تسعة عشر قتيلاً وأكثر من 2500 جريح، كانت حصيلة التظاهرات التي قام بها الفاشيون من الرابطات الملكية والقومية التابعة لليمين المتطرف في ساحة الكونكورد وسط باريس في السادس من شباط (فبراير) عام 1934. كان يوماً دموياً اقتربَ فيه اليمينيون المتطرفون من السلطة خلال الجمهورية الثالثة في فرنسا، وأطاحوا بحكومة رئيس الوزراء الاشتراكي الراحل إدوار دلادييه، لكنّ انتفاضةً شعبيةً أنقذت البلاد قادها نشطاء شيوعيون واشتراكيون وضعت زعماء اليسار تحت ضغطٍ شديدٍ لتَرك خلافاتهم جانباً وإعلان تحالفٍ لخوض الانتخابات التشريعية. نجحت الضغوط وأعلن الزعماء ولادة «الجبهة الشعبية» بقيادة ليون بلوم لتخطف بعد سنتين فوزاً ثميناً من اليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية عام 1936. 

يعدُّ يوم السادس من فبراير عام 1934 واحداً من أهم الأيام في التاريخ الفرنسي، إذ يرمزُ إلى لحظة الأزمة السياسية العميقة والتوترات الاجتماعية التي ستصبح نقطة تحوّلٍ في فترة ما بين الحربَين العالميتين، وبدايةً لعدم استقرار سياسي ستعيشه الجمهورية الثالثة لفترة طويلة، شبيهٍ إلى حدٍّ كبير بحالة عدم الاستقرار الذي تعيشه اليوم الجمهورية الخامسة في عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، بعد إعلانه حلَّ البرلمان في أعقاب انهيار كتلته النيابية في البرلمان الأوروبي بعد الانتخابات التي جرت في التاسع من حزيران (يونيو). دفع هذا نشطاء الأحزاب اليسارية في فرنسا إلى الخروج في تظاهراتٍ عارمة في الشارع لمطالبة قادة أحزابهم بترك الخلافات جانباً وخوض الانتخابات التشريعية المبكرة في 30 حزيران (يونيو) و7 تموز (يوليو) متحدين. صورة تشبه ما حدث عام 1934، ستُجبر القادة على الرضوخ وإعلان ولادة «الجبهة الشعبية الجديدة».

يجمع تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» الأحزاب اليسارية الرئيسية في فرنسا: الحزب الاشتراكي، والحزب الشيوعي، وحزب الإيكولوجيين (الخضر)، وحزب فرنسا العصية (الأبية). يُضاف إليهم أحزاب أصغر: حزب مكان عام، وحزب اليسار الجمهوري والاشتراكي، وحزب جيل، والحزب الجديد المناهض للرأسمالية، وحزب اليسار الاشتراكي البيئي.

وبينما لم تصل الأزمة الحالية إلى مرحلة إراقة الدم بعد، إلا أنها حلّلت دم الأحزاب اليسارية سياسياً، فمع إعلان ولادة «الجبهة الشعبية الجديدة»، يحرِصُ ماكرون في كل تصريحاته ومقابلاته ومؤتمراته الصحفية على وضع «الجبهة الشعبية الجديدة» وحزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف في خانة واحدة، ولأن أحداً لم يكن يتوقع التئام جرح اليسار سريعاً واتحاده بهذه الصورة، استحضر ماكرون سريعاً مشهد فوز «الجبهة الشعبية» في انتخابات عام 1936، وهذا المشهد هو آخر ما يتمنى أن يحصل. في اليوم التالي لإعلان ولادة «الجبهة الشعبية الجديدة»، سخر ماكرون منها بالقول: «لقد كنت أفكر خلال الـ24 ساعة الماضية في ليون بلوم. إذا كان هناك من يجب أن يتقلّب في قبره، فهو ليون بلوم». وليون بلوم هو زعيم «الجبهة الشعبية» في نسخة الجمهورية الثالثة، والذي أنقذ فرنسا في سنوات الاضطراب السياسي الكبير من الذوبان في الرابطات اليمينية المتطرفة. ينطلق ماكرون في سخريته هذه من الاعتداءات والإهانات التي كان يتلقاها بلوم لكونه يهودياً. فبعد فوز التحالف اليساري بالانتخابات التشريعية آنذاك عنونت صحيفة الحركة الفرنسية، وهي حركة سياسية قومية وملَكية فرنسية يمينية متطرفة، صفحتها الأولى: فرنسا تحت حكم اليهود. لكن ماكرون اليوم يعتبر أن بلوم «يتقلّب في قبره» بسبب تحالف اليسار الحالي الذي يشمل «فرنسا العصية» بزعامة جان لوك ميلانشون، آخذاً عليه أن حزبه وهو شخصياً «معاديان للسامية»، وهذا الاتهام هو بمثابة «قشرة الموز» التي وضعها ماكرون في طريق التحالف اليساري الجديد بحسب تعبير الصحفي أرنو بوكومون.

فرنسا العصية والحرب الإسرائيلية على غزة

يستند ماكرون في اتهامه لـ«فرنسا العصية» بمعاداة السامية إلى موقف الحزب من الحرب في غزة، إذ يكاد «فرنسا العصية» أن يكون الطرف السياسي الوحيد الذي يحمل موقفاً واضحاً وقوياً في رفض خطة الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل في غزة، كما أنه الركيزة الأساسية في التظاهرات التي تُنظَّم منذ السابع من أكتوبر تضامناً مع القطاع الفلسطيني. نواب الحزب خاضوا معارك كبيرة في مختلف الأروقة السياسية ووجدوا أنفسهم وحيدين في مواجهة اليمين واليمين المتطرف وحزب الرئيس الفرنسي «النهضة»، في حين تخلّت الأحزاب اليسارية عن مساندتهم، بل إن بعض الشخصيات في الحزبين الشيوعي والاشتراكي اندفعت بقوة للمشاركة في الحملة ضد «فرنسا العصية»، خصوصاً خلال فترة حملة الانتخابات الأوروبية التي جرت في التاسع من حزيران (يونيو الحالي). فالحزب الذي يصنّفه ماكرون «يساراً متطرفاً»، ويصنّفه مجلس الدولة ووزارة الداخلية، المسؤولان عن تصنيف الأحزاب في فرنسا، بالحزب اليساري فقط، كان يمثل تهديداً حقيقياً للاشتراكيين ومرشّحهم رافائيل غلوكسمان، إحدى الشخصيات المثيرة للجدل في صفوف الحزب الاشتراكي بسبب مواقفه المائعة تجاه ما يحدث في غزة، وحتى تجاه التظاهرات التي كانت تخرج في فرنسا. ففي تظاهرة عيد العمال في الأول من أيار (مايو)، رفض نشطاء من الحزب الشيوعي مشاركة غلوكسمان في التظاهرة وقاموا بطرده بسبب سلسلة من المواقف التي برّرت جزئياً الحرب الإسرائيلية على غزة. وخلال الاعتصامات والتحركات الطلابية، خصوصاً ما حدث في معهد العلوم السياسية (سيانس بو)، اعتَبَر غلوكسمان أن لإدارة المعهد الحق في الطلب من الشرطة إنهاء الاعتصام بالقوة، وفي ذلك تماهٍ مع إدارة المعهد ومسؤولين في حكومة الرئيس ماكرون، بالإضافة إلى مسؤولين في تيارَي اليمين واليمين المتطرف اتهموا الطلاب بأنهم نشطاء في حزب «فرنسا العصية»، وبأنهم معادون للسامية، ما يتطلّب تدخُّل الشرطة لإنهاء تحرُّكهم الاحتجاجي.

غلوكسمان، هولاند، «فرنسا العصية»

بسبب هذه الأجواء المشحونة سياسياً، غاب غلوكسمان عن الصورة العائلية الجماعية التي التقطها ممثلو وقادة الأحزاب اليسارية ليلة الإعلان عن «الجبهة الشعبية الجديدة». وهذا الغياب حمل دلالاتٍ كثيرةً يشير بعضها إلى هشاشة التحالف الجديد واحتمال انهياره في أي لحظة. فالتباينات داخل الأحزاب كبيرة جداً، والتيارات متشعبة حول مواضيع كثيرة، لا سيّما غزة والاعتراف بدولة فلسطين بالإضافة إلى ملف الهجرة. غلوكسمان، نجم الحزب الاشتراكي في الانتخابات الأوروبية على سبيل المثال، يصفُ حركة حماس بالحركة الإرهابية، ويرفض مصطلح «الإبادة الجماعية» لوصف ما تفعله إسرائيل في غزة، وهو الأمر الذي يقف حزب «فرنسا العصية» على النقيض منه، إذ يصنف هجوم «حماس» بالـ«جريمة ضد الإنسانية»، ويتبنّى مصطلح «الإبادة الجماعية». 

أما في ما يتعلق بملف الهجرة، فالتباينات كبيرة داخل الحزب الاشتراكي، وهي مسألة يعبِّر عنها فرانسوا هولاند، الرئيس الاشتراكي السابق وعرّاب الخط السياسي لغلوكسمان، بمواقف بعضها متناسق مع قانون الهجرة الجديد الذي أقرته حكومة ماكرون، حيث يوافق هولاند على «إعادة المهاجرين غير الشرعيين على الأراضي الفرنسية، والذين تم رفض حقهم في اللجوء، إلى بلدانهم الأصلية»، وهي رؤية يعارضها حزب «فرنسا العصية» بشدة، خصوصاً في حالة «المهاجرين السوريين»، وهذا الموقف عبّرت عنه رئيسة كتلة الحزب في البرلمان الأوروبي مانو أوبري خلال المناظرة التي نظمتها قناة LCI الفرنسية أثناء حملة الانتخابات الأوروبية. قالت أوبري في ردها على سؤال حول إعادة المهاجرين: «تريدون إعادة السوريين إلى من؟ إلى بشار الأسد؟ إلى داعش؟ نحن بحاجة إلى سياسة إنسانية وعملية. ضمان الترحيب الكريم والعمل على أسباب الهجرة لأن لا أحد يترك أرضه من عن قناعة وسعادة». بخلاف ذلك، يبدو أن الأحزاب اليسارية متفقة على برنامجٍ اقتصادي، فقد قدمت «الجبهة الشعبية الجديدة» برنامجاً اقتصادياً متماسكاً ساهمت فيه الحائزة على جائزة نوبل للاقتصاد إستير دوفلو والباحثة الاقتصادية البارزة جوليا كاجي، ودعمه 300 اقتصادي فرنسي في عريضةٍ نشرتها مجلة «نوفيل لوبس» الفرنسية.

هذا لا يلغي حقيقة تباين التيارات داخل أحزاب اليسار، وصراعها على قيادة الشارع الذي يهيمن عليه حزب «فرنسا العصية» انتخابياً بفارقٍ هائلٍ في الأصوات أثبتته الانتخابات الرئاسية الأخيرة، عندما خسر ميلانشون التأهُّل للدورة الثانية من الانتخابات لمواجهة ماكرون أمام مارين لوبان بفارق أقل من 500 ألف صوت، وذلك كان بسبب إصرار مرشحي أحزاب الاشتراكي والشيوعي والخضر على عدم الانسحاب من السباق الرئاسي وإعطاء أصواتهم لميلانشون، برغم معرفتهم المسبقة بتواضع نتائجهم. في تلك الانتخابات حصل ميلانشون على 7 ملايين و712 ألفاً و520 صوتاً، في حين حصل مرشحو الأحزاب الثلاثة مجتمعين على 3 ملايين و46 ألفاً و755 صوتاً. ولو اجتمعت هذه الأصوات كلها في صندوق ميلانشون لتجاوز ما حصل عليه ماكرون بنحو مليون صوت في الدورة الأولى من الانتخابات.

ذلك السيناريو يبدو أنّ تياراتٍ مهيمنة داخل الاشتراكيين والخضر والشيوعيين ما تزال مستعدةً لاستخدامه في أي انتخابات. فمنذ اليوم الأول لولادة «الجبهة الشعبية الجديدة»، عبّرت شخصيات من الأحزاب الثلاثة، بمبادرات شخصية، عن رفض أن يكون ميلانشون رئيساً للوزراء في حال تمكّن التحالف اليساري من الفوز بالأغلبية النيابية خلال الانتخابات، نظراً لشخصية ميلانشون الخِلافية بسبب مواقف سابقة له جعلته متهماً بدعم الديكتاتوريات، وخصوصاً في روسيا والصين. ذلك دفع الرئيس السابق فرانسوا هولاند إلى الطلب من ميلانشون أن يصمت خلال الحملة الانتخابية، في حين اعتبر فرانسوا روفان، وهو شخصية جدلية ثانية داخل حزب «فرنسا العصية»، أن رئيس حزبه «يشكل عقبةً» أمام فوز «الجبهة الشعبية الجديدة». سبق ذلك أن أوضح ميلانشون موقفَه من مسألة سعيه لمنصب رئيس الوزراء في مقابلة مع قناة «فرانس 2» قائلاً: «أنا لست معنياً بهذه المعركة (..) أنا لست مرشحاً لأي منصب»، تاركاً هذه المسألة لقادة الأحزاب من أجل إقرارها بالتوافق.

في الواقع، هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها ميلانشون الظهور بموقف السياسي «الزاهد» في السلطة، برغم جنوحه دوماً نحو المواجهة، وفي ذلك «الزهد» رصانةٌ سياسيةٌ نادرة من أجل تغليب المصلحة العامة التي تقضي بمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، حتى لو على حساب المكاسب الشخصية، لكن في جزء منها هي محاولة متأخرة من قبل ميلانشون للقول إنه تغيّر وسط حالةٍ من الرفض الشديد لنموذج القيادة الراديكالي الذي حافظ عليه طيلة سنوات، وحالة الرفض هذه امتدت إلى صفوف حزبه وخلقت انشقاقاتٍ قد تؤثّر على مستقبل الحزب وصورته كحاضنة لشريحة واسعة من جمهور الحزبين الاشتراكي والشيوعي، كانت قد انضمت إلى «فرنسا العصية» بعدما وجدت نفسها يتيمةً في أعقاب نتائج الحزبين المتدنية في الانتخابات الرئاسية عام 2022 والانتخابات البرلمانية التي تلتها. لكنّ لحظة الإدراك هذه لا تبدو أنها موجودة عند الحزبين المذكورين، بل على العكس من ذلك، ظهرت محاولات لإضعاف «فرنسا العصية»، خصوصاً من قبل الاشتراكيين والشيوعيين المنضوين داخل «الجبهة الشعبية». تلك المحاولات مصدرها تيارٌ يحمل أفكاراً أقل تسامحاً مع مسائل مفتاحية لدى جمهور اليسار في فرنسا، مثل العنصرية وعنف الشرطة، يضاف إليها اليوم قضية الحرب في غزة، وهذا التيار يعارض جذرية مواقف «فرنسا العصية» تجاه هذه القضايا. ففي مناسباتٍ عديدة، شاركت أحزاب الاشتراكي والشيوعي والخضر في تظاهراتٍ دعا إليها أو شارك فيها اليمين المتطرف. إحدى هذه التظاهرات نظمتها نقابات الشرطة المدعومة من قبل اليمين المتطرف في فرنسا في أيار (مايو) 2021 ضد مظاهرات شعبية خرجت سابقاً للتنديد بعنف الشرطة. وفي ما يخص الحرب في غزة، شاركت هذه الأحزاب أيضاً في «مسير ضد معاداة السامية» دعت إليه الحكومة الفرنسية في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 وهيمن عليه حزبا اليمين واليمين المتطرف، ما أثار انتقادات واسعة للأحزاب الثلاثة من قبل «فرنسا العصية» وجمهوره، خصوصاً أن قيادات الاشتراكيين والشيوعيين والخضر، كانت متحفظةً حينها على إدانة الهجوم الإسرائيلي على غزة، وفُهم ذلك على أنه موقفٌ يتّسق مع موقف الحكومة الرسمي الذي أعلن «دعماً غير مشروط لإسرائيل» في حربها على غزة.

يمثل هذا التيار خطاً يتقاطع مع أفكارٍ جمهورية (يمين الوسط). سياسياً، يمثّله فرانسوا روفان من حزب «فرنسا العصية»، وسكرتير الحزب الاشتراكي أوليفيه فور بالإضافة إلى هولاند، ويانيك جادو مرشح الرئاسة السابق من «حزب الخضر». أما شعبياً، فيعبّر عن هذا الخط أفراد الطبقة الوسطى والبرجوازية اليسارية الصغيرة، وهي رافضة لهيمنة «فرنسا العصية» على معسكر اليسار اليوم، ولعلّ بعض أفرادها سيفضّل التصويت للكتلة الرئاسية إذا ما انحسرت المواجهة في إحدى الدوائر الانتخابية بين مرشح لماكرون ومرشح لميلانشون. هذا التيار داخل اليسار يستغل استبعادَ «فرنسا العصية» لعدد من نواب الحزب السابقين (كليمانتين أوتان، أليكسي كوربيير، راكيل غاريدو… إلخ) من قوائمه الانتخابية في الانتخابات المقبلة، ويبدو أنه قد شكّل بالفعل تحالفاً معهم وأقنعهم بأن ينافسوا المرشحين الآخرين، رفاقهم في «فرنسا العصية»، وهي لحظة يرى فيها هذا التيار فرصة كبيرة جداً للتخلص من الجناح الأكثر جذرية في «فرنسا العصية»، وتمثّله رئيسة كتلة الحزب في البرلمان ماتيلد بانو والنائب دافيد غيرو والقادمة الجديدة إلى صفوف الحزب، النائبة في البرلمان الأوروبي من أصل فلسطيني، ريما حسن. محاولة التخلص من هذا الجناح بدأت تتّضح مع إعلان روفان في تجمع انتخابي في مونتروي معقل «فرنسا العصية» دعم زميله في الحزب أليكسي كوربييه، في حين شارك أوليفيه فور مع جادو بتجمُّع انتخابي للمرشحين المستبعدين من «فرنسا العصية» لإعلان دعم ترشحهم في الانتخابات، حيث أن الأعضاء المستبعدين قرروا الترشح بشكل فردي برغم عدم إدراجهم على القوائم الانتخابية لحزبهم، وهذا سيضعهم في يوم الانتخابات وجهاً لوجه أمام مرشحين آخرين من حزبهم.

هذا الحاضر الذي تعيشه أحزاب اليسار، يحيل بشكلٍ كبير إلى وضعها خلال الجمهورية الثالثة، عندما كانت الصراعات والمنافسة بين اليسار الراديكالي والشيوعيين والاشتراكيين كبيرة جداً نتيجة لاختلافات إيديولوجية وإستراتيجية عميقة تشبه إلى حدٍّ ما خلافات معسكر اليسار الحالي. وإذا ما كان يساريو اليوم يبدون رغبةً قويةً في تكرار تجربة رفاقهم في الجمهورية الثالثة، إلا أن التجربة السابقة نجحت في حينها بسبب سنتين شكّلت مهلةً لتلك الأحزاب لتسوية خلافاتها قبل موعد الانتخابات التشريعية، في حين أن «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تشكلت مؤخراً، ترك لها ماكرون أسبوعين فقط لتسوية خلافاتها قبل الانتخابات، وقشرة موزٍ هي «فرنسا العصية».