يصعبُ العثور على إحصائيات دقيقة للأطفال المعرّضين للخطر (وهو الاسم البديل لأطفال الشوارع)، الذين إما يسكنون الطرقات أو دورَ الضيافة أو الإصلاحيات، ومنهم من ينتهي في سجون الأحداث. وإلى جانب غياب الإحصائيات الدقيقة، تغيبُ المعايير التي تضبط فاعلية الوسائل التربوية لتعديل سلوك أولئك الأطفال، وبخاصة الجانحين منهم، من مرتكبي الأفعال العدوانية كالقتل والاعتداءات البدنية أو السرقات وتعاطي المخدرات أو الإتجار فيها، وهي أفعالٌ يؤدي ارتكابها إلى حتمية الانتهاء في المؤسسة العقابية التي تدعى بالـ«الأحداث». تركّزُ هذه المقالة على إمكانيات استخدام المسرح في العملية التربوية الخاصة بأولئك الأطفال.
الأطفال المعرّضون للخطر على مسرح نيل وماكارنكو
كان المربي الإنجليزي والمتخصّص في علم النفس ألكسندر نيل، والذي أسس في عشرينيات القرن الماضي مدرسة داخلية للأطفال صعبي المزاج ممّن طُردوا من المدارس إما لفشلهم الدراسي أو لسلوكهم «المنحرف»، يُفسّرُ الجنوحَ لدى الطفل بأنه ناتجٌ عن انعدام «الحب»، حُب الطفل لمن حوله من ناحية، وحُب الآخرين له من الناحية الأخرى. من هنا جاءت وسيلتهُ في تغيير هؤلاء الأطفال عن طريق تقديم الحب لهم ليصبحوا بدورهم محبين للآخرين، مما يؤثر إيجاباً في تعديل سلوكهم الجانح.
أما المربي السوفييتي أنطون ماكارنكو، الذي أدار إصلاحية لتربية أحداث عتيدِي الإجرام لسنوات عديدة بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية، كان يرى أن الحل لتغيير الأطفال الجانحين يكمن في أمرين؛ أولهما «حياة الجماعة»، بمعنى أن يعيش الطفل مع آخرين يشتركون معًا في كل شيء، وثانيهما «العمل»، أي أن يقوم الطفل بأداء مهام يرى نتيجتها النهائية. وبهاتين الوسيلتين نجح في تغيير سلوك مئات من الأطفال الجانحين عتيدِي الإجرام.
إذا كان الأطفال المعرّضون للخطر، وبخاصة الجانحين منهم، بحاجة إلى «الحب» كما قال نيل أو إلى «العمل» و«حياة الجماعة» كما قال ماكارنكو، فيمكن القول إن النشاط المسرحي هو من أكثر الأنشطة التي تتوفر فيها هذه العناصر الثلاثة. إذا نظرنا إلى طبيعة النشاط المسرحي فسنجد أنه نموذج مثالي لتكوين حياة الجماعة، فمن خلاله يمتلك الأطفال هدفًا مشترَكًا يتمثّل في إنتاج عرض مسرحي، ولتحقيق هذا الهدف وإعداد العرض يقومون بالعمل الجماعي على مدار أسابيع وربما أشهر، وهذا ما يساهم بقوة في تَكوُّن روابط الجماعة. يتضمّن العمل المسرحي الكثير من المهام العملية التي يؤديها الأطفال بأنفسهم ويرَون نتيجتها أمام أعينهم، ولأنها عديدة ومتنوعة ولا تقتصرُ على التمثيل، يجدُ كل طفل عملًا يتوافق مع موهبته واهتماماته، ويشعر كل منهم بقيمته وأهميته، كما يشعرون بتقدير الآخرين لهم والقدرة على التواصل، سواء كانوا الزملاء في الإعداد أو الجمهور عند العرض.
من المثير للانتباه أن المربييَن، ماكارنكو ونيل، اعتمدا على النشاط المسرحي اعتمادًا كبيرًا في تربيتهم للجانحين، فيحكي نيل في مذكراته سمرهيل – مقاربة راديكالية لتربية الأطفال أنهم كانوا يقيمون ليلة الأحد من كل أسبوع عرضًا مسرحيًا، معتبرًا التمثيل المسرحي جزءًا ضروريًا في التربية. أما ماكارنكو في كتابه الأشهر قصيدة تربوية، وهي رواية ذاتية يحكي فيها مذكراته، يروي قائلًا: «كان المسرح بالنسبة للإصلاحية عملًا على شاكلة العمل الزراعي وإصلاح المنطقة ونظافة الأمكنة».
ربما يبدو التحدُّث عن نشاط مسرحي للأطفال المعرّضين للخطر رفاهية، وقد يرى البعض الآخر أنه علينا حلّ مشكلة إقامة هؤلاء في الشارع باحثين لهم عن مأوى قبل التفكير في إجراء نشاط مسرحي معهم. ولكن في الواقع عندما نتحدث عن المسرح لا نتحدث عنه بوصفه نشاطاً ترفيهياً، بل بوصفه وسيلة تربوية ضرورية لتعديل السلوكيات الصعبة، تلك التي لا تناسبها الوسائل التربوية المستخدَمة مع الأطفال الذين يعيشون حياة أقرب للنموذجية، هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى لأن فيه ما يخلِّص الأطفال من الآثار النفسية السيئة الناتجة عما يتعرّضون له في حياتهم ويساهم في تعافيهم.
الفن المسرحي وحياة الأطفال المعرضين للخطر
توجّهتُ إلى مجموعة من المتخصصين الذين عمِلوا مع الأطفال المعرّضين للخطر من خلال المسرح في مصر لأسألهم عن الدور الذي لعبه المسرح وتأثيره في هؤلاء الأطفال. يقول عماد إبراهيم، مشرف دار الضيافة للأطفال المعرضين للخطر في جمعية الحرية لتنمية المجتمع والبيئة بالإسكندرية، إن المسرح يساعد الطفل على التنفيس عن انفعالاتٍ ناتجة عن مواقف حياتية تضمّنت انتهاكاتٍ تعرّض لها. أما كارولين كمال، مؤسسة ومديرة مبادرة فن وحياة التي تعمل على تنمية الأطفال المعرضين للخطر من خلال النشاط المسرحي، فتقول إن المسرح يدفع الأطفال إلى لعب شخصيات مختلفة عن شخصياتهم، وهذا يخفّف عنهم الأعباء التي يحملونها داخل قلوبهم، ثم أشارت إلى فن الحكي، وهو نوع من الفن المسرحي الذي يقوم فيه الممثّل بمخاطبة الجمهور حاكيًا قصته، فتخبرنا أن الحكي يجعل الأطفال يتصالحون مع قصصهم ومع أسرهم الذين آلموهم، كما يجعلهم يقبلون أنفسهم كما هم. كما يؤكد عماد إبراهيم أن أول خطوة في العلاج لهذا الطفل هي أن يتكلم، وهو ما يجري في عرض الحكي عندما يواجه مشكلته ويحكيها أمام أي شخص.
هل يمكن أن يكون المسرح بديلًا لدور الأحداث؟
مِن الأطفال المعرضين للخطر هناك مَن ارتكب جرائمَ كالقتل أو السرقة، أو قام باعتداءات بدنية أو اتجار في المخدرات، وهي جرائم تودي إلى سجن الأحداث. والتحدث عن نشاط مسرحي لتغيير هؤلاء الأطفال قد لا يروق بشكل خاص للمتمسّكين بفكرة العقاب والسجون، لكن هل يمكن أن يكون العمل المسرحي بالفعل وسيلة لتربية هؤلاء الجانحين في مجتمعنا العربي بدلًا من الأحداث؟
يرى عماد إبراهيم أنّ اليافع الذي مارس القتل أو السرقة لن يستوعب ما يُقال له من اتهامات، لأنه غير واعٍ بذاته، وبدلًا من ذلك يمكننا أن نطلب منه لعب الدور الذي مارسه في الحياة على خشبة المسرح، هنا سيصبح الجمهور مرآته، ما يجعله يرى ذاته من الخارج. وأكد على أن الأساليب العقابية غير مجدية مضيفاً: «اللي بيخش السجن بيطلع أوحش».
أما المخرج المسرحي رأفت البيومي الذي عمل لسنوات مع الأطفال المعرضين للخطر، ومنهم أطفال الأحداث، فيخبرنا من واقع تجربته أن الكثير من الأطفال كانوا يختبرون مشاعر غضب وميل كبير إلى العنف، لكن سلوكهم تغيّر جذريًا بشكل ملفت جدًا بعد مرور فترة زمنية من العمل المسرحي، فيؤكد أن المسرح يمكنه تغيير سلوك الأطفال الجانحين وهو ما اختبره شخصيًا. هنا يستعرض لنا رأفت مسار العمل مع الأطفال أثناء الإعداد للنَص المسرحي واختيار شكل حكيهُ أمام الجمهور؛ في البداية يقوم الطفل برواية ما عاشه ومارسه، بعد ذلك يقوم بتجسيده، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة المناقشة في المشاهد التي رويت وجُسّدت، فيطرح المدرب عليه أسئلة حول مشاعره عندما قام بالسلوك وتصوراته عن مشاعر الآخر، وماذا سيكون سلوكه إذا تكرر الموقف… إلى آخره من الأسئلة التي تجعل الطفل يحلل سلوكه. فيوضّح رأفت أن هذه التساؤلات تجعل الطفل يرى ما قام به من زوايا متعددة ومن منظور الآخر، وبالتبعية يكتشف تلقائيًا بشكل ذاتي إن كان ما فعله صحيحًا أم خاطئًا. هنا يشير إلى أهمية بناء الثقة بين الطفل والمدرب، وهو ما يجعل الطفل يروي قصته وماضيه بلا خوف، وهذا «الحكي» يكسرُ دائرة العنف المتكونة لديه. في السياق نفسه تؤكد كارولين على أن التغيير الذي يحدث للطفل لا يأتي من المهارات الفنية التي يتعلمها من المدرب فحسب، بل من العلاقة التي تتكون بينه وبين المدرب في أثناء العمل، لذلك لا بد أن يمتلك المدرب المنهجية التربوية بجانب المهارة الفنية، فتشير أن لدى هؤلاء الأطفال تعطّش شديد للعلاقات الإنسانية، وأنهم يبحثون عن قائد ومثل أعلى لهم.
في النهاية يبقى لنا أن نتساءل: إذا كان المسرح يغيِّر من يَصعُب تغييرهم بواسطة الوسائل التربوية والعقابية التقليدية، ألا يستدعي ذلك التفكير في تبنّيه كوسيلة للتربية مع هؤلاء الأطفال داخل الإصلاحيات والأحداث؟