وُلِدتُ في بلدة تقع في أقصى الشمال الشرقي من سوريا وتتبعُ إدارياً لمدينة القامشلي. لا أحملُ في ذاكرتي صورةً لمكتبة عامة كان من الممكن استعارة كتبها، ولم نحظَ، نحن سكّان تلك البلدة، بصالونات أدبية أو دور للسينما والمسرح لنرتادها، حتى المقاهي العامة كانت رفاهيةً احتكرها الرجال كفضاء عام يتشاركون فيه أحاديثهم ونقاشاتهم، لتبقى التساؤلات التي تشغلنا كنساء مؤجلة ومحرّمة.

عام 2012، وفي مدينة قامشلو، أتذكّر المرّة الأولى التي شاركتُ فيها في جلسة للقراءة مع مجموعة من الأصدقاء لنقاش كتاب قرأناه؛ في شقة صغيرة «عالعظم» بلغة العقارات، لا نوافذ لها ولا أبواب باستثناء الباب الخارجي شديد البساطة الذي كان بالكاد يغلق، جلسنا على كراسٍ بلاستيكية مُصطفّة على جوانب الغرفة بجانب طاولات تحيط بالمكان، وُضِعت عليها شموع توحي بألفة المكان وتستعدُّ للاشتعال بحلول الظلام وانقطاع التيار الكهربائي. كان ذلك «صالون شاوشكا الأدبي» وجلساته التي اقترنت بذاكرتي عن القراءة. في حياة الشتات، والعزلة عمّا غابَ عن حياتنا من أماكن وأشخاص، حلّت نوادي القراءة الافتراضية كبديل يوفر لنا فرصة الاشتباك مع عالمنا وتعقيداته.

نادي النرجس للقراءة 

مثّل نادي النرجس للقراءة بالنسبة لي نموذجاً هاماً عن المُلتقيات الثقافية السورية بجلساته عبر تطبيق الزوم، يتشارك في الحضور صديقات وأصدقاء النادي من محبي القراءة على تنوُّع خلفياتهمن بغالبية سورية.

مؤسِّسة النادي هي الكاتبة والمترجمة السورية رحاب منى شاكر، التي أولت اهتماماً خاصاً بترجمة النصوص النسوية العالمية عن الهولندية. تطوَّرت فكرة النادي لتصبح مشروعاً شخصياً ومن ثم تتّسع أكثر، ولا تزال رحاب تُخصّص وقتاً وجهداً وهي تثابر بمحبة للحفاظ على استمرارية ونشاط النادي وتطويره.

تروي رحاب عن النادي لموقع الجمهورية.نت: «النادي قدّم لي شخصياً الكثير وساعدني على مراكمة معرفة نسوية لا بأس بها، والأجمل تمثَّل في معرفتي بنساء جميلات وبعض الرجال اللطفاء، فأنا أدعو النساء للحضور بمجرد أن ألتقط رائحة الكتب لديهنّ، وعبر النادي احتفظتُ بالكثير من الصداقات التي كان من الممكن لها أن تنتهي في ظل ظروف الشتات والتشظي السوري. أُحبُّ أن أسميه بيت النرجس لما يوفّره من ألفة، وأُشبِّه تشكيله بطريقة صنع كرة الثلج التي تبدأ صغيرة بين اليدين، وما تلبث أن تكبر شيئاً فشيئاً ثم تتدحرج من تلقاء نفسها، لتجذب إليها عناصر جديدة وأفكار متنوعة، إنها الطريقة المثلى للانطلاق والانشغال».

يتم اختيار الكتب والنصوص والدراسات المنشورة والترجمات بالاتفاق عبر «النواة المصغّرة للنادي»، لمتابعة النقاشات والآراء والمواد التي يتم تداولها في المجموعات الثلاث التي يتكوّن منها النادي، وأحياناً يتم التواصل مع الكاتب-ة للمشاركة بالنقاشات والحضور والرد على الأسئلة فيما لو كان حضورهمن ممكناً.

عام 2018، خرج النادي من نطاقه الضيق والمحصور في الجلسات المنزلية، وانتقل إلى مرحلة إلكترونية جديدة أكثر تنظيماً ازداد فيها عدد الحاضرات والحاضرين لكل جلسة من جلسات القراءة الدورية والمتنوعة، وعام 2022، انبثق عن مجموعة القراءة الأولى في النادي مجموعتان جديدتان أكثر تخصصاً لتلبية رغبة الحضور واهتماماتهم، ولإتاحة الفرصة للتعمُّق أكثر من خلال الكتب والأبحاث المعنية بالتقاطع بين القضايا النسوية والخطاب الديني، ليصبح النادي مساحة حرة لطرح أفكار وتساؤلات يتم نقاشها والوقوف على حيثياتها في فضاء آمن بكل الاختلاف الموجود.

مجموعة نادي نرجس للقراءة

المجموعة الأولى هي الأقدم وغالبية حاضرتها من النساء، بالإضافة لبعض القرّاء من الرجال، تعتمد على الكتب الإلكترونية بالدرجة الأولى لصعوبة توفر الورقية للجميع في ظروف الشتات. تتكون خيارات القراءة في الغالب من روايات أدبية عربية أو عالمية، بالإضافة إلى الكتب الفكرية العامة، ثم يُحدّد تاريخ النقاش في جلسة دورية شهرياً، تستمر الجلسة الواحدة من ساعتين لثلاثة، حيث تُقدّم إحدى المشاركات ملخصاً عن الكتاب وموجزاً تعريفياً عن الكاتب-ة، وتتولى رحاب تيسير الجلسات. تدور النقاشات حول قضايا سياسية في السياق السوري أو العربي، وجهود إدارة وتيسير النادي تطوعية حتى الآن.

سمر المير أحمد، إحدى القارئات التي تواظب على حضور جلسات النقاش منذ 3 سنوات من داخل سوريا، تعتبر تجربة النادي مميزة على الرغم من مواظبتها على القراءة منذ صغرها. قبل بدء الجلسة تقوم بتهيئة المكان متحديةً الظروف السيئة، كضعف شبكة الإنترنت وانقطاع الكهرباء؛ «أُحضّر اللابتوب وأُشعل شمعة. أُلغي مواعيد الزيارات، أعتذر من زوجي، وأتملّص من قطتي».

تحكي سمر بكل تفاؤل عن تجربتها في النادي وفقاً لمعرفتها وخبرتها في التعاطي مع الحياة والكتب: «كان الخراب شريك ساعات يومنا، والعتمة تحيط بنا من كل مكان، حين دعتني رحاب لهذه التكية المعرفية النسوية، وأقصد بيت النرجس، ورحاب هي ابنة إحدى صديقاتي التي كنت أحتفظ بصورتها حين كانت طفلة تُرافِق والدتها لزيارة والدها في المعتقل. بالرغم من أنني لست صغيرة في السن، لكنني أعتبر القراءة عملية تزيدني معرفة وتطوراً وانفتاحاً، ولا زلت أحلم بسماء نقية والركض بحرية في الساحات رغم كل الألم الذي يعتصر قلبي، واستمتع بالقراءة وخوض النقاشات بكل تفاصيلها».

مجموعة الورشة النسوية 

تفرّعت عن نادي نرجس للقراءة مجموعة الورشة النسوية التي تُركّز في اختياراتها على نصوص وكتب نسوية عالمية، وتُعدّ خطوة لمراكمة المعارف من خلال التعمّق في محتوى هذه الكتب وخوض النقاشات حولها.

تقدم إحدى المشاركات خلال 20 دقيقة من بداية كل جلسة ملخصاً عن الكتاب أو النص المختار وتحدد النقاط التي لفتتها شخصياً فيه، ثم تطرح إدارة النادي بعض الأفكار والأسئلة المثيرة عما ورد في محتوى الكتاب، ليُفتح باب النقاش والتساؤل والمقارنات بين الظروف المختلفة لكتابة النصوص وسياقها مع اللحظة الراهنة، ومدى تأثير الأفكار والحِراكات المتأثرة بها في إحداث تغييرات في القوانين لصالح النساء وقضايا المهمشين. الكتب هنا تُحفز التفكير حول تغيير الكثير من موروثاتنا الاجتماعية المُعززة بالتشريعات الدينية والقوانين السياسية في بلداننا، تلك التي تتحكم في حياتنا ومصائرنا الشخصية كنساء أولاً، وتعيق عملية التقدّم ثانياً.

منال حميد، شابة من العراق وناشطة حقوقية نسوية، تحكي عن تجربتها في نادي نرجس بمجموعاته الثلاثة، والتزامها بمجموعة ورشة نسوية: «لم تكن القراءة مجرد معرفة أو مطالعة أو عملية من باب الفضول، وبما أنني لم أكن مختصة بالدراسات الجندرية أو البحوث الاجتماعية، كان هدفي من التواجد في مجموعة الورشة النسوية هو القراءة الجدية المعمقة للدراسات الجندرية والبحث النسوي والمناهج النسوية وتطبيقها عملياً خلال عملي، واختبار قدرتي على إنتاج دراسات وأبحاث نسوية تعنينا وتلامس قضايانا، فمثلاً أصبح كتاب مدخل إلى البحث النسوي ممارسةً وتطبيقاً، والمترجم إلى العربية، مرجعاً أساسياً لي وأداة عمل أعتمِدُ عليه في الدراسات الاجتماعية والنسوية، من السرد القصصي والمقابلات المعمقة ومنهج النقد النسوي والتقاطعية، أتاح النادي لي فرصة التحدث ومشاركة أفكاري، وباتت تجربتي في الكتابة منطلقة من موقعيّتي الخاصة بي، وأنا ممتنة لمترجمة الكتاب هالة كمال، ولرحاب وللصديقات في النادي؛ إنه نموذج للتعليم الحرّ والمنفتح، أصبح بديلاً حقيقياً عن الفراغ الذي نعانيه في منطقتنا وجامعاتنا. الورشة النسوية أعطتني القوة والمهارة لخوض أي تجربة في الكتابة أو البحث».        

مجموعة التجديد الديني والمرأة

تفرّعت مجموعة التجديد الديني والمرأة النوعية لاحقاً عن نادي نرجس كخطوة جادة للاهتمام بالدراسات الدينية، وجاءت نتيجة الحاجة للتغلب على صعوبة إدارة هذه النقاشات في فضاءات مفتوحة يتجنّب الغالبية الخوض فيها بأريحية. عادة ما تركز خيارات القراءة في هذه المجموعة على نصوص تتناول قضية المرأة ومكانتها في النصوص الدينية الإسلامية خاصة، ونتاج دعاة الفكر التنويري ومحاولاتهم لتفسير النصوص الدينية برؤية مغايرة عن المألوف، رؤية أكثر انفتاحاً لتلبية احتياجات الإنسان الروحانية وفق قيم الدين بطرق عصرية، بالبحث العلمي والاجتهاد الفردي.

تركّز اهتمامُ معظم روّاد ورائدات النادي على موضوع التجديد الديني وتقاطعه مع قضايا المرأة، الأكثر إثارة للجدل والاختلاف، وإعادة تفكيك هذه النصوص الشرعية وتفسيراتها التي تمنح القوانين في منطقتنا شرعيتها، وتلعب فيها دوراً يصنف حتى الآن بالمُجحف بحق المرأة حتى يتم إثبات العكس، واشترط لمن يودُّ-تودُّ التواجد ضمن هذه المجموعة أن لا يكن لديهم-ن موقفاً سلبياً متشدداً من الدين أو من النسوية على حد سواء، وخاصة النسوية الإسلامية، ولا يشترط أن تتواجد في أفراده بالضرورة صفة الإيمان. الهدف الأساسي من هذه المساحة الحرة هو تبادل الخبرة وإنتاج المعرفة على المدى البعيد، أما الاختلاف بالرأي والمعتقدات لم يشكل عائقاً للتواجد والتفاعل في المجموعة، أو الاستماع لآراء الكتاب والكاتبات التنويريين الذين تتم دعوتهم لحضور النقاشات وطرح أفكارهم وتفسيرها من ضمن المنظومة الدينية نفسها. 

كانت نعمت البرزنجي، المقيمة في الولايات المتحدة الأميركية، إحدى الكاتبات اللواتي تمّت استضافتهن في جلسة نقاش حول كتابها الهوية الذاتية للمرأة المسلمة، كما استضافت المجموعة الباحث السوري ياسر حسون حول نصه إنزال التنزيل الإيلاء والطلاق، وكذلك الباحثة السورية ديما السكران ونصوص متفرقة، وثلاثتهم أعضاء في مجموعة التجديد الديني والمرأة.

المفكرة السورية عفراء جلبي، إحدى الناشطات الفاعلات في النقاشات ضمن مجموعة التجديد الديني والمرأة، شاركتنا تقييمها ورؤيتها حول المجموعة: «أُشبّه هذا النادي بأكاديمية صغيرة، نظراً للمداخلات والقراءات الجدية والعميقة وتنوُّع المشارِكات. يمتلك أعضاء مجموعة التجديد الديني مؤهلات وخبرة أكاديمية، ولديهم-ن تراكم معرفي ونتاج نسوي إسلامي أو تداولوا قضايا النساء من منظور نسوي لكاتبات مسلمات متدينات يُنتِجن من داخل المنظومة الدينية. ميزة المجموعة أنها تستمدُّ القوة من تداول المعرفة أفقياً وليس عامودياً كما هو متعارف، ونخوض فيها حواراً حقيقياً وتناقلاً سلساً للأفكار والمواضيع في مساحة آمنة، بعيداً عن الإقصاء والقمع، وكلنا نتعلّم من بعضنا ونكتشف أشياء جديدة ومختلفة، وأعتبرُها خطوة موفقة نحتاجها كما نحتاج تعدد منابع المعرفة والمرجعيات. بعض العلمانيين-ات لديهم-ن ارتباك بالاستشهاد بمصادر دينية، وكذلك بعض المتدينين؛ توسيع الأفق وتقاطع الهويات وتنوع المعرفة والهويات الدينية ضرورة، وشخصياً أنا مهتمة مع رحاب بإنتاج معرفي نسائي وتداول الشأن السوري بكل قضاياه المتنوعة واحترام كل اختلاف بعيداً عن النزاعات الحاصلة، نسعى لتصبح الفكرة ممارسة أكثر اتساعاً لتُطبّق على أرض الواقع».

ربما تكون الكتابة رحلة شاقة، لكن القراءة المعمّقة المتفاعلة ليست بالمهمة اليسيرة بدورها، ومن هنا تأتي أهمية مبادرات مثل بيت النرجس، لتنظّم جهود القراءة هذه بين أعضاء النادي وتنقلها إلى مساحة النقاش وتداول الأفكار، في سبيل تحويلها إلى عملية أكثر فاعلية وتأثيراً واشتباكاً مع أسئلة ومتطلبات واقعها.