الدكتاتوريّة القاتمة تومض الآن في ذهني إيماضة صحوةِ موتِها، وأنا على حافة التحرُّر والانعتاق منها. سألني عنصرُ الأمن بوجهه العبوس الكحلي في المطار وهو يفتِّش حقيبتي المليئة بالدفاتر والكتب: «كل هي كتب؟! ما فيني خلِّيك تطالعها معك». لم أتركه يكمل جملته حتَّى صافحته ودسسْتُ في يده خمسمئة ليرة سورية. فابتسم وقال: شيل الحقيبة. سماح هذه المرَّة.

أنا المُغادِر المدحور المقهور وضعتُ قدمي بكلِّ سرور وحبور عند باب الطائرة. ابتسمتُ ابتسامة القائد المنتصِر في وجه أمِّي وزوجتي وأبنائي وهم يدلفون أمامي. ما زلت منذ ثلاثة أيام أقوم بدور القائد الحربيِّ ثابتِ الجنان الذي ينسحب بأفراد كتيبته، ويُنقذها من هلاك محتَّم. اجتزنا حواجز الجيش والأمن والشبيحة بين حلب واللاذقية، وكأنَّنا نجتاز خنادق العدو بكلِّ ما يحمله ذلك الاجتياز من رهق ومضاء وتحدٍّ ومغامرة ولا مبالاة. لقد تمرَّستُ بهذه المهمَّة في الأشهر الأخيرة عدَّة مرات: يوم قدتُ انسحاب العائلة من أرضنا في أريحا، ونحن نقطف ثمار الزيتون، فانهمر علينا وابل رصاص بضعة عناصر من الجيش. كانوا يتقدَّمون نحونا ويرشقوننا، ربَّما على سبيل التسلية أو تزجية الوقت، وربَّما وفق خطة وبرنامج محدَّدَين كانا يقضيان بقتل عائلة كاملة، وهي في أرضها في كلِّ أسبوع. أَعطَيْتُ التعليمات بحزم ومسؤولية: أيُّها الأولاد! اركضوا باتجاه السيَّارة واحتموا خلف دواليبها. وأنت يا هناء اختبئي مع عبد الرحمن خلف هذه الشجرة. وعندما أصيبَ عليٌّ بأربع رصاصات نفذتْ إليه من تحت السيَّارة أعطيتُ أوامري بأن نهبَّ، ونتفرَّق، ونبتعد بعضنا عن بعض، ونعود أدراجنا إلى نهاية أرضنا بأقصى سرعتنا علَّنا نغيب عن أنظار جنود الوطن. لاحقَ الرصاصُ خطواتنا ككلب صيدٍ سلوقيٍّ شرس يريد أن يصيدنا، ثمَّ التفَّ حولنا، وأحاط بنا ككلبٍ مالطيٍّ أنيسٍ يكتفي بشمشمتنا من دون أن يعضَّنا! ولأن الأرض حديثة عهد بالمطر لم يُثِر الرصاصُ الغبارَ، وإنَّما رذاذاً من التراب النديِّ. كانت بعض الرصاصات تصيب جذوع الأشجار فتتطاير نتفٌ من خشب شجر الزيتون قرب صدري في أثناء مروري بمحاذاتها. لقد نجحنا في الانسحاب بفضل تضاريس الأرض المتموِّجة علوّاً وهبوطاً، فأخفتنا عن أعين أولئك الجنود، ونجحنا في إسعاف الولد إلى أقرب نقطة طبية في ضيعة مْعَتْرِم.

وبعد عدَّة أيام عاودتُ الكَرَّة، ونجحتُ في انسحابٍ أكبر وأخطر. ويالسخرية هذه القيادة المختصَّة بالانسحاب والفرار فقط! كنت في المنزل عندما جاءني اتصالٌ من مشرفٍ في دار الأيتام في حلب بأنَّ قذيفة اخترقت أحد جدران مبنى منامة الطلاب، ولكنَّها لم تنفجر. كانت مباني دار الأيتام ملاصقةً لمبنى الأمن الجوي، وكانت المعارك على أشدِّها. طلبتُ من المشرفين أن يُنزِلوا الطلاب إلى الأقبية، وأن يبيتوا فيها، إلى أن آتي، وأُشرِفَ على إخراجهم. في اليوم التالي وصلتُ إلى منطقة جمعية الزهراء، ووصل معي الموظف محمد ناصر، وقفنا بجانب دبابَّة عند الدوَّار الصغير في مدخل المنطقة. كانت تطلق قذائفها باتجاه دوَّار الليرمون. أخبرتُ الجنود بأنَّني مدير دار الأيتام، وأنَّني سوف أُجلي الطلاب منها. قال لي ملازم: هل أنت مجنون؟ ألا ترى الاشتباكات! لا أسمح لك بالمرور سوف تُقتَل. أجبته سأمرُّ على مسؤوليتي، وسنغادر غداً بعد الظهر. كان عليَّ أن أقطع قرابة 400 متر في منطقة مكشوفة بجانب سور الأمن الجوي الذي يمتدُّ ليتصل بسور دار الأيتام. وكنتُ مضطراً أن أصطحب معي محمد ناصر، فنحن بحاجة لثلاثة سائقين يقودون الباصات الثلاثة التي ستنقلُ الطلاب. أمسكت بعضده وهززته قائلاً: بضربة واحدة بنفسٍ واحد يجب أن نقطع هذه المسافة ونصل إلى الدار. كان احتمال نجاتنا يعادل احتمال إصابتنا أو قتلنا، ولكنَّنا كنَّا مُصمِّمين على الوصول إلى الدار، انطلقنا مثل انهيار ثلجي، وركضنا بأقصى طاقتنا بمحاذاة السور. ظنَّ المتمركزون في دوار الليرمون أنَّنا من عناصر الأمن، وكنَّا طرائد شهيَّة بالقياس إليهم، فبدأ الرصاص يلاحقنا، ككلب بيتبول هذه المرة. لم يستطع محمد أن يكمل اندفاعته، وعندما وصل إلى بوابة الأمن الجوي ارتمى عندها ودخل زاحفاً. أما أنا فتابعتُ ركضي إلى أن وصلت إلى بوابة دار الأيتام فارتميت كما ارتمى، وزحفت كما زحف. استقبلني المشرفون والمشرفات استقبال الأبطال، (بارعة موصلي، عائشة زنرني، شذى بيطار، أمينة بدوي، محمد بدري مدراتي، بشير سيف الدين، مصطفى مزراب، مصطفى بوادقجي، أحمد شعبان، محمد دلّو، والسائقان سهيل عساف ومحمد ناصر، وكان في الدار موظفان باسم محمد ناصر). ولِلحقِّ كانوا هم الأبطال الذين حازوا من الشجاعة نصيبها الأكبر، ومن التضحية قسطها الأوفر، فقد كان الواحد منهم في كلِّ مرة يأتي فيها إلى دوامه يودِّع أهله الوداع الأخير، فاحتمال وصوله حيّاً للدار يعادل احتمال قنصه وهو يجتاز هذه المسافة المرصودة، ولكنَّ حسَّ المسؤولية العالي كان لا يترك لهم مجالاً في أن يستنكفوا عن المجيء والقيام بالخدمة التي نذورا أنفسهم لها. بتُّ تلك الليلة في الدار أُشرِفُ على نقل وثائق الغرفة العقارية وأضابير العمال والطلاب، وتكديسها في صناديق، ووضعها على مقاعد الباصات بجانب النوافذ لتكون ساتر حماية ووقاية. أجريتُ اتصالاتي بمن يوصّل رسالة لأحمد عفش وخالد حياني قائدي المجموعات المتمركزة عند دوار الليرمون، حتَّى يكفُّوا عن إطلاق النار عند مغادرتنا، وحتَّى يميِّزوا باصاتنا من باصات الأمن الجوي. كنت أمنِّي نفسي بأنَّ نزوحنا سيكون مؤقَّتاً، لكنَّني في قرارة نفسي علمتُ أنَّ مباني الدار بأجمعها المتوزعة على مساحة ثلاثين ألف متر مربع ستغدو أثراً بعد عين. في تلك الليلة حدثت مواجهات عنيفة واشتباكات شَكِسَة، غير أن أطفال الدار كانوا في الحدِّ الأدنى من الذعر، فالتماسك والثبات والهدوء في تصرفات المشرفين والمشرفات كان ينسكب طمأنينة وأمناً في نفوسهم.

نجحَتْ في اليوم التالي قافلتُنا الصغيرة بالجلاء. انطلقت الباصات الثلاثة وانطلقتُ خلفهم أقود سيَّارة، وكان السكون يخيِّم على الأجواء. لم نسمع سوى صوت طلقةٍ واحدةٍ ضَرَبَتْ زجاج سيارتي واخترقته دون أية إصابة جسدية. تابعنا سيرنا باتجاه حيِّ الأشرفية إلى مبرَّة الأوقاف الإسلاميّة/ دار العجزة، وكانت تشرف عليها دار الأيتام ساعتئذٍ، وكما أنَّه لم يفصل بين دار الأيتام و(الأمن الجوي) سوى حائط فإنَّه لم يفصل بين دار العجزة و(الجيش الشعبي) سوى حائط أيضاً. كان حي الشيخ مقصود يُطلُّ من علٍ على مباني (الجيش الشعبي) ومبنى دار العجزة، وكان يسيطر على ذلك الحي (الجيش الحرّ) و(وحدات الحماية الكردية). في تلك الأثناء نزل شباب (الجيش الحرّ) من الشيخ مقصود إلى مبنى الجيش الشعبي يريدون أن يقتحموه، وبدلاً من ذلك اقتحموا مبنى دار العجزة، وفي كلّ ظنهم أنّه مبنى (الجيش الشعبي)! طلع بوجههم أوَّل نزيل، وكان يمشي متثاقلاً وبيده كيس القسطرة البولية. صوّبوا البنادق نحوه وسألوه بذهول: أنت من الجيش الشعبي؟ ابتسمَ الرجل المنقوف الطاعن في السن، ولوَّح لهم بكيس القسطرة وتابع مشيه.

*****

أخذ أفراد عائلتي أماكنهم في الطائرة، وبعد ربط الأحزمة وتلقي إرشادات السلامة والنجاة من المضيفة تحرَّكت الطائرة، ثمَّ علا هدير محرّكها فجأة، وخلال ثوانٍ عشنا المشهد السينمائي الذي ينجو فيه المرء من الكارثة عندما تغذُّ الطائرة طيرانها، وتتفادى هياكل البلاد المنهارة وكتلها الضخمة المتساقطة المتهاوية. وحين شقَّتْ طريقها من بين أعمدة الحطام والدخان وخلَّفَتْها وراءها غمرتني من النافذة موجة نور مبهر فغسلتني من درن عدَّة دزينات من سنوات حكم البعث العنيف المرعِب. نظرت إلى والدتي وزوجتي وأولادي فتدفَّق في صدري تيارٌ عذبٌ هائلٌ من الرضى، ثمَّ تذكرت في اللحظة ذاتها مَنْ تركتُهم من أهلٍ وأحبَّة فاجتاحني فيضانٌ عَكِرٌ من مرارة التركِ والمغادرة، وسيلٌ جرّارٌ من علقم فقدان الحيلة من اصطحابهم وإنقاذهم.

اقتربتُ من النافذة كطفل يضغط أنفه على واجهة محل ألعابٍ أو أكْلات، ويحدِّق من خلف البلور في كل ما يبهر ويغري! حدَّقتُ أيضاً من وراء البللور البلاستيكي في ذلك الوطن وهو يتحطَّم أمام ناظري! تُرى هل من أملٍ في أن أكتشف صندوقه الأسود في يوم ما؟ فهذا الوطن اللغز لم أفهمه! ولا أظنُّ أنني سأفهمه، ولكنَّني على الرغم من ذلك سأظلُّ أفكِّر فيه حتَّى أَحلَّه.

في تلك اللحظات تذكَّرتُ الطيور المهاجرة التي كنتُ أتمتع برؤية أسرابها تعبر سماء حلب وأنا طفل صغير قبيل سنة 1980. حدَّجتُ النظر علَّني أراها في سماء بلادي قبل مغادرتي إياها. تلك الأسراب التي بدأت تختفي في ظل السلطة الأسدية سنة وراء سنة. أيُعقل أن توصي الطيور المهاجرة بعضها بعضاً: حذارِ من المرور فوق أرض يحكمها الأسد، لأنَّها ستكون لكم أرض المذبحة!

توارى السُّمَّان المكتنز. هرب السنونو الرشيق الذي كان يحوم فوقنا، ويقترب من رؤوسنا. حتّى الخفَّاش الذي كنَّا نراه قبيل غروب الشمس منطلقاً يبحث عن رزقه طفش.

في ظلِّ هذه السلطة فقط عرفَ الوطنُ معنى الصيد الجائر، فاختفت الغزلان من البراري، والطيور من الأجمات والوكنات، وانقرضت الأسماك في الشواطئ! الأسماك تحديداً اصطادها ضباط الجيش وعناصرهم وأقرباؤهم بالمتفجرات! واليوم يطالُ الصيد الجائر حتَّى الإنسان! يتعاون على صيده: الجيش العقائدي، وتنظيمات القاعدة بفروعها ومشتقاتها المُغلَّظة والمُخفَّفة.

لقد أقام حزب البعث نفسه وصيّاً على التاريخ والحاضر والمستقبل، وكان وصيّاً غير أمين ولا رشيد، ينظر بعين الرضى الحَولاء إلى أمينه العام وهو يحوِّل عموم رجال الوطن من مثقفين ومشايخ وفنانين وسياسيّين ورجال أعمال إلى مجموعة مقاولين مطواعين للمقاسات التي يفرضها على المعنى الثقافي والديني والفني والسياسيّ والاقتصاديّ والعمرانيِّ. لقد استطاع أن يمسخهم بإرادتهم ورضاهم، وصار هذا المسخ صورتهم الحقيقية، ومن شذَّ منهم آبياً أو حَروناً شذَّ في النار التي كان يمسك بها في يد، ويمسك بالجنة في اليد الأخرى، ولا غروَ أنْ يغدو الوطن عندئذٍ مجرَّد دُرج سكاكين حادة، إذا مدّ المواطن يده أو لسانه نزف دمه وبُتر عضو من أعضاء جسده أو روحه.

بعد عقد من حكم حافظ الأسد وصل إلى نهايته، ثم استمر من خلال الفتك والضراوة والجبروت والقهروت. في العقد الأوّل أصبح (قائد المسيرة) مستبداً يمسك بكُبب الخيوط كلِّها، وفي العقد الثاني غدا (الأب القائد) طاغيةً يثبِّت عبادته ويطوّرها، وفي العقد الثالث أمسى (القائد الخالد) أبديّاً مفارقاً متعالياً. في العقد الأوَّل من حكمه عمَّ الشفق سوريا، وفي الثاني أحاقت العتمة بها، وفي الثالث طبَّق الظلام الشديد عليها.

سئُل فرانك ديكوتير (Frank Dikötter) المختص بدراسة الطغاة: هل هناك اختبار لتحديد ما إذا كان الحاكم طاغيةً أم لا؟

فأجاب: الاختبار بسيط. اذهب إلى البلد الذي يشتبه في أنَّه يحكمه طاغية، وحاول العثور على أشخاص مستعدين لانتقاد زعيمهم علناً. إذا كان من الصعب العثور على من ينتقد الزعيم علناً فهذا يعني أنَّه طاغية. ووفق هذا المقياس كان الأب القائد الخالد طاغيةً مُصفَّى، فقد فرض حظر تجوّلٍ على الوعي والانتقاد والاعتراض بل والامتعاض، وأوجب على المواطن أن يحاسِب نفسه قبل أن يُحاسَب، وأن يزن أقواله وأفعاله قبل أن تُوزَنَ عليه، وكان عليه أن يجمع بين المتناقضات بأن يكون في قمة البلادة والتحجُّر حتَّى يعرف كيف يعيش ويتلاءم مع المسؤول البعثيِّ ذي الصدر الصخريِّ، وفي الوقت ذاته في ذروة الفطنة وعلياء الذكاء حتَّى يفهم الإيماءة الأمنيَّة والإلماعة المخابراتيَّة، فيمشي وفق إشاراتها وترميزها. مواطنٌ لُجِمَ بالرعب، وحُبِكَ بالترقُّب، ودُرِزَ بالخشية. حديثه في الشأن العام سِرار، وهتافه بحياة القائد الخالد يخرق عنان السماء. كان عليه أن يختار بين الانزواء أو الارتماء، ولم يكن بينهما منزلةٌ بين المنزلتين.

وكما كان للنازيَّة معسكراتها كان للأسدية معسكراتها التي تبدأ من معسكرات طلائع البعث الصيفية حيث يجتمع مشرفو الطلائع، فيُغيرون على الأطفال لتلقينهم عبادة البعث والأب القائد، وتنتهي بالمعسكرات الجامعيَّة التي هي دفعة على الحساب من حياة الخدمة العسكريَّة، يُؤهَّل الطالب فيها ليكون حيواناً خالصاً بمجرَّد انتعاله البوط العسكري، بل وتفوَّقَ القائدُ على النازيَّة نفسها التي بدأ سُعارها بحفلة إحراق الكتب سنة 1933، فتخطَّى ذلك، وبثَّ الرعب في قلوب البشر بعد سنة 1980، ودفعهم ليُحرقوا مكتباتهم وكتبهم بأيديهم حتَّى لا يجد عناصر الجيش وهم يفتشون البيوت ما يثير الريبة أو الشبهة، وعلى مدار ثلاثين سنة من هذا الحكم لم يتقن المواطن سوى حركة السبَّاح الذي يرى موجة هائلة مُهلِكة قادمة نحوه فلا يواجهها، وإنَّما يغطس ويختبئ منها لتلافيها. كنَّا نغطس ونفطس.

قيل: إنَّ المعمار البيزنطي سِنِمَّار عندما بنى قصر الخَوَرْنَق للنعمان بن المنذر جعل فيه حَجَراً إذا أُزيل انهار القصر كلُّه! كذلك بنى حافظ الأسد دولة، وجعل فيها مثل هذا الحجر، إذا أُزيل انهارت الدولة بأجمعها! وكان هو هذا الحجر، وقد تمنَّى دائماً في سرِّه وجهره أن يستمرَّ إلى الأبد، غير أنَّه لم يفهم القاعدة القائلة: «لكي يدوم شيءٌ ما يجب أن يكون صحيحاً»، فذلك الحجر الذي رفضه كل ذي حسٍّ سليم وروح نقية ومبدأٍ شريف لم يَغدُ رأس الزاوية، وإنَّما رأس الحربة التي لم تكن تُجيد إلا الطعن والشقَّ والشجَّ والفتك.

لقد هوى الحجرُ، وهوى معه الوطن والدولة سنة 2000 بموت الأب واستلام الابن الوريث، ويومها تغيَّرت نظرة السلطة الأسديَّة للشعب السوري، وتطوَّرت وتبدَّلت. كان حافظ يرانا (عبيداً)، فصار بشار يرانا (أقناناً). والأقنان: هم العبيد أبناء العبيد. إنَّه التطوير والتحديث الذي وُعدنا به.

ظلَّت سوريا باردة في أوَّل خمسين سنة من حكم البعث ذي الخُطَط الخمسية التي لا تكتمل ولا تنتهي، فجاء الوريثُ الذي لم تعجبه هذه البرودة، فأشعل البلاد من درعا إلى عين ديوار لتغدو دافئة؛ دافئة جداً إلى حدِّ الاحتراق، لتصييرِ البلاد المليئة بالبشر مجرَّد حقل فحم، وجعْلِ أرصفتها ومنصِّفات شوارعها وحدائق منازلها جبَّانات تؤوي المستريحين ممن قُصِفوا أو قُنِصوا، وكان القصف والقنص إحدى مكرماته، فقد أتاح لشعبه خدمة الموت من دون آلام النزع والاحتضار.

*****

نزلتُ وعائلتي من الطائرة في مطار القاهرة. مشيتُ لأوَّل مرة دون سلاسل حراً طليقاً، ولكنَّ رنينها ظلَّ يصمُّ أذنيَّ، فمن رسفَ في السلاسل دهراً سيلازمه صوتها وإن تحرَّر منها.

ما الحلُّ إذن للتخلص من طنينها ورنينها؟

يجب أن أرفعَ صوتي حتَّى يكون أعلى منها. يجب أن أصرخ. أترنم. أُنشد. أغنِّي. أضحك. أقهقه. أكتب. وهذا ما عملته في هذا الكتاب.