في عام 1982 كانت الممثلة السورية حلا عمران بعمر 11 سنة، تعلّمت فيها الخوف للمرّة الأولى. حين كانت تصل «رسائل الإخوان المسلمين» إلى والدها تهدده بالقتل إن لم يترك دمشق. الرسائل التي كان مصدرها في الواقع صاحب الشقّة، أسست لعلاقة الفنانة مع الخوف والانتماء والهوية والمسرح.
عملت حلا عمران منذُ تخرُّجها من المعهد العالي للفنون المسرحيّة في دمشق في السينما والمسرح والتلفزيون. ووقفت قبل أسابيع بطلة للعرض الافتتاحي لمهرجان «ترانس أميريك» في مونتريال، الذي يقدّم سنويّاً نخبة من إنتاجات المسرح الحديث في العالم على الخشبات الكنديّة. بعد نهاية العرض وقبل ساعات قليلة من موعد الطائرة التي أقلّتها إلى مرسيليا حيث تسكن، كان هذا اللقاء عن المكان والتجربة، وعن الذاكرة أيضاً.
في العرض الأخير «كما روتها أمّي»، كان صوتك حاملاً رئيسياً للعرض. هذه ليست المرّة الأولى التي تميلين فيها إلى العروض التي تخصص مساحة كبرى للغناء.
في الأعوام الاثني عشر الأخيرة، تقاطعَ طريقي الفني مع مخرجين يعملون بأدوات الموسيقى والصوت، وصادف ذلك أن صوتي قابلٌ للتطور. قدّمتُ سابقاً الكثير من العروض التي تتطلّب مني الغناء، لكن صوتي لم يكن تجريبياً كما هو الآن. أشعرُ أنّ التوجُّه للغناء تبلور أكثر في تجرتبي مع المخرج المسرحي الكويتي سليمان البسام، واستكملتُ هذه التجربة مع الكاريوغراف والمسرحي اللبناني علي شحرور، مخرج عرض الأمس.
في السابق كنتُ أُغني ضمنَ العرض أحياناً، لكن لم يكن ذلك ضمن مُحترَف موسيقيّ. الآن أغني مع موسيقى احترافية، هذا جعل مني بشكل أو بآخر مؤدية، أو بشكل أدق يمكن أن أقول «بيرفورمر متعدد الأدوات». بدأت أكتشفُ أشياءَ في صوتي لم أكن أعرفها. لا أعرف التقنيات أكاديمياً، ولكن بسبب التجريب والعمل مع مخرجين منفتحين على التجريب بدأت تظهر مني أصوات جديدة، وهذا يمنح العروض مساحات مختلفة، ويُغيّر مسارها أحياناً. هذا هو الجميل في المسرح. عليَّ أن أقول إنني لستُ مغنية، أنا ممثلة، لكنني بدأت أستمتعُ بالأداء الصوتي وأجدهُ فرصةً لتطوير أدواتي، ولرؤية إلى أين يمكن أن أمضي قُدماً كمُغنّية.
رحلتكِ متعددة المحطات، انطلقتِ من الخشبات السوريّة ثم سارعتِ بالانتقال إلى الخارج، وعملتِ في عروض أوروبية، ما الذي تغيّرَ في نظرتك للفن، لقيَمه وأدواته وحريته مثلاً، بين هناك وهنا؟
في التمثيل لم أشعر في حياتي بأني لست حرة، لا في سوريا ولا خارجها، ولا أسمح لأحد ولا لنفسي بتضييق حريتي خلال التمثيل، هذه الحرية هي مهنتي وهي عملياً حياتي. لم يكن لدي حرية أقل في سوريا في الحقيقة، لكن يمكن القول إن التعبير عن الحريّة في الخارج أسهل، التعرّي على المسرح مثلاً أسهل في أوروبا بالتأكيد. هذا سلوكٌ قمتُ به مرات عديدة. في الخارج لا أطرح سؤالاً عن كيفية رؤية الجمهور لي، لكن في سوريا يمكن أن تواجهني المشاكل بسبب ذلك. مع ذلك قمتُ بأقصى ما يمكن القيام به كممثلة في سوريا، خاصة فيما يتعلّق بالجسد وحريته فوق الخشبة.
في شروط العمل ألم يتغيّر شيء أيضاً؟
شرطي الأساسي لقبول أي عرض هو أن يكون مخرجه منفتحاً وتجريبياً. المخرج هو شرط أساسي قبل النص. يجب أن أؤمن بمن أعمل معه، أؤمن بموهبته ويؤمن بموهبتي، يحبني وأحبّه، أغويه ويغويني. هناك كيمياء إن لم تكن موجودة بيني وبين المخرج لا أستطيع العمل. تركت الكثير من العروض بسبب العلاقة مع المخرج.
إن سألتني عن شرط آخر فسأقولُ لك إنه «السعادة». يجب أن أشعر بالتسلية، يجب أن يُؤمِّنَ العرضُ لي السعادة. هذه الشروط مرتبطة بشخصيتي، وهي شروطي في السابق وحالياً، في سوريا وفي أوروبا. المختلف في أوروبا هو أنني قدّمتُ الكثير من التجارب وحضرتُ الكثير من ورشات العمل، وتعلمتُ الكثير من العروض التي شاهدتها وما أزال؛ تعلّمت ضرورة تحريض الخيال أكثر، وأن علاقتي مع مهنتي لا تنتهي بمكان، بل هي طريق مفتوح للمزيد.
الطريق أوسع بكثير في الخارج، أما سوريا فقد كانت فقيرة جداً بالمسرح، لم نكن نشاهد شيئاً هناك سوى عروض قليلة حفرَ مُخرجوها في الصخر حتى استطاعوا تقديمها.
لهذا تركتِ سوريا؟
تركت سوريا تدريجياً، ومن حسن الحظ أنني لم أُجبَر على ذلك، بل كان خياراً مرتبطاً بالعمل والمسرح عموماً. بعد انتقال إقامتي إلى فرنسا سنة 2007، استمرّيت في السفر إلى سوريا إلى أن بدأت الثورة، حيث أصبح من غير الممكن العودة أو الزيارة. يمكن القول إن سبب سفري كان العمل، حيث كنت أعمل في ذلك الوقت مع مخرجين فرنسيين وأوروبيين.
رجعتِ في السنوات الأخيرة للعمل مع مخرجين عرب، وللعرض على خشبات عربية، ما سبب هذه العودة طالما أنك خضت تجربة مسرحيّة في أوروبا حيث ضجّة المسارح لا تهدأ؟
بعد الثورة في سوريا شعرتُ بحاجة كبيرة للعودة إلى لغتي، وللعرض أمام الجمهور العربي، سؤال اللغة والجمهور لم يكن يتردد في داخلي قبل 2011، لكن بعدها كل شيء تغيّر. لقد طرحت الثورة أسئلة جديدة كثيرة لم تكن تخطر في بالي وبال أغلب الذين تركوا سوريا قبل الثورة.
بدأتُ قطيعة مع المسرح الأوروبي في الفترة التي بدأتُ فيها بالتعاون مع سليمان البسام الذي أعادني إلى اللغة العربية. ثم بعد ذلك بدأتُ بالتعاون مع علي شحرور. نقدّم عروضنا أمام جمهور عربي وجمهور أوروبي أيضاً، جمهورٌ في المسارح الأوروبية متفاعل ومهتم، لكنني أميل للعرض أمام الجمهور العربي بسبب الشعور بالحاجة إلى جمهور يحمل ثقافتي ويتحدث لغتي.
أؤمن أن الفن الجيد هو جيد بأي لغة. ولكن أحسُّ أن الجمهور العربي يحتاج إلى مشاهدة المسرح، خاصة تلك العروض الحقيقيّة التي تلامسه، العروض القائمة على جهود فنانين جادّين بالعمل دون أن يكون هدفهم الأساسي إرضاء أحد. المتفرّج العربي يحتاج هذا، وأنا أحتاج ردَّ فعله.
هو سؤال الهويّة والانتماء إذاً، ذلك الذي يجعلك تتعطشين للعرض أمام جمهور عربي.
لقد واجهتني فجأة أسئلة الانتماء بعد الثورة، إذ أصبح الجمهور الذي يعنيني بشكل أكبر هو الجمهور العربي. في مصر وفي بيروت كنتُ أشعر بشيء مع الجمهور كان مفقوداً بالنسبة لي من قبل. هذا بالنهاية شيء طبيعي، فجمهورك الذي جاء من بيئتك، ينتمي إلى المكان الذي ينتمي له العرض أيضاً. العروض العربية التي أعمل بها خرجَتْ من بيئة هذا الجمهور، تحمل لغته ورموزه، هناك ما هو متبادلٌ معه.
ماذا تعرفين عن المسرح في سوريا اليوم؟ هل شاهدتِ من عروضه؟ هل عُرضت عليك المشاركة في عروض لمخرجين أو فنانين تعرفينهم خلال عملك السابق في سوريا؟
أنا منقطعة كلياً، لا أعرف إلا ما يصلني أحياناً من فيديوهات من أصدقاء، إضافة إلى مشاركاتي في لجان تحكيم تُطلِعني أحياناً على المسرح في سوريا في حال وجود عروض سورية مرشّحة. لا أشارك ولا تتم دعوتي، أصلاً أنا ممنوعة من الدخول إلى سوريا.
لا أذكرك في أي دور تلفزيوني، اسمك لا يحضر في الذاكرة إلا مع أفلام سينمائية وعروض مسرحيّة. التلفزيون في سوريا كان وسيطاً أقرب لتحقيق الشهرة، والأجرُ فيه هو الأعلى؛ هل لديك موقف سلبي تجاهه؟ تجاه الدراما السورية مثلاً؟
عملتُ في التلفزيون في البداية، ربما أكثر من 10 مسلسلات، إضافة إلى سهرات تلفزيونية. ليس لدي مشكلة مع التلفزيون، لكن أشعر بأن القضية هي خيارات حتى لو كانت غير واعية. لا أعتبر التلفزيون فناً تجارياً، أنا لا أؤمن بهذا المنطق للمقارنة، فهناك أعمال عظيمة في التلفزيون، لكنني لم أشعر بأنه مكاني، خاصة في تلك الفترة حيث كنت أحسُّ فيها كأنثى أن عليّ أن أتلبّسَ شخصية لا تُشبهني في موقع التصوير، شخصية متحفّظة مغلقة لحماية نفسي. لقد كان التصوير عبئاً أحياناً. كنت أفضل أن أكون طبيعية، وهذا ما كان يوفّره لي العملُ المسرحي. لم أفكر أبداً في الانتقاء بين خيار العمل في المسرح في الخارج أو في الدراما في سوريا، قرّرتُ دون تردد أن أذهب إلى المسرح والتجريب لأكتشف أكثر. المحرك الأساسي كان المعرفة والتعلّم.
في سوريا كنا نشعر أن المسرح، خاصة ذلك الذي يتم تقديمه في الصالات غير التجاريّة، يحمل صفة الجاد أو النخبوي، مسرحٌ له قيمٌ لا يمتلكها سواه. ألم تساهم الدولة في تكريس ذلك، مقابل إفقاد العروض التي تبيع التذاكر بكثافة قيمتها. كذلك في السينما والتلفزيون، كان الفن مُصنّفاً بقرار غير رسمي بطريقة ما، أليس كذلك؟
المثقفون هم من أسسوا لهذا المنطق، ولمنطق الفصل بين النخبة والعامة. صار هناك مسرح تجاري كمسرح الشوك وعروض مسرح السفراء أو راميتا. مقابل المسرح الجاد في مسرحَي الحمرا والقباني. هذا التصنيف كان مُكرَّساً حتى في المعهد العالي، لقد تربينا على ذلك. أول مرة ذهبت فيها إلى مسرح السفراء، كانت لحضور عرض لزميلنا أندريه سكاف، أتذكّر أني وأصدقائي ضحكنا وشعرنا بالسعادة، لكنها كانت أولى زيارة لي لهذا المسرح باعتباره تجاري، وكأن هناك وازعاً أخلاقياً تجاه ذلك، هذا المنطق التصنيفي مرفوض بالنسبة لي. يمكن أن نرى المسألة بطريقة مختلفة، عن طريق التفريق بين المسرح التجريبي الذي تدعمه الدولة، والمسرح الذي يعتمد في تمويله على شبّاك التذاكر، وهو المسرح التقليدي أصلاً، أي مسرح شكسبير وموليير مثلاً. المسرحان موجودان في غالبية بلدان العالم إن لم يكن كلّها، الميزة أنّ التجريبَ مُتاحٌ في المسرح المدعوم من الدولة، لأنه لا ينتظر بيع التذاكر لكي يتم تمويله، أما في النوع الآخر فالبيعُ شيء أساسي، بالتالي هناك علاقة مباشرة مع الجمهور تفرض معادلة هي إرضاء الجمهور وإرضاء نفسك كفنان، هذه المعادلة يمكن تحقيقها، لكن ذلك ليس سهلاً.
على الصعيد الشخصي، كانت لدي الرفاهية بأن لا أعمل سوى في المسارح المدعومة من قبل القطاع العام. أُفضِّلُ هذا المسرح لأنني قادرة فيه على التجريب.
في قرطاج سنة 2021 حصلتِ على التاينت الذهبي عن دورك في «آي ميديا» مع سليمان البسام. كان لذلك التكريم أهميّة خاصّة أليس كذلك؟ كنت بحاجة كبيرة له حسب قولك حينها.
كنت بحاجة لأنني كنتُ أشعر بأني أعمل كثيراً، أعمل طوال الوقت. أنا كممثلة لم أعمل في أي مهنة أخرى في حياتي، لا أعيش إلا من التمثيل، وهذا بالمطلق حظ، إذ لدي أصدقاء عرب وفرنسيون لا يقدرون على العيش من مهنتهم فقط، أما أنا فما زلتُ قادرة على أن أعيش منها وأن أكون مخلصة لها. لذا فالتكريم يجعلك ترى أن هناك من يرى إخلاصك لمهنتك، ويُقدّر جهودك، ويرى نضوجك ووضوح هويتك كممثل.
لنعد إلى المكان ونتحدّث عن دمشق. اليوم بعد سنوات طويلة، حدثيني كيف كنتِ ترينها؟
أصْلُ أسرتي من قرية الملاجة في محافظة طرطوس، لكنني من مواليد دمشق، طفولتي ودراستي فيها، قضيتُ أكثر من نصف حياتي في هذه المدينة، لكن مع ذلك كان لدي إحساس دائم بأنها ليست مدينتي، إحساس ما بالغربة فيها، هذا ربما يتأتّى من كون أهلي ينتمون لمكان آخر، أو لأن أصولنا من الأقليّة العلويّة وما لذلك من إشكالية. لا أعرف إلى أي درجة كانت دمشق تقبل القادم من خارجها، حتى القادم من ريف دمشق نفسها. كنت أحب المدينة كثيراً، لكن لا أعرف إلى أي درجة كانت تحبّني. الثورة جدّدت هذه الأسئلة، ووضعتنا بشكل مباشر أمام سوريا التي لم نكن نعرفها جيّداً. كنا نعيش وسط النخبة معتقدين أن هذه هي سوريا، لكن سوريا شيء مختلف تماماً، هذا ما أرتنا إياه الثورة.
إذا طُلِبَ منك أن تنتقي أعواماً ذات أثر مفصليّ في حياتك؟ أي السنوات ستخطر في بالك؟
أعوام كثيرة، سأبدأ بولادتي سنة 1971، ثم أنتقل بعدها إلى عام 1982 حين شعرتُ للمرّة الأولى بالرعب من الموت، رغم أنه لم يكن لدي وعي بعد لما يحدث. عشنا في تلك المرحلة ظروفاً قاسية حيث كانت تصل إلى بيتنا رسائل تهديد بالقتل إذا لم نترك دمشق. رسميّاً كانت تأتي من الأخوان المسلمين، لكننا كنّا مقتنعين بأن من يكتبها ويرسلها لنا هو صاحب بيتنا الذي نستأجره، والذي يريد إخلاءنا من البيت، وهو ما حدث بالفعل. بالمحصلة هذا أعطاني مخزوناً من الخوف، والحزن بعد الانتقال من بيت الأمان والسعادة. تنقّلنا كثيراً بعد تلك المرحلة.
1994 عام مفصلي أيضاً، حيث قرّرت فيه ترك الصيدلة بعد 4 سنوات من دراستها، والعودة إلى المسرح. و1998 شكّلَ مرحلة هامّة أيضاً، حيث بدأت العمل في فرنسا. 2001 عندما عَرَضَ عليَّ المخرج السينمائي أسامة محمد التمثيل في فيلمه صندوق الدنيا. 2007 كان قرار الانتقال إلى باريس، و2011 بالتأكيد حيث الثورة التي غيرت حياتنا.