في نصّه الصياد والتنين، الذي تَقدَّمَ به للماجستير في السجن، عرضَ زكريا الزبيدي، أحدُ الأسرى الستة الذين هربوا من سجن جلبوع منذ ثلاث سنوات، قصة المطاردة في التجربة الوطنية الفلسطينية، واستعرضَ فصولاً من تجربته الشخصية التي عاشها ضد قوات الاحتلال في مخيم جنين. صاغ زكريا صورة التنين المُطارَد الذي ارتبط في رمزيته بالنار؛ بارودًا وسلاحاً في مقاومة الصياد.
تستمر اليوم سردية الهروب والمطاردة، كما في مجاز النيّص والبرغوث الذي سكّه باسل الأعرج، في تأسيس مرويّة المقاومة الفلسطينية من قلب الإبادة في غزة، ومخيم جنين وطولكرم، وتصنع من المطاردة وجهاً آخر للاشتباك في وجه آلة القتل اليومية.
نرصد لكم قائمة من أغانٍ وملاحم ارتبطت بِسير مطاريد أو فصول هروبٍ مثير. سطّرت هذه الملاحم الغنائية في أغلبها أثرَ التنين المُطارَد. من بين هؤلاء من هرب من بطش الدولة والقبيلة لأجل خلاصٍ ما، ومن عاش نيّصاً ووجد في المطاردة مقاومة، يضرب ويختفي، كالبرغوث، ولم نشهد من أثره غير النار والبارود وتراب الأنفاق.
الخمسة اللّي لحقوا بالجرة
خلال فترة الاستعمار الفرنسي، تحوّل جزءٌ من الشعر الشعبي في تونس إلى بوق مقاومة، واحتضنَ سِيَرَ البطولات والملاحم ضد الاستعمار. أُطلق على بعضها أشعار الخطاري، جمع خطرة أي المعركة، وعُرِفَت أيضاً بِـ«الملطم» [محمد المرزوقي الأعمال الكاملة، المجلد الثاني، الأدب الشعبي في تونس، صفحة 164]. تناقلَ الرواة أشعاراً وأغانٍ حول بطولات محمد الدغباجي والبشير بن سديرة وبن ساسي والغول الذين قاوموا الاستعمار في الجبال والقرى. احتلّت سيرة الدغباجي مكانة خاصة من بين جميع أبطال المقاومة، عَزَّزها صدى صولاته التي روّعَ خلالها جنود الاحتلال والوشاة المحليين، وأساطير إفلاته من الملاحقة وصولاً إلى حدث إعدامه العلني في مسقط رأسه بالحامة في الجنوب التونسي سنة 1924.
فرَّ الدغباجي من التجنيد الإجباري في صفوف الجيش الفرنسي والتحقَ بالثوار. قاد تَمرُّداً مسلحاً ضد جيش الاحتلال الفرنسي والصبايحية؛ الموالون المحليون للمستعمر. في ملحمة الخمسة اللي لحقوا بالجرة (الخمسة الذين تقفوا الأثر) التي ضاع نَسَبُها بين علي ورثة الحمروني ومحمد بن علية القلعاوي وغيرهما، تغوص الملحمة الشعرية في تفاصيل معركة مخزن مطماطة في الجنوب التونسي، ومطاردة الكيلاني المحضي للدغباجي: «جو خمسة يقصوا في الجرة وملك الموت يراجي / لحقوا مولى العركة المرة، المشهور الدغباجي». تنتهي فصول الملحمة بانتصار الدغباجي واصطياده لمُطارديه الواحد تلو الآخر.
ارتبطت الأغنية بِإسماعيل الحطّاب، أحد أبرز أسماء الغناء البدوي في تونس، الذي حمّلها رمزيةً مُضاعفة عندما أدى مطلعها في صوت الصالحي، وهو لحن وطريقة أداء منسوب للصالحي بن علي بن السلامي من قرية الحنشة (محمد المرزوقي، الأعمال الكاملة، المجلد الثاني، صفحة 334)، ثائر وشاعر غنائي متجول كان مُطارَدًا من السلطات الاستعمارية وجنود الباي، ونظّمَ أشعاراً أرَّخَ فيها لحياته التي احترفَ خلالها الهرب والمطاردة.
استنادًا إلى بعض المراجع الشفوية التي أوردها فيصل القسّيس في أطروحته الطّريق من خلال الموروث الشعبي في الذاكرة الجماعية للمثاليث، انتقل الصالحي من مُربَّع الصعلكة الشريفة، بعد أن بدأ حياته كغائر على أملاك القطاع والمعمّرين، إلى خانة المقاومة ضد المستعمر، وأصبحت طريقته في أداء ونَظم الأشعار محلَّ تسميةٍ قائمة وذات خصوصية متفرّدة في الشِعر الشعبي، ارتبطت بأسلوبه المميز الذي يعتمد بشكل كبير على الهمهمة والغمغمة وابتلاع الحروف. تضطرب المرويات التاريخية في الإشارة إلى شخصية الصالحي، فاللحن وتسميته موجودان منذ القدم، وسبقَ حتى وجود الصالحي بن السلامي، الذي وُجِدَ فعلاً ونَظَمَ الشعر ومات في السجن حسب الروايات التي أوردها كل من محمد المرزوقي وفيصل القسّيس.
تتقاطع سرديات الهروب والمطاردة في أغنية الخمسة اللي لحقوا بالجرة، التي جمعت بين الواقعة التاريخية في «خطْرة» الدغباجي، بين الكر والفر في مواجهة المستعمر وأذياله، مع أسلوب إسماعيل الحطاب الذي استعاد نمط غناءٍ مُعتَّق وإرثاً شعرياً وإلقائيّاً دفينا يُنسَب للصالحي بن السلامي بن عيفة، اجترحه من فصوله الطويلة مع المطاردة.
أبو جلدة والعرميط
في مقاله الخروج عن القانون والدخول إلى الثورة، يصف باسل الأعرج الانتقال من اللصوصية والإجرام إلى الفعل الوطني والسياسي المنظّم بأنه انتقال سلس، إذ تتقاطع سياقاتها في الخروج عن الأنظمة والقوانين المتعارف عليها. شهدت فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين منذ العشرينيات تاريخ عصاباتٍ مقاومٍ شكّله خليطٌ من النزق والروبنهودية والبطولة الوطنية، وبدأت إرهاصاته مع عصابة أبو كباري وأبو سليقة وعصابة الكف الأخضر، وصولاً إلى بداية الثلاثينيات مع الثنائي أبو جلدة والعرميط اللذين حظيا بنصيبٍ وافر من الشعر والأغاني خلدتها الذاكرة الشعبية: «أبو جلدة والعرميط / ياما كسّرا برانيط».
يَذكُر نجاتي صدقي في مذكراته لقاءه بأبو جلدة والعرميط في السجن [مذكرات نجاتي صدقي، صفحة 103]: «تعرّفنا في السجن إلى رجلين شغلا حكومة الانتداب مدة طويلة في حرب العصابات، وهما أبو جلدة والعرميط. لقد ألّفَ هذان الفلاحان مجموعة لمحاربة الاحتلال البريطاني مثل كثير من المجموعات المنتشرة في البلاد والمؤلَّفة غالباً من الفلاحين الذين باتوا بلا أرض وبلا عمل. لقد برز هذان الثائران إثر ثورة 1930، وألّفا عصابة اتخذت من الجبال مجالاً لأعمالها واصطدمت مع القوات البريطانية في غير معركة. وقد أراد زعيمها أبو جلدة، وهو رجل نحيل الجسم قصير القامة، أن يُبعِد عن رجاله تهمة الشقاوة، فارتدى لباساً عسكرياً وزيّن كتفه بسيفين وثلاثة نجوم، وجرَّ سيفًا صقيلاً طويلاً له يدٌّ مذهّبة، وخلع على نفسه لقب القائد العام، كما نصّبَ زميله العرميط، وهو رجل طويل القامة قوي البنية شديد البأس، نائباً له مطلق الصلاحيات».
أعلن أبو جلدة العصيان على الدولة العثمانية بعد أن فرَّ من التجنيد الإجباري، أو ما عُرِف بِـ«سفر برلك»، عند إعلان النفير العام أثناء الحرب العالمية الأولى. استقرَّ لفترة في مرج ابن عامر وشكّلَ مع بعض الساخطين الذين فقدوا أراضيهم عصابةً للإغارة على أملاك كبار الإقطاع الفلسطينيين والبريطان والصهاينة، وضمَّ إليه مجموعة من العتّالين عَرَفَهُم أثناء عمله معهم في ميناء حيفا. استمرت العصابة في ترويع كبار المالكين والجنود البريطان، وأطلقت السلطات على طريق حيفا-مرج ابن عمار اسم «طريق الحرامية»، الذي حَوَّلتهُ عصابة أبو جلدة إلى مجال سيادة ومنطلق لعملياتهم الفدائية، واحتموا بالتضاريس الوعرة من جبال ومغاور. دوّخت العصابة الجنود والوشاة، استولت على الأسلحة وكسبت تعاطف الفلاحين. ذاع صيت أبو جلدة والعرميط كثنائي، وارتبطت السِيَرُ ببطولاتهما وقصص الهروب والإغارة على البريطان وكبار المالكين الفلسطينيين، قبل أن ينال منهما البريطان بعد وشاية، ويُقبض عليهما ليُقتادا إلى المحاكمة ويتم إعدامهما.
يندرج تراث أبو جلدة والعرميط ضمن تلك الحمولة من المُراكمة وتاريخ المطاردة والاشتباك في السِّير الفلسطينية التي زخرت بأسماء خلّدت بطولة الطّريد المشتبك.
قدّمَ كل من حمزة العقرباوي وباسل عباس وروان أبو رحمة مَراجِعَ ونصوصاً قيّمة حول سيرة أبو جلدة والعرميط، وأمام غياب التسجيلات للأغاني التي تناولت سيرتهما، نجد العديد من الفيديوهات لبعض المقاطع الشعرية التي تغنّت بسيرة الرجلين.
بقاو بالسلامة
تحفلُ سيرة المقاومة الجزائرية بأسماء احترفت اللصوصية النبيلة والفتوّة قبل انخراطها في الثورة ضد الاستعمار الفرنسي؛ من علي لابوانت بطل معركة الجزائر، الذي كان مُقامرًا ومُلاكمًا هرب من سجن بارباروسا أثناء اندلاع حرب التحرير والتحق بثوار المدن، إلى راعي الغنم مسعود بن زلماط الذي أطلق الشرارة الأولى لحرب العصابات ضد الجيش الفرنسي منذ أواخر الحرب العالمية الأولى من قلب جبال الأوراس الوعرة.
طاردَ الجيش الفرنسي بن زلماط بلا هوادة في الجبال والأحراش والقرى، لكن راعي الغنم الذي خَبِرَ الطرقات ومخابئ الكهوف وتضاريس الأوراس، تمكّنَ على امتداد بضع سنوات من ترويع الفرنسيين وتجييش قطاع الطرق والساخطين على الاستعمار، ليقود نواة حرب أغوار أوراسية ألهمت المقاومين من بعده. احترف بن زلماط الهروب منذ طفولته، وعرف رفقة أخيه الملاحقة من قبل السلطات الاستعمارية بعد سرقة مواشي. عثر مسعود على أخيه مقتولاً في أحد الأكواخ بعد فراره من السجن. غذّت تلك الحادثة بذور الحقد الأولى لدى مسعود ضد الاستعمار، أعلنها بشكل صريح أثناء رفضه للتجنيد الإجباري. جمع بن زلماط من حوله شباباً تمرّدوا على قوانين التجنيد، وتغلغل في جبال الأوراس جاعلاً منها منطلق عملياته ضد الجيش الفرنسي والوشاة. لسنوات عديدة، استمرَّ بن زلماط في تجييش الشباب وشنّ غارات على الجيش والموالين لفرنسا، التي سخَّرَت قوات عديدة لتمشيط الجبال وترهيب الأهالي والقرى لملاحقة أثر بن زلماط. استثمرت فرنسا ورقة الخونة للإيقاع بمسعود بن زلماط سنة 1921 واغتاله جنودها بالرصاص.
تغنّى عيسى الجرموني بسيرة مسعود بن زلماط وفصول مطاردته في «بقاو بالسلامة». عاصر الجرموني مسعود بن زلماط، واشترك معه في نفس البيئة، الأوراس، كما كان بدوره رافضاً للخدمة العسكرية الفرنسية. ينطلق صوت الجرموني الحاد في طابع الصواري، التي تعني المرتفعات بالأمازيغية، مطبوعاً بالتضاريس الوعرة للأوراس.
حيّد عالجيش يا غبيشي
اختزلت قصة غبيشي وحبيبته حسناء ازدواجية الهروب خلال فترة الانتداب البريطاني على شرقي الأردن وفلسطين، فكانت قصة هروب من بطش القبيلة ومن مطاردة القوات البريطانية. مانعت سلطة القبيلة رغبتهما في الزواج بعد أن تقدّمَ غبيشي بطلب يد حسناء من أبيها صاحب المقام المرموق في قبيلته العتيدة وكبيرة الشأن، بحجة أن غبيشي ليس في ذات المنزلة. عزمَ الثنائي على تحدي الضوابط وقتها، وقرّرا الهروب والاختباء في الجبال. ثارت ثائرة والد حسناء الذي طلب من الضابط البريطاني جون باغوت جلوب ملاحقة غبيشي وقطع رأسه. سخّرَ جلوب، الذي عُرِفَ بكنية أبو حنيك نتيجة تشوّه في حنكه بفعل رصاصة، فرقة مدججة بالجيش والعتاد لمطاردة العاشقَين. اتفق غبيشي وحسناء على التناوب على الحراسة، شرط ألّا يناما في الوقت نفسه، ويسهر كل منهما على حماية الآخر وتفقُّدَ محيط المخبأ الذي احتميا به في الجبال الوعرة. لمَحَت حسناء أثناء نوبتها الجنود والحناطير وأيقنت أن النهاية موشكة، فأفزعت غبيشي وطلبت منه تحييد الجيش، أي الكفَّ وإعلان الاستسلام. رفضَ غبيشي واشتبك مع الجنود ببسالة قبل أن تغتاله رصاصة. خلّدت الذاكرة الشعبية الفلسطينية قصة غبيشي وحسناء من خلال أغنية على شكل حوارية بين العاشقين لحظة مُحاصرتهما من قبل قوات جلوب: «حُطّي إيدِكْ بيدِي لنوَلّي لوين تريدي ما تندَلّي / والعيشِهْ طريدِهْ ولا تذلّي ولا تقلُّو سيدي وتخضعلُو».
ارتبطت الأغنية باسم بدرية يونس، من أشهر الحدّائيات في وادي عارة. كانت بدرية كفيفة البصر، واشتهرت بترديد أهازيج الثورة أثناء المد الناصري في فلسطين.
بين الوديان
تضطّربُ المرويات حول تاريخ هذه الأغنية، منشأها وقصتها، وتتداخل في طياتها ثيماتُ الترحّل والمطاردة، فيما تشترك جميعها في سردية الهروب من بطش السلطة الأبوية والقبلية. تُرجِعُ بعض الروايات الأغنية إلى بالصيد الطالبي، مُغنٍّ شعبي في منطقة الكاف بالشمال الغربي لتونس، أَحبَّ ابنة شيخ من أعيان القبيلة ونظمَ في غزلها أبياتاً من الشعر الأخضر الإباحي، ما كلّفه المطاردة والتنكيل، إذ اعترضه أحدهم إثر مكيدة دبّرها والد البنت وحاول ذبحه. بقي الطالبي يتخبط في دمائه وهو يحاول الهرب والنجاة، إلى أن عثر عليه بعض القرويين وساعدوه للعودة إلى الحياة، فأرّخَ لمحنته في «بين الوديان».
تختلف رواية الطالبي عن الرواية المنسوبة لِـ علي الحرازي من منطقة الأعراض بالجنوب التونسي. شبَّ الولد واحترفَ الرقص، وجاهرَ بما يعارض نواميس الشرف في قبيلة أبيه الذي أقسم على ذبحه حتى يغسل العار الذي ألحقه ابنه بسمعة عائلته، بعد أن اعتبرته القبيلة مارقاً ومتشبّهاً بالنساء. أذعنَ الحرّازي لنذر أبيه، لكن أصحابه وجدوا له حيلة تمثّلت في ذبح ناقة وفصل عنقها الطويل، ثم إفراغها وملئها بالدماء، وطالبوا الحرازي لفّها حول عنقه بعد أن جعلوا منها حزاماً. أقبل الليل وهم الأب بذبح ابنه، لتنفجر الدماء في وجهه. ذعر الوالد، فيما هرب الولد من قريته مغطى بالدماء، واختلى بنفسه بين الوديان يقول الشعر تأريخاً لمحنته وهروبه من ظلم أبيه وبطش القبيلة: «بين الوديان، دمّه يقطّر».
أيّاً كانت قصة بين الوديان، فإنها تلقّفت ميراث الدم الطريد من سلطة القبيلة ونواميسها، وأَرّخت لقصة هروب دامٍ. ارتبطت الأغنية أيضاً باسماعيل الحطّاب، الذي تزعّمَ مشهد الغناء البدوي منذ الاستقلال، واستمر في نشر تراث منطقة المثاليث وسط البلاد التي عاش فيها.
خربوشة
بعد أن أجهز القائد عيسى بن عمر، وهو قائد مخزني (أي من النخبة الحاكمة)، على انتفاضة أولاد زيد نهاية القرن التاسع عشر في المغرب، لم يهنأ بانتصاره في كسر شوكة القبيلة وتدمير كيانها الحربي، طالما ظلّت شاعرتهم ومغنية العيطة، الشيخة حادّة الزيدية الغياثية، حرّةً وطليقة اللسان بالرغم من المطاردة الشرسة التي شنّها أعوان القائد في أثرها. يُدرك القائد عيسى بن عمر جلياً مصدر التهديد الرمزي الذي تمثّله العيطة بالنسبة لهيبته، خصوصاً في مجتمع قروي وشفوي. يُشير الباحث حسن نجمي إلى أنه من الوارد أن تكون الشيخة حادّة (أو حويدة) قد ارتجلت بعض الشذرات داخل النص الذي نعرفه اليوم عن الأغنية، لكنه يعتقد أن الرواية الشفوية قد أضفت بُعداً أسطورياً وبطولياً على الشيخة، من الصعب أن تستوعبه امرأة قروية بسيطة في المغرب القروي خلال القرن التاسع عشر بحسب رأي الكاتب حسن نجمي، إذ يصعب نسب شعر شفوي مجهول المؤلف إلى أي كان، فقط لتَوافُق بعض المقاطع الشعرية وتَماثُلها مع بعض الأحداث، كما أن الوقائع التاريخية لا تكفي لوحدها لتبرير الإسقاطات الخارجية على متون شعرية شفوية (حسن نجمي. غناء العيطة. الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب 1، صفحات 191 – 195).
يكمن أثر مغنية العيطة الطريدة الشيخة حادّة الزيدية في «إعادة امتلاك القبيلة للسانها» في مواجهة الظلم والتشريد والمطاردة التي تعرضت لها قبيلتها، ومن بطش القائد عمر بن عيسى (حسن نجمي. مصدر سابق. صفحة 191). بدأت انتفاضة أولاد زيد ضمن موجة تمرُّد واسعة شملت القبائل بين 1894 و1895 إثر وفاة السلطان حسن الأول. تشابكت حياة الشيخة مع فصول الانتفاضة والتمرد طيلة سنة ونصف قبل القبض عليها والتنكيل بها. تظافرت جهود عيسى بن عمر مع دعم السلطان عبد العزيز في التنكيل بقبيلة بني زيد. انهزمت القبيلة والتجأت إلى مقامات بعض العلامات الصوفية طلباً للحماية، لم يشفع لهم ذلك بعد أن فتك بهم القائد عيسى بن عمر في اجتماع كان مُهيّأ سلفاً للصلح. حدث ذلك خلال عام الرّفسة الذي أرّخَ لفصول الفتنة في الذاكرة الشعبية المغربية. استمرّ القائد عيسى في مطاردة أثر القبيلة أينما حلّوا، وقبض على العديد منهم. اختفت الشيخة حادّة لدى بعض معارفها، لكن يد القائد وأعوانه تمكنت بها في آخر المطاف.
تختلط فصول الشيخة حادّة مع شخصية خربوشة، وإن أشارت جلُّ المراجع إلى أن الشخصيتان واحدة، فالبُعد الرمزي للأغنية وفصول المطاردة لأولاد زيد حوّلت الأغنية إلى فصلٍ ملحمي أرّخَ لفترة عصيبة من تاريخ صراع الأهالي ضد المخزن.