1

يُقدَّر عدد الكورد في سوريا بنحو مليون ونصف إلى مليونين، أو نحو 10 بالمئة من تعداد السكان قبل الثورة. لطالما حفظ صحفيون-ات هذه الإحصائية عن ظهر قلب، مع تركيزهم على أنها متعلّقة بـ«تقديرات». لقد كانت تجربة الكورد السوريون مريرةً مع الإحصاء، حيث جرّد الإحصاء العنصري عام 1962 مئات الآلاف من حق حمل الجنسية السورية، وخلَّفَ جرحاً غائراً في وجه المكوِّن الكوردي ما زالت آثاره واضحة عليه حتى يومنا هذا. وعندما استلم حزب البعث السوري السلطة اختار ألّا يُرى الكورد وألّا يُأتي على ذكرهم إلا مصحوباً بالمشاكل، وصوَّرهم كأعراضِ مرضٍ مزمن في جسد الأمة التي حرص على عدم وهن عزيمتها والحفاظ على عروبتها. ولهذا، جاء تصريح الأسد الابن في مقابلة تلفزيونية نادرة بعد انتفاضة القامشلي 2004 غريباً بتحدُّثه عن الكورد كمكون من الشعب السوري؛ اكتشافٌ تأخَّرَ نصف قرن، لكنه ترك إحساساً لدى الكورد بأنهم مرئيون أخيراً، قبل أن يُصحِّح لنفسه عام 2020 ويتحدث عن أكراد ضيوف هربوا من تركيا، نافياً وجود «قضية كوردية».

هذه «التقديرات» تبدو قَدَرَاً لا يفارق الكورد أينما حلّوا. سيُصدم أي باحث-ة أو صحفي-ة مُقبِل على الكتابة عن الكورد السوريين في ألمانيا بتقديرات الدولة الألمانية التي تُفضِّلُ،(1) متأثرة ربما بمواقفها المحابية للحكومة التركية تاريخياً، ألّا ترى الكورد. السجلات الحكومية الألمانية ترى الدول لا الإثنيات، ولأن الكورد لا دولة لهم، فهي تصهرهم كما تفعل أنظمة الشرق الأوسط القامعة في إحصائيات تلك الدول، مجبرةً إياهم على العيش مصنّفين ضمن جاليات لا تتشارك معها الهوية أو الثقافة.

هكذا، تحاول وسائل الإعلام الألمانية تقدير أعداد الكورد، الذين تتذكر وجودهم كلما تصاعد قمعهم وتهجيرهم في الشرق وظهرت آثار هذا القمع لجوءاً إلى ألمانيا، اعتماداً على بيانات مكتب الهجرة واللاجئين عن مُقدِّمي طلبات اللجوء.

وفي دراسةٍ أجرتها البروفيسورة جينور غادري، بنَتها على مقابلات نوعية مع 30 باحثاً وباحثة، ظهر أيضاً أن العنصرية ضد الكورد في ألمانيا بالكاد عولجت في الجانبين البحثي والعملي للعمل النفسي الاجتماعي، أو ذاك التعليمي المتعلّق بالدراسة النقدية للعنصرية، في حين لا تلتفت إليها المراكز المتخصصة بمكافحة التمييز. وقد تحدّث جميع الباحثين-ات إلى غادري عن الظهور والاختفاء، وتعاملهم مع أسئلة حاضرة دوماً: «أين وكيف أكشف عن كوني كردي-ة؟ أين أُظهِر أو لا أُظهِر كوني كردي-ة؟ ما الذي سأتسبّب به عند كشفي عن ذلك في كل سياق خاص ومهني؟»، وأشاروا إلى تغييبهم أيضاً عن التغطية الإعلامية المتعلقة بالعنصرية، كما حدث في تغطية ضحايا(2) هجوم هاناو، حيث نعيُ ضحايا كورد تحت الأعلام التركية، وتم تفادي وجود ممثلين سياسيين عن الكورد.

وسط هذا التغييب، ومع إدراكنا الحاجة إلى تأليف كتاب لتغطية أساليبه بالتفصيل، سعَينا إلى تغطية الوجود الكردي في العقود الماضية وتقديم لمحة عن حياة «اللامرئيين» من الكورد السوريين في ألمانيا، عبر الحديث مع وعن شخصيات كوردية من أعمار مختلفة، أصبحت فاعلةً في فتراتٍ زمنية متفاوتة. أناس لطالما حلموا بحياة طبيعية يُعامَلون فيها كمواطنين-ات بحقوق وواجبات كاملة، لكنهم قد يضطرون لقضاء حيواتهم في محاولة كسب صفة الوجود قبل اللجوء.

2

«ما يحصل في سوريا يعنينا جميعاً، ونحن جميعاً مسؤولون عنه. هذا نداء من الشعب السوري لكم وللجمهور الألماني والمجتمع الدولي. إن لم تدعمونا بأسرع وقت ممكن فإنكم بأنفسكم تخاطرون بحدوث مجازر كبيرة، وبتحوُّل (الاحتجاجات) إلى صراع مسلح». عندما جلسَ السياسي الكردي السوري فرهاد أحمه، في الرابع من كانون الثاني (يناير) 2012، في قاعة للمؤتمرات الصحفية في برلين، مع ثلاثة زملاء بينهم عربيٌّ سوري، ليوجَّه نداءً باسم الشعب السوري، كان ذلك يعني أنه تجاوز عقبتين، أولهما أن يُعرِّفَ عن نفسه كسوري، وهو ما لا يمكن أخذه كمُسلَّمة من كوردي يرى نفسه منذ عقود في مواجهة خطر وجودي من أنظمة أربع دول في المنطقة تتقاسم دولته المنشودة؛ وثانيهما أن يجد نفسه معنياً بمصير كل السوريين-ات، آمِلاً أنهم يشاركونه حلماً جديداً الآن ببناء دولة ديمقراطية يكون فيها الوجود الكردي، لغةً وثقافةً وسياسةً، طبيعياً.

مخاطبته العمومَ بهدوء وبلغة ألمانية سليمة، كعضو في المجلس الاستشاري لمبادرة «أدوبت ريفولوشن» الألمانية-السورية لدعم الثورة، كانت حصيلة خبرةٍ راكَمها أحمه في العمل السياسي، بدأها كشابٍّ في مقتبل العمر في القامشلي واستمرَّت في ألمانيا.

ورغم أن الناشط الكوردي السوري هوزان إبراهيم، الذي كان يجلس إلى جانب فرهاد أحمه في المؤتمر، جاء كطالب إلى ألمانيا، إلا أن قصصهما كانت تمثّل غالبية الوجود الكوردي السوري في ألمانيا حينها، ما يعطي لمحةً عن القمع الذي تعرَّضَ له الكورد من قبل نظام الأسد على مدى عقود. وعندما اندلعت الثورة السورية كان كورد سوريون مثل فرهاد أحمه ورفاقه جاهزين لهذه المرحلة الجديدة، بعد ما خبِروه في أوروبا عموماً خلال انتفاضة كورد سوريا في العام 2004 وما بعدها. 

لكن النشاط الكوردي السوري السياسي في ألمانيا وأوروبا عموماً كان قد اكتسب زخماً قبل ذلك في منتصف التسعينيات، حينما وصل فرهاد ومعه كثيرٌ من المهاجرين والطلاب إلى ألمانيا، بالتزامن مع ما يشبه صحوةً في الوسط الكوردي داخل سوريا. أدركت الأحزاب في الداخل حينها أنه بات لها ذراعٌ في الخارج يستطيع إزعاج النظام بمظاهراتٍ أمام السفارة السورية في بون، وبتنظيم الصفوف في الخارج والتواصل مع البرلمانيين والمنظمات الحقوقية، وتقديم الدعم المالي قدر الإمكان. 

ترافقَ هذا، وفقَ ما يتذكره فرهاد أحمه الذي وصلَ شاباً في أوائل العشرينيات إلى ألمانيا، مع ظهور إشكالاتٍ بين حزبيي الداخل والخارج، ومع عدم قدرة الموجودين داخل سوريا على تبنّي خطابٍ قوي، لما لذلك من تكلفة بشرية باهظة نتيجة بطش النظام. تكثَّفَ الوجود الكوردي السوري في ألمانيا وازداد نشاطه السياسي في تلك الفترة، ما سهَّلَ أيضاً حصول الكورد السوريين على حق اللجوء في ألمانيا، التي لم تكن قبل ذلك ترى سوى الكورد العراقيين كمُستحقّين لصفة اللجوء.

قبل أن تُحطَّمَ تماثيل الأسد الأب في عامودا، وتنطلق الانتفاضة الكوردية وتُقطَّع البلاد من القامشلي عرضاً حتى عفرين، ثم طولاً لتصل إلى دمشق، دون أن يستطيع النظام إطفاءها مبكراً، كان فرهاد أحمه وزميلان له، هما عبد الرحمن عابدين وسيروان حاج بركو، قد أسَّسا في ألمانيا موقعاً إلكترونياً حمل اسم «عامودا نت»، اكتسبَ شعبيةً أكبر مع توسّع انتشار الإنترنت في سوريا، لتتبعه لاحقاً مواقع إلكترونية أخرى.

مع انطلاق الانتفاضة، كان فرهاد أحمه جالساً أمام كومبيوتره يتواصل مع نشطاء الداخل، مُحاوِلاً مع زملاء في ألمانيا مدَّ وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية ببياناتٍ متعلقةٍ بالانتهاكات وصور ومقاطع مُصوَّرة توضّح ارتكابَها، وخروج مظاهراتٍ منددة بها. يتذكر أحمه، وهو جالس في مقهىً برليني تعِباً بعد أسبوعٍ مُضنٍ، مؤكداً أن من كان يضع أمنه وحياته في خطر أكبر هم النشطاء الكورد الموجودون في سوريا، الذين يجمعون هذه المعلومات ويرسلونها إلى ألمانيا بإمكانياتٍ بسيطة. وقد تحوَّلَت المواقع الإلكترونية الوليدة إلى منصةٍ تمدُّ الناس بمواعيد التظاهرات، وعبر برامج «بروكسي» تتجاوز حظر النظام لها.

عندما أرسلَ النظام حرسه الجمهوري لقمع الانتفاضة في القامشلي، وفرضَ حظراً للتجوُّل فيها، وأرسل تلفزيونه ليضطّر الكورد في القامشلي وغيرها من المدن إلى مشاهدة روايته الكاذبة عمّا يجري، وهو سيناريو سيتكرر بعد اندلاع الثورة في داريا ومثيلاتها من مدن سوريا، كان فرهاد أحمه وغيره من النشطاء يحاولون كسر هذه السردية الزائفة، وإقناع الناس بالصورة والفيديو أنّ قمعاً يحدث بالفعل، وأن الدماء تسيل، ما ساهم في نشوء تضامنٍ كوردي كبيرٍ في أوروبا أيضاً. يتذكر أحمه، الذي يشير إلى أحداثٍ تَشي بمدى كثافة الاحتجاجات ضد النظام في الفترة الواقعة بين 2004 و2011، ضغطاً قوياً مارسه نشطاء كورد لإلغاء دعوة مستشارة الأسد بثينة شعبان إلى حدث نَظَّمته بلدية درسدن، الأمر الذي حاولت شعبان الاستعاضة عنه بعقد جلسة مع «الجالية السورية في برلين»، تسلَّلَ إليها نشطاء كورد تسبَّبوا بجَلَبةٍ عندما كَشَفوا عن شعارات احتجاجية، إلى جانب ارتدائهم أكفاناً تحت ثيابهم للإشارة إلى ضحايا النظام. 

يُخمِّنُ أحمه أن ذاك الحراك في الخارج، والاحتجاج الذي لم يعد مقتصراً على الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، وهو ذكرى الإحصاء الجائر في العام 1962 الذي جرَّدَ ما يقدر بـ 120 ألف كردي من الجنسية، ساهم في جعل ردة فعل النظام أقلَّ وحشية نسبياً حيال المنتفضين في 2004، رغم وضوح الخطاب الكوردي ضد النظام وتحطيم تماثيل الأسد. مشيراً إلى أن هذه النشاطات في الخارج أزعجت النظام، ودفعت مكتب أمنه القومي لإصدار قائمة عام 2008 تضمّ 256 اسماً سورياً، يُعلِن فيها تجريدهم من الحقوق المدنية ومُصادَرة أملاكهم مُعتبِراً إياهم خطراً على أمن الدولة، وأنه وجد اسمه بينهم، لافتاً إلى زيارة دورية كانت المخابرات تقوم بها إلى بيته في القامشلي بعد كل نشاط يشارك فيه في ألمانيا.. بيته الذي تركه هارباً إلى ألمانيا من مستقبل مجهول، شبهه بـ«حصار» كان يشعر به هناك.

قبل أن يُتِمَّ عامه الثامنة عشر، كان فرهاد أحمه (48 عاماً اليوم) ناشطاً بالفعل في حزب «يكيتي» ومشارِكاً في إحدى أخطر النشاطات حينها، ألا وهي المساعدة في طباعة المنشورات وتوزيع الصحف الحزبية. مع ارتفاع وتيرة الاعتقالات وسط النشطاء السياسيين، منهم والده وإن كان لفترة قصيرة، صار يخشى الاعتقال. 

في نهاية العام 2011، تلقف الإعلام الألماني، المتعطّش حينها لإيجاد شخصية تشرح له ما يجري في سوريا باستفاضة، واقعةَ تَعرُّض أحمه، الذي كان حينها مرشحاً للانتخابات البلدية في برلين عن حزب الخضر، لهجوم من شخصين يُعتقَد أنهما من «شبيحة» النظام على منزله في برلين. ومع تضامن ساسة محليين واتحاديين معه، بالكاد كان أحمه قادراً على إنقاذ نفسه من طلبات المقابلات والظهور في البرامج الحوارية الرئيسية في البلاد، كصوتٍ مُعبِّر عن السوريين أجمع، والكورد على وجه الخصوص.

إلى جانب دعم التنسيقيات الكوردية بورشات عمل وبمساعدة على تغطية الاحتجاجات، وذلك عبر العمل مع «أدوبت ريفولوشن»، عقد أحمه ومجموعة من رفاقه الكورد الموجودين في دول كالسويد والنرويج وألمانيا اجتماعاً في قاعةٍ في البرلمان السويدي نهاية عام 2011، انتهى بتشكيل «تجمع شباب الكورد السوريين في الخارج»، («أسكيا» اختصاراً)، بهدف دعم الشبّان في الداخل إعلامياً ليصبح التجمّعُ صوتَهم في الخارج، بعد مَدِّهم بالأدوات المُساعدة للتغطية الإعلامية «دون أن ينتزعوا منهم قرارهم» على حد وصفه. 

ومع التحول الكارثي للأوضاع في سوريا بداية عام 2013، اجتمع فرهاد أحمه وباقي الكورد السوريين المنضوين في تجمع «أسكيا» في برلين هذه المرة، ليتم طيُّ صفحة المنظمة وتغيير اسمها إلى «بيل-أمواج مدنية». ومعها طوى أحمه نشاطه السياسي في ألمانيا، واستقال من وظيفته في بلدية برلين ليتفرَّغَ للشأن السوري، إذ رأى أنه قادرٌ على خدمة السوريين-ات أكثر، وهو قرارٌ ينتمي إلى مرحلةٍ كانت فيها أسهم الآمال في سوريا جديدة ما تزال مرتفعةً للغاية. مرور عقدٍ من الخيبات المتوالية يجعله يرى ذاك القرار بطريقةٍ مختلفة اليوم. مع ذلك، تظل انطلاقة ثورة 2011 حاضرةً في بال فرهاد أحمه كلحظة تاريخية جميلة، كانت بمثابة حلم تحقَّقَ ومكنه من زيارة أهله ومدينته، بعد قمع النظام الذي ازداد حدة بعد انتفاضة 2004.

اليوم، ما زال أحمه حاضراً كلما سنح الوقت له في وسائل الإعلام الألمانية، ليُعلِّقَ على الشأن الكوردي، الأمر الذي يرتبط حتماً بما جرى بعد «شهر العسل الثوري» في سوريا، وتحطُّم الآمال بمصير مشترك يجمع السوريين، وتغيُّر خطاب أطراف من المعارضة، خاصةً بعد غزو تركيا المتكرر لمناطق سورية، واحتلال مناطق منها عفرين التي شهدت تهجيراً من بين أبشع ما شهدته سوريا من أعمال تهجير. 

3

مع فرهاد أحمه، وصلَ الشاعر تنغزار ماريني إلى ألمانيا في العام 1996 أيضاً، لكن للمرة الثانية بعد أن وصل إليها في أواخر السبعينيات طالباً وتركها بعد أعوام عائداً إلى بلدته ديريك (المالكية). 

ماريني الذي لا يرى نفسه سوى كوردستانياً، ولا يُفضِّلُ إلصاق صفة السوري به، شارك مع فرهاد في الكثير من النشاطات الكوردية، منها تقديم نشرة كوردية في إذاعة محلية في هانوڤر، وكان من بين الفاعلين في جمعية كورد هانوڤر، كما يطيب له ذكر تنظيمه «أيام الثقافة الكوردية» بين عامي 1997 و2010.

يوضح قرار ماريني تركَ لسوريا والانتقال للدراسة في ألمانيا الغربية كيف لم يكن بوسع الكوردي أن يفصل السياسة عن حياته. كان تنغزار ماريني يدرس الأدب العربي في جامعة حلب عندما طرح على أستاذه كتابة حلقة بحث عن تقاربات في التحوّلات الشخصية في رواية المسخ لكافكا والميثولوجيا الشخصية في ملحمة(3) «ممه آلان» الكوردية. ووافق الأستاذ دون أن يكون عالماً على ما يبدو بما تعنيه هذه الملحمة. وعندما توجّه تنغزار إلى الجامعة بعد أسبوعين، وجد دورية أمن بانتظاره أوسعته ضرباً، فيما كان أحدهم يقول له: «كوردي يكتب عن يهودي»، وطُرد من الجامعة. وتجنُّباً للمزيد من المشاكل، ذهب إلى تركيا وسافر منها إلى ألمانيا الشرقية التي كان بوسعه السفر إليها دون تأشيرة، قبل أن يستقر في مدينة هانوڤر في ألمانيا الغربية. وبعد دراسته اللغة وشروعه في دراسة الصحافة في مدينة براونشفايغ المجاورة، رفضت الجامعة إكماله لدراسته، وذلك بسبب تعقيداتٍ مرتبطةٍ بمنحه كلاجئ إقامةً تُلزِمه بالعيش في هانوڤر فحسب، ما دفعه للعودة إلى بلدته ديريك.

يُشير تنغزار ماريني إلى أن عدد الكورد السوريين لم يكن يتجاوز أصابع اليد الواحدة في هانوفر حينها، مقارنةً بعددٍ أكبر لكورد تركيا والعراق وإيران، ومع ذلك كانوا نشيطين، ينظمون نشاطاتٍ طلابية مع طلاب من أميركا اللاتينية، وفعاليات ثقافية كأُمسيات غنائية يدعون إليها فنانين كورد. يتذكر تنغزار أن العدد الأكبر من الكورد السوريين كانوا يقيمون في برلين وهايدلبرغ وآخن وبوخوم.(4) 

كان ماريني عضواً في حزب اليسار الكوردي في البداية، ثم في اتحاد الشعب، قبل أن ينضم إلى حزب يكيتي (الذي شُكِّلَ من ثلاثة أحزاب). وبقى حتى العام 1996 في لجنة يكيتي الإعلامية، قبل أن يترك العمل السياسي ويتفرّغ للعمل الأدبي. ورغم رغبته في البقاء في موطنه بعد انتهائه من الخدمة العسكرية، أجبرته المضايقات الأمنية التي كان يتعرض لها بسبب نشاطاته الثقافية وكتابته الشعر على اللجوء إلى ألمانيا للمرة الثانية. يتذكر ماريني كيف استُدعيَ إلى ثلاثة أفرع مخابرات بعد نشر قصيدة.

بعد عودته إلى ألمانيا تمكن تنغزار (اسمٌ معناه مُضطَّهَد باللغة الكوردية) أخيراً من دراسة الصحافة، لكنه يعمل الآن كـ«موظف اجتماعي» كونه درسَ علم الاجتماع في دمشق كذلك. 

وكشخص مشغول بالهمّ القومي دوماً، ما زال تنغزار ماريني يحاول تعريفَ الساسة والطلاب الألمان بالوضع الكوردي. ويستخدم علاقاته الطيبة مع الأحزاب الألمانية، خاصةً الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم في ولاية ساكسونيا السفلى، لتنظيم رحلاتٍ لساسةٍ ألمان إلى كوردستان العراق، كما يُقدّم مساهماتٍ لوسائل الإعلام المحلية في هانوڤر في ما يتعلق بالشأن الكوردي.

4

هوشنك عثمان صبري (يمين الصورة) وزنار شيخموس (يسار الصورة)

في بستان استجمام في ضواحي العاصمة برلين، يحلّ هوشنك عثمان صبري ضيفاً على صديق عمره زنار شيخموس، ويشغلهما الحديث عن الهم الكوردي فيما يحتسيان الشاي في يومٍ صيفي مشمس، أمرٌ لا يتعلق البتة بممارسة السياسة، بل بممارسة الحياة بالنسبة لهما ولعددٍ غير قليل من الكورد. علاقة الصداقة بينهما تبدو متينةً بشكلٍ واضح إلى حد اعتبار هوشنك عثمان صبري أن ذاكرتهما تكمّل بعضها بعضاً، هما اللذان قضيا في برلين أكثر من 50 عاماً، وتقاطعت أيامهما طوال هذه السنوات ككرة صوفٍ أمعنت قطةٌ على العبث بها. 

وبينما يتحدث الرجلان عن حياتهما، التي أمضيا جُلَّها في ألمانيا لا في سوريا، والظروف التي دفعتهما لمغادرة موطنهما، نرى مجدداً كيف لا تختلف العوائق التي كانت تقف أمام أحدهما ككوردي يريد ممارسة حقه في التعلُّم فحسب، عن تلك التي اعترضت الآخر المنخرط بشدة في السياسة وابن أحد مؤسسي أول حزب كوردي في سوريا «البارتي». 

عندما وصل زنار شيخموس إلى برلين الغربية، كان عدد الكورد القادمين من مختلف دول المنطقة فيها لا يتجاوز 15 شخصاً، وفقاً لتقديراته. يتذكران سويّةً أسماء مجموعة صغيرة كانت قد سبقتهما. ورغم قلة عددهم إلا أنهم بذلوا جهوداً مضاعفة لنقل الفولكلور الكوردي إلى ألمانيا. يُشير شيخموس إلى حديث أحد معارفه عن تأليفه أغنية كوردية وغنائها والرقص على أنغامها. 

يتذكر زنار شيخموس الأحداث التي دفعته إلى مغادرة سوريا بأصغر تفاصيلها، كأنه مرَّ بها مؤخراً فحسب. يروي أنه حصل على الثانوية الزراعية في العام 1964، وتوجَّه إلى دمشق قاصداً تسجيل نفسه في جامعتها. وعندما ذهب للمقابلة سأله الموظف إن كان من عامودا وفيما إذا كان كوردياً، وهو ما أكده؛ فرُفض طلبه بداعي عدم توافر مقاعد، على أن يُجرِّبَ حظه في العام التالي. أثَّرَ القرار عليه وهو يرى كيف تسمح الجامعة لطلاب قادمين من خارج سوريا بالدراسة. وبعد أن وصل إلى اسطنبول وسجَّلَ في جامعتها، لم يقتنع بالدراسة فيها فقرَّرَ شدَّ الرحال إلى ألمانيا وتدبَّرَ أحد أقاربه تأشيرة دخول له. 

وصلَ شيخموس إلى برلين الغربية في 21 آب (أغسطس) 1965، في اليوم السابق للمؤتمر الخامس للطلبة الكورد في أوروبا (الصورة أدناه، ونراه جالساً على اليمين). كشابٍّ قادمٍ من عامودا، حيث يتوجّب على مجموعة من الشبان مراقبة الأجواء كلما اجتمع عددٌ قليلٌ من أعضاء حزب البارتي خوفاً من مداهمة للأمن، هاله ما شاهده في المؤتمر الذي نُظِّمَ في قاعةٍ كبيرةٍ عُلِّقَ فيها العلم الكوردي ولافتات وشعارات كوردية كـ«الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكوردستان»، فيما يخرج طالبٌ تلو الآخر يمثلون الكورد في كل بلد أوروبي ليشرحوا أوضاعهم في الفترة السابقة، متحدثين من وراء ميكرفون… علناً!

رغم الخلافات الشديدة التي شابت المؤتمر بين أنصار البارتي والشيوعيين، يعتبر زنار أنه كان يوماً وُلَِد فيه من جديد، حيث عاش حريةً لم يختبرها في سوريا، يُسلِّمُ دون خوف رسالةً من نور الدين ظاظا (مؤسس رابطة الطلبة الكورد) لكمال فؤاد (أحد مؤسسي الاتحاد الوطني الكردستاني)، ويجلس مع شخصيات من عوائل سياسية كوردية معروفة، مثل علي ابن القاضي محمد (رئيس جمهورية مهاباد)، وكاميران بدرخان. ويُستَدَّل على أن الوجود الكوردي ضاربٌ في القدم في ألمانيا بالإشارة إلى قدوم شخصيات من طبقة النبلاء إلى ألمانيا منذ 100 عام، مثل كاميران وشقيقه جلادت (واضع أول أبجدية لاتينية للغة الكوردية في دمشق) في العام 1922، وذلك بعد فشل مشروع جمعية «تعالي» الكوردية بالتعاون مع ضابط الاستخبارات البريطاني أدوارد نويل ضد القوميين الأتراك بقيادة أتاتورك. درس كاميران في ميونيخ ولايبزغ، ثم ظل متنقلاً بين سوريا وألمانيا وفرنسا منخرطاً في العمل الثقافي والسياسي كشأن شقيقه جلادت.

عندما حصل زنار شيخموس على منحة دراسية في يوغسلافيا وبدأ الدراسة فيها، كان عليه مواجهة عقبات دولة البعث من جديد، فالسفارة رفضت تغيير إشرافه الدراسي من إسطنبول، ورفضت تمديد جواز سفره طالبةً منه العودة إلى سوريا، وهو الأمر الذي لم يكن وارداً بالنسبة له، ما اضطره للعودة إلى ألمانيا والتقدّم بطلب لجوء فيها.

أما هوشنك صبري فقد انتقلَ وهو فتى صغير من القامشلي إلى دمشق مع عائلته، وكبر فيها حتى حصل على الثانوية في العام 1963. حينها كان والده السياسي عثمان صبري هارباً إلى بيروت مع بعض رفاقه، فالتحقَ به هناك. ورغم حصوله على منحة ليدرس في تشيكوسلوفاكيا، قرَّرَ البقاء مع والده والعودة معه خلسة إلى سوريا ودراسة الفلسفة وعلم الاجتماع، والانخراط في الوقت نفسه معه في العمل الحزبي، ليُعتقل مرات ثلاث، ومرة منهم بقي معتقلاً لمدة عام. وعلى خلفية خلاف مع رفاقهم في الحزب حول التعامل مع قضية الحزام العربي، ترك هو ووالده الحزب في نهاية الستينيات.

رغم إنهائه الدراسة، توجّب على هوشنك صبري التعامل مع أوضاع صعبة، كالعثور على عمل يُعين به أسرته الفقيرة، وهو المحروم من الجنسية بسبب الإحصاء الجائر. يتذكر صبري كيف كان يائساً حدَّ عرضه العمل مع عمال حفريات في دمشق، فقبل صاحب الورشة في البداية ليغيّر رأيه في اليوم التالي، وقال له صراحةً إن شعبة الأمن السياسي منعته من تشغيله. هنا أحسَّ هوشنك صبري أن جميع الأبواب قد أُغلِقت في وجهه، وأنه لا مناص من السفر. يتذكر أيضاً كيف قابل شخصاً دمشقياً قبيل مغادرته سوريا، وحدَّثه عمّا يتعرض له الكورد على يد النظام فلم يصدّقه، ووعدَ بسؤال قريبه الذي يعمل في الأمن السياسي. وعندما قابله في اليوم السابق لمغادرته البلاد، أخبره الشاب بأن قريبه أكَّدَ كلامه مُرسِلاً لهوشنك رسالةً مفادها أنهم «سيظلون فقراء طوال عمرهم».

رحلته الأولى نحو أوروبا تعثَّرت وقُبض عليه في يوغسلافيا وسُلّم لبلغاريا، وذلك رغم تفهم اليوغسلافيين لأسباب حمله جواز سفر مزيف كناشط سياسي كوردي. ثم مكّنَته مساعدةٌ من ناشطٍ سياسي كوردي مقيم في برلين من السفر إلى برلين الشرقية أخيراً، ومنها تسلَّلَ عبر مترو الأنفاق نحو غرب المدينة وهو لا يحمل سوى حقيبة صغيرة تضم كتباً و11 دولاراً في جيبه. مُتنقلاً بين عدة منازل مشتركة في كرويتزبرغ وغيرها من الأحياء مع شبان كورد. بدأ صبري بالعمل في مخبز لأعوام لكي يحسّن وضعه ووضع عائلته الاقتصادي، قبل أن يعود للدراسة ويُفضِّلَ الصيدلة على التخصص في اللغات التي أحب، آخذاً في الحسبان أفقَ عملٍ أفضل لدى الصيادلة في سوريا، التي كان يعتقد أنه سيعود إليها يوماً. 

رغم قضائه جُلَّ حياته في ألمانيا يدير صيدليةً، لكن حديثه يشي كيف تشكلت شخصيتَه في الفترةُ التي نشط فيها في حزب البارتي مع والده في الستينيات أكثر من أي مرحلة أخرى في حياته. فيتحدث عن التعذيب الذي تعرضوا له في السجن هما ورفاقهما من المكتب السياسي عند اعتقالهم في العام 1964، ثم خروجهم بعفوٍ رئاسي من الرئيس أمين الحافظ، ليُلقى القبض عليهم مجدداً من أمام السجن ويُزج بهم في ثكنة هنانو في حلب. يُشير صبري أيضاً إلى الدور الذي لعبه الكورد في تلك الفترة في دمشق رغم كون حركتهم السياسية فتيةً حينها، مُستشهداً بإرسال أمين الحافظ ضابطين إلى بيتهم المتواضع في جبل قاسيون، ليطلب من والده الحماية بمساعدة ما يصل إلى 300 شاب كوردي حين كان الحافظ يخشى من الانقلاب عليه، وهو طلبٌ ردَّ عليه والده عثمان صبري بشروطٍ متعلقةٍ برفع المظالم المتعلقة بالإحصاء والحزام العربي، ليرفض في النهاية تعريض شبان كورد للخطر دون تلبية هذه الشروط، حسبما يروي.

يتذكر هوشنك صبري أن جميع من كان يريد ممارسة السياسة في ألمانيا في الفترة التي وصل فيها كان ينضم إلى الحزب الديمقراطي الكوردستاني في العراق، وهكذا انضم إلى الحزب، وكذلك إلى اتحاد الطلبة الكورد في أوروبا، وبات هو وزنار شيخموس عضوين في رئاسته. وكانت رابطة اتحاد الطلبة حينها، أي في مطلع السبعينيات، تشكل واحدةً من ثلاث جهاتٍ تمثّل الحركة السياسية الكوردية، إلى جانب الحزب الديمقراطي الكوردستاني «بارتي» بقيادة مصطفى البارزاني و«بارتي» سوريا.

وهنا لا يمكن الحديث عن الرابطة أو الحركة السياسية في أوروبا دون ذكر نور الدين ظاظا، الذي أسَّسَ رابطة الطلبة الكورد في أوروبا مع عصمت شريف وانلي وعبدالله قادر وشوكت عقراوي وعبد الرحمن قاسملو (زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران، والذي اغتالته المخابرات الإيرانية لاحقاً في فيينا) وشقيقه أحمد، وذلك في العام 1949 في لوزان، في وقت كان عدد الطلاب الكورد في أوروبا لا يتجاوز العشرات. ولكن أدّت خلافاتٌ فيما بعد، قيل إن الشيوعيين تسبَّبوا بها، إلى حل هذه الرابطة الطلابية. وقبل أن يعود إلى سوريا منهياً دراسة الدكتوراه، بذل ظاظا جهوداً كبيراً لإعادة إحياء الجمعية، واجتمَع مع 16 طالباً في العام 1956 في مدينة فيسبادن غرب ألمانيا لتأسيس رابطة طلابية مماثلة، ووسط اعتراضات المنتمين للأحزاب الشيوعية، اتُّفِقَ على تأسيس الرابطة الثقافية للطلبة الكورد في أوروبا. عادت هذه الخلافات بين القوميين الكورد والشيوعيين للظهور بعد كل اتفاق، وانتهت إلى انقسام الرابطة في العام 1975 بالتزامن مع انهيار حركة البارزاني المطالِبة بالحكم الذاتي بعد توقيع اتفاق الجزائر بين إيران والعراق؛ انقسام أدى إلى ضعف دورها كجهة ممثلة للحركة الكوردية في الخارج، ثم مع تزايد قدوم الكورد من إيران وتركيا وسوريا كلاجئين لأوروبا ونشاطهم مع أحزابهم، تَهمَّشَ دور الحركة الطلابية أكثر حتى اختفت عن الوجود في التسعينيات، كما يذكر أحد مؤسسي حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني (العضو السابق في الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا) عمر شيخموس في ورقة عن تاريخ الحركة الطلابية في الخارج. عندما عاد ظاظا إلى سوريا في العام 1957 انتُخبَ رئيساً لحزب البارتي، وظلَّ شخصيةً محبوبةً مع مرور الزمن من قبل الساسة الكورد، كما يؤكد هوشنك صبري، رغم الخلافات التي قسمت الحزب لاحقاً.

يستشهد هوشنك صبري وزنار شيخموس بمدى تأثير رابطة الطلبة حتى نهاية السبعينيات، بالإشارة إلى محاولة النظام العراقي تفجير مؤتمرٍ سنويٍّ لها في أواخر السبعينيات في برلين الغربية عبر حقيبة مفخخة، وكيف أدى اكتشاف قوى الأمن الألمانية ذلك إلى منع كارثة. سوريَّاً، كان عدم تمديد صلاحية جواز السفر أقصى ما يستطيع النظام فعله رداً على نشاطاتهم.

رغم عدم جلب حكومة ألمانيا الغربية عمالاً كورداً من سوريا كما هو الحال في تركيا، تكثّف عدد الواصلين في السبعينيات مع تأسيس «بارتي ديمقراطي كوردستان سوريا-يسار» في أوروبا، وتحديداً في برلين، كما يشرح زنار شيخوس، ويكمل أنهم كانوا يقدمون منحاً دراسية للطلاب يحصلون عليها بصفةٍ شخصيةٍ من السوفييت. هكذا، كان الكثير من الطلاب يأتون للدراسة في ألمانيا الشرقية، ويأتون في أشهر العطلة إلى برلين الغربية للعمل وجمع مدخراتٍ للفترة الدراسية التالية. يبرر شيخموس انسحابه من الحزب المذكور بمعرفته ببيع بعض أعضائه منحاً دراسيةً للطلاب، رغم حصولهم عليها مجاناً من موسكو. 

يتذكر شيخوس وصبري بحسرة كيف ذهب مجهود عامين من العمل على تشكيل «كوردشه غيمانده/المجتمع الكوردي» في برلين سدىً في أواسط التسعينيات، بعد أن سجلوها رسمياً وحصلوا على تعهدٍ بدعمٍ مالي من الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم في مدينة برلين، وذلك مع تدخل حزب العمال الكردستاني ورغبته بالسيطرة على هذا الجسم الجديد، ومحاولة إغراقه بعددٍ كبيرٍ من أعضائه.

5

في مقهى في حي برينزلاوربرغ البرليني، جلست إنانا عثمان، الكاتبة والباحثة المتخصصة في الأنثروبولوجيا السياسيّة ودراسات الذاكرة والأرشيف، تتحدث عما يعنيه أن يعيش المرء بهوياتٍ متعددة، وعن حياتها التي قضت نصفها في سوريا والنصف الآخر في ألمانيا.

قبل أن يصل عدد كبير من الأطفال الكورد السوريين إلى ألمانيا أو يُولدوا فيها في الأعوام القليلة الماضية، بدأت إنانا عثمان قبل 17 عاماً رحلة البحث عن هويتها كابنة سياسي كوردي معروف وامرأة عربية توجب عليها شقَّ طريقها في مجتمعٍ ألماني لا يُيسِّر الانتماء إليه، وإن درست معهم وتعلمت لغتهم. هكذا قد تجد ابنة أي علاقة مختلطة، ألمانية كوردية مثلاً، نفسها مختبرةً لسنوات ماهية التنقل بين أقطاب هويات متعددة.

قبل أن تصل إنانا عثمان مع شقيقها إلى ألمانيا لزيارة والدها السياسي السابق في حزب يكيتي مروان عثمان، كانت أحداث انتفاضة القامشلي قد وضعتها سلفاً أمام سؤالٍ هوياتي لطالما فضّلت كطفلة القفز فوقه، وهي التي تعيش في بلدة رميلان النفطية، ذات الحضور الأمني الثقيل. فبعد أن كانت تتمتع بميزة أن تُرى جزءاً من المجتمع العربي، «عابرة للمجتمع العربي»، وتتفادى نظرات الشك كشأن زميلاتها الكورد في المدرسة، رمت أحداث الانتفاضة سؤال الهوية الكبير أمامها. حينها رأت تظاهرةً كورديةً غاضبةً في مرمى خطر إطلاق النار قرب منزلهم، يرمي المشاركون فيها الحقل الذي رأوا فيه رمزاً للظلم الطبقي والتهميش بالحجارة، ثم صعقها تثبيت جارة عربية زجاجاً مكسوراً على جدار منخفض يفصل منزليهما بالأسمنت، لطالما فقزت وأخوتها فوقه ليلعبوا مع أطفال الجارة، لتسأل نفسها ما الذي تغير فينا حتى باتت الجارة تخاف منا، وتنصب «جدار رميلان» في وجهنا؟ لماذا بتنا نُسأل فجأةً إن كنا «نريد كوردستان أيضاً مثل المتظاهرين؟»، وتضيف على تساؤلاتها: «لماذا بتنا نوصم لأنّ أناساً خرجوا للشارع يعترضون على قتلهم بدم بارد في مباراة كرة قدم؟».

وعندما شاهدت إنانا عثمان زميلاتها يتعرضن للتفتيش على أبواب المدارس من قبل «موجهة» و«مدرب فتوة» بعد الانتفاضة خشية حملهنّ أدوات حادة كما كان يُزعم، قررت أنها تريد أن تكون كورديةً علناً، حتى وإن لم تتعرض لمثل هذا التعامل التمييزي المقيت، متسائلةً بغضب: «ما هو السيء في أن يكون المرء كوردياً؟». تتذكر إنانا الآن الانتفاضة وتراها طوق نجاة بالنسبة لها.

لاحقاً فهمت عثمان ما الذي دفع الجارة لفعل ذلك، ولماذا تغيرت معاملة أستاذ مادة اللغة العربية معها كلياً، المادة التي تحب وكانت مجتهدة فيها، لمجرد معرفته عرَضاً بأنها ابنة مُعارضٍ سياسي كوردي وضعه النظام في السجن. «نظرتك للآخر محكومة للغاية بنجاتك. عندما ترى في الآخر تهديداً لأمانك لن تجد أي مشكلة في إسقاط أيّ صفةٍ عليه (..) فهمت مدى تغييب الإنسان السوري الذي يجد تنافساً بين نجاته ونجاة الآخر».

كان عمر إنانا عثمان تسع سنوات عندما زارت دمشق، لا «لتشاهد معالمها وتشمّ ياسمينها»، بل لتزور والدها في سجن عدرا الذي اعتقله النظام فيه بتهمة «اقتطاع أراضٍ سورية وإلحاقها بدولة أجنبية» و«إثارة النعرات الطائفية»، تسمّي إنانا هذا السجن، وأمثاله صيدنايا والمزة وتدمر، بمنافي الوطن؛ ثقوب سوداء تبتلع كل من يجرؤ على الحديث.

ورغم الحنان الذي قوبلت به من الأهل، لطالما شعرت إنانا عثمان أنها ابنة علاقة خارجة عن السائد في المنطقة، يصعب على الكثيرين هضمها: ابنة معارض كوردي يقضي حياته مُلاحقاً أو معتقلاً ومهندسة علوية تعمل في رميلان.

لم تكن الهويتان في حالة تضادٍّ البتة حينها، تتذكر إنانا. كانت تحب كورديتها لكن في السر ربما، ولا تتنكّر لها، لكن في وعيٍ فطريٍّ لمراهقةٍ في ذلك الحين، ارتبطت هذه الهوية بالمعاناة والتهميش، حتى أظهرت لها الانتفاضةُ وفجاجةُ الظلم أنه «ليس لديها خيار إلا أن تكون كوردية».

لم تكن تمض شهورٌ قليلة على إطلاق سراح والدها، الذي كان قد اعتقل على خلفية نشاطه في منتديات بدرخان في حلب ضمن حركة إحياء المجتمع المدني، حتى اعتقله النظام مجدداً متهماً إياه بتأجيج الناس ودفعهم إلى دخول رميلان خلال انتفاضة القامشلي. وعندما خرج الوالد بعد شهرين غادر إلى فرنسا لدى حصوله على جائزة حقوقية، ومنها إلى مدينة هانوڤر الألمانية لحصوله على منحة حنة آرندت، منتصف العقد الأول من الألفية الثالثة.

كان من المقرر أن تصل إنانا عثمان وشقيقها إلى ألمانيا لأجل زيارة قصيرة، لكن هذه الزيارة امتدت حتى يومنا هذا. قرار جاء على خلفية تجريد والدها في ذلك الحين من حقوقه المدنية وتلفيق النظام اتهامات جديدة له.

صبغ غياب والدها معتقلاً ثم مقيماً في فرنسا لأربع سنوات علاقة إنانا عثمان مع هويتها الكوردية. كان كل ما يرتبط بثقافتها الكوردية بشعاً بالنسبة لإنانا الطفلة، إذ كان يعني غياب والدها، والتأقلم مع تعليقات زميلات لا يدركن أنه ليس كل من في السجن مجرم في دولة البعث، ومراقبة الضغوطات التي كانت والدتها تعاني منها لكونها متزوجة من شخصية كوردية معارضة. ومع وصولها إلى هانوفر تلمست للمرة الأولى في حياتها أجواء صحية ، وتعاملت مع حالة كوردية طبيعية متبلورة، من أغان وشعر.

لكن ظروف غياب الأب في سوريا، الذي يكتب شعراً بالكوردية حتى، حرم إنانا من تعلم اللغة وهي صغيرة، ما انعكس على علاقتها مع هويتها الكوردية على الدوام، وأثّر على اندماجها في وسط كوردي لا تتقن لغته في هانوفر. مع ذلك ما زالت عثمان تتذكر مشاركاتها في نشاطات متعلقة بالقضية الكوردية، كالتظاهر أمام السفارة السورية في برلين. عيشها هذه الحالة الثقافية والناشطية كان مفيداً للغاية بالنسبة لها، إذ أدركت أن «الهوية لا تعني دوماً الوصول إلى هدف وتأسيس كوردستان ربما. هي حالة فردية يومية تحتاجها. أن يكون لديك مفرداتك… أن ترقص على أنغام أغنية كوردية في عرس. أن تعيش هذه اللحظات حتى آخرها».

متأثرة بأبيها، بدأت إنانا حياتها الجامعية في ماربورغ، في قسم دراسات الشرق الأوسط ، لتجد نفسها أمام خيارات كثيرة للتعريف عن نفسها أوسع من قولها أنها كوردية، وغير مضطرة لتكون سورية فحسب، في مكان يراها الألماني أجنبية أو مسلمة.

إنانا عثمان مشارِكة في نشاط ثقافي- Litlog

وعندما اندلعت الثورة السورية لم يكن هناك نقاش حول مناصرتها في عائلتها المعارضة. تتحدث إنانا عثمان عن تنظيمها وزملائها جلسات نقاش في الجامعة حول الوضع في سوريا خلال الثورة والحراك الكوردي ، وكيف أراحها التعبير عن الانتماء في سياق أقل حدة من السياق الهوياتي السوري، تتحدث خلاله بالألمانية، مشيرة إلى كتابتها بحرية أكبر نصاً لمجلة أدبية ألمانية عن التاريخ الكوردي والكورد في الدياسبورا.

نقاشات مع ناشطين-ات سوريين عرب خلال الأعوام الأولى للثورة في هانوفر أظهر لها أنه لا ينبغي عليها افتراض أنهم على صفحة واحدة لمجرد معارضتهم جميعاً لنظام الأسد عندما يتعلق الأمر بالقضية الكوردية. وهنا تبدو عثمان خائبة الأمل من عدم قدرة الكوردي-ة عيش كينونته بارتياح في وسط سوري. الأمر لا يتعلق بالعنصرية، بل تراه مرتبطاً بعدم وجود تطبيع لوجود الكوردي وثقافته. «أنت موجود في كل مكان وليس في أي مكان. ليس بالإمكان تجاهلك لكن ليس بالإمكان التطبيع معك. هل ينبغي ألا يحلم المرء بكوردستان لكي يكون كوردياً سورياً؟».

إنانا عثمان، التي تواصل عملها البحثي، المرتبطة حالياً بشخص كوردي، ستحاول أن يتعلم أولادها مستقبلاً اللغة الكوردية لكن دون تلقين أو فرض، حريصة أن يعيشوا هذه الثقافة وإن كانت بطريقة غير مثالية، في صورة لغة أو أغنية يرددونها، أو إعداد طبخة أو إشعال نار النوروز، لكنها لا تتخيل نفسها أيضاً ألا تتحدث معهم بالعربية كما كانت والدتها تحكي معها.

 *****