حقّق تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري مفاجأة كبرى يوم أمس، عندما تصدَّرَ نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة خلافاً لاستطلاعات الرأي وتوقعات المحللين والمراقبين. في المرتبة الثانية حلَّ التحالف الذي يقوده الرئيس إيمانويل ماكرون، وفي الثالثة حلَّ التجمع الوطني اليميني المتطرف وحلفاؤه، بعد أن كانت الاستطلاعات تُرجّح فوزه بأغلبية نسبية وتضع تحالف الرئيس ماكرون في المرتبة الثالثة.
نجحت تحالفات وتفاهمات اليسار ويمين الوسط في منع اليمين المتطرف من الحصول على أغلبية تؤهله للمشاركة في السلطة، لكنَّ أياً من الكتل السياسية الفرنسية لم يحصل على أغلبية برلمانية تؤهله لقيادة الحكومة، وهكذا ستشهد الساحة الفرنسية تجاذبات سياسية حادة وربما اضطرابات في الشارع، ذلك بينما ستجري مفاوضات معقّدة في الأيام القادمة لتشكيل حكومة جديدة لا يمكن تشكيلها بدون تفاهمات صعبة. نحن إذن أمام مشهد سياسي بالغ التعقيد، قد يكون عنوانه الأساسي اليوم أنَّ الشعب الفرنسي قطع الطريق على اليمين المتطرف، لكن فيه عناوين أخرى لا تقل أهمية، لعلّ من أبرزها أنَّ الاستقطاب السياسي والاجتماعي الحاد سيبقى في صدارة المشهد السياسي الفرنسي، وأنَّ ما جرى في الأسابيع الماضية يعني أن اليمين المتطرف يواصل صعوده.
فرانك ميرميه هو أنثروبولجي وكاتب وباحث فرنسي، مهتم بالعالم العربي ومجتمعاته وقضاياه، وله إسهامات وكتابات عدة في الشأن اليمني أبرزها كتاب اليمن المعاصر، وله أيضاً مساهمات في قضايا لبنانية وسورية، منها إشرافه على كتاب يضم ترجمة فرنسية لنصوص عديدة عن سوريا وثورتها تحت عنوان كتابات حرة من سوريا، فضلاً عن أبحاث وإسهامات كثيرة في شؤون فرنسية وعربية وعالمية.
أتحدث إلى فرانك ميرميه اليوم عن الانتخابات الفرنسية وخلفياتها ونتائجها، وعن المعاني الاجتماعية والتاريخية لما يجري في فرنسا اليوم:
هل هُزِمَ اليمين المتطرف الفرنسي يوم أمس؟ وهل تختلف الإجابة فيما إذا كنا نفكر في اللحظة السياسية الراهنة أو نسأل عن الأفق التاريخي؟
يتعلق الأمر بالزاوية التي ننظُر منها إلى الحدث. يمكن أن نعتبرها هزيمة إذا وضعنا في اعتبارنا التوقعات واستطلاعات الرأي والطموحات التي عبّرَ عنها زعماء حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في الأسابيع القليلة الماضية، لكن إذا تذكّرنا أن حصّتهم ارتفعت بشكل واضح في البرلمان مقارنة مع الانتخابات البرلمانية السابقة، وأن عدد الفرنسيين الذين ينتخبونهم في ازدياد وصولاً إلى أكثر 10 ملايين صوت اليوم، فإن مسار اليمين المتطرف ما يزال صاعداً. يمكن أن نقول إذن إنها هزيمة تكتيكية لليمين المتطرف، لكن من المبكر جداً الحديث عن هزيمة تاريخية.
نقطة التحول الأساسية في مسألة صعود اليمين المتطرف هي أنه يحلّ تدريجياً محلّ اليمين التقليدي الجمهوري في الحقل السياسي الفرنسي، وهذا شيء غير مسبوق في الجمهورية الخامسة. نستطيع أن نقسم القوى السياسية الفرنسية اليوم إلى ثلاث كتل متقاربة من حيث شعبيتها؛ يمين الوسط الذي يشغله التحالف الماكروني وما تبقى من الحزب الجمهوري، واليمين المتطرف الذي يشغله حزب التجمع الوطني ومعه جمهوريون منشقون، والتحالف اليساري المكوَّن من أحزاب متعددة تحالفت فيما بينها بصعوبة. الأكثر تماسُكاً واتحاداً بين هذه الكتل هو اليمين المتطرف، وهي مسألة مهمة يجب أن نأخذها في الاعتبار.
بالمقابل، هل انتصر اليسار الفرنسي فعلاً يوم أمس؟ وكيف يمكن تفسير هذه النتيجة المفاجئة؟
النتيجة المفاجئة تجد تفسيرها أساساً في التكتيك الانتخابي الناجح الذي اتبعته أحزاب الجبهة الشعبية الجديدة وأحزاب التحالف الرئاسي، عندما انسحب المرشحون لصالح بعضهم بعضاً لتجنُّب تبعثر الأصوات والحدّ من عدد مرشحي اليمين المتطرف الرابحين، الذين كان يمكن لعددهم أن يكون أكبر بكثير لو أن أصوات خصومهم تبعثرت بين مرشحين متعددين.
أما عن سؤال هل انتصر اليسار الفرنسي فعلاً. انتصر اليسار الفرنسي لأن حصته في البرلمان قد ارتفعت بشكل واضح عمّا كانت عليه، ولأنه بات القوة الرئيسية في البرلمان الفرنسي، لكنه لم يحصل على أغلبية تُمكِّنه من الحكم فعلاً. اليمين الماكروني بالمقابل تراجعت مقاعده وتلقى هزيمة واضحة، لكنه ما يزال قادراً على إرباك تحالف اليسار وربما المساهمة في تفكيكه.
لم يتوقع كثيرون إمكانية قيام تحالف يساري أصلاً، لكن التحالف انعقدَ ونجحَ في تحقيق هدفه الانتخابي. هل يحمل هذا أملاً قادماً لليسار الفرنسي؟ هل هو تحالف تكتيكي فقط أم أنه قد يكون دفعة تاريخية لقوى اليسار؟
تحالف الجبهة الشعبية الجديدة تحالف هشّ جداً، فالأحزاب المنضوية فيه لديها توجهات إيديولوجية مختلفة ومواقف متناقضة أحياناً تجاه بعض القضايا، ما يجعله عُرضة للتفكّك، خاصة نتيجة الطموحات السياسية لبعض قادة الأحزاب المنضوين فيه، الذين يفكرون في الانتخابات الرئاسية القادمة بعد ثلاث سنوات دون شكّ. يجب أن لا ننسى أن النظام السياسي في الجمهورية الفرنسية الخامسة نظام نصف رئاسي، وأنه رغم أهمية الانتخابات البرلمانية في الحقل السياسي الفرنسي، يبقى المنصب الرئاسي هو الأهم دستورياً.
تحالفُ الجبهة الشعبية الجديدة تحالفٌ ظرفي، وهو تحالفٌ سلبي أيضاً، بمعنى أنه قام دفاعاً عن الجمهورية وضد وصول المتطرفين اليمينيين إلى الحكم، ولم يقم لأن أطرافه لديهم سلفاً رؤية وأهداف مشتركة. صحيحٌ أنَّ لدى الجبهة الشعبية برنامجاً اقتصادياً اجتماعياً نجحت أحزابها في التوافق عليه اليوم، لكنهم ليسوا متوافقين على كثير من القضايا الأخرى. يُذكِّرنا هذا بتحالف الجبهة الشعبية اليساري الذي قام 1936 قبل الحرب العالمية الثانية، والذي منع الفاشيين وقتها من الوصول إلى الحكم ثم تفكّكَ بعد سنة واحدة من قيامه.
لكن هل يُعزّز فوزهم النسبي من هشاشة تحالفهم نتيجة التنافس على حصد مكاسب الفوز؟ أم قد يعزّز من وحدتهم للدفاع عن هذه المكاسب؟
ما تزال أحزاب اليسار متمسّكة ببرنامجها المشترك حتى اللحظة، لكن من المبكر الإجابة على هذا السؤال. يتعلق الأمر بالتكتيكات والديناميات الداخلية في الجبهة الشعبية: هل سيتمسّكون جميعاً بالوحدة أم سيعبِّر كثيرون منهم عن مواقف متناقضة؟ يبدو أنهم حتى اللحظة يتمسكون بوحدتهم كي لا يتحمل أي منهم مسؤولية تفكك التحالف، لكن بالمقابل قد يتجه بعضهم للابتعاد عن حزب فرنسا العصية وميلانشون بسبب راديكاليته، وذلك استعداداً للانتخابات الرئاسية القادمة. تُشير الخارطة السياسية الفرنسية الراهنة إذن إلى أن تحالف اليسار يمثّل فعلاً ملايين الفرنسيين، وإلى أنه بات القوة البرلمانية الأكبر في مواجهة سياسات ماكرون، لكن ما تزال تنقصه الوحدة اللازمة للقول إن اليسار يصعد مجدداً بالمعنى التاريخي.
إذا كانت كل قوة سياسية تعبيراً عن فئة اجتماعية أو عن نوع من المصالح الاجتماعية والخطاب السياسي؟ عن ماذا يعبّر اليمين المتطرّف اليوم؟ وعن ماذا يعبّر اليسار؟
بالإضافة إلى تمثيله للفئات اليمينة المتطرّفة التي تحمل توجهات عنصرية أو توجهات قومية معادية للأجانب، بات اليمين المتطرّف يمثّل اليوم شرائح واسعة من العمال والفلاحين وخاصة في الأرياف أو المدن والبلدات الصغيرة، أي أنه يمثّل جزءاً كبيراً من تيارات شعبية تعاني من تدني الخدمات ومن القلق تجاه العولمة ومسائل الهوية والهجرة، وتشعر بالتدني الاجتماعي تجاه الفئات المدينية البرجوازية وكذلك بنوعٍ من الرفض لكل ما هو نخبوي.
فيما بات اليسار يمثّل الفئات الأكثر تعليماً والفئات الأكثر انفتاحاً على العالم، وجزءاً كبيراً من الطبقة الوسطى خاصةً في المدن الكبرى، بينما يتراجع حضوره في الأوساط العمالية الفرنسية التقليدية. تجد هذه المفارقة تفسيرها جزئياً في فشل اليسار التقليدي الاشتراكي، وفي تبنّيه لسياسات اقتصادية نيوليبرالية في عهد الرئيس فرانسوا أولاند، بحيث فقد شعبيته سريعاً في الأوساط التي كانت تدعمه تاريخياً.
نسمع كثيراً أن سياسات ماكرون ساهمت في صعود اليمين المتطرف. كيف يمكن شرح ذلك؟
وصل ماكرون إلى السلطة بناء على خطاب يقول إنه حان وقت تجاوز مقولات اليمين واليسار في السياسة وإدارة البلد، بعد أن أضعفَ اليسارُ الاشتراكيُّ نفسه وفقدَ ثقة الفئات العمالية في عهد فرانسوا أولاند كما قلنا، قبل أن يساهم ماكرون نفسه في إضعافه وإضعاف يمين الوسط. لم يتحالف ماكرون مع أي قوى اجتماعية أخرى منظمة، ولا مع هيئات وسيطة مثل النقابات، وانفرد بالحكم تماماً معتمداً في دورته الرئاسية الأولى على أن حزبه يحوز الأغلبية البرلمانية بالإضافة إلى وجوده هو في رئاسة الجمهورية، ثم في دورته الرئاسية الثانية معتمداً على ما يمنحه الدستور له من صلاحيات، بدلاً من بناء تحالفات وتوافقات برلمانية تمنح سياسته شرعية شعبية.
كانت سياسات ماكرون الانفرادية في مجملها مضادة لمصالح الطبقات الشعبية ومُنحازة للأثرياء، ذلك بينما كانت شعبية يسار الوسط الاشتراكي ويمين الوسط الجمهوري في أدنى مستوياتها، بحيث برز اليمين المتطرف بوصفة قوة المعارضة الجذرية الأساسية لسياسات ماكرون، ويأتي بعده من حيث الشعبية حزب فرنسا العصيّة اليساري الذي يقوده ميلانشون، الذي لديه شعبية أكبر من بقية الأحزاب اليسارية إلا أنها شعبية محدودة بأوساط الشباب اليساريين في المدن الكبرى والطبقات الشعبية في بعض ضواحي المدن التي يسكنها مهاجرون وفرنسيون من أصول مهاجرة.
لكن لماذا تتّجه الطبقات الشعبية إلى اليمين المتطرف رداً على سياسة ماكرون أكثر من اتجاهها نحو اليسار، سواء كان بصيغته الميلانشونية أو بصيغته الاشتراكية التقليدية؟
اليسار الاشتراكي فقد مصداقيته في عهد أولاند كما قلنا، أما تيار ميلانشون فإن موقفه المرحّب بالمهاجرين قد يكون سبباً في عدم تأييد كثير من الطبقات الشعبية الفرنسية من أصول غير مهاجرة له، وهو ما نجح اليمين المتطرف في اللعب عليه والاستفادة منه. لكن لا يجب أن يُفهَم هذا على أنه موقف يميني عنصري كاره للأجانب بالضرورة، بل هو موقف ناتج عن القلق والخوف من قلة الموارد وتدهور الخدمات الاجتماعية مثل الطبابة وغيرها، ومن تراجع أوضاعهم الاقتصادية وتقلّص فرص العمل في بعض المناطق، بحيث أنهم يفكرون بأنهم يريدون انتخاب من لا يأتي بمزيد من المهاجرين ليتقاسموا معهم موارد تبدو في تراجع مُستمرّ.
ثمة عوامل إضافية يستغلّها خطاب اليمين المتطرف، منها الهجمات الإرهابية التي نفذّها إسلاميون متطرفون في فرنسا، وتركيز الخطاب الإعلامي اليميني على مسائل متعلقة بـ«خطر إسلامي» يتهدد «الحضارة الفرنسية»، وذلك عبر قنوات إعلامية فرنسية خاصة رئيسية يملكها يمينيون متطرفون، ويضخون من خلالها خطاب الكراهية باستمرار. بالإضافة إلى ذلك، علينا أن نتذكر أن حزب التجمع الوطني وزعيمته مارين لوبان قد غيروا من خطابهم قليلاً في السنوات الماضية بحيث بات أقل تطرّفاً.
لكن لماذا يُعتبرون «يميناً متطرفاً» رغم هذه التحولات في خطابهم؟
لأنهم ما يزالون يُعطون الأولوية في برامجهم للفرنسيين، بمعنى أن برامجهم تمييزية بين الفرنسيين والمهاجرين، وحتى ضد الفرنسيين من أصول مهاجرة، وذلك ضمن ما يسمونه برنامج «التفضيل الوطني»، وهذا نهجٌ غير دستوري ومتطرّفٌ دون شك. يهدف تعديل خطابهم إلى استقطاب أصوات ناخبين لا يمكن أن يصوتوا لمن يحمل خطاباً عنصرياً صريحاً أو خطاباً معادياً بوضوح لقيم الجمهورية الفرنسية، لكن لا مؤشرات على أن هذا التعديل ناتجٌ عن مراجعة حقيقية، بل يبدو حتى الآن مجرّدَ تكتيك انتخابي يُساهم فعلاً في صعود حزب التجمّع الوطني.
هل تشكّل نتائج يوم أمس انقلاباً في هذا المسار الصاعد لليمين المتطرّف؟ وهل يبدو أن اليسار يستعيد مواقعه في الأوساط الشعبية الفرنسية التقليدية؟
ليس لدينا مؤشرات على أن هناك انقلاباً لهذا المسار حتى اللحظة. حزب التجمع الوطني ما يزال أكبر أحزاب البلاد، بينما يتقدّم الآخرون عليه نتيجة تحالفات ظرفية، وخسارته اليوم لا تعني أن شعبيته في تراجع، بل ما تزال قاعدته الشعبية واسعة ومتماسكة على ما يبدو. وإذا كان ما يزال بعيداً عن الحصول على أغلبية تؤهله للحكم، إلا أنه أصبح لاعباً رئيسياً في السياسة الفرنسية، ومعرقلاً أساسياً للُّعبة السياسية التقليدية في الجمهورية الخامسة، التي كانت تنتهي دائماً إلى أغلبية من يسار الوسط أو يمين الوسط.
بالمقابل، ورغم أن الحزب الاشتراكي يستعيد شعبيته نتيجة تجديد القيادة بعد مرحلة التراجُع السابقة، ورغم أنه تمكّنَ هو وحزب الخضر من الحصول على مقاعد في مناطق كانت الاستطلاعات تؤكد أن اليمين المتطرف سيسيطر على النتائج فيها، لكن يبقى أنه بسبب تعدُّد القوى اليسارية وتنافسها وتناقضاتها، فإنه من المبكر جداً الحديث عن عودة تاريخية لليسار الفرنسي.
ما يزال «الحاجز الجمهوري» ينجح في منع اليمين المتطرف من تقويض الجمهورية، وهذا خبر جيد بالتأكيد، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هناك بدائل سياسية تمنع اليمين المتطرف من مواصلة صعوده، ولا يعني أن الجمهورية الفرنسية الخامسة تقترب من تجاوز مشكلاتها، لأن هذا يحتاج ابتكار أساليب جديدة لإدارة التناقضات السياسية.