يقضِمُ الرعبُ قلوبَ السوريين اليوم كضبعٍ جائع، ولا يترك لهم متّسعاً للاطمئنان أبداً. السوريون الذين اعتادوا الرعب والمشقة منذ أكثر من عشر سنوات، يخافون اليوم أن يسرقهم النوم من أمنهم المؤقّت. العودة إلى ترتيب حقائب السفر، أو عدم فتحها أصلاً منذ أكثر من عشر سنوات، هو العادة المُكتسبة بعد الثورة لملايين السوريين المدفوعين بعيداً عن بيوتهم. البدء من الصفر وبشكل مستمر ومتكرر؛ بلد جديد أو بيت جديد أو مدينة جديدة أو لغة جديدة ومجتمع جديد. لم يعش أحد منّا باطمئنان تام منذ خروجنا من منزلنا الأول. تلك اللحظة التي نفقد فيها أي معنى للاستقرار تماماً. لسنوات عشتُ داخل حقيبة صغيرة، حالي حال السوريين الذين هُجّروا أو نزحوا من منازلهم ولا يعلمون إن كان هذا المكان هو المستقر النهائي؛ هل نضع أغراضنا أم أننا سنعاود الانتقال إلي صفر جديد؟ الصفر حقيبة نحملها على ظهرنا، وكلّما استخدمونا كورقة سياسية جديدة نفكر في لملمة أنفسنا من جديد داخل تلك الحقيبة.
أُغلِقُ نافذتي جيداً، أتأكدُ أن أحداً لن يتمكّنَ من فتح الشبّاك المنخفض من الخارج، أو كسره بحجر مثلاً. أُخفض صوت الأغاني المنبعث من الراديو الصغير خاصتي، خشية أن يسمعه جيراني الأتراك فيتذكّروا أنني سورية. بأمانة، لم يتعرّض أحدٌ من الأتراك لي فيما مضى، ولكن ألم أقل لكم إن الخوف اليوم أكبر؟ حتى أنني أبتسمُ عندما يصادفني تركيٌّ لطيف وأقول لنفسي: يمكن هي دعوة ماما بولاد الحلال.
يدندنُ الراديو خاصتي بصوت أم كلثوم «غلَبني الشوق وغلّبني»، أبتسمُ وأنا في حالة من الغلبان، ولكن ليس شوقاً بل خوفاً. لدي جارتان عربيتان انتقلتا حديثاً إلى البناء المجاور، اعتدتُ سماع أصواتهما خلال النهار وهما تتبادلان أخبارهما عبر النوافذ، إلّا أن أصواتاً لم تعد تصدرُ عنهما في الآونة الأخيرة، لا أدري أهما غائبتان، أم خائفتان. مثل الجميع، أتحاشى الخروج إلى الشارع هنا في هذه الأيام، ليس لأنني أعيش بأوراق غير نظامية، ولكن باعتبار أن الجنسية التي أحملها، السورية، باتت تعتبر تهديداً صريحاً هنا في تركيا، وربما في العالم. أتحاشى السوشال ميديا، ليس إنكاراً ولكني لا أريد أن أموت رعباً من جديد.
تنحصر حالات الواتساب والفيسبوك والانستغرام عندي باستغاثات واضحة: «حدا بيعرف مهرِّب مضمون لأوروبا؟ – حدا بيعرف محامي يساعدنا بإنقاذ حدا؟ – بس تطلعوا من البيت حملوا وراقكم وإقاماتكم والكملك وجواز السفر، وعقد البيت إذا في، أو لا تطلعوا أبداً، الله يحميكم»؛ أتساءل: هل سيحمينا الله فعلاً؟ هل كانت «يا الله مالنا غيرك يا الله» مستحيلة إلى هذه الدرجة؟ لا يوجد منظمة أو مجموعة سورية تحمينا نحن الذين نعيش هذا التهديد المستمر، لم يكن الموت محصوراً في سوريا تحت القصف والقنص والاعتقال، هناك موت آخر نقتات عليه هنا في الخارج، تهديدٌ لا ينتهي.
في إحدى الليالي الماضية، بعد الاعتداءات الأخيرة في قيصري بالذات، استيقظتُ مفزوعة بعد أن سمعت أصواتاً في الخارج؛ هل أمسكوا بشاب سوري عابر في الطريق؟ هل سينقذه أحد؟ هل عليّ فعل شيء ما؟ كل الإجابات كانت «لا»، كانوا ببساطة يحتفلون لأنهم ربحوا في مباراة. أهلاً بالرعب السوري. المثيرُ للسخرية أن هناك مظاهرات خرجت في ألمانيا لأتراك يطالبون برحيل اللاجئين من بلدهم، بلدهم الذي لا يعيشون فيه هم أنفسهم.
نحاول آسفين أن نتطبَّعَ لنختفي بين الحشود، نعم، نحاول أن نُشبههم لنتخلّصَ من تلك النظرات. أتأكدُ من شكل حجابي عندما أخرج لأقضي أمراً ما، ويُرعبني قليلاً أنه واضحٌ لهذه الدرجة؛ تسألني إحدى النسوة الكبار في الميترو في حديث عابر، «نيرلسن؟»، لا يمكنني الهرب من هذا السؤال بادّعاءات أخرى، لم أفعل فيما مضى أصلاً! تخرج كلمة «سوريلي» من حلقي ثقيلة ومتزنة رغم أن قلبي يرتجف، تُبادلني ابتسامة صفراء بعد أن كانت ضحكتها واسعة جداً. لم أُخفِ يوماً أنني سورية أمامهم، عكس ما كان يحاول الجميع إقناعي، ولطالما تفاجؤوا قائلين: «ولكنك لا تشبهين السوريين أبداً – لا يبدو عليك ذلك!». في الحقيقة لا أحد يعلم شكلَ السوريين في رؤوسهم، لا أحد يدري لماذا نحن السوريون أنفسنا لا نشبه السوريين الذين يتحدثون عنهم!. أنا سورية، هذا الوجه الذي تألفونَه سوري، صاحبة اللكنة التركية المزبوطة، سوريّة. لا يعلم أحدٌ منا كيف يحمي نفسه بأن يكون أقلَّ سوريَّةً، وتعاني السوريات المُحجَّبات من ذلك بشكل أكبر. ربما هي المرة الأولى التي أتأمّلُ فيها المحجبات التركيات منذ وصولي، فتتكرّرُ في قلبي عبارة «حجابك فاضحك»؛ يبدو أنني لم أتقن اللعبة جيداً.
اعتقالات وترحيل
تُعيدني ذاكرتي السورية إلى مقطع مُصوَّر في كفرسوسة، من مظاهرات جمعة «إن تنصروا الله ينصركم» مطلع العام 2012. لقد شاهدتُ كثيراً من المقاطع منذ بداية الثورة، تابعت وحفظت ووثّقت بعضاً منها، فضلاً عن مشاهد مخيفة رأيتها على أرض الواقع، ويبدو أنها جميعها تختبئ في ذاكرتي الخلفية، إلا أن هذا المقطع بالذات يبثّ الرعب في نفسي أكثر منها جميعاً.
في المقطع اعتقالاتٌ وضربٌ عنيفٌ لشباب خرجوا في مظاهرة في ساحة كفرسوسة. يرفع بعض عناصر الأمن والشبيحة صور بشار الأسد، يسحلون الشباب ويضربونهم على رؤوسهم وأجسادهم بالهراوات، ويضعونهم في سيارات الاعتقال.
صدقوني، إذا رأيتم هذا المقطع وأنتم بعيدون عن قبضة النظام (وأنا لا أدعوكم لرؤيته)، سيحمد الآلاف منكم ربه على نعمة النجاة، وستقولون إنه لا يمكن العودة إلى تلك البقعة الجغرافية، وإنكم حزينون على من قَضَوا هناك، ومن لا يزالون يعيشون تحت وطأة الظلم والخوف ذاته. أما أنا وكثير من السوريين والسوريات في تركيا، فنرى المشهد اليوم جزءاً جديداً من حاضرنا، المشهد نفسه، باختلاف الملابس واختلاف اللغة، وتشابه الحركات بالضرب والدفع وشحط السوريين الذين لم يأمنوا حتى اليوم على أنفسهم هنا إلى مصيرهم الأسود؛ الموت رعباً في سوريا وخارجها. لا تنم مطمئناً، فأنت لاجئ.
تُفكّر صديقتي التي تحمل الكملك بما يؤول إليه الوضع، تخبرني أن العودة إلى إدلب بالنسبة لها مثل الكابوس، وأنها لن تكرر طريق اللجوء الذي عبرته مع طفلين وحدها مرة أخرى: «لسا ما نسيت شو صار، لسا ما راح من بالي ضرب الرصاص علينا». تحمل وعائلتها وثيقة الحماية المؤقتة التي منحتها الدولة التركية للسوريين بعد 2011، والتي تمنح السوري حق العيش في تركيا مع منحه بعض الميزات القليلة جداً، ومنعه بشكل مطلق من مغادرة البلاد أو حتى من مغادرة الولاية التي يسكن فيها دون إذن سفر.
تتحدث صديقة تحمل الجنسية التركية عن خوفها المستمر من الإشاعات عن إعادة النظر في ملف الجنسية الاستثنائية: «يعني مين رح يجي يحاكم ولا يحاجج بهالأيام إذا قالولنا جنسيتكم مزورة ورح نسحبها؟ حتى أنا شو فيني قول؟». بدأ هذا الخوف يشتدّ بعد تصريحات حكومية تركية مريبة، منها تصريح أردوغان بعد أن فاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة عام 2023، عندما «طمأنَ شعبه» قائلاً إنه سيعمل على إعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم، والذي تزامن مع ازدياد باصات الترحيل التي تُرحِّلُ دون أن تُدقق في صحة الأوراق أحياناً كثيرة، ثم الأحداث الأخيرة التي لم تقم الحكومة بكبحها، تماماً كما لم توضِّح حقيقة الأكاذيب الشائعة عن أن السوريين يعيشون على مساعدات الحكومة، وعن الأموال الطائلة التي تأتي من أوروبا لإنفاقها على السوريين، وكل ادعاءات وأكاذيب الحياة الرغيدة التي نعيشها هنا في ظلّ أزمة اقتصادية خانقة. ثم كانت اللحظة الحاسمة بالنسبة لنا عند الإعلان عن نية عودة العلاقات التركية السورية، التي تعني الاستعداد للتصريح علانية بأن سوريا آمنة ومن الممكن العودة لها طوعاً أو قسراً. عليك النظر الآن؛ خلف الحدود هناك الآلاف بانتظار فرصة حياة، وأمام الحدود هنا الآلاف يُرمون إلى احتمال الموت والاعتقال والتعذيب أو العودة إلى نقطة الصفر من جديد.
كان واضحاً أن الأحداث الأخيرة مدعومةٌ تماماً بغطاء سياسي، قامت السلطة التركية بالتأسيس له خلال السنوات الماضية برمي «فتيشات» صغيرة للشعب، ومن خلال استخدامنا كورقة دائماً تصبُّ في صالح حُكم أردوغان، سواء لانتخاب حزبه، أو لكسب جمهور من المتعاطفين المؤمنين، أو في استخدامنا لتبرير أزمة اقتصادية لسنا جزءاً منها.
كنا نتغنّى بتطوُّر هذه البلاد، وكيف أن كل ما نحتاجه يمكننا الوصول إليه عبر بوابات إلكترونية تحتوي كل معلوماتنا الشخصية. لكن ماذا بعد أن تمّ تسريب أسماء السوريين ومعلوماتهم الشخصية؟ يقول البعض إن التسريب كاذبٌ كي لا نشعر بالتهديد! ولكن عزيزي «المواطن»، نحن هنا في تركيا نُعامَل معاملة الغرباء الواضحين، لا يمكننا إخفاء الأمر. تشتري سيارة فيُكتب على رقمها بشكل واضح حرف M، اختصاراً لكلمة MİSAFİR، والتي تعني «ضيف» بالتركي للتمييز بين سيارات «المواطنين» و«الغرباء». يبدأ رقم الكملك الخاص بك بـ99 للتمييز أيضاً. أوراقك ورقم هويتك واسمك ومكان تولُّدك وكل معلوماتك تجعلك واضحاً بالنسبة للأتراك بأنك مواطن درجة ثانية، حتى وإن حصلت على الجنسية يا صديقي، ستبقى مواطن درجة ثانية. لذلك من السهل في موجة التخريب هذه أن يقوم أحدٌ بتحطيم سيارتك، ومن السهل أيضاً مع هذا التسريب أن يُعرَف مكان سكنك؛ الأمور أوضح مما نتخيل. الحكومة لا تحميك بتصريحاتها، ولا تحمي حتى معلوماتك الشخصية. يبدو أن عبارة «سِستم يوك» التي استُخدمت معنا كثيراً أثناء تحديث بياناتنا، والتي كانت ترعبنا حيث يشعر معها كل سوري أنه عرضة للترحيل في أي لحظة لأن بياناته اختفت من السِستم، كانت معطلة عندما تم اختراق ذلك السِستم نفسه لتسريب بياناتنا. السِستم صار في متناول الجميع اليوم، وهكذا بحركة واحدة نعود إلى نقطة الصفر.
هل اخترنا مصيرنا؟
لا ننسى عندما كنا نسير في شوارع تركيا خلال انتخابات 2023 ونقرأ لافتات مرشّح المعارضة كليجدار أوغلو، والتي حملت عبارة «سوريلار كيدجالار»، بمعنى سيرحل السوريون. استخدم السوريون في ذلك الوقت عبارة «ضبوا الشناتي» كناية عن مرحلة الصفر القادمة إن قاموا بترحيلنا فعلاً. لا يمكن لأحد منا أن ينسى تلك اللحظة التي كنا نمرّ فيها أمام بؤسنا ونواجهه بهدوء، لأن مصيرنا للمرة الألف ليس بأيدينا. أغلب السوريين الحاصلين على الجنسية التركية قاموا بانتخاب أردوغان في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ظناً منهم أنه سيقوم بحماية أبناء جلدتهم في مواجهة خطاب العنصرية الفجّ ذاك، إلا أنهم وقفوا أمام موجة الترحيل التي بدأت بعد الانتخابات مباشرة بأوجه مصدومة، لا تختلف عن وجوههم منذ أيام عندما صرَّحَ أردوغان علانية بأنه سيعاود التواصل مع النظام السوري لبحث عودة العلاقات. لقد تم بيعنا لعزرائيل مع حبّة مسك. يهرب بعض الشباب من العمل ويتجهون نحو طرقات التهريب، يسحب كثيرون ممّن أعرفهم أوراقهم متجهين إلى أربيل أو مصر أو لبنان أو حتى سوريا إن أمكنهم ذلك. الجميع يبحث عن خوف أقل ضجيجاً وعنفاً، عن هربٍ مؤقت جديد. لأن حكايا القتل أو القبض على السوريين وترحيلهم تحت مظلة العودة الطوعية لم تتوقف، ولم يتم التعامل معها بشكل قانوني.
هل يذكركم هذا بشيء ما؟
في المسلسل التركي «الملهى»، الذي يتحدث عن حقبة الخمسينيات، وصولاً إلى أعمال الشغب والقتل في اسطنبول عام 1955. تبدأ الحلقة الأخيرة من الموسم الأول عندنا يضع الأتراكُ إشارات X باللون الأحمر على منازل اليونانيين، وجُهِّزت باصات تنقلُ أشخاصاً تم تحريضهم للقضاء على اليونانيين في أحيائهم، بعد أن تم اتهامهم باستهداف منزل أتاتورك حسب ما قيل. بعدها بثوانٍ يبدأ مشهدٌ مرعب، يرافق كلَّ كوابيسي مع كل موجة تحريض تحدث هنا؛ رمي حجارة على المحال التجارية، ثم البدء بقتل كل شخص غير تركي والتهجم على اليونانيين الذين عاشوا لفترة طويلة بينهم، يقتلون ويغتصبون ويطردون الناس من المنازل التي عاشوا فيها.
يحاول يوناني القول «كلنا إخوة»، أمام عصاً غليظة تضرب وجهه. بصوت غريب أقول: هل حقاً تُحاول؟ من يشعل فتيل الحرب؟ من يحول البشر إلى وحوش؟. كان هناك قصص متفرقة عابرة، ولكننا رأيناها واقعاً قبل حدوثها.
يبدأ كابوسي غالباً بأصوات جيراني السوريين وهم يُقتلون تحت منزلي، بينما أجلس في زاوية المنزل أنتظر دوري. والحقيقة أن أحداث قيصري تشابه تماماً ما حدث في ذلك المسلسل. كم يبدو سخيفاً أن ترى نهايتك في حلقة مسلسل؟ النهاية التي ننتظرها فقط لأن هناك بعض الأشخاص في هذا العالم يعتقدون أنهم خيرٌ من آخرين. هل من السخف أن نفكر أن أحداً سيعرف أين نسكن اليوم، ليطلق رصاصة في رأسنا كما فعلوا مع ذلك الشاب السوري الذي كان نائماً في منزله بولاية قيصري؟
التزموا منازلكم
تُرسل لي صديقتي الأردنية: «لا تطلعي من البيت، أنا براسي بجي لعندك».
أعاد هذا التضييق السوريين إلى السادس من شباط (فبراير) 2023، يوم الزلزال الكبير الذي حدث في جنوب تركيا وشمال سوريا. تحاشى سوريون كُثُر حينها الصراخ بكلمات عربية لطلب النجاة، خوفاً من أن تتركهم فرق الإنقاذ لمصيرهم. بعد إتمام عملية الإنقاذ كُتِبَ على الجدران حينها «ses yok»، أي لا صوت يصدر من البناء، مما يعني أنه لا أحداً على قيد الحياة تحت أنقاضه. يستخدم السوريون في تركياا اليوم الكلمة نفسها، كناية عن شعورهم بأنهم لن يتمكنوا من التحدث، كما لو أنهم مجدداً تحت الأنقاض، متروكون دون صوتهم تماماً.
في الوقت الذي ينتظر كثيرون منا رسالة التجنيس المُنتظَرة لتغيير جوازنا الكحلي وحمل جواز دولة أخرى، يخشى المُجنَّسون هنا من لحظة سحب الجنسيات، كما ذكر موقع عربي 21 نقلاً عن منصة «TR99»، والتي نقلت عن مصادر لم تُسمِّها أن السلطات ألغت الجنسية الاستثنائية لنحو 5 آلاف أجنبي حصلوا عليها سابقاً. طلب البقاء في المنزل يرتبط بأنك قد تصبح في أي لحظة على مركب الترحيل العظيم إلى سوريا، فحسب إحصائيات معبر باب الهوى، بلغت أعداد السوريين الذين عادوا «طوعاً» إلى سوريا في النصف الأول منذ بداية هذا العام 11973، بينما رُحِّل قسراً 12361 شخصاً. لقد ازدادت أعداد الأشخاص الذين خرجوا من تركيا «طوعاً» أو رُحِّلوا بعد انتخابات 2023، لكن الترحيل القسري ليس مقتصراً على تركيا وحدها، لا تنتهي الحملات العنصرية ولا ترحيل السوريين المطلوبين للنظام من لبنان إلى سوريا، ومؤخراً يبدو أن التضييق بدأ في مصر أيضاً.
كوابيس سورية
لا أعرف إن كان من السهل علينا كسوريين أن نعترف أننا محكومون بما لا نملك، مع عدم قدرتنا على النجاة أمام ما يحدث. يتربّع الخوف في وجهنا، ومعه الرغبة العميقة في النجاة ومواجهة حاجز هائل نشعر به بينما نحاول أن نكون أقوياء. ولكن الحقيقة أن قدرتنا على حماية بعضنا أو أنفسنا في هذه الأيام تكاد تكون معدومة. ليس لأننا جبناء، ولكن لأن جلَّ ما نتمناه في هذا العالم أن ننام مطمئنين لمرة واحدة دون أن يلاحقنا ذلك الهاجس السوري بكابوس مرعب.
أربّتُ كل يوم على كتفي قبل أن أنام، أُذكِّرُ نفسي مراراً أنني شبه آمنة، أحاول إغماض عيني حتى تختفي صورة ذلك الرجل الخائف من رأسي، أتحدثُ مع أصدقائي لأقنعهم أن يكونو أكثر ثباتاً أمام ما يحدث، أن يغمضوا أعينهم، أن يحاولو عدم توقع الأسوأ، ولكن في الحقيقة ومع حالة مستمرة من الترقب؟ أنا خائفة.
يتغنى السوريون بنوعية الكوابيس المُتشابهة التي يرونها، وأنا مثلهم. نرى أنفسنا عالقين في سوريا، أو نهرب من قوى الأمن التي تلاحقنا، أو نقف على حاجز للنظام يفتش أوراقنا، أو نرى أنفسنا وسط المجزرة. كوابيسنا السورية تكرر نفسها في أحلامنا كأنها سلسلة منسوخة تتنقل بيننا. أثناء الانتخابات الأخيرة في تركيا رأيت كابوساً مختلفاً؛ بدأ وكأننا في ساحة نسمع خطاب أردوغان الذي أعلن فوزه في تلك اللحظة، ثم أرى قوات الأمن السورية في الساحة نفسها تغني «حماة الديار» بصوت عالٍ وبحماية من قوات تركية. أصرخُ أنا حينها باللغة التركية مرتجفة «هذه لعنة، ما يحدث لعنة» وأبكي كثيراً. ينتهي الكابوس بحملة اعتقالات لكل الوجوه التي أعرفها هنا في مشهد مشابه تماماً لفيديو كفرسوسة أعلاه، يحملوننا جميعاً إلى حضن الوطن، إلى الموت، حيث تنتظرنا قبورنا جميعاً. أستمرُّ بالركض هرباً بينما أستيقظُ هنا وحيدة في سريري في اسطنبول، قلبي يكاد يخرج من مكانه وصوتي قد اختفى.
النجاة سوريّاً
نقفُ كسوريين أمام كل هذا، وقد تم الطلب منا أن ننأى نحن وسوريتنا عن تقرير مصيرنا، محاولين أن نختبر صوتنا مرة أخرى، الصوت نفسه الذي كنا نريد أن نصنع منه مصيرنا قبل ثلاثة عشر عاماً، ونحن نقف في شوارع سوريا نصرخ ونطالب بحقوقنا. اليوم ونحن نحصي خسارات كل تلك الأعوام بينما يتجه الأسد من جديد إلى حضن الجامعة العربية، ويستقبلونه بابتسامات ظاهرة بينما لا نزال نرى الدم الذي نزفناه طوال هذه السنين على وجهه. يبدو العالم دنيئاً ونحن نقبع خائفين من أن تعيدنا الحياة نحو تلك المقبرة، الصفر الأكبر. لا يفهم هذا العالم أن مشكلتنا ليست مع البلاد أو العودة لها، بل مشكلتنا الأساسية أننا إن نجونا من الموت فإن المعتقلات تنتظر عدداً كبيراً منا، والبلاد الجميلة التي يُصورها العالم كوجهة للسياحة قد تكون مزاراً لطيفاً ومنزلاً جيداً لبعض السوريين بعد رحلة اللجوء والنزوح المرهقة، ولكنها حتماً ليست مثالية بالنسبة للجميع، فعدد كبير منا حياته مهددة إن اقترب من حدود البلاد تلك. إذ لا تزال حديثة جداً أخبار السوريين الذين تمت إعادتهم إلى مناطق سيطرة النظام وقُتلوا في المعتقلات.
يُعيدنا ما يحدث اليوم إلى لحظات سيئة متتالية، إذ علينا أن ننتظر كوارث قادمة «بعد الانتخابات» أو «بعد الاجتماعات» أو «بعد الاتفاقات»؛ كل ما يأتي بعد كلمة «بعد» سيكون شيئاً أو قراراً يحدد مصيرنا في الدول التي نعيش فيها، ويكون إنذاراً جديداً يدق على بابنا المُحطّم!
علينا أن نوضّب حقائبنا للمرة الألف بحثاً عن ملجأ جديد، ونحملها على أكتافنا ونفكر إن كنا سنشقُّ البحر أم الغابة أم الصحراء. أو أن نشقَّ طريقنا نحو السماء! نسير في الشوارع اليوم، نحتضن بعضنا البعض بعيوننا في الطرقات والمواصلات، كأننا نعرف انتماءنا السوري من عيوننا؛ يبدو ذلك بوضوح في وجوهنا المُترقّبة التي تنظر حولها باستمرار. أحتضنُ أصدقائي السوريين عند اللقاء كأني أودعهم، أو أحاول حمايتهم حتى. نحن لا نمتلك وطناً نعود إليه، وليس من السهل أن تكون تائهاً في هذه الأرض، وأن تُهدَّد بالعودة لوطنك بشكل مستمر، وذلك الوطن قد يستقبلك شهيداً جديداً. أصبحنا نخاف من أن نسمع كلمة «سوريلي» حولنا، يحمد بعضنا الله أنه لم يندمج بما يكفي ليفهم ما يُلحقونه بهذه الكلمة. لدينا اضطراب في الهوية، لا أحد يحمل كرهاً ورفضاً وعاراً تجاه هويته مثل السوريين الذي تعرّضوا للرفض بشكل مستمر.
لسنا ننتمي إلى هنا اليوم ولا يمكننا العودة إلى هناك، نعيش بين فجوتين لا تتصل إحداهما بالأخرى. لا يقبلك هذا العالم بعملك وجهدك ومحاولاتك الحثيثة لأن تكون لاجئاً جيداً، وأنت تُعافر لتتعلم وتعمل وتنجو وتنطق بلغته نفسها، حتى وإن نأيت عن السياسة وغيرها، هذا العالم يريد أن يصبّ فيك من العنصرية والرفض أضعاف ما تحاول أن تثبت أنك تستحق العيش.
أتساءل عنا نحن السوريين؟ هل نحن مُسوخ إلى هذه الدرجة؟ هل علينا أن نموت ونحن حزينون جداً ووحيدون جداً ومتفرقون جداً، إلى درجة أن لا يهتمَّ أحدٌ أين سندفن؟ أيها السوريون، يبدو أنه لا مكان نلمّ إليه رِحالنا، لا وطن، ولا بلاد تتسع لنا. أعلم أننا اعتدنا فيما مضى أن نُغلق الأبواب علينا أمام القصف، أمام الاعتقال، وأمام العنصرية… أغلقوا أبوابكم جيداً، احضنوا أحبابكم… وانتظروا!!