في تقريرٍ صدر بتاريخ 5 حزيران (يونيو) الفائت عن برنامج إعادة التوطين، قالت مفوضية شؤون اللاجئين إن السوريين ما يزالون الأكثر حاجةِ لإعادة التوطين، ومن المتوقع أن يحتاج ما يقرب من مليون سوري وسورية إلى الدعم من خلال هذا البرنامج. وفي هذا السياق المستمر منذ أكثر من عقد، تتزايد أسباب الهجرة من بحث عن الأمان والحماية والهروب من الخدمة الإلزامية، إلى البحث عن حياة أفضل ومستقبل أكثر وضوحاً مع الأزمة الاقتصادية المتزايدة والتي لا يبدو أن لها حلاً في الأفق، وقد ترتّت عنها سوء خدماتٍ منقطع النظير، يتضمن مختلف القطاعات التعليمية والمهنية.
ومع عدم وجود مستقبلٍ آمنٍ في وظائف لا تؤمن دخلاً مناسباً للمعيشة، يبحث طلاب الجامعات عن مستقبلٍ أفضل خارج سوريا، أملاً في تعليمٍ متقدّم أو في فرصٍ مهنية ملائمة. بشهاداتهم الجامعية يبحثون يومياً عن القبولات الأكاديمية لإكمال دراستهم أو تغييرها، أو حتى استغلال هذه الشهادة لمجرد الخروج.
وتُظهر دراسةٌ بعنوان موجبات الهجرة المركّبة في سورية وانعكاساتها المجتمعية، أن معظم الأفراد من عائلات عينة الدراسة يفكرون في الهجرة، كما أن متوسط الهجرة في العائلات وصل إلى ما بين 20 و70 بالمئة في العامين 2022 و2023. كما أظهرت النتائج الميدانية لهذه الدراسة ميلاً باتجاه هجرة النساء، إذ تصل النسبة إلى 40-50 بالمئة مقارنةِ بالذكور، وكذلك مقارنةً بالموجة الأولى من الهجرة 2012-2019، حيث كانت تطغى عليها هجرة الذكور بسبب ظروف الحرب والخوف من التجنيد العسكري الإجباري والاعتقالات. وكان من أبرز المتغيرات في منظور الهجرة هو ارتفاع نسبة الإناث المهاجرات والراغبات في الهجرة الكلية، أو الساعيات للعمل خارج البلاد.
إلى هنغاريا بصورة شرعية
لمى (اسم مستعار) واحدةٌ من نساء جامعيات كثيرات يرغبن بالهجرة، لكنّ طريقها ما يزال صعباً. فبعد أن ودّعت جميع أصدقائها، رُفضت لمى من قبل السفارة الهنغارية لأنها سحبت المال من حسابها البنكي بعد حصولها على القبول الجامعي. اليوم تحاول الحصول على قبولٍ في درجة الماجستير في إحدى الجامعات الهنغارية مرةً ثانية.
خلال سنوات دراستها الجامعية فكرت لمى في السفر، ولم تكن تهمّها الوجهة. أرادت فقط الخروج من سوريا بسبب ما عاشته وسط القصف المستمر والظروف المعيشية السيئة واضطرارها للنزوح من داريا. جرّبت خياراتٍ متعددة للسفر، منها المنح الجامعية والهجرة إلى كندا التي لم تستطع تحمّل تكلفتها. في النهاية استقرت على خطة السفر إلى هنغاريا للدراسة بسبب تكلفتها المنخفضة مقارنةً بالمبالغ المطلوبة للعيش والدراسة في دول أوروبا الأخرى. للسفر إلى هنغاريا بقصد الدراسة، يحتاج الطالب إلى دفع مبلغ 6000 دولار تقريباً كقسط سنوي للجامعة تقريباً (يختلف الرقم باختلاف الجامعات والأقسام)، وكشف حساب بنكي يحتوي ما يقارب 8000 دولار، وشهادة لغة إنكليزية معترف بها عالمياً، بالإضافة إلى الأوراق المعتادة مثل كشف العلامات الدراسية.
استدانت لمى المبلغ الذي وضعته في الحساب، وبعد قبولها أعادته لأصحابه فوراً، مما أدى إلى اكتشاف السفارة عدم امتلاكها للمبلغ فعلياً، وبهذا خسرت فرصتها في السفر.
اتبعت ليلى (اسم مستعار) الطريق نفسه، وحدّثتنا من كامب في هولندا عن تجربتها. باستخدام فيزا الطالب، خرجت ليلى وجالت في أنحاء أوروبا للبحث عن الدولة الأنسب للجوء. تقول ليلى: «خيار دراسة الماجستير ليس متاحاً لي فعلاً، إذ لا يمكنني دفع تكاليف الدراسة والسكن، خصوصاً أني أحمل شهادةً في الفنون المسرحية، ولا أضمن الحصول على عملٍ من خلالها. دفعتُ ما استطعتُ جمعَه واستدانته واخترت اللجوء في هولندا». أرادت ليلى الخروج من سوريا هرباً من الخوف الدائم ومن الظروف الاقتصادية التي تجعل أي مستقبلٍ لها مستحيلاً. كان عليها الخروج بأي ثمن، واتضح أن دفع مبلغ 6000 دولار للجامعة مع تأمين 8000 آلاف أخرى للحساب البنكي طريقٌ أضمن وأسلم من التهريب الذي يكلّف ضعف هذا المبلغ، ومع مخاطرةٍ كبيرةٍ بالحياة أيضاً.
حرية التعبير كانت بين أسباب ليلى للخروج من سوريا، فقد شهدت خلال سنوات نشأتها على مظاهراتٍ واقتتالٍ مسلح واعتقالاتٍ طالت جيرانها في منطقة جرمانا في ريف دمشق. يئِست ليلى من حدوث أي تغيير، إلا أن التغيير الذي طالها شخصياً هو تسامح عائلتها ومجتمعها اليوم مع هجرتها كامرأةٍ بمفردها، خصوصاً وأن فرص الزواج «صارت قليلةً» على حد قولها، وأن النساء مضطراتٍ للاعتماد على أنفسهن قبل أن ينتهين لوحدهن في ظروف اقتصادية سيئة، مع رعبٍ دائم من الاعتقال والقصف وإطلاق النار.
تقول ليلى إن الهجرة بهذه الطريقة الآمنة كانت سبباً آخر لتسامح عائلتها مع هجرتها، فبهذه الطريقة لن يقلقوا من تعرّضها للغرق في البحر أو القتل أو عنف أمن الحدود، أو حتى التحرش الجنسي.
رفضت ليلى مشاركتنا بعض التفاصيل التي ساعدتها في الوصول إلى وجهتها وكيفية تأمين متطلبات ذلك، معلّلةً ذلك بالقول: «لحتى ما ينقطع الطريق على غيري إذا عرفوا (السلطات الأوروبية) شو عملنا». وتخبرنا أنها رأت طلاباً قادمين من إيطاليا وصربيا في مثل وضعها، أي استخدموا الطريق نفسه عبر الوصول إلى الجامعة ثم الهرب للتوجه إلى إحدى الدول الأوروبية الأخرى والتقدّم بطلب لجوء.
فكرة السفر إلى هنغاريا مرتبطةٌ عادةً بمنحةٍ تقدمها الحكومة الهنغارية بالتعاون مع وزارة التعليم العالي السورية. في عام 2016، رفعت هنغاريا عدد الطلاب السوريين المقبولين من 50 إلى 170 بعدما نجح 170 طالباً في القبول، مع توجيهاتٍ للسفارات الهنغارية بتسهيل إجراءات سفر الطلاب. تمول المنحة الدراسة والتأمين الصحي بالإضافة إلى مصروف شهري للطلاب. ارتفع العدد إلى 200 منحة في الأعوام اللاحقة.
لم تستطع لمى ولا ليلى الحصول على المنحة التي كانت خيارهما الأول. تتهم ديما (اسم مستعار) الحكومة السورية بالتدخل لصالح «الواسطات»، إذ رُفض الكثير ممن تعرفهم من المتميزين والأوائل على دفعاتهم في الجامعة، بينما نجح آخرون لا يحققون المستوى المطلوب. ليست ديما وحدها، فكثيراً ما يتقدَّم الطلاب السوريون للمنحة الهنغارية والمنح الأخرى المرتبطة بالحكومة السورية دون كثيرٍ من الأمل، بسبب تقديم الواسطات والمحسوبيات والرشاوى على الاستحقاق التعليمي بحسب ما يتداوله طلاب الجامعات والخريجون. من جهتها، أنكرت وزارة التعليم العالي تلقي مبالغ مالية مقابل الحصول على المنح الروسية، ولم تَذكُر شيئاً عن المنحة الهنغارية وغيرها في هذا الدفاع.
يصل عدد المنح سنوياً إلى 1500 منحة بحسب صحيفة الوطن، أكثرها إلى روسيا والهند، بالإضافة إلى دول أخرى مثل مصر والهند وكوبا وباكستان وغيرها. هنغاريا من بين هذه الدول تعتبر طريقاً سهلاً للوصول إلى أوروبا الغربية بتأشيرة الطالب، وهذا لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال أن جميع المتقدمين إلى الجامعات الهنغارية وغيرها يقصدون اللجوء إلى أوروبا الغربية.
رغبت ديما في الحصول على تعليمٍ لائقٍ ومختلفٍ عن المستوى الذي تقدمه جامعة دمشق. حلمها هو شهادة عليا في إدارة الأعمال، بعد حصولها على شهادة أدب إنكليزي من جامعة دمشق. اللجوء لم يكن ضمن خططها إطلاقاً، لكنها رُفضت من كل سفارات الدول التي تقدّمت إليها للدراسة لاشتباههم بكونها ترغب في اللجوء أو لأسباب أخرى مختلفة. تقول ديما إن رفضها من المنحة الهنغارية بالنسبة لوضعها شخصياً ليس بسبب الواسطات والمحسوبيات، فالرفض جاء من المنحة، لعدم اقتناع القائمين عليها برغبتها في الدراسة، معتبرين أن هدفها هو اللجوء. تعتقد ديما أن السبب في اعتقادهم هذا هو عمرها، إذ تبلغ من العمر 32 عاماً، وهو ليس تماماً السن الذي يبحث فيه المرء عن تعليم.
أما عن الدراسة على حسابها، فهو خيارٌ غير متاح مادياً بالنسبة لها، وتشكُّ في إمكانية العمل بشكلٍ يضمن لها دفع قسط سنةٍ ثانية إذا ما استطاعت دفع الأولى.
فيزا شبه مستحيلة لأوروبا الغربية
في السنوات الأخيرة، تقول ديما إنها خفّضت سقف طموحاتها بعد سنوات من محاولات الوصول إلى الجامعات الألمانية أو أي جامعات أوروبية غربية أخرى. ألمانيا بالنسبة لها كانت الخيار الأول لانخفاض تكاليف الدراسة الجامعية فيها مقابل الدول الأوروبية الأخرى أو الولايات المتحدة الأميركية وكندا. في البداية رُفضت لرغبتها في الدراسة باللغة الإنكليزية، وكان خطاب الرفض يتضمن تنويهاً إلى وجوب تعلّمها الألمانية. درست اللغة الألمانية وحصلت على المستوى المطلوب، وحصلت معه على قبولاتٍ جامعية، واستأجرت على إثرها بيتاً مرة، وغرفةً في سكنٍ جامعي في مرةٍ أخرى، وهذا لأن السفارة تطلب إثباتاً عن وجود مكانٍ للإقامة، ولحجز مكانٍ في السكن الجامعي قبل امتلائه، كما وضعت مبالغ مالية في حساب بنكي، وحصلت على تأمين صحي. وفي كل مرة، يتوقف كل شيء في السفارة الألمانية في بيروت.
«ما كنت بعرف إنو إذا رحت ع السفارة الألمانية بالعراق أو الأردن كان أسهل. السفارة الألمانية ببيروت تعمل تصرفات تعرقل كلشي»، تقول ديما عن تجربتها مع السفارة الألمانية في بيروت. العرقلة بحسب ديما تأتي بالدرجة الأولى عن طريق التأخير لمدة أربعة أو ستة أشهر، وخلال هذا الوقت تخسر القبول الجامعي. في مرةٍ ثانية، رَفَض أحد موظفي السفارة أخذ أوراق شهادة اللغة الألمانية الخاصة بها، وقال إنه «لا داعي لها». في النهاية رُفض طلبها بعد تسعة أشهر بسبب عدم وجود شهادة لغة. وفي مرات أخرى، لأن السفارة لم تقتنع بعدم رغبتها في اللجوء.
في جامعاتٍ أخرى في النمسا وهولندا، لم تستطع ديما الحصول على منحٍ تغطي تكاليف الدراسة الكبيرة. وفي المحاولة الأخيرة، حصلت على قبول جامعي في ليتوانيا، لكنها لم تستطع الوصول إلى السفارة، إذ لا تمتلك ليتوانيا سفارة في بيروت، ولم تستطع دخول تركيا أو مصر لأجل المقابلة.
ومن بين المنح العالمية، لم ترغب ديما في التقديم لمنحة تشيفنينغ للدراسة في بريطانيا بسبب اشتراط المنحة العودة للعمل في سوريا، وهو أمرٌ لا تريده رغم أنها لا تنوي اللجوء، لكنها لا تريد حدّ خياراتها.
في النهاية، أضاعت ديما سبع سنوات في هذه العملية، وأكثر من 8000 دولار بين إيجارات سكن وتكاليف سفر إلى بيروت، ومبالغ أخرى لا تذكُرُ كم بلغت دفعتها على دورات اللغة الألمانية وامتحانات شهادة الآيلتس.
ولأن ما حدث مع ديما هو أمرٌ شائع، اختارت سوزان (اسم مستعار) طريقاً أخرى لضمان الحصول على تأشيرة. عملت سوزان في الإمارات التي دخلت إليها عبر فيزا سياحية، وحصلت لاحقاً على إقامة عمل. وطوال فترة إقامتها كانت تتقدّم للحصول على قبولاتٍ في جامعاتٍ أوروبية لرغبتها في الحصول على تعليم عالٍ. حصلت في النهاية على قبولٍ من جامعةٍ هولندية مع منحةٍ جزئية فقط. استخدمت سوزان إقامتها الإماراتية لضمان السفر، وكتب في رسالة الدافع أنها «تنوي العودة لتأسيس عمل في الإمارات»، وساعدها في ذلك رسالة توصية من مدير عملها. في الحقيقة لا تنوي سوزان العودة إلى الإمارات التي كرهت الحياة وظروف العمل فيها، كما لا تنوي أن تلجأ بعد دراستها، وخطتها تقوم على البحث عن عمل في أوروبا بعد إنهاء دراستها الجامعية. وبهذا تستطيع العودة إلى سوريا لرؤية عائلتها متى أرادت، على العكس من وضع اللاجئ.
تخبرنا سوزان أن خيار هولندا مكلفٌ مادياً على العكس من ألمانيا، لكنه يوفر سنةً أو سنتين من دراسة اللغة الألمانية، وفي هولندا لا تُضطر لاستخدام اللغة الهولندية في حياتها اليومية، على العكس من ألمانيا.
طبيب؟ إلى ألمانيا
تمتلئ معاهد اللغات السورية اليوم بطلاب اللغة الألمانية. في دمشق وحدها توجد 4 معاهد خاصة كبيرة لتعليم اللغات تقدم كورسات في اللغة الألمانية، بالإضافة إلى الدروس الخصوصية والمعاهد غير المعروفة والكورسات عن بعد والمعهد العالي للغات. تبلغ تكلفة الكورس الواحد (لمدة شهر أو شهر ونصف) في المعاهد الشهيرة حوالي 700-800 ألف ليرة سورية، أي ما يقارب 50 دولاراً، بينما يقدم المعهد العالي للغات أسعاراً أرخص بكثير، فسعر دورة اللغة الألمانية في المعهد العالي هو 200 ألف ليرة سورية، لكن الضغط عليه كبير ومن الصعب الحصول على مقعد فيه.
عند إنهاء المستويات المطلوبة، يتقدم الطالب الراغب بإكمال دراسته، أو معادلة شهادته في ألمانيا، لامتحان معهد غوته في لبنان أو الأردن.
يشكل طلاب الطب والنساء المنتظرات لم الشمل النسبةَ الأكبر في كورسات اللغة الألمانية بحسب ما قالته عدّة مصادر من طلاب الألمانية للجمهورية.نت، وتتنوع اختصاصات الآخرين دون أن يشكل اختصاصٌ معينٌ نسبةِ كبيرةً بحد ذاته عدا الأقسام الطبية.
تعد ألمانيا الرابعة عالمياً في استقطاب الطلاب الدوليين حسب أرقام 2023، حيث تجتذب ألمانيا هؤلاء الطلاب لتعويض النقص في الأيدي العاملة وخصوصاً الطب. ففي عام 2022 دعت الجمعية الطبية لولاية بافاريا إلى توفير 6000 مكان إضافي لدراسة الطب البشري في ألمانيا.
عَرَف أمين (اسم مستعار) عن وجود فيزا لمعادلة الشهادة الطبية في ألمانيا، لذا بدأ بدراسة اللغة الألمانية والبحث عن سبلٍ لتوفير المبالغ المطلوبة بعد تخرجه من كلية طب الأسنان في جامعة دمشق.
يحتاج الطالب الراغب بمعادلة شهادته الطبية في ألمانيا إلى مستوى B1 في اللغة الألمانية، ومبلغ 12550 يورو في حساب بنكي في ألمانيا، بالإضافة إلى قبول من نقابة الأطباء. سافر أمين أخيراً بعد أربع سنواتٍ من تخرجه بسبب تأخّر مواعيد سفارة وحاجته إلى الوقت لجمع المبلغ اللازم. يتذكر أمين تلك السنوات التي تلت تخرجه في مشهدين: أيام طويلة في غرفته في القرية غير قادر على الالتزام بعمل، وأيام طويلة قضاها يجول بين الدوائر الحكومية للحصول على كل الأوراق المطلوبة.
سافر جميع رفاق أمين بالطريقة نفسها، وبعد سنواتٍ من البحث والمحاولات استطاعوا تحديد الولايات التي تقبل الطلاب بشكل أسرع، وهي: شمال الرين Nordrhein westfalen، وهيسين Hessen، والراين لاند Rheinland pfalz، وزارلاند Saarland. أما في ولاياتٍ أخرى، يتأخر تحصيل الفيزا عاماً أو أكثر بحسب أمين.
استقطبت ألمانيا مؤخراً العديد من الأطباء السوريين، الذين وصل عددهم إلى 6120 طبيباً بحسب أرقام 2024، وهو العدد الأكبر من الأطباء الأجانب في ألمانيا ممن لا يحملون الجنسية الألمانية. أسّس الأطباء السوريون في ألمانيا جمعية الأطباء والصيادلة السوريين، وعقدوا أول مؤتمرٍ لهم في مدينة فرانكفورت عام 2022.
يقول أمين إن سبب الهجرة هو عدم وجود مستقبلٍ مريحٍ وآمن في سوريا، حيث تفقد العيادات السنية مرضاها غير القادرين على دفع التكاليف العالية للطبابة، هذا إن كان الطبيب قادراً أصلاً على فتح عيادةٍ خاصةٍ به. كما يعاني خريجو الطب البشري من ظروف إقامة سيئة في المشافي الحكومية، تليها سنواتٌ طويلة من محاولات دفع ديون استئجار عيادة، كما أن الطبيب لا يحصل على عدد كافٍ من المرضى إلا إذا حصل على شهرةٍ كبيرة، وهذا قد يستهلك سنواتٍ طويلة من عمره المهني. بدلاً من ذلك، فإن العمل لصالح عياداتٍ ومراكز طبية في ألمانيا يؤمن فرصة معيشة أفضل، يمكنهم معها مساعدة ذويهم حتى.
مع ذلك، فإن النهاية المريحة ليست بهذه السهولة؛ فمع السنوات التي يقضيها خريج الطب في انتظار السفر، رغم عمل بعضهم خلال هذه الفترة، يتوجّب عليهم الحصول على السكن بأسرع وقتٍ ممكن (خلال 14 يوماً بالنسبة لطلاب تعديل الشهادة)، إذ لا يحقّ لهؤلاء الحصول على سكن جامعي. ورقة السكن تسمح لهم بالتقدّم للحصول على الإقامة، وبعد هذا يتفرغون للتحضير لامتحان اللغة الطبية مع الحصول على وظائف بدوام جزئي لتغطية تكاليف معيشتهم، ليأتي بعدها المزيد من الدراسة قبل العمل أخيراً في المجال.
«بس يعني عالأقل الميني جوب بتعيشني أحسن ما بيعشني طب الأسنان بسوريا»، يختم أمين كلامه بهذا ويؤكد أن الوظيفة الجزئية لا تمنعه حتى من الدراسة جيداً لامتحان اللغة الطبية الذي يستعد له هذه الأيام.
بزنس السفر الجامعي
أطباء وغيرهم، يسعى كثيرٌ من طلبة الجامعات وخريجيها للسفر عن طريق القبولات الجامعية على اختلاف خططهم بعدها، وتبعاً لاختلاف أوضاعهم المادية تختلف الطرق والوسائل.
تنتشر في سوريا مكاتب تساعد في عملية التقدم للجامعات، وكثير منها هي مكتبات جامعية أساساً؛ مثل مكتبات البرامكة ونفق الآداب في دمشق. تقدّم هذه المكاتب خدمات متنوعة مثل تحضير وتقديم الملف الشخصي، وكتابة رسالة الدافع والسيرة الذاتية، وإرسال الأوراق وترجمتها وتصديقها من كاتب العدل في حالة ألمانيا، كما تؤمن حجز السفارة وتأمين السكن وفتح حسابٍ بنكي مجمد، بالإضافة إلى موظفٍ يستقبل الطالب من المطار. تكلّف هذه الخدمات المقدمة في حالة ألمانيا ما يعادل 2500 دولاراً تُدفع بالليرة السورية، وتستغرق العملية مدة 3 إلى 6 أشهر. تقع بعض هذه المكاتب في أوروبا أيضاً بشكل شرعي بحسب ما أكد لنا أمين.
تختلف الأسعار والخدمات وفقاً للدولة المطلوبة، ويقصدها الطلبة المقتدرون مادياً لتوفير الوقت والجهد اللازمَين لإجراء هذه العمليات، وهي تضمن فقط الوصول إلى السفارة، ولكن لا تستطيع بالطبع ضمان الموافقة، خصوصاً أنه وبحسب ديما، ترفض السفارات عادةً الأوراق القادمة من المكاتب.
تقول ديما أن هذه المكاتب منتشرة في ألمانيا كذلك، وفيها مخاطرة كبيرة قد تتسبّب بإهدار الأموال. فبحسب ما تسمع من تجارب رفاقها، تكتشف السفارات أحياناً أن الطلب مملوء من قبل موظف في مكتب بسبب تكرار نص رسالة الدافع مثلاً، أو تكرار البريد الإلكتروني. تتجاهل السفارة بحسب ديما الطلبات التي تكتشف أنها مكتوبة في مكتب سفر طلاب لأنها غير صادقة، وتؤكد على وجود عمليات استسهال من هذه المكاتب، حيث تكتب البيانات بموجب كليشيهات مُكرّرة، قد لا تناسب حالة الطالب غير الخبير الذي لا يستطيع كتابة رسالة دافع أو سيرة ذاتية بنفسه، أو حتى مراجعتها للتأكد من كونها مناسبة.
كما ترتفع أسعار معاهد تعليم اللغة كل فترة لكثرة الطلب، وتنتشر كذلك على جدارن مدينة دمشق أرقام هواتف لبعض مدرسي اللغة الألمانية. وهذا لا يقتصر على اللغة الألمانية وحدها، إذ تصل تكلفة كورسات التأهيل لامتحان الآيلتس إلى 70-80 دولاراً أميركياً.
وبحسب أستاذ لغة إنكليزية في أحد معاهد دمشق، فإن دورات الآيلتس غالباً ما تمتلئ مقاعدها بسرعة رغم ارتفاع أسعارها، لكونها تجذب فئاتٍ مختلفة، على رأسها الخريجون الجدد الذين ينوون ضمان درجة آيلتس معينة قبل التقدم إلى جامعات أجنبية.
الإمارات كحل أخير، وأمل آخر
يتوجه العديد من خريجي الجامعات السوريين إلى دولة الإمارات للبحث عن عمل وقضاء فترة مؤقتة يتحصّلون فيها على خبرات عملية وإقامة تسهّل الحصول على فيزا أوروبية كما فعلت سوزان، بينما يتملّك اليأس آخرون مثل كمال الحاصل على شهادة ترجمة من الجامعة الافتراضية. لا يعتقد كمال (اسم مستعار) أن لديه فرصة في الحصول على منحة أو حتى تأشيرة مع اختصاصه هذا، لذا اختار السفر إلى الإمارات للعمل في مهنٍ مختلفة، وبعدها قد يفكر في اتّخاذ خطوةٍ أخرى. ففي النهاية، لا يحصل السوريون في الإمارات على رواتب عالية تناسب المعيشة المُكلفة هناك، ويتشارك عدة أشخاص سكناً واحداً على أمل التدرج في الوظيفة للحصول على وضعٍ أفضل.
بينما يتملّك التردد آخرين مثل سيفين (اسم مستعار) التي تقرر كل فترة الذهاب إلى دولة معينة. درست سيفين اللغتين الألمانية والإنكليزية، وآخر خططها نحو أوروبا كانت التوجه نحو التشيك لانخفاض التكلفة فيها. ما يخيف سيفين من الهجرة هو العنصرية التي تسمع عنها في ألمانيا خصوصاً. هاجرت صديقة سيفين إلى ألمانيا منذ عامين، ومنها تأخذ بعض الأخبار حول العنصرية ضد المهاجرين. وبالإضافة لهذا، تعتقد سيفين أنها وصلت إلى سنٍّ لا يسمح لها العيشَ في مجتمعٍ جديد والاندماج فيه. تقول: «لا أعتقد أني أمتلك الطاقة النفسية للاندماج في مجتمعٍ جديد. كوّنت صداقاتٍ كثيرة هنا لأرتاح، لكن المضحك هو أن هؤلاء الأصدقاء نفسهم هاجروا، فلا أعرف ماذا أفعل».
يختلف عبد الله الذي هاجر في 2015 مع مخاوف سيفين، معتبراً أن هذه المخاوف بالذات هي ما «جمّدته» في سنواته الأولى في أوروبا ووضعته في حالة اكتئاب شديد، إلا أنه تأقلم لاحقاً بعدما أجبر نفسه على الانخراط في كلا المجتمَعين الهولندي والسوري في هولندا. يعتبر عبد الله أن أفكارنا الشخصية حول العمر وانتهاء فرص الحياة عند الوصول إلى عمر الثلاثين منعت الكثيرين من الاندماج، وأجبرتهم على العيش منعزلين في المهجر، وينصح بضرورة تجاوز هذه الفكرة والإيمان بإمكانية بناء حياة جديدة في مكان مليء بالفرص «لأن ذلك هو الحل» برأيه. وعن العنصرية يقول عبد الله: «لا أنكر وجود العنصرية في بعض الأحيان، لكني أحصل على حقوقي بالكامل هنا، فماذا يضرني لو رمقني أحد بنظرة كراهية في الطريق، هذا كان يحدث في سوريا أيضاً عندما نزور محافظةً مختلفة، ويحدث في العالم كله».
هواجس سيفين عن أوروبا جعلتها تفكر في الإمارات، وتحديداً دبي. بشهادة الصيدلة التي تملكها يمكنها العمل كمندوبة لصالح شركة أدوية دون الحاجة لمعادلة الشهادة في هذه الحالة، لكنها تحتاج إلى شهادة قيادة سيارة. تفكر سيفين في الذهاب عبر الفيزا السياحية مثل الآخرين، وهي فيزا مدتها ثلاثة أشهر، يجب عليها خلالها الحصول على عمل وإقامة، وأن تتحمل العنصرية أيضاً، فهي موجودة في الإمارات كما في أي مكانٍ آخر بنسبٍ متفاوتة. تخبرنا سيفين أن هدفها ليس العمل بحد ذاته، إنما النوم دون قلق من أن تستيقظ مرعوبة على أصوات قصف، ولهذا السبب ستخرج من سوريا إلى أي مكان مع أنها تمتلك القدرة المادية على فتح صيدلية في دمشق. «بس بدي حط راسي ع مخدة بدون خوف»، هكذا تصف سيفين سبب رغبتها بالسفر، وتكمل: «إذا وقف كل هاد رح أرجع. ما بدي عيش برا».
وفي خيارٍ جديد، ينتظر البعض نظام نقاط الهجرة الجديد الذي بدأ تطبيقه بداية شهر حزيران (ىونيو) 2024. «بطاقة الفرصة Chancenkarte» هو نظام يسمح بالسفر إلى ألمانيا والبحث عن وظيفة لمدة تصل إلى عام واحد مع خيار تمديدها، وذلك بتحصيل أكبر عدد ممكن من النقاط التي تكفلها الشهادات الجامعية واللغات وغيرها. تستهدف بطاقة الفرصة الراغبين بالعمل في ألمانيا من خارج الاتحاد الأوروبي، وتستقطب مجموعةً واسعةً من المهن، بدءاً من الحرف اليدوية والفنية وحتى العاملين في التكنولوجيا، شرط إثبات تدريبٍ مهني لمدة عامين أو شهادة جامعية معترف بها من البلد الأصلي.
قبل البدء بتجميع النقاط، تتطلب بطاقة الفرصة بالنسبة للمتخرجين من جامعات غير معترف بها في ألمانيا مستوى A1 في اللغة الألمانية أو B2 في اللغة الإنكليزية كحد أدنى، ومن بعدها تبدأ عملية تحصيل النقاط الست. الشخص الحاصل على شهادة جامعية معترف بها في ألمانيا يحصل على أربعة نقاط، وثلاث لمن عمل لمدة خمسة سنوات في تخصصه، فضلاً عن نقاط أخرى موزعة على مستويات اللغة والمهارات وإمكانية وجود زوجة أو زوج، ونقطة إضافية للبقاء في ألمانيا لستة أشهر. كما تتطلّب الفرصة وجود مبلغ 12324 يورو في حساب مجمد. بموجب العقد الممنوح، يتمكن الباحث عن العمل من الحصول على وظيفة بدوام جزئي لمدة 20 ساعة في الأسبوع.
يدرس إلياس (اسم مستعار) اليوم اللغة الألمانية ويستعد لتقديم امتحان الآيلتس في الوقت نفسه، أملاً في تجميع أكبر عدد ممكن من النقاط، ويعتقد أن هذا سيسمح له بدراسة خياراته داخل ألمانيا أكثر، وتقرير ما إذا كان سيعمل أو سيكمل دراسته.