هؤلاء وغيرهم بالخيانة والعمالة بسبب معارضتهم نظام الأسد، الذي يصف نفسه بأنه مُناهض لإسرائيل ضمن محور المقاومة. وقد تعرَّضَ مؤخراً بعض الناشطين السوريين المعارضين لحملة إلكترونية عندما أدانوا الإجرام الإسرائيلي في غزة، وعندما أيدوا الاحتجاجات في الجامعات الأميركية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة. معظم الهجمات جاءت من مؤيدين للنظام كما هو مُعتاد، لكن هذه المرة جاءت نسبة متزايدة من تلك الهجمات من أشخاص يدعمون الثورة السورية. اتَّهمَ هؤلاء الأشخاص ناشطي المعارضة المتضامنين مع الفلسطينيين بالتخلي عن الشعب السوري والاهتمام أكثر بسكان غزة، واستُخدِمَ خطاب النظام الداعم لفلسطين بشدة كذريعة لهذه الهجمات، وهو الخطاب نفسه الذي تم استخدامه تاريخياً لتحييد أي معارضة للنظام.
هذه المعضلة ليست نتاج الحرب السورية فقط. منذ أن تولى حافظ الأسد السلطة في 1970، جعل مناوأة إسرائيل حجر زاوية في سياسته الخارجية والداخلية، وقد كان هذا خيارًا سياسيًا شعبيًا في وقت كان فيه نفوذ جمال عبد الناصر يتضاءل في العالم العربي في أعقاب هزيمة عام 1967، فيما كان الأسد يسعى لأن يحلّ محله كزعيم للعرب. قدّمَ الأسد نفسه كزعيم المقاومة العربية ضد إسرائيل، واستغلَّ موقفه السياسي هذا للحصول على موطئ قدم سياسي وعسكري في لبنان، بينما كان يدير عملية توازن دقيقة بين القوى العظمى. ارتكز تحالف الأسد مع إيران على اعتباره العدو العربي الرئيسي لإسرائيل، وهو التحالف الذي كان أساساً للنفوذ الإيراني في المشرق العربي.
استغلَّ الأسد هذه السياسة المناوئة لإسرائيل و«الغرب» بشكل عام، وما جاء معها من «شعبية» و«شرعية»، ليقمع شعبه منذ يومه الأول لاستلامه السلطة. تحت حجة «العمالة» لأميركا أو إسرائيل، قام النظام بسجن وقتل ونفي أي معارض لحكمه، بالإضافة إلى تحقيق مطامعه الخارجية، ومنها احتلال لبنان لثلاثة عقود وتعميق الشرخ القائم بين أطراف الحرب الأهلية. أما في الداخل السوري، ظهر عمق إجرام الأسد عبر المجزرة التي ارتكبها في حماة، حيث حاصر المدينة وقصفها، قاتلاً وآسراً عشرات الآلاف من السوريين. راكباً موجة «المقاومة»، استمرّ الأسد، من بعده ابنه بشار، بقتل وسجن الآلاف من معارضيه. مع انطلاق الثورة السورية وبداية قمع التظاهرات، راحت وسائل إعلام نظام الأسد ومحور الممانعة تتّهمُ المتظاهرين بأنهم مموَّلون من الموساد أو المخابرات الأميركية، وعندما تسلّحت المعارضة واشتدّ القتال مع النظام، أصبحت تهمة العمالة شبه ثابتة في أدبيات الحرب السورية.
بحكم دعمه لفصائل فلسطينية واستضافتها على الأراضي السورية، توقَّعَ بشار الأسد دعماً غير مشروط من هذه الفصائل، خصوصاً عندما اتخذت الحرب السورية بُعداً طائفياً. ولكن حماس أعلنت أنها قطعت علاقاتها بالأسد وأنها تدعم الثورة السورية بكل مكوناتها، ولعلّ هذا الموقف يرجع إلى سببين رئيسيين: خوف حماس من خسارة الرأي العام العربي، ورغبتها في أن لا تظهر كمُعادية للمعارضة السورية التي كانت ذات أغلبية سنية رغم تنوّعها الطائفي. لاحقاً عملت حماس على تطبيع علاقتها مع النظام، وهو ما أدّى استنكار واسع وشديد اللهجة من جانب المعارضة السورية، حتى أن الائتلاف الوطني السوري المُعارض أصدرَ بياناً دعا فيه حماس إلى عدم التطبيع مع الأسد. هكذا، شعر السوريون بأن حماس ليست مهتمة بصراع الشعب السوري للتحرر من طغيان الأسد ومحور الممانعة.
كنتيجة لكل هذا السياق الطويل، راح بعض السوريين، والعرب، ينظرون إلى الفلسطينيين وقضيتهم كعقبة، إمّا أمام مصالحهم أو أمام تحرُّرهم الوطني: لماذا يحظى الفلسطينيون بنسبة كبيرة من التغطية الإعلامية في العالم العربي وخارجه؟ لماذا هناك شبه إجماع عربي على الدعم غير المشروط للفلسطينيين ومقاومتهم؟ لماذا لا يزال عدد غير قليل من الفلسطينيين والفصائل الفلسطينية يدعم بشار الأسد؟ ألا يستحق السوريون الدعم والتعاطف مع ثورتهم المحقة بوجه طغيان الأسد؟
لقد أدى فشل الربيع العربي إلى خيبة أمل كبيرة أثَّرت على الملايين من العرب، وزادت التشرذم في جميع القضايا، خاصةً القضية الفلسطينية. في أعقاب 7 أكتوبر، انتقدَ الناشط السوري عمر الشغري (بخجل) حماس، وتعرَّضَ نتيجة ذلك إلى حملة شعواء تخوينية من مؤيدي النظام. ولكن، عندما تزايدت تصريحاته الداعمة لأهل غزة وللتظاهرات الداعمة لهم (وليس لحماس)، تصاعدت بالمقابل الأصوات التي اتّهمته بإهمال شعبه، أو أنه يسعى وراء مصلحته المادية، أو أنه يريد إرضاء قطر والجزيرة. لكن لماذا ظهرت هذه الاتهامات التي أصبحت تشبه خطاب النظام؟
من نتائج فشل الربيع العربي صعود نوع من القومية أو الوطنية المُحبَطة، أو ما يمكن تسميتها بـ«الوطنجية». يَظهرُ هذا النمط على شكل أنانيّة غير منطقية ناتجة عن شعور أصحابها بالعجز والإحباط، وعلى شكل عدم اكتراث يقود إلى العداء لقضايا المحيط أو القضايا التي تحصل على اهتمام إعلامي. تقود هذه «القومية» أو «الوطنية» إلى رفض شبه مطلق لأي مظهر من مظاهر التضامن الخارجي، وتتضاعف هذه الحساسية في موضوع فلسطين. يظنُّ هؤلاء أنهم هكذا يُحصّلون حقهم من تُجّار قضاياهم، وينجحون في إيصال أصواتهم.
الأنظمة الاستبدادية هي المستفيد الأكبر من هذه الفجوة في فراغ الخطاب العام. بحكم سيطرة نظام الأسد على الإعلام السوري، دأبَ الإعلام على نشر دعاية المقاومة والتصدي لإسرائيل، مُخوِّناً أي معارضة له. عندما يبتعد أصحاب الرأي الحر عن ملف حساس، يحتكرُ محورُ الممانعة ونظامُ الأسد الفضاء العام الداعم لفلسطين، ما يضفي عليهم شرعية غير مسبوقة ونصراً معنوياً يحرم معارضيه من أي أرضية للتصدي للتخوين.
لكن هل يمكننا اعتبار «الوطنج» وطنيين؟ أعتقد أنه هذا التوصيف يصحُّ أيضاً، بمعنى أن موقفهم هذا نمطٌ من أنماط «الوطنية»، لكن تسمية «وطنجية» المرتبطة بالعربية المحكية بدل الفُصحى تدلّ على وطنية مبنية على لوم «الغريب» وقضاياه، واعتبار البلد معزولاً بما يجعل الانقطاع عن المحيط أمراً ممكناً في نظرهم.
يُظهر أيضاً ربط القضية الفلسطينية بالأنظمة القمعية غياباً للمبدئية في العمل السياسي. يناضل الشعب الفلسطيني في وجه احتلال وفصل عنصري وتطهير عرقي يهدف إلى طرده من أرضه بالقوة، في ما الشعب السوري يناضل ضد نظام قمعي قتل واعتقل الملايين من شعبه بدعم من أنظمة أجنبية ذات مطامع توسعية. كلا الشعبين يسعى للعيش في دول ديمقراطية تحترم حقوق الجميع دون تمييز؛ أين إهمال القضية السورية في دعم مسار تحرُّر شعب من قبضة الاحتلال يسعى لتأسيس دولة وتقرير مصيره؟
نرى طلائع «وطنجية» تظهر في الأردن ومصر وسوريا، خاصةً بعد 7 أكتوبر. نراها للأسف تأخذ حيّزاً كبيراً من الفضاء العام في لبنان، حيث نعاني من «وطنجية» مماثلة تجتمع مع شوفينية لاتاريخية تُصوِّر لبنان كوطن واحد منذ الأزمنة الفينيقية. والخطر في الوطنجية اللبنانية أنها مؤذية بحق السوريين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، وقد شكّلت ولا تزال خطراً على سلامتهم وحياتهم.
منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، تلجأ الطبقة الحاكمة إلى حملات إعلامية بين الحين والآخر تلوم فيها اللاجئين السوريين على الانهيار بحجة أنهم عبء مالي على الدولة، وأنهم يستأثرون بفُرَص عمل هي من حق اللبنانيين. أدى هذا الشحن الديمغرافي، وما صاحبه من تحريض طائفي من قبل بعض الأحزاب، إلى أعمال عنف بحق بعض السوريين، بالإضافة إلى قيام الأجهزة الأمنية باعتقال وترحيل بعض السوريين (بعضهم مطلوب من قبل نظام الأسد)، وتشديد القيود القانونية على إقامتهم وعملهم.
مؤخراً، أبرمت حكومة لبنان اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي، وتعّهدت ببدء إجراءات «عودة آمنة» للسوريين، ومنع هجرتهم بالبحر (وهكذا يكون لبنان حرس حدود بحرية لأوروبا) لقاء مساعدات بقيمة مليار يورو. أدى هذا إلى تصاعد النقمة على السوريين، حتى من قبل بعض «التقدميين اللبنانيين» المعارضين لنظام الأسد، بحجة أن الطبقة الحاكمة تُعوِّمُ نفسها على حساب اللبنانيين مُتذرِّعة باللاجئين. ماذا يُظهِرُ هذا؟ يُظهر غياب النقد الذاتي بعد 17 تشرين لدى اللبنانيين، الذين يفضلون لوم السوريين بدلاً من تحليل أسباب عجزهم عن إحداث تغيير سياسي. وهكذا يصبح الإحباط سيد الموقف، في لبنان وسوريا، مغذياً الأنظمة المستبدة.
لقد دفعنا في لبنان ثمناً باهظاً بسبب الانعزالية الدوغمائية، ولا زلنا نرى آثارها في نظرتنا إلى اللاجئين السوريين والقضية الفلسطينية. لم يُسعفنا رفضنا التعاطي مع قضايا المحيط في حلّ مشاكلنا ومواجهة فساد طبقتنا السياسية، بل أعطاها ذخيرة لتعويم نفسها عبر اللعب على البعد الطائفي والديمغرافي. الجيل الجديد من «الوطنج» اللبنانيين عنصري وطائفي وزينوفوبي، وحاقد دون أي أجندة سياسية أو مخطط واقعي للوصول إلى السلطة وبناء المؤسسات. وهنا نسأل: هل سيغطي بعض «الوطنج» السوريين على فشل معارضة مأزومة من خلال دوغمائية غير مُنتجِة ولا مفيدة للشعب السوري؟ إلى متى سنبقى نلوم غيرنا على تقصيرنا وضعفنا؟ سواء في لبنان أو في سوريا أو في غيرهما.
إن أزمة التحرر الوطني واحدة: جميعنا نُريد أن نصبح أحراراً وأن نبني مجتمعات قادرة على إنشاء دول ومؤسسات ديمقراطية، دون التقوقع في فقاعة لوم الآخر والوطنجية غير المفيدة. عندما نبتعد عن مبادئنا وننسى تَرابُط صراعاتنا، تنتهي السياسة وتعود العصبية وينتصر الطغاة.