مع اليوم الأول من الهجوم على اللاجئين السوريين في تركيا، اتّخذتُ الحل الإسعافي السريع الذي اتَّخَذه معظم السوريين في تركيا: الاختباء في المنزل ريثما تنتهي هذه الموجة ضد اللاجئين السوريين.

أعيشُ أياماً لم أكن أتوقع أن أعيشها؛ تمر الأيام ثقيلةً وبطيئة، ولحظات الخوف لا تمضي. أَطمئنُّ على مَن أعرفهم من أقارب وأصدقاء من خلال الاتصال والرسائل، ويذكرني هذا الحال بما خبِرته أيام الزلزال الذي دفعنا جميعاً للاطمئنان على بعضنا البعض في تركيا. أعتمدُ على مواقع توصيل الطلبات المتوافرة في تركيا للحصول على حاجاتي اليومية، وأحرصُ على أن يكون جو المنزل هادئاً وأن يلعب طفلَيَ بهدوء خوفاً من أي ضجةٍ «قد» تزعج جيراننا. كذلك لم أُخرِجهما للّعب في الحديقة المجاورة، وهو أمرٌ كانا قد اعتادا عليه، حرصاً مني على سلامتنا. اعتمدنا اللغة التركية كأداة تواصل في المواصلات العامة وحين نضطّر إلى الخروج من المنزل، كما نبّهتُ ابنتي إلى تجنّب اللغة العربية إطلاقاً، واستغنيتُ عن عدة أمور كانت جزءاً من حياتي اليومية منتظرةً «أن تهدأ الأحوال».

ما يحصل في مدينة قيصري اليوم ليس وليد اللحظة الراهنة، بل هو نتيجة سنواتٍ عديدة من التجييش والاحتقان اللّذَين خلقا تمييزاً ضدنا كسوريين، وهو ما جعل تكسير سيارات السوريين، مثلاً، أمراً سهلاً بسبب سهولة تمييزها من النمر التي تحملها. كما تسود الإجراءات العرفية التي تنصُّ على أن أيّ خلافٍ بين سوري وتركي يصل إلى السلطات يجعل السوري أمام «الترحيل الإداري». في بعض الحالات يمكن أن ينجح بعض الأشخاص في إنقاذ أنفسهم من خلال دفع مبالغ طائلة للمحامين.

ولكن الوضع ازداد سوءاً في الأيام الماضية بسبب ما يجري من خطوات التطبيع مع النظام، معطوفاً على سنواتٍِ من سوء إدارة ملف اللاجئين وسوء الوضع الاقتصادي في البلاد وحملات الترحيل التي تأتي بغير حق أو عدالة، وهي التي تصفها الحكومة التركية على أنها «لا تشمل إلا المخالفين».

أنا واحدةٌ من اللاجئين السوريين والسوريات، ويمكن أن أَتعرَّضَ للترحيل في أي لحظة، فأنا مخالفةٌ للقوانين التركية، ولكن ما من حلٍّ على هذه الأرض لمشكلتي، وما من قانونٍ في العالم يراعي وضعي. أحملُ بطاقة حمايةٍ مؤقتة صادرة عن مدينة أنطاكيا التي دمّرها الزلزال العام الماضي، حيث كنت أعيش، وقد تلقيتُ اتصالاً من إدارة الهجرة التركية بوجوب تحديث بياناتي، ولكني فشلتُ في نقل بطاقة الحماية المؤقتة إلى ولاية أخرى، والحل الوحيد لأن يكون وضعي قانونياً هو أن أمتلك قيد سكن وعقد منزل وعنواناً في أنطاكيا، وينص القانون على وجوب أن يكون عنوان سكني في الحي ذاته الذي كنت أُقيم فيه قبل الزلزال، فكيف يمكنني أن أنجح بالعثور على منزلٍ في حيٍّ مدمّر وفي مدينةٍ مدمرة وفي بلدٍ دَمَّرَ قلوب آلاف اللاجئين؟

خلال فترة عيشي في تركيا، لم يكن لدي أيُّ اختلاطٍ ضمن المجتمع التركي، واقتصرت علاقتي بهم على بعض المعارف من الجيران وبعدها من خلال مدرسة ابنتي حيث التقيتُ عدداً من الأمهات، وكنّ جميعهنّ يُبدين كل الود والحب من خلال التعامل. ولكنّ الصدمة كانت عندما بدأتُ أتابع ما يجري من أحداثٍ عنصرية ضد اللاجئين السوريين في تركيا ومن تصعيدٍ لخطاب الكراهية، فوجدتُ أن معظم مَن أعرفهم من الأتراك وضعوا عبر خاصية الستوري في تطبيق إنستغرام عبارةً واحدةً شاركها نحو ثلاثة ملايين تركي، مفادها: «لسنا سيّئين ولا عنصريين، لكنّ زيارة اللاجئين كانت طويلةً جداً. لا أريد لاجئين في بلدي». حاول بعض السوريين أيضاً إطلاق حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لتسليط الضوء على ما يحصل ضد اللاجئين في تركيا، ولفت نظرَ العالم إلى ما يحدث حالياً ضدهم، عبر ربط ذلك بما حصل خلال فترة الزلزال، مستخدمين عبارة «Sys yok» التي كانت تستخدمها فرق الإنقاذ كدلالة على عدم وجود أحد في المبنى وموت الجميع، وهي تعني حرفياً «لا صوت». اليوم لا صوت للاجئين السوريين، فنحن نعيش وحيدين، ولا فرق إنقاذ ولا أحد يبحث عنا وعمّا نعيشه من خوفٍ في منازل لم تُدمَّر فوقنا، ولكنها ربما تقتلنا خنقاً أو حتى جوعاً، فالكثير من الأسر في تركيا تعيش على العمل اليومي وتشتري طعامها بشكلٍ يومي أيضاً. 

تدور في ذهني عشرات الأسئلة، ووجدتُ أنّ من أطلق الحملة التركية مُحقٌّ في حال كانوا مقتنعين بأننا زوّارٌ في بلادهم: هل هناك من يزور بلداً لأكثر من عشر سنوات؟ حزنتُ كثيراً لأنهم لا يفهمون ما يجري في سوريا، فبعضهم عَرّفنا قبل سنوات على أننا «مهاجرون» وهم «الأنصار»، أما اليوم فقد أصبحنا «ضيوفاً طالت زيارتهم».

أنا أنتمي لقريةٍ صغيرة في ريف اللاذقية، عشتُ فيها سنوات طفولتي وشبابي الأول، وكانت جميلة جداً لدرجة أنها قطعة من الجنة. عرفتُ تركيا من خلال مسلسلٍ تركيٍّ دُبِلج إلى اللهجة السورية بطريقةٍ سيئةٍ جداً، ولكنّنا تعلقنا به جميعاً لأنّه نوعٌ جديدٌ من الدراما تختلف عن القصص التي اعتادت الدراما السورية على تقديمها، فقد كان يحمل قصة حبٍّ غير منطقية وأحداثاً مملةً وحشواً ريثما تنقضي الحلقة التي كان يبلغ طولها ساعتين. ولم أكن قد عرفتُ المدن التركية كما أعرفُها الآن، ولكن بحكم وجودنا في منطقةٍ قريبةٍ جغرافياً من تركيا، كانت أضواء مدينةٍ حدودية تُطلّ على قُرانا من بين الجبال البعيدة، وعندما كنّا نسأل والدي عن هذه الأضواء، كان يقول إنها من تركيا، وهذه أنطاكيا.

يمكن أن يختصر الأتراك مطالبهم بعبارة صغيرة على تطبيق إنستغرام، لكن كيف يمكننا نحن اللاجئين أن نختصر قصتنا التي كتُبت خلال ثلاثة عشر عاماً من الذل والقهر: هل يعرفون كيف أتى هؤلاء الزوّار إلى بلادهم؟ لقد مشوا في الجبال والأحراش لأيام طويلة، ودفعوا «شقى العمر» للمهربين من أجل العبور نحو الأمان، وقد دفنوا أحبابهم في بلادهم وتركوا أملاكاً وأراضيَ واسعةً وبيوتاً، وجاؤوا هنا من أجل «زيارة»! لقد قُتل الكثيرون منهم على الحدود وهم يحاولون العبور، لقد تركوا أبناءهم في معتقلات النظام السوري وهربوا بمن تبقّى على أمل حمايتهم. نعم، لكلٍّ منّا قصةٌ يطول شرحها، وبعضنا لا يجد كلماتٍ ليعبّر عنها.

في «زيارة» تركيا نعيشُ في منازل يبلغ ثمن إيجارها أكثر من 500 دولارٍ أميركي شهرياً، ونعمل كالعبيد لتوفير لقمة العيش وحياة كريمةٍ لأطفالنا. رغم هذا شكرتُ ربي في كثيرٍ من المرات على وجودي في تركيا. هل تعرفون السبب! هناك حلمٌ يراودني بشكلٍ دائم، وهو الحرب. أحلم أنّ الطائرات تقصفنا أو أن قوات النظام قد هجمت علينا وألقوا القبض علَيّ، وفي بعض الأحيان يكون الحلم أنني قد عدتُ إلى اللاذقية التي يسيطر عليها النظام واكتشفوا بأنني مع الثورة فألقوا القبض علي. مع كلّ حلمٍ من هذا النوع أستيقظ مرعوبةً لأقول جملةً واحدة: «الحمدلله على نعمة تركيا». ولكن حتى هذه النعمة تحولت إلى نقمةٍ اليوم على جميع السوريين.

في كلّ مرةٍ يسألني أحد الأتراك عن جنسيتي بعد أن يكتشف أني لست تركيةً بسبب لغتي المتواضعة، فأقول إنني سورية، فتأتي الأجوبة بطريقةٍ غريبةٍ جداً: «لكن لا تبدين سورية!»، وهو ما يعتقدونه مديحاً لي ولا يشعرون بأنهم يمارسون العنصرية ضدي، أو أنهم يميزونني «بشكلٍ إيجابي». أَستغربُ بدوري: «كيف يبدو السوريون؟» وكأنه قد كُتِب على جبيننا أننا سوريون أو أن لدينا علاماتٌ تُفرّقنا عن الأتراك. البعض يردُّ بشكلٍ مختلف ويطرح سؤال: «هل ستبقون هنا أم ستعودون إلى بلادكم؟»، وغيرهم يسأل عند تعمُّق الحديث إذا كنا «نملك منزلاً في سوريا؟» أو «ماذا نفعل في تركيا؟». 

جميع من أعرفهم يسعَون جاهدين للخروج من تركيا، لكن الوقت بات ضدنا والحدود مغلقةٌ أمامنا، وهويتنا السورية لا تسمح لنا بالوصول إلى أي دولة. هذه العوامل تجعلنا مُجبَرين على عيش هذه الحياة العصيبة في تركيا.

ما أَستصعبُه في هذه الأيام هو كيف أبرر لابنتي سبب بقائنا في المنزل وضرورة الالتزام به، كيف أشرحُ لها عن مفاهيم الكره والعنصرية والتمييز، وأنا التي نجحتُ في كلّ مرةٍ أن أشرح لها أن تركيا هذه كانت ملجأنا من الحرب واستقبلتنا بعد أن شردتنا بلادنا وحاكِموها.

الكثيرون من الأتراك يشعرون بالحيف بسببنا، ويعتقدون أن أشياء كثيرة تتوفّر لنا بشكلٍ مجاني بوصفنا لاجئين، ولكنّ هذا ليس حقيقياً. هم يعتقدون أننا نعيش مجاناً في المنازل التي نجهد في تأمين إيجارها، أننا نأخذ رواتب من الدولة التركية، وأن الطلبة السوريين يدرسون في الجامعات دون دفع أقساط وتكاليف الدراسة، وكذلك ما يتعلق بالخدمات الطبية. هذا ليس صحيحاً، وهي أمور يجب شرحها وتوضيحها للمجتمع التركي.

من المؤسف أن يكون المُتَنفّس من الأزمة الاقتصادية الحقيقية التي يعانيها الأتراك هو ترجمة طيف منهم لها بممارسة العنف ضدّ السوريين، وأن يتجاهل طيفٌ آخرٌ كبيرٌ منهم هذا الأمر.