«أفتكر مرة واحد دخل أول رسالة بعتها قبل ما يقول هاي حتى هي ‘جسمك حلو’. تعليقات زي شفايفك جامدة، انتي سيكسي عمرك عملتي سكس قبل كده؟ وكل ده كان في very first conversation»، تروي المحامية الحقوقية والنسوية هالة دومة عن تجربتها مع تطبيقات المواعدة الإلكترونية (Dating Apps) التي اضطرتها إلى حذف التطبيقات من هاتفها نظرًا لما تتعرض له من ممارسات تتجاوز مفهوم الرضائية وتصنفها على أنها «تحرش جنسي تمامًا».
شرعت هالة في استخدام تطبيقات المواعدة منذ العام 2018، لكن بشكل غير منتظم، تتخلّله فترات متعددة من اليأس بعد التجارب المؤذية التي تواجهها في كل مرة تستخدم فيها هذه الوسيلة للتعرُّف على شريك مناسب. «في مشكلة في مفهوم الـdating نفسه والناس مش فاهمة بيمشي إزاي بس كمان في المنطق، في الـ(common sense) مفيش حد مش فاهم إن لما يروح يلمح تلميحات جنسية لواحدة أول مرة يتكلم معاها إن ده تحرش!».
علاقات القوى بين العالم الافتراضي والواقعي
في السنوات الأخيرة، انتشر استخدام تطبيقات المواعدة الإلكترونية بشكل متزايد كأحد الوسائل الشائعة للبحث عن شركاء وشريكات حميمين-ات، وباتت هذه إحدى الطرق المقبولة اجتماعيًا في سياقات متعددة كذلك. لكن بالرغم من أن هذه الوسيلة الافتراضية -نسبيًا- تستجيب كثيرًا للسياق العصري سريع التغير، إلا أنها كذلك لم تخل من إشكاليات المجتمع الواقعي وما يتضمّنه من خلل في علاقات القوى المرتبطة بمفاهيم النوع الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال مفهوم الرضائية (Consent).
بحسب المركز الوطني لموارد العنف الجنسي (NSVRC) في ولاية بنسلفانيا الأميركية، مفهوم الرضائية يحدث عند منح الإذن أو الموافقة على حدوث أو القيام بشئ ما بشرط إيضاح الأمر الذي يتم الحصول على الموافقة عليه بشكل محدد، وأن يتم منح الموافقة بشكل طوعي وحر دون ضغط أو شعور بالذنب أو إكراه. ويشير المركز إلى أنه عندما يتعلّق الأمر بالأنشطة الجنسية عبر الإنترنت، مثل إرسال الرسائل أو الصور الجنسية أو التواصل لممارسة الجنس الشخصي، فيجب الحصول على ما يعرف بالموافقة الرقمية (digital consent) للإشارة إلى الموافقة الجنسية عبر الشاشات. كذلك، فالرضائية الجنسية ليست أبدية، بل هي ممارسة مستمرة يجب تجديدها في كل مرة وكذلك يمكن التراجع عنها في أي وقت.
من خلال تجربتها مع هذه التطبيقات تقول هالة: «أول ما شخص بيتجاوز حدوده وإحنا لسة في بداية الكلام ولا خرجنا ولا اتكلمنا يبقى أي تلميحات جنسية قانوناً هي تحرش»، وتضيف: «كمان الدعوات الجنسية نفسها انت تعرفني منين يا بني عشان تقولي let’s have sex، في تخطي حواجز وحرق مراحل. أنا بصنف ده على إنه تحرش تماماً لأنه out of context».
ومع ذلك، تفتقر العديد من تطبيقات المواعدة إلى إجراءات واضحة للرضائية الجنسية من خلالها، ما يتسبّب في انتشار العديد من جرائم العنف الجنسي ضد النساء والفتيات عبر هذه التطبيقات فيما وصفته الباحثة إلينا كاما بـ«العنف الجنسي المدعوم بالتكنولوجيا» (Technology-facilitated sexual violence). وأشارت إلينا في بحثها (2021) حول الإساءات الجنسية عبر تطبيقات المواعدة إلى أن هذا النوع من العنف الجنسي تتنوع أشكاله بين التحرش الجنسي والرسائل والدعوات والصور الجنسية غير الرضائية، وكذلك الاعتداء الجسدي والجنسي.
وكذلك تشير الباحثة إلى أن العنف الجنسي على تطبيقات المواعدة لا يتبع الـ«نصوص» (Scripts) التقليدية للاعتداء الجسدي والاغتصاب، الذي تتلخّص صورته الاجتماعية في استخدام العنف الجسدي بمفهومه التقليدي، ولذلك فإن هذا النوع من العنف لا يتم حتى الاعتراف به أو يتم اعتباره مجرد «تجربة سيئة». وتضيف أن تطبيقات المواعدة الإلكترونية لا تعمل بمعزل عن السياق الثقافي والاجتماعي الواقعي، والذي يتسم بالتسامح والتطبيع مع العنف ضد النساء بأشكاله المختلفة بما فيها العنف الجنسي و«ثقافة الاغتصاب» (Rape culture).
وفي السياق ذاته، تعرضت رنا سلام (26 سنة) لتجربة مشابهة، حيث التقت بأحد الأشخاص، والذي تعرّفت عليه من خلال أحد التطبيقات الشهيرة: «كان شخص لطيف ومثقف جدًا اتقابلنا مره واتكلمنا في كل حاجه في الحياه تقريبا ونظرته ليا كانت لطيفة وكان gentleman». طمأنتها هذه البداية في اللقاء الأول حتى أنهما اتفقا على لقاء ثانٍ في اليوم التالي، ذلك قبل أن يستمر في الحديث معها للوصول إلى سؤاله الذي قلب موازين اللقاء حينها «هل ليكي فيتش معين؟ مفيش حاجة معينة بتحبيها»، ارتبكت رنا حيال السؤال الآتي «من العدم» بحسبها: «حسيت ان الكلام هياخد منحنى مش حلو مع واحد حرفيًا لسه مقابلاه من كام ساعة». في اليوم التالي، التقت رنا بنفس الشخص للمرة الثانية على أمل أن «يصلح العك اللي عمله امبارح» خاصة وأنه كان «فى منتهى اللطافة» في البداية، ليبدأ في ختام اللقاء بتلميحات جنسية مجددًا: «جبنا آيس كريم كان بياكله بشكل غريب أوى أو بمعنى أصح كان بيلحسه بشكل غريب، وكأنه بيوصل لى رسالة أو إشارة جنسية»، ليتبعها بسؤاله «مش ناويه تعلى الـlimits (الحدود) بتاعتك شوية؟» تصف رنا هذه اللحظة: «طبعًا أنا جسمي اتلبش ومبقتش مرتاحة»، فطلبت منه الانصراف لتعود إلى منزلها وتحظر حسابه على التطبيق.
تعتقد رنا أن البُنى الاجتماعية الأبوية على أرض الواقع تمتد أيضًا إلى العالم الإلكتروني، وأن الكثير من الرجال على هذه التطبيقات يقومون بنفس الممارسات المؤذية ضد النساء كما هو الحال في الواقع. «كلهم بيحاولو يمارسوا السياسة القذرة إنه يبينلك قد إيه هو شخص نضيف. أنا مره اتقال لي من واحد ‘لازم أقنعها إنى بحبها عشان ترضى أنام معاها أومال هجيبها سكة إزاى‘، مش عارفة ده كبت جنسي ولا فكري!».
ايه اللي وداها هناك؟
«فى ناس أصلاً هدفها من Dating apps هو السكس، وبالنسباهم بقى مش أنت امرأه متحررة يبقى أكيد هدفك هو هدفه وكأن التحرر بيساوى الجنس» تقول رنا، مضيفة إلى أن مجرد الوعي بالأمور الجنسية لدى النساء يتم ترجمته إلى رغبة في إقامة علاقة جنسية، «فانتي لو اتكلمتي فى أي حاجه ليها علاقه بالسكس حتى لو بشكل متحضر فورًا بيتقال she needs to get laid أو يتبصلك بصة مانتي عارفة كل حاجة أهو، هو إيه المشكلة إني أعرف كل حاجة؟».
ضبابية الحدود بين العالم الافتراضي والواقعي التي تمتد من خلالها ثقافة العنف ضد النساء إلى الفضاء الرقمي، يصحبها كذلك امتداد المفاهيم المرتبطة به وعلى رأسها ثقافة لوم الضحية/الناجية، إلا أنها، بحسب الباحثة إلينا كاما، قد تأخذ صورًا مختلفة على تطبيقات المواعدة أهمها «الوصم بالعهر» (slut-shaming)، الذي تتعرض له النساء بمجرد وجودها على هذه التطبيقات.
«مش معنى إني موجودة على أبليكيشن داتنج إني بقولّك يلا ننام مع بعض»، تقول هالة، مضيفة أن وجود المرأة على تطبيقات المواعدة يتبعه افتراض أنها «دي داخلة تشقط أو تتشقط فعادي هي داخلة عشان كدة دة بيخليهم يتخطوا الحواجز. في افتراض إنك طالما هنا يبقى انتي جاية في أي حاجة ودايسة».
سياسات متسامحة مع العنف
أما الباحثة في مجال السياسات العامة ريما عادل (اسم مستعار)، فلم تختلف تجربتها كثيرًا على تطبيقات المواعدة خارج مصر، حيث بدأت في استخدامها وقت دراستها للماجستير بالخارج. في إحدى المرات التي تواصلت فيها مع شخص عبر أحد التطبيقات الشهيرة، وبعد التعارف مباشرة طلب رؤيتها، فرفضت لقائه حتى الانتهاء من التزاماتها الجامعية وحددت له تاريخًا للقاء، لكنه لم يأخذ رفضها كإجابة. «بعد شوية لقيته بيقولي إن الأبلكيشن جايب اللوكيشن بتاعي قريب جدًا له (اتنين كيلو مثلًا أو حاجة). بدأ يسألني أنا في أنهي مبنى دلوقتي في الجامعة وساكنة في أنهي dorms (السكن الجامعي)، قلت له أنا مش في dorms ومش هقول لك أنا فين، فضل يسأل ويقول لي أنا هعدي عليكي دلوقتي، وفضل يلح في سؤاله… قولتله بشكل واضح لأ مش عايزة أشوفك دلوقتي ومش هقول لك مكاني برضه فضل يبعتلي». اضطرّت ريما وقتها إلى غلق التطبيق بالكامل خوفًا من إمكانية هذا الشخص في الوصول إلى مكانها عبر التطبيق.
«موضوع أن لازم الشخص يفتح اللوكيشن بتاعه وهو بيستخدم الأبلكيشن خطر جدًا خصوصًا على الستات وأشخاص مجتمع الميم عين، لأن ده ممكن يعرضهم لتهديدات وخطر من الأشخاص اللي بتكلمهم أو من الأمن»، تضيف ريما.
لكن على الرغم من انتشار هذا النوع من العنف، وعلى الرغم من أن أغلب تطبيقات المواعدة الشهيرة تدعي تبني سياسة «عدم التسامح» (Zero tolerance) مع العنف، إلا أن هذه السياسات ضبابية تشوبها بعض الإشكاليات كذلك: أولًا، إلقاء عبء الإبلاغ على الناجيات وتحميلهن مسؤولية العنف الجنسي الذي يتعرضن له. وثانيًا: لا يوجد آلية واضحة لتعاطي الشركات القائمة على هذه التطبيقات مع الوقائع التي يتم الإبلاغ عنها. «يعني لما بعمل ريبورت على حد ما بيقوليش حتى الرسالة اللي بعتها هي من وجهة نظرهم مخالفة ولا لأ والشخص التاني ده بيحصله إيه»، تقول هالة، مشيرة إلى أن هناك نوعًا من التسامح من قبل هذه التطبيقات مع مثل هذه الممارسات. بالإضافة إلى أن عدم وجود عقوبة واضحة يمكّن المعتدي من التجرؤ أكثر لأن «مفيش رقيب عليه ومحدش هيعرف يعمله حاجة هو مجرد بروفايل وهمي في ثانية هيعمل Unmatch أو بلوك مش هعرف أجيبه تاني». وتشاركها في الرأي رنا كذلك التي ترى أنه «فعليًا هو بيبقى خارج مع حد بالنسباله ميعرفوش أوي لو الدنيا باظت هيتجاهلها أو يعملها بلوك وطز فيها، وبالتالي الأبلكيشن ميقدرش يحمينا كفاية»، على عكس الواقع المادي الذي يمكن أن يفكر فيه المعتدي على الأقل قبل ارتكاب مثل هذه الجرائم نظرًا لإمكانية الوصول إليه بطريقة أسهل نسبيًا عن الإنترنت.
بالإضافة إلى ذلك، لا تهتم أغلب التطبيقات بالعمل على رفع الوعي فيما يتعلق بمفهوم الرضائية الجنسية، أو توضيح سياسات التعامل مع جرائم العنف الجنسي التي تحدث من خلالها إن وجدت. وبالتالي لا تحصل النساء على معرفة كافية حول الإجراءات المتبعة حيال تلك الوقائع أو النتائج المترتبة عليها، مما يؤدى إلى استمرار إفلات المعتدين من العقاب، وبالتالي إعادة إنتاج ديناميات القوى الاجتماعية بما تتضمّنه من عنف ضد النساء في العالم الافتراضي كما هو الحال في الواقع المادي.