عندما نفكر أن الثورة الصناعية حصلت منذ قرنين ونصف فقط، وأن العالم تغيَّرَ بعدها كل هذا التَغيُّر، لن يكون من الصعب عندها قبول الفكرة القائلة أن التطور العلمي ليس مجرد سياق تطور تكنولوجي صرف متجسد في الآلات والأجهزة التي نستخدمها، بل هو تغيُّرٌ في تفكيرنا وتركيب مجتمعاتنا في تفاعلٍ مع التفكير العلمي، سواء أدركنا ذلك أم لم ندركه. وبهدف تجنّب أي سياقات اعتباطية، ألجأُ هنا إلى طرح ماكس فيبر (1864 – 1920) وتعقيب هربرت ماركوزه (1868 – 1979) فيما يتعلق بالعقلانية والتقنية، فالعقلانية التي يرى فيها فيبر سِمة المجتمع الرأسمالي، انعكست على شكل مَأسسةٍ للتقدُّم العلمي والتقني، تمثّلت في تغلغل العلم في المجتمع ومؤسساته، وبما أن كل تكنولوجيا يُرافقها شكل سيادة مُضمَر فيها كما ناقش ماركوزه، فقد أتاح التقدم العلمي عصراً جديداً من العقلانية التي غيرت نظام السيادة المُضمَر وغيرت معه النظام الاقتصادي والسياسي.

ضمن هذا الإطار نضع الذكاء الاصطناعي كتقنية جديدة ربما تحمل معها شكل سيادة مُضمَر جديد، ونناقش أثر هذه المنظومة من التغيرات كما وصفناها أعلاه على دولنا النامية أو المتخلفة، بعد أن ناقشتُ في مقال سابق مسألة الذكاء الاصطناعي والسيادة استناداً أيضاً إلى فيبر وماركوزه.

العقلانية واستحقاق السيادة

للعقلانية بمفهوم ماكس فيبر وماركوزه جانبان من حيث أثرها، الأول هو تضادُّها مع الميتافيزيقا والثاني هو فرضُها لحمولة إيديولوجية على عملية الإنتاج من خلال التقنية، نظراً للحمولة التاريخية الموجودة في العقلانية نفسها وشكل السيادة المُضمَر في التقنية، الأمر الذي يجعلها حُكماً أداة سيادة.

يُغيّر الأثرُ الأول المجتمعات عمّا كانت عليه من تقاليد، ويدفعها إلى نقد أفكارها القديمة ووضعها في خانة الخرافات من خلال العقلنة التدريجية للمجتمع وصولاً إلى تغيير بُناه الاجتماعية. أما الأثر الثاني فيفتح المجتمع على بُنى سيادية جديدة غير مُعتمِدة على البنى التقليدية التي اعتادها المجتمع وسلطاته وقواه المسيطرة، وهي بنى عقلانية إجرائية قابلة للفهم وتطرح أشكال سيطرة مُستحَّقَة موضوعياً.

تفتح هاتان النتيجتان النقاشَ على إمكانية وجود بؤرتي معارضة تُبديها المجتمعات النامية في وجه هذا التقدم التقني، تتمثّلان من جهة في مسألة الدافعية لتبني التقدُّم، ومن جهة أخرى في مسألة الركون إلى فكرة السيادة المُستحَقَّة.

فالمجتمعات النامية من جهة تُمانع الانتقال إلى العقلانية لأنه ليس لديها عملياً ما يدفعها إلى استبدال طبيعة تكوينها التقليدي، المعتمد على الدين والتقاليد والتراتبيات الناتجة عنهما، وبالرغم من أن هذه المجتمعات تتفاعل مع العالم لكنها في حالة اعتماد مستمر على نُظُم الحياة الحديثة التي أملتها التكنولوجيا والتقدم العلمي، خصوصاً أنها لم تدخل في عملية الإنتاج وبالتالي لم تضطر إلى تغيير بناها عقلانياً. ومن جهة أخرى قد يصعب على هذه المجتمعات التقليدية الركون إلى فكرة السيادة المُستحَقَّة موضوعياً والناتجة عن العقلانية، لأن ذلك يعني أن التراتبيات القائمة على العقلانية والتقنية تُلقي على كاهل كل من المسيطِر والمسيطَر عليه مسؤوليةَ مكانه في سلّم التراتبيات، كما تُلقي على عاتق المجتمع مسؤولية ضمان مكانٍ مُنتِجٍ لكل أفراده. وهي مسؤولية لا تتفق مع البنى السياسية والاجتماعية والتأويلات الأخلاقية والنظم الاجتماعية السابقة على المجتمع المدني المُعقلَن. كما أنها، وهو الأهم، تضع المجتمعات غير المُنتِجة في تراتبية موضوعية مع المجتمعات المُنتِجة، فتجدُ نفسها خاضعة للمجتمعات المُنتِجة بشكل مُبرَّر تبريراً موضوعياً وسابقاً على الإطار السياسي الذي نعيه في عالم اليوم.

هذه السيطرة داخل المجتمعات وبين الدول قابلةٌ للفصل عن حمولتها السياسية إذن، وغالباً ما تلجأ التصورات الشعبية وبروباغندا الدول إلى الاحتجاج بها كسبب أوحد لتبرير التراتبيات العالمية، وهي تقتضي تغطيتها فرويدياً باعتبارها صدمة للمجتمعات تحتاج إلى وضعها في موقع قابل للفهم، إذ يصعب على المجتمعات الاعتراف بأن الدافع الحقيقي هو المُحافظة على السيادة المُستحَقَّة موضوعياً، فيتم تجاهل هذا الجزء والتركيز على الاعتماد على التقنية والسيطرة على الطبيعة كمُبرِّر للتراتبيات. إلا أنه من الممكن تَخيُّل صيغ تبرير أكثر حدة وأقل مدعاة للانسجام، داخل المجتمعات نفسها وفيما بين المجتمعات متفاوتة التطور، في إنكار غير مُجدٍ للشروط الموضوعية للمجتمعات والدول.

لا بد هنا من التأكيد على أن تعبير السيادة المُضمَرة المُستخدَم هنا لا يقتصر على معنى سيادة الدولة على أراضيها وشعبها، بل هو مفهوم يهدف لتفسير الأسباب الجوهرية لأشكال السيطرة والتراتبيات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع والدولة، والتي تصل في النهاية إلى تفسير تفاعلات سيادة الدولة في تجلٍّ نهائي لهذه التفاعلات.

السلطة والرفاه في الدول النامية

البشر إذن يُفاضلون طوال الوقت بين السلطة والرفاه، ولأن العقلانية التي جاءت بالرفاه بعد الثورة الصناعية وانتشار الرأسمالية تَضمَّنت سُلطتَها المُستحَقَّة موضوعياً والمرتبطة بالتقدم التقني، فقد تعارضت مع السلطة المطلقة، وهو ما يمكن أن يبرر لنا تَرافُق التقدم العلمي تاريخياً مع الديمقراطية وانخفاض سويات القمع الذي تمارسه الدول، الأمر الذي ناقشه ماركوزه أيضاً. فالعَقلنة والتقدُّم التقني وشكلُ السيادة المُضمَر فيهما يتعارض مع السلطة المطلقة، فلا يمكن لهما أن يوجدا معاً، لأن العَقلَنة تُعلي من شأن الفرد لا الجماعة. ولما كانت السُلطة هدفاً أساسياً للمجتمع البشري، كان لا بدَّ من صيغة تستبدل السلطة المطلقة لتحل محلها سلطة تنسجم مع شكل السيادة المُضمَر في العقلنة الناشئة، التي تُتيح المجال لاستمرار عمل الجهاز التقني في السيطرة على الطبيعة، الأمر الذي تَحقَّقَ في الديمقراطية بما تحتويه من تداول للسلطة وصوت للأفراد.

فإذا ما حاولنا مدَّ هذه المُحاججة لبناء استنتاجات تتعلق بالدول النامية، فإننا نتوصل إلى أنها للسبب نفسه تتخلى بسهولة عن أي مكتسبات تاريخية تحوزها في مجال التنمية، فهذه الدول تكون في حِلٍّ من المفاضلة بين التقنية والسلطة المطلقة بقدر ما هي محكومة حكماً شمولياً وبقدر ما هي معزولة عن العالم، فكلما ازداد تسلُّط الحكم فيها وكلما ازدادت عُزلتها يزداد احتمال أن تتم التضحية بالتقنية لأنها تفترض شكل سلطة مرتبطاً بالعقلانية والفرد والعمل والإنتاج والتطوير، لصالح شكل سلطة أكثر دكتاتورية وأقلَّ رفاهاً، لأن الفرد في هذه الدول غير مُمثَّلٍ في الحكم وغير لازمٍ للشرعية. فوجودُ الحُكَّام في الحكم في الكثير من هذه الدول هو نتيجة توازنات لا علاقة لها بالانتخاب ولا بأي شرعية مستمدة من الأداء.

المُلفت في هذا الاستنتاج أنَّ كلاً من البنى الاجتماعية التقليدية والسلطات غير الديمقراطية القائمة عليها تجد نفسها متحالفة في رفض التقنية، كلُّ لأسبابه. كما أن هذا الاستنتاج يمكن أن يشرح لنا تَوجُّه الحكومات إلى المزاودة على مجتمعاتها في ادّعاء العلمانية ومع ذلك عدم تبني الديمقراطية، فهي بذلك ترتفع بنفسها فوق أي بنية سيادة مُتعارَف عليها سواء كانت تقليدية أو عقلانية، وتُتيح لنفسها سيادة تسلطية مَحضة.

قد يخطر لنا في هذا السياق الاحتجاج بمثال الصين، باعتبارها دولة غير ديمقراطية لكنها تمتلك زمام التقدم التقني في حين لا يبدو أن شكل السيادة المُضمَر في التقنية يُغيّرُ من نظام الحُكم فيها، لكن ذلك غير صحيح تماماً. فإضافة إلى التغيُّر في طبيعة السلطة في الصين خلال مراحل تطورها التقني، والذي يبدو واضحاً للعيان وجذرياً من حيث تَقبُّلها المتزايد للنظام الرأسمالي، إلا أن الأهم هو أن الصين ما تزال إلى الآن تقوم على الإنتاج للخارج، فهي بمعنى ما مصنعٌ العالم، ولذلك فشكل السيادة المُضمَر في نظامها ليس التقنية بشكل مباشر بل هو التصدير، وهو شكل سيادة قائم على توازن مع العالم الخارجي وليس مع الإنتاج في ذاته. فهذا العالم الخارجي مُعوَلمُ الاقتصاد والقائم على التقنية، والذي لا تحتاج الصين نفسها للمحافظة على استمراره سوى بمعنى إمداده بالإنتاج، هو شرطُ استمرار الصين التي بالرغم من إنتاجها الهائل إلا أنها تستمر من خلال الإنتاج له. ربما يُفسِّرُ ذلك على نحوٍ ما انخفاضَ نمو الناتج المحلي للصين مع تعمُّق رأسماليتها، فهي تدخل الآن في شكل السيادة المُضمَر للتقنية الذي يفرض عليها المساهمة السياسية في «عَقلَنة» العالم إذا جاز التعبير ودفع تكاليف هذه العَقلَنة، وإن كانت عَقلَنة العالم على صعيد العلاقات الدولية لا تبدو عقلانية تماماً إذا ما وَسِعنا معنى الكلمة.

تنبغي الإشارة إلى أن الفرضية الأساسية هنا، والتي تقول إن التقنية تتضمّنُ شكلاً من أشكال السيادة حُكماً، تأتي في سياق الجدل مع فرضية بديلة تقول بإمكانية وجود عملية إنتاج محضة خالية فى أي أثر أيديولوجي. وهذا التوضيح على جانب من الأهمية، لأنه يميّزُ هذا الجدل عن أشكال الانتقاد الأخرى المُعادية للعلم والتطور، وعن الانتقادات الموجَّهة للعلم والديمقراطية انطلاقاً من مواقع غير ديمقراطية. فالنقاش بمجمله هنا إذن يهدف لتعزيز دور العلم والاندماج بالعالم، ويأتي ضد الانعزال ورفض العالم.

كذلك ثمة ملاحظة تفريقية أخرى؛ لا نتحدث هنا عن الظروف التاريخية لنشأة الدكتاتوريات، فالمُحاججة تعمل باتجاه واحد فقط هو تفسير ظهور الفردانية والعقلانية وانتشار الديمقراطية بالتلازم مع الرأسمالية والتقدم التقني، لكنها لا تعمل بالاتجاه المعاكس لتبرير الدكتاتورية بغياب التقدم التكنولوجي، ذلك أن كلّاً من شكل الحكم والتقدم التكنولوجي هما نتاج ظروف تاريخية أعمق. لكن المُحاججة يمكن لها أن تُفسِّر الدواعي الاجتماعية التي تحكم الشعوب في قبولها شروط الرأسمالية، التي تلغي إمكانية استمرار الدكتاتورية لأنها تتناقض معها، وأن تفسّر الانصياع لظروف يمكن للحاكم والمحكوم في الحكم الدكتاتوري التواطؤ عليها بمساعدة البنى الاجتماعية التقليدية.

الذكاء الاصطناعي في دول لا تُنتِج

وإذا ما أخذنا الحديث إلى سيناريوهات تَطوُّر الآلة وسيطرتها، فأننا نغدو أمام معضلة مزدوجة لتطور الذكاء الاصطناعي في الدول النامية، تتمثل في أنه إضافة إلى احتمال انفصال شكل السيادة المُضمَر في الذكاء الاصطناعي عن العَقلَنة كما وصفناه في المقال السابق (الذكاء الاصطناعي والسيادة: التكنولوجيا والعقلانية ومركزية الإنسان)، واستبدالها بشكل سيادة مُضمَر في فكرة ماضوية جديدة من نوع ما مرتبطة بنقطة أصلٍ كان البشر فيها مصدرَ العقل الوحيد، فإن الشعوب التي لا تُساهم في التطور لن يتسنّى لها أن تلجأ لأي شكل سيادة مُضمَر يمكن تبريره، بما في ذلك شكل السيادة التاريخي الهش هذا، لأنها لم تساهم في تلك اللحظة التاريخية من الإنتاج التي سوف تمثل لحظة خلق الذكاء الاصطناعي، ما يجعلها عرضة مرة أخرى للعيش تحت أسوأ أشكال الإيديولوجيا القائم على الهوية المنغلقة وغير القادرة على الحياة في العالم.

كما أن أولوية المُحافَظة على السلطة في الدول النامية على حساب مواكبة شكل السيادة المُضمَر في العَقلَنة والتقنية، والتضحية بالمكتسبات الاقتصادية، يؤدي بنا إلى افتراض أن الدول النامية لن تواكب بالضرورة أشكال التطور التقني في الذكاء الاصطناعي، لكن ذلك لن يحدث لأنها أكثر حرصاً من غيرها على مكانة الإنسان، وإن كان ليس هناك ما يمنعها من تبّني ذلك في خطاب البروباغندا الخاص بها، بل سيحدث لأن تكلفة التسلّط تزداد على الحكومات الدكتاتورية مع ارتفاع سوية التقنية. وهو ما يعني أننا في العالم النامي ربما نواجه معضلة مزدوجة فيما يتعلق بتطور الذكاء الاصطناعي تتمثَّلُ بالاستهلاك المكثف، والذي لا بدّ منه للعيش في العالم، لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي لم نساهم في صناعتها كما لم نساهم في التكنولوجيا السابقة، لأن الصناعة تتطلّبُ حداً أدنى من الشرعية المتأتية من العقلانية وتمكين الفرد، ليكون استيرادُها خياراً أكثر منطقية للحكم التسلطي الذي يرى فيها مصدر احتكارات ومنافع اقتصادية جديدة.

فالشعوب التي لا تتبنى عملية الإنتاج عموماً تحرم نفسها من البنية التحتية للإنتاج، ليس فقط بمعنى المصانع والبحث العلمي والجامعات المُوجَّهة للسوق على أهميتها، بل بمعنى البنى الاجتماعية التي تؤثر فيها عملية الإنتاج لتُعقلِنها وتُغيَّر منها، فتستطيع بالتالي تبني التطورات الجديدة كمُخرَجات لآليات المجتمع وروابطه، بينما تتلقى المجتمعات غير المُنتِجة التطورات التكنولوجية كصدمات مستمرة لا تنتهي، ولا تحتوي على دليل مُستخدِم يساعدها على فهم كيفية التفاعل الاجتماعي معها. والذكاء الاصطناعي قد يكون صدمة جديدة في سلسلة مُستورَدات التطور، أعنفَ من سابقاتها في آثارها على المجتمعات المُستهلِكة.

التكلفة الضرورية للبحث العلمي

عند النظر إلى البحث العلمي بصفته أحد مظاهر التقنية نفهم أنه مُحمَّلٌ بسيادة مُضمَرة حُكماً، وعليه فإنه وإن كانت عقلانيته غير مُطلَقة كما وصفنا سابقاً العقلانية التقنية، إلا أنه من جهة أخرى ضروري لاستمرار النظام أو الجهاز من خلال السيطرة على الطبيعة، وهو إلى ذلك أهم عوامل التقدم التقني والحفاظ على السيادة المُضمَرة والجدراة.

هذا الدور الحيوي في الاستمرار هو ما يعطي البحث العلمي أهميته وهو ما يضمن استمراره ونجاحه في العمق، لكن بالترافق مع هذه الأهمية تأتي التكلفة التي يتحملها المجتمع في مقابل استمرار آلية البحث العلمي. فالعقلانية الإجرائية التي هي طبيعة العقلانية المرافقة للرأسمالية تضمن فعالية الإجراءات والقرارات والوسائل، لكنها لا تضمن موضوعيتها ونزاهتها لأنها مثل التقنية مُحمَّلة بتاريخانية ومصالح، لذلك فهي عُرضة بشكل مستمر لاستخدامات لا علمية من ناحية غاية العلم، لكنها لمصلحة مُستغلِّيها من ناحية المصلحة الموضوعية لمن يستغلُّ الآلية العلمية لصالحه. لكنَّ لهذا الاستغلال غير العلمي تكلفته الاجتماعية، فالمجتمع يدفع تكلفة هذه الانحرافات، إذا ما نظرنا إليها من وجهة نظر البحث العلمي، على شكل فشل في النتائج يؤدي إلى إخفاق في السيطرة على الطبيعة، ممّا يؤثر على عمل الجهاز ويؤدي بالتالي إلى إعادة النظر اجتماعياً في آلية عمل البحث العلمي وضبطها لتحقيق إنتاج عقلاني فعّال وسيطرة مُستحَقَّة.

كمثال، فالمجتمع نفسه كأفراد يدفع ثمن إعادة التوازن هذه على هيئة أدوية غير فعّالة أو مُضرّة وأبحاثٍ مُضلِّلة وإحصاءات مُنحازة… إلخ، لكن هذا الثمن لا بدّ منه وهو جزء من تاريخ العملية الاجتماعية والاقتصادية في الدول الحديثة، وهو مُدرَكٌ اجتماعيٌ كامنٌ في تقبّل حقيقة أن الحياة مُحمَّلة بالمخاطر التي يحاول المجتمع الحد منها من خلال القوانين والدولة.

أما الدول غير المُنتجِة فتجد هذه التكلفة عبئاً غير قابل للتحمُّل لأنها اعتادت الاستهلاك، لكنها بالمقابل تنسى أن الاستهلاك المحضَ هو اعتمادٌ محضٌ على الآخر المُتحمِّل للتكلفة الحقيقية، والذي سوف يقوم بتحميل هذه التكلفة، غير المُحمَّلة اقتصادياً في سعر المُنتَج لأنها تكلفة من نوع غير اقتصادي إذا صحَّ التعبير، لكنه سيُحمِّلها للمجتمعات المُستهلِكة بأشكال أخرى يمكن تَخيُّل السيطرة السياسية والسيطرة على الموارد الأولية على أنها بعضٌ منها.

كما أن المجتمعات التي لا تكابد تكلفة الإنتاج المشار إليها لا تكتسب السيادة المُضمَرة في التقنية كعنصر في تكوين دولها، ممّا يُبقي الدول في مرحلة غير قائمة بذاتها سيادياً.

من جهة أخرى فإن عدم استيعاب فكرة السيادة المُضمَرة في البحث العلمي، بصفته أحد أوجه التقنية والعقلانية والسيطرة على الطبيعة، ربما يُفسِّرُ فكرة مجتمعاتنا الطوباوية عن البحث العلمي، فهو يبدو في ذهن مُواطني المجتمعات غير المُنتِجة عملية آلية بحتة تَنتجُ عنها اكتشافات واختراعات مُنزَّهة عن رغبات البشر وعن فسادهم وانحيازاتهم. وهو تخيّلٌ يتجاهل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات من عقلانية إجرائية وسيادة مُضمَرة في التقنية ومُستحَقَّة موضوعياً، والتي تعني أنه بالرغم من أن أي استخدام ممكنٌ وإن كان غير أخلاقي أو غير فعال للمجمتع ككل، إلّا أن المجتمع يقوم بالنهاية بالمفاضلة بين اختيارات عقلانية عدة ربما تفرض في النهاية تعريفات جديدة لما هو أخلاقي. ولأن تكلفة أي حياد عن العقلانية سوف تكون  إضعافَ عمل «الجهاز» كما نصفُ تركيبَ الدولة والمجتمع، فإن المجتمع سوف يستمر بالتجربة والخطأ بحثاً عن صيغة أمثل في تفاعل مستمر مع الحياة بهدف تحقيق سيطرة مُستحَقَّة على الطبيعة والإنسان. وهذه التكلفة المتمثلة في الخطأ والتعلّم وإعادة اختراع الذات هي تكلفة لا بدّ منها للمجتمع المُنتِج من أجل إعادة ضبط آلية البحث العلمي لتعزيز أدائها، وهي تكلفة لا يبدو أن المجتمعات غير المُنتِجة راغبةٌ في تحمُّلها.