سواء كان الأمر يتعلّق بالدفاع عن حقوق العمال، أو معارضة الأنظمة القمعية والاستبدادية، أو مقاومة التدخل الأجنبي، نصَّبت الحركات اليسارية تقليدياً نفسها باعتبارها راعية المضطهدين ونصيرة مبادئ المساواة والتحرُّر. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، واجهت الجماعات اليسارية في مناطق مختلفة في العالم تحديات كبيرة في الحفاظ على أهميتها/قيمتها السياسية، وفي ظل حماستها لمواجهة الإمبريالية الغربية، تحالفت مع «شركاء غير إيديولوجيين» ضمن ما اعتُبِرَ نهجاً استراتيجياً/تكتيكياً.
وقد تمثَّلَ أحد أهم هذه التحالفات في التعاون بين بعض الحركات اليسارية والجماعات الإسلامية. وجدت جماعات وتيارات يسارية عديدة في الإسلاميين، بقاعدتهم الشعبية ورفضهم للنفوذ الغربي، حلفاء «استراتيجيين» يشاركونها أهداف محاربة الهيمنة الغربية ومظاهرها، سواء كانت هذه المظاهر في هيئة تدخلات عسكرية أو استغلال اقتصادي أو إمبريالية ثقافية. ورغم أن هذا التعاون بدا متناقضاً على أسس إيديولوجيّة، إلا أنه اعتُبِرَ خياراً عَملياً مدفوعاً بأهداف مشتركة، أو عدو مشترك.
استراتيجية التحالف
من الصعب تحديد اللحظة الأساسية للتقارب بين الحركات الإسلامية والإيديولوجيات اليسارية، ولكن يتفق كثيرون على أن بذور هذا التقارُب بدأت بالتشكُّل في اللحظة التي تم فيها «تسييس الإسلام» واعتباره هوية عرقية ودينية «ethno-religious identity»، بالتزامن مع تَحوَّلَ الدّين – الذي كان يتم تأطيره كشأن خاص وشخصي– إلى شكل من أشكال «الهوية السياسية».
ارتبطَ صعود ما صار يُعرف بـ اليسار الإسلامي Islamo-gauchisme (الفيلسوف الفرنسي بيير أندريه تاغييف أعطى الظاهرة هذا الاسم في 2002) بعدد من الأحداث المهمة التي يمكن اعتبارها لحظات محورية، من بينها الثورة الإيرانية عام 1979، الحرب السوفيتية الأفغانية (1979-1989)، اغتيال الرئيس المصري أنور السادات عام 1981، الحراك السوري المعارض لحافظ الأسد في مطلع الثمانينيات، الذي انتهى بمذبحة حَماة في عام 1982. جميع هذه الاشتباكات والأحداث السياسية ساهمت في تشكيل المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وعملياً في ظهور الجماعات الإسلامية التي ترى نفسها صاحبة سلطة ونفوذ.
في خضمّ هذه الأحداث المضطربة، بدأ التحالف بين تيارات في اليسار والحركات الإسلامية بالتبلور. رأى اليسار، الذي يرفع مبادئ العدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار، في الحركات الإسلامية حليفاً محتملاً في النضال ضد الأنظمة القمعية والقوى الإمبريالية الجديدة. بالمقابل، قدَّمَ التعاون مع اليسار للإسلاميين عدداً من المزايا الاستراتيجية من بينها توسيع قاعدة جمهورهم وشبكاتهم وحشد التضامن الدولي لقضاياهم. بالإضافة إلى ذلك، استفادت الحركات الإسلامية من تجربة اليسار في التعبئة الشعبية والتواصل المجتمعي؛ مثل تشكيل فرق العمل المجتمعية وتنظيم المظاهرات والاحتجاجات العمالية والعمل مباشرة مع المجتمعات المحلية. نجحت الحركات الإسلامية في نقل تجربة التعبئة اليسارية الشعبية إلى مجتمعاتها، وقامت إنشاء شبكات تواصل لتقديم الخدمات الاجتماعية، مثل التعليم والرعاية الصحية، وهو ما ساعد في توسيع نفوذهم وحشد الدعم خارج دوائر مُناصريهم الأساسية.
لكن التحالف بين الحركات الإسلامية واليسار لم يكن تكتيكاً ناجحاً بالضرورة. في النهاية، العدو المشترك لن يُضيّقَ حجم الخلاف في الإيديولوجيا والنظرة للمجتمع بينهما، وقد تكون أحداث الربيع العربي مثالاً على ذلك. شهدت الفترة الأولى من الثورات العربية ما يمكن وصفه بتحالف بين الحركات الشبابية اليسارية والعلمانية والنسوية والنقابات العمالية والأحزاب الإسلامية في مصر وتونس للإطاحة بالأنظمة القمعية وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولكن على الرغم من أن الحركات اليسارية والإسلامية اشتركتا في المظالم والتطلّعات المشتركة للتغيير والإصلاح السياسي، فإن الخلافات الإيديولوجية وعدم الخبرة السياسية والمنافسات الداخلية والضغوط الخارجية فَكَّكت أي إمكانية للتعاون الحقيقي بين اليسار والإسلاميين، وساهمت في تفتيت وفشل حركات المعارضة، وبالنهاية عودة النظام الاستبدادي بشكل أو بآخر (عبد الفتاح السيسي في مصر وقيس سعيّد في تونس).
الحرب السورية قدمت مثالاً أشد دموية، وشهدت صعوداً لتيارات إسلامية متشددة جهادية، وهو الأمر الذي نتج عنه «انزياح جامع لمواقع الإسلاميين عن موقع الضحية المُستبعَد إلى موقع المُستأثِر أو المعتدي» كما يقول ياسين الحاج صالح في مقال بعنوان إشكالية الاستيعاب وما بعدها على موقع الجمهورية. وجد اليساريون السوريون أنفسهم أمام معضلة تتمثل بالتوفيق بين «إيديولوجيتهم» التحررية المناهضة للإمبريالية «والواقع الوحشي» لحملة القمع والقتل التي شنها نظام الأسد على المعارضة والسكان المدنيين. في النهاية، توزَّعَ اليسار سورياً (وعالمياً أيضاً) بين الوقوف مع النظام باعتباره حصنًا ضد الإمبريالية والتدخل الأجنبي، وبين التوافق مع القوى الإسلامية ضد نظام الأسد، وما بينهما من طيف تيارات معارضة يسارية اتخذت موقفاً من الطرفين.
في ترتيبات ما بعد الربيع العربي، فشلت التحالفات بين تيارات يسارية وقوى إسلامية (سياسياً أو عسكرياً بحسب السياق) في تحقيق أي أهداف سياسية، ولم تُترجَم إلى ثقة حقيقية بالطرف الآخر. على الرغم من «استراتيجيتها»، بُنيت هذه التحالفات بالأساس على تناقض إيديولوجي واسع ورؤى مختلفة تماماً حول كيفية إدارة الحكم والقضايا الاجتماعية الحريات الشخصية ودور الدين في السياسة. بالتالي، أثبتت هذه الشراكات في نهاية المطاف أنها هشّة وغير مُستدامة، وفشلت في التغلُّب على الخلافات العميقة أو الاتفاق على إدارة تعقيدات التحولات ما بعد الثورة وتسببت في زيادة الانقسام/ الاستقطاب/ الشلل السياسي وعودة الأنظمة الاستبدادية. ولكن هشاشة هذه التحالفات لم تؤدِ إلى نهايتها، بل ظهرت تجلياتها في أشكال وصراعات أخرى.
ما وراء معاداة الإمبريالية
منذ البداية، كان هناك خلاف يساري حول كيفية التعامل مع الحركات السياسية الإسلامية، وكيفية وضع مسافة تسمح بدعم الحركات الإسلامية دون التماهي معها أو الامتناع عن نقدها. ضمن هذا السياق، فضَّلت بعض الشرائح من اليسار الإبقاء على هذه التحالفات كإطار أو مشاركة نقدية، ما يعني الاعتراف بمظلومية الحركات الإسلامية وأحقية تمثيلها سياسياً واجتماعياً، ولكن في الوقت نفسه رفْض الانحياز التام لهذه الجماعات والحفاظ على موقف نقدي تجاهها (كمراقب وليس فقط كشريك)، ووضع آليات للمُساءلة بهدف تقييم هذه التحالفات وتأثيرها على تهميش الأصوات التقدمية أو تآكل الحريات وتصحيح المسار عند الضرورة.
لكن لم يمتد هذا التردُّد الإيديولوجي إلى رفض التحالف مع الإسلاميين بشكل تام وموضوعي، وتم الإبقاء على شكل من أشكال التحالف على الرغم من الاختلافات السياسية والاجتماعية، وعلى الرغم من الإسلاميين أنفسهم أحياناً، حيث يرى البعض أنه لم تكن للحركات الإسلامية مُساهمة مباشرة في صياغة شكل هذه التحالفات.
ربما يكون مقال النبي والبروليتاريا الذي كتبه كريس هارمان، مُحرِّر مجلة العامل الاشتراكي، عام 1994، صالحاً حتى الآن لفهم كيف ينظر اليسار للعلاقة والتحالف مع الإسلاميين ضد الدولة القمعية: «لا يستطيع الاشتراكيون دعم الدولة ضد الإسلاميين. أولئك الذين يفعلون ذلك، على أساس أن الإسلاميين يهددون القيم العلمانية، يُسهِّلون على الإسلاميين تصوير اليسار على أنه جزء من مؤامرة ‘كافرة‘ و‘علمانية‘ يحيكها ‘الظالمون‘ ضد الفئات الأكثر فقراً في المجتمع». ويضيف: «لكن الاشتراكيين لا يستطيعون تقديم الدعم للإسلاميين أيضاً. سيكون ذلك بمثابة الدعوة إلى استبدال شكل من أشكال الاضطهاد بآخر من خلال التخلي عن الدفاع عن الأقليات العرقية والدينية، والنساء والمثليين، والتواطؤ في تقديم كبش فداء يجعل من الممكن للاستغلال الرأسمالي أن يستمر بشرط أن يأخذ أشكالاً ‘إسلامية‘».
يعترف هارمان بأن الإسلاميين ليسوا حلفاءً لليسار، لأن الإسلاموية islamism يمكن أن تقترب من الفاشية في معارضتها للحداثة ومواقفها المتشددة تجاه النساء والأقليات، إلا أنه يرى في الوقت نفسه أن اليسار لا يجب أن يرفضهم، بل يقترح أن يتم «استخدامهم سياسياً» كما يقول في المقال ذاته: «لا يمكننا ببساطة اتّخاذ موقف رافض والامتناع عن دعم الإسلاميين. فهم يمثلون مجموعات اجتماعية كبيرة جداً تعاني في ظل المجتمع الحالي، ويمكن استخدام شعورهم الثوري لأغراض تقدمية».
في المنطقة العربية، انطلقت فكرة التحالف بين اليسار والإسلاميين على أرضية نقد الدكتاتورية أو الاستبداد أو الدولة التسلطية، وضمن هذا الطرح، لم يَعُد الإسلاميون أعداء إيديولوجييْن بالضرورة، بل شركاء يمكن «استيعابهم سياسياً»، من منطلق أن هذا الاستيعاب السياسي «يمكن أن يجعل منهم منظمات سياسية تعمل للصالح العام، وقد يتضمّنُ أو لا يتضمّنُ فرضية فرعية تُفيد أن التطرف الإسلامي نتاج الاستبعاد، والاستيعاب هو ما يقود إلى الاعتدال» بحسب شرح الحاج صالح لفكرة الاستيعاب في مقاله المذكور سابقاً.
نجح هذا الطرح في إثبات حضوره أمام التيارات اليسارية الأخرى المعارضة لوجود الإسلاميين في الحياة السياسية والاجتماعية، سواء من منطلق «علماني» أو «موال للدولة»، وتمّ التعامل مع «الاستيعاب السياسي» و«التحالفات الاستراتيجية مع الحركات الإسلامية» باعتبارها «ضرورة براغماتية» في مواجهة الخصوم المشتركين، مثل الإمبريالية الغربية أو الأنظمة الاستبدادية، وهذا «العدو المشترك» كافٍ لضمّ حركات الإسلام السياسي (المقاومة الإسلامية) تحت مظلة اليسار.
ولكن تركيز الحركات اليسارية (أو المحسوبة على اليسار) على جانب مكافحة الاستعمار ومعاداة الإمبريالية، أدى بالنتيجة إلى تجاهل جانب آخر يتعلق بالنزعات الاستبدادية والرجعية داخل هذه الجماعات الإسلامية، إضافة إلى تجاهل المسؤولية الأخلاقية لاستخدام العنف من قبل هذه الجماعات تحت ذرائع مختلفة. ظهر حجمُ هذا التجاهلِ أو غضِّ النظر في ردة فعل قوى يسارية على عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى في السابع من أكتوبر، والحرب الإسرائيلية الانتقامية على غزة.
إدانة العنف والمسؤولية الأخلاقية
ردة الفعل الأولى على عملية طوفان الأقصى من قبل سياسيين وأكاديميين يساريين جاءت غالباً في إطار سردية نزع الاستعمار وأحقية الشعوب المضطهدة في مقاومة منظومة الظلم والقمع، وعليه، تم تحميل إسرائيل مسؤولية العنف الذي رافق عملية طوفان الأقصى من قتل واختطاف مدنيين إسرائيليين. «كل أعمال العنف التي أُطلِقَ لها العنان ضد إسرائيل وفي غزة تثبت أمراً واحداً فقط، وهو أن العنف لا يُنتِجُ ولا يعيد سوى نفسه»، غَرد الزعيم اليساري الفرنسي جان لوك ميلينشون على موقع إكس في السابع من أكتوبر، وهو الموقف الذي أتبعه زعماءٌ يساريون آخرون في العالم بتحميل إسرائيل «المسؤولية» كنتيجة «لاحتلالها غير القانوني للأراضي الفلسطينية» (يولاندا دياز، حزب سومار اليساري/إسبانيا).
مع توسّع الرد الإسرائيلي الانتقامي على غزة، والذي أنتج حصيلة مرعبة من القتلى وصلت إلى أكثر من 37 ألف ضحية غالبيتهم من الأطفال والنساء، وجّه يساريون انتقادات للأشخاص الذين قاموا بـ«إدانة العنف بكافة أشكاله» ضد المدنيين، واعتبروا أن إدانة الطرفين، «حماس كحركة مقاومة وإسرائيل كدولة احتلال» يساوي الضحية والجاني، وهو بالتالي نقدٌ غير مسؤول ونسبوي أخلاقياً «morally relativistic»، أو أنه تعاطف كاذب يحجبُ ديناميكيات السلطة المتأصّلة في السياقات الاستعمارية.
غَرَّدت الأستاذة في جامعة ييل زارينا غريوال بأن «المستوطنين ليسوا مدنيين»، إشارة إلى أن الإسرائيليين في الأراضي المحتلة متواطئون في الاحتلال، وبالتالي لا يستحقون الحماية المكفولة للمدنيين بموجب القانون الدولي. الفيلسوفة الأميركية جوديث بتلر اعتبرت أن «السابع من أكتوبر هو عمل من أعمال المقاومة المسلحة» وليس عملاً من أعمال الإرهاب أو معاداة السامية، وذلك في ندوة عُقدت في باريس في آذار (مارس) الماضي.
غالبًا ما تركز النقاشات حول قضايا الصراع المسلح على دور ديناميكيات السلطة في تشكيل العنف والقمع. ومن وجهة نظر كثيرين، فإن إدانة العنف، من كافة الأطراف وبشكل نقدي، هو أمر ضروري ولكنه غير كافٍ دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع، لأن العنف غالباً ما يكون أحد أعراض عدم المساواة الهيكلية والمظالم التاريخية. ضمن هذا التعريف، إدانة العنف والحفاظ على منظور نقدي هما عنصران أساسيان في توضيح المسؤولية الأخلاقية لكل طرف أثناء الحرب، لأن أي تقييم/ توزيع للمسؤولية الأخلاقية يجب أن يأخذ في الاعتبار ديناميكيات القوة غير المتكافئة التي تشكل الصراع.
بالنسبة لليسار، فإن مقاومة الاحتلال هو موقف متجذر في الإيمان بحق تقرير المصير ومعارضة الإمبريالية والاستعمار، ولكن دعم حق الشعوب بتقرير مصيرها لا يعني الامتناع عن نقد التكتيكات التي تستخدمها حركات المقاومة سواء من الناحية الأخلاقية أو الاستراتيجية، أو التغاضي عن نتائج أعمال العنف وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها هذه الجماعات ضد شعبها أو أعدائها. تجاهل «وكالة المُستعمَرين» من خلال تفسير عنفهم فقط كردة فعل لتصرفات المُستعمر يخاطر بتقويض استقلالهم ومساءلتهم الأخلاقية، بمعنى تصوير المُستعمَرين على أنهم ضحايا للعنف فقط وبالتالي لا مسؤولية أخلاقية عليهم.
لا شك أن الوضع في غزة يطرح تحديات فريدة من نوعها، فهي منطقة ذات كثافة سكانية عالية تخضع لحصار إسرائيلي مشدد، عاشت حروب دموية متتالية، في مقابل دولة نووية عسكرية تقنية. ديناميكيات القوة غير المتكافئة هذه بين غزة وإسرائيل، تطرح تساؤلات مختلفة حول شرعية المقاومة المسلحة في مساحة محاصرة، والحسابات والتكاليف البشرية والأخلاقية للجوء إلى العنف.
لا خلاف بأن المسؤولية الأخلاقية «الأولى والأساسية» تقع على إسرائيل كـ قوة احتلال، حتى بعد انسحابها من قطاع غزة في عام 2005؛ فبموجب القانون الدولي، لا يعتمد الاحتلال على ما إذا كان لقوة أجنبية وجودٌ مباشرٌ لقوات برية في منطقة ما، بل على ما إذا كانت تؤكد «سيطرتها الفعّالة» على المنطقة، وهو الواقع في غزة. إسرائيل، باعتبارها القوة المحتلة، تتحمل مسؤولية حماية سلامة السكان المدنيين، وحماس، كنظام حكم في غزة منذ عام 2007 وحركة مقاومة مسلحة، تتحمل أيضًا «المسؤولية الأخلاقية» لأفعالها (ونتائج أفعالها)، وتتحمل كذلك المسؤولية عن حماية ورفاهية السكان المدنيين الذين من المفترض أنها تمثلهم وتسعى لتحريرهم، (وليس تحويل مسؤوليتهم إلى كيانات خارجية كما قال مسؤول حماس موسى أبو مرزوق بأن حماية المدنيين في غزة هي مسؤولية الأمم المتحدة وإسرائيل باعتبارهم لاجئين).
تمتد هذه المسؤولية الأخلاقية لحركات المقاومة ومن يساندها إلى ما هو أبعد من ساحة المعركة، لتشمل حكم الفصائل المسلحة وسلوكها، بما في ذلك الوسائل المستخدمة في السعي إلى التحرّر والتكاليف البشرية المُحتمَلة لاستخدام هذه الوسائل. تكلفة العملية العسكرية من حيث الخسائر في صفوف المدنيين أولاً، إلى جانب الخسائر المباشرة الأخرى من تدمير البنية التحتية المدنية والنزوح والمجاعة والأمراض، كلها نتائج يجب أن تكون جزءاً من تقييم تكلفة أي عملية مسلحة. في كتابه عن العنف، يؤكد فرانز فانون أن القمع الاستعماري يولِّد العنف والتجريد من الإنسانية، مما يؤدي إلى دورة من المقاومة والعنف المضاد، ولكنه يُحذّر أيضًا من مخاطر أن يصبح العنف غاية في حد ذاته. المسؤولية الأخلاقية، بحسب فانون، لا تقع على عاتق المُستعمِر فحسب، بل تقع أيضاً على عاتق المُضطهَدين كذلك. في حين أن الظالم/ المحتلّ يتحمل المسؤولية الأساسية عن إنشاء الأنظمة القمعية والحفاظ عليها، فإن المُضطهَدين قد ينخرطون كذلك في أعمال، قد تكون مفهومة ومبررة في سياق اضطهادهم، إلا أنها تُديم دائرة العنف والعنف المضاد. أنطونيو غرامشي في دفاتر السجن حذَّرَ كذلك من المبالغة في تقدير فعالية استخدام العنف من قبل الشعوب المضطهدة والمُستعمَرة، مشيراً إلى أن التركيز على النموذج العسكري هو علامة الأحمق: «السياسة يجب أن تكون لها الأولوية على الجانب العسكري، والسياسة وحدها هي التي تخلق إمكانية المناورة والحركة».
ملاحظات في المسؤولية
لا بد من الإشارة إلى أنه غالباً ما تُستخدَم الأخلاق والمسؤولية الأخلاقية كسلاح لتشكيل التصورات والمبررات والإدانات الجاهزة للشعوب المُضطهَدة عند قيامها بالدفاع عن نفسها. في كثير من الأحيان، يتم اعتبار السلمية والمقاومة اللاعنفية الوسيلة الأكثر أخلاقية لمعارضة الظلم، في مقابل إدانة الكفاح المُسلَّح باعتباره أمراً مُستهجَناً أخلاقياً و«إرهاباً»، بغض النظر عن الظروف أو السياق الذي يحدث فيه. على الجانب الآخر، قد يُستخدَم الخطاب الأخلاقي نفسه لتبرير العنف وإدامته. كثيراً ما تتذرع الأنظمة القمعية وقوى الاحتلال بالمبررات الأخلاقية لأفعالها، وتُصوِّرُ نفسها كمدافعة عن «الحضارة» ضد «الهمجية» المفترضة لخصومها (مثلاً وصْف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للحرب في غزة بأنها بين قوى النور وقوى الظلام). هناك كذلك معايير مزدوجة فيما يتعلق بإدانة الكفاح المُسلَّح أو استخدام العنف من قبل الشعوب المُضطهدَة باعتباره غير أخلاقي، في حين يتم «تبرير» أو التغاضي عن العنف والعدوان الذي ترعاه الدولة.
هناك نقطة أخرى من المهم الإشارة إليها عند الحديث عن المسؤولية تتعلق بالجانب الديني. تختلف وجهات النظر الإسلامية حول المسؤولية الأخلاقية بشكل كبير عن وجهات النظر العلمانية أو اليسارية، لأنها غالباً ما ترتكز على المعتقدات الدينية وتفسيرات التعاليم الإسلامية. ووفقاً لهذا المنظور، فإن أفعال الإنسان تحددها في نهاية المطاف الإرادة الإلهية، ما يعني أيضاً أن فكرة المسؤولية الأخلاقية (لحركة إسلامية) هي سردية علمانية بحسب محمد شاه في مقاله بعنوان في المسؤولية: النقد والاستعمار بعد 7 أكتوبر. ولكن شاه يشير إلى أنه في مقابل هذه الرواية الدينية، سعى الموقف الصهيوني المُتطرِّف، الذي تم التعبير عنه غالبًا من خلال مناقشات القنوات التلفزيونية، إلى توزيع المسؤولية على المدنيين في غزة لتبرير العدوان الوحشي ضدهم. وقد تجلّى ذلك بشكل أوضح في البيان الذي أدلى به رئيس إسرائيل، إسحاق هرتزوغ، في 12 أكتوبر محملاً مسؤولية أحداث السابع من أكتوبر على «جميع سكان غزة».
ضروريات النقد
بين معاداة الإمبريالية ودعم حركات التحرر والتحالفات «الاستراتيجية»، استطاعت الحركات اليسارية الإبقاء على «مكانتها» في عالم القطب الواحد باعتبارها صوتاً ضد القوى العالمية القمعية ومنهجاً لفهم وانتقاد هياكل الهيمنة والاستغلال. الأحداث الأخيرة والحرب على غزة، ربما تكون قد أعادت إشعال وقود الحركات اليسارية، إلا أنها كشفت أيضاً عن التناقضات وأوجه القصور في الخطاب اليساري. تكمن إحدى هذه التناقضات في الدعم غير النقدي أحياناً للجماعات الإسلامية مثل حماس، كونها في صف مناهضة الإمبريالية ومقاومة الاحتلال، دون تقييم أجندتها السياسية والمسؤولية الأخلاقية لأفعالها كحركة مقاومة، ومع تجاهل أنها كذلك نظام حكم، وأن نظام حُكمها أدى إلى ترسيخ الفساد وتفاقم الفوارق الاجتماعية والاقتصادية. النقد كذلك يتطلب عدم حجب أصوات ووجهات نظر الفلسطينيين الذين لا يصطفون مع حماس ولا يرون أنها تمثلهم، وعدم «شيطنة» كل من يعارض أو يشكك بفعالية ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر، أو إسكات الأصوات التي لا تتفق مع استخدام العنف أو لا تجده مُبرَّراً حتى في السياق الاستعماري.
دعم حركات المقاومة وتكتيكاتها أياً كانت دون إدراك لنتائج هذا الدعم على القاعدة الشعبية والفئات الأكثر ضعفاً، قد ينتج عنه الوقوع في فخ المناصرة أو التأييد المنفصل detached advocacy، الذي يعني دعم القضايا من مسافة آمنة وامتياز منفصل عن الواقع، ودون فهم كامل أو تجربة لعواقب أفعالهم أو تبعات تأييدهم لجهة معينة. وهو ما يُذكِّرُ بمصطلح رفيق المسافر «fellow traveler»، الذي يُشير للأفراد أو الجماعات الذين يتعاطفون مع حركة سياسية أو إيديولوجية معينة دون الاشتراك الكامل فيها، أو دون أن يصبحوا أعضاء رسميين (نشأ هذا المصطلح في روسيا بعد ثورة 1917 للإشارة إلى الفنانين والكتاب والأكاديميين الغربيين الذين عبَّروا عن اعجابهم بالثورة البلشفية دون الانضمام رسميًا إلى الحزب الشيوعي أو تأييد الشيوعية بشكل كامل).
الحفاظ على مسافة صحية ومنظور نقدي أمرٌ مهمٌ حتى في أوقات الأزمة، وقد يُصبح أكثر أهمية خلال الحرب. على الرغم من أن صاحبه قد يُتَّهم بعدم الوطنية أو «تقويض الروح المعنوية»، إلا أن النقد يظل جانباً أساسياً من المسؤولية الأخلاقية حتى في ظل الفوضى ووحشية الحرب. هناك أيضاً حاجة فرضتها الحرب على غزة، ومن قبلها الحرب في سوريا، وهي إعادة تقييم التحالف اليسار مع الحركات الإسلامية في ظل تداعي التجارب السياسية والطروحات البراغماتية التي أنتجتها، والتفكير العميق في حقيقة أنه لا يوجد وجود مثال واحد على نجاح أي تحالف يساري إسلامي في تقديم أي تصور مستقبلي، في مقابل اتساع الفقر والعنف والتطرف والتخريب وتآكل حقوق الإنسان والحريات في المنطقة والعالم.