بعد أن عرضنا لمسألة القسمة الإيقاعية للأعمال في العصر العباسي، وتطوُّر الأنغام المُستعمَلة عبر القرون، نتناول الآن الاختلافات التي عرَضت لقوالب التلحين وابتعدت بها عن الإطار العباسي الذي أشرنا إليه بادئ الأمر، ثم لمبدأ تنظيم عدد من هذه القوالب في «وصلة» واحدة.
ومن معضلات فَهم ما كتبه الأقدمون في شأن الموسيقى استخدامهم اللفظ نفسه لمعانٍ مختلفة؛ مثل «دور» للإيقاع وكذلك للجنس النغمي، ولاحقاً لقالبٍ موسيقي ولجزءٍ معيّن من أكثر من قالب، و«بحر» ويُعنى به أحياناً الإيقاع وأحياناً الجنس النغمي، و«بردة» ويُعنى بها أحياناً درجة موسيقية وأحياناً ما يشبه المقام… إلخ. إلى ذلك، حُفظت بعض الأسماء، وإن بتفاوتٍ في المسميات إما بسبب اختلاف المكان أو بسبب اختلاف الزمان، فيمكن لجنسٍ باسم معينٍ، مثل «العشاق»، أن ينتقل مما يوازي العجم (أو الماجور) في الماضي إلى ما يوازي النهوند (أو المينور) اليوم، ويمكن لاسم قالبٍ موسيقي محدد، مثل «البسيط»، أن يعني شيئاً في بغداد وشيئاً آخر في القاهرة في العصر نفسه أو في عصور مختلفة.
لذا قد يكون من الأفضل أن نعرض لتصنيفات القوالب عرضاً زمنياً مُتدرِّجاً بحسب العصور والكُتّاب، وليس لكل قالب على حِدة، وذلك لفهم العلاقة في زمنٍ ومكانٍ مُعيَّنَين بين قالبٍ وآخر واختلافهما. ويمكن أن نعرض إثر ذلك لمبدأ تنظيم نوبة أو وصلة تضم عدداً من القطع على نسق تَراتُبي محدد.
أـ العصر العباسي الوسيط: فن «الصوت العباسي»، والحسن الكاتب وابن الطحان
لا تُسعفنا الكتابات الأقدم (الكندي وابن المنجم وما روي في الأغاني وعند الفارابي وحتى ابن سينا) كثيراً في معرفة تفاصيل قالب «الصوت» بحسب ما كان يُسمَّى اللحنُ في العصر العباسي، سوى أن فيه بسيطاً ونشيداً، وأصل «الإنشاد» يعني رفع الصوت بالكلام، وورد عند الشافعي والتوحيدي مصطلح «نشيد الأعراب» الذي أجاز الشافعي الاستماع إليه، وأضاف الواحدي أنَّ ذلك جائز «وإن أنشد في الألحان في الحداء وغيره» فهو لا يُعتَبر من «الغناء المحض»، الذي قد يعتبره الفقهاء مدعاة للفتنةينظر مقالنا «فرضيات حول أصل العروض الشعري وعلاقته بالغناء الجاهلي» (على موقع الورشة) في شأن أنواع الغناء الجاهلي وتطورها.. ونجد فيه أحياناً صيحة وهي ربما توازي ما صار يعرف لاحقاً بالميانات (ولا تزال هذه مستخدمة عند قراء المقام العراقيين)، على ما نرى من وصف كتاب الأغاني لابتداء إسحاق الموصلي الملقب بالملسوع «لأنه يبدأ بالصياح في أحسن نغمة فَتَح بها أحد فاه، ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحاً وينزلها تنزيلاً…». لكن الفارق بين البسيط والنشيد لم يوضّح بالقدر الكافي فيها، على حد علمنا القليل، ربما لكونه عندهم بديهي الوضوح.
بدايات الصوت العباسي
يبدو أن الصوت بدأ لحناً غير معقد، ففي أخبار ابن عائشة (المتوفى في أيام الوليد بن يزيد، كما رواها فضل الله العمري في مسالك الأبصار) أنه أُجبِرَ على غناء مائة صوت في جلسة واحدة. وهذا لا يكون إن كان الصوت يتجاوز الدقيقتين تقريباً. ويبدو أن الصوت في الأصل لحن بيت واحد، وكانت تتكرر عليه بقية الأبيات إذا لزم الأمر. ويروي صاحب كتاب الأغاني إن ابن محرز هو الذي جعله يمتد على بيتين، ويُفهَم من ذلك أنه جعل اختلافاً في اللحن بين البيتين (كمثل ما أشار إليه الفارابي من الانتقال إلى طبقة أخرى، أو ما أشار إليه ابن الطحان، في الباب الثامن من كتابه، من إدخال صيحة أو سوى ذلك).
ولعل هذه الإطالة أدّت إلى بدايات تمايُز البسيط والنشيد في «الصوت»، رغم أن الفارابي القريب زمنياً لا يشير إليهما بالتفصيل، بل يكتفي هو (الموسيقى الكبير، ص967 وما يليها) وابن سينا (جوامع علم الموسيقى، ص.69 وما بعدها) بالحديث عن احتمالات تركيب الجملة الموسيقية نفسها وشروط ائتلاف نغماتها كما أسلفنا، وسيرها (وهو ما سبق إليه الكندي أيضاً في رسالة في خبر صناعة التأليف، كما نجده أيضاً عند الحسن الكاتب ص. 73 وما يليها) وسير هذه الجملة سواءَ كانت مستقيمة الصعود أو الهبوط أو راجعة إلى مبتدئها أو إلى غيره، أو قافزة درجتين درجتين، أو لولبية أو على هيئة ضفيرة… إلخ.
أما في الحديث عن ابتداء الألحان، وهو قد يكون صياحات وشحاجات (ووردت في مخطوط مفاتيح العلوم لأبي عبد الله الخوارزمي، نسخة جامعة لايدن، بلفظة سجاحات وقد تكون الأصل الأصح)والسجح في اللغة اللين، والعرب تستعمل مفردة «اللين» للإشارة إلى الثقل في النغم نقيضاً للحاد. والشحاج صوت البغل والحمار والغراب إذا أسن، وقد يستعار للإنسان أيضاً، وربما لذلك استُعير لوصف القرار الغليظ في الأصوات، أو قد يكون ذلك تصحيفاً لشجاح فقد روى ثعلب عن إسحاق الموصلي أن العقعق يقال له: الشجحى (لسان العرب).؛ أي صيحات على الطبقات الحادة أو تَرنُّم على الطبقات الخفيضة الثقيلة بلا كلمات. أما إن كان الابتداء بكلمات فيبدو أن الفارابي يعتبر أن «الاستهلال» هو ما كان جزءاً يسيراً من الكلام، أو أصغر من الجزء الأوسط، فإذا طال فصار جزءاً أوسط فهو «النشيد». ويبدو من كتاب الفارابي أن الاثنين، الاستهلال والنشيد، يتميزان باقترابهما من الكلام «على مجرى العادة»، أي أنهما مُنغَّمان (مقرونان بنغمات لحنية) لكن دون مدٍّ نغميّ مُطوَّل (ص. 1059 وص. 1162)وهذا يتوافق مع ما أشرنا إليه في مقالتنا عن أصل العروض والغناء الجاهلي من أسلوب إنشاد النصب، بينما يقترب البسيط من وصف إسحاق لما كان يسمى بالسناد. فلعل «الصوت» العباسي كان إذن تطوراً للنصب والسناد من جراء التفاعل مع موسيقات الأروام والأعجام وغيرهم.. ويبدو أيضاً من كتاب الأغاني، في خبر نقد الوليد بن يزيد لمعبد ولابن عائشة، أن الاستهلال (وهو ما يأتيه الأخير) نقيض ولولة الأول، وقد يعني ذلك هدوء الاستهلال وانخفاض نبرته. ولم تكن كل الأصوات تتضمّن «النشيد» بحسب ما يورد الأصفهاني. ولعلَّ النشيد كان بالفعل تنغيماً غير معقد، حيث إن إسحاق الموصلي عندما أرسل إلى إبراهيم المهدي لحناً صنعه، «كتب إليه بشعره وإيقاعه وبسيطه ومجراه وإصبعه» (والتشديد منا)، لكنه لم يذكر نشيده. ومن قبيل ذلك أيضاً ما ورد في كتاب الأغاني في أخبار زياد الأعجم من أن لابن جامع في أربعة من أبيات زياد غناءً «أوله نشيد كله، ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث»، فكأن النشيد يكون خالياً من الصنعة.
والفارابي لا يوضح مسألة إيقاعية الاستهلال والنشيد، فهو يقول إن «المبادئ»، أي بدايات الألحان، قد تكون بإيقاعات أو من دون إيقاعات (ص. 1163). ولسنا نعلم إن كان سبب ذلك اعتبار النشيد ما أتى بدون إيقاعات، واعتبار المبادئ المُلحَّنة هي التي في الأصوات المصنوعة بدون نشيد. كذلك لم يذكر أحد لنا سبب تسمية جزء «البسيط» بهذا الاسم. لكنه ربما كان من بسط الصوت وبسطته، بمعنى مدّه وسعته وزيادته، أي بعكس قصر النغمات المستعملة في «النشيد» على ما نستشفُّ من الفارابي. أو ربما كان ذلك على علاقة بالإيقاعات، إذ يُروى في كتاب الأغاني في وصف إسحاق الموصلي أنه كان يتصرف في «بسط الإيقاعات» (مفردها بساط). فبخلاف من اعتبروا النشيد كلمات «غير مُنغَّمة»، يوضح الفارابي (ص. 1173) أنَّ المبادئ «تُزيَّن بالغنّة وبترجيح نغمها في الصدر وبإبدال الشحاجات [أو السجاحات]، وخاصة إذا ما كانت المبادئ نشائد، ثم من بعد ذلك بشيء من النبرات والشذرات يسير» (والنبرات والشذرات عموماً نغم قصار ناعمة منخفضة، ص. 1173). فيبدو من ذلك أنها مُنغَّمة، ولكن بمد قصير لا يزيد على «مثل زمان النطق بوتد»، خفيفة وخفيضة، وهذا يُذكِّر بما أوردناه عن ابن عائشة.
كذلك لا نعرف بالضبط إن كان النشيد ارتجالاً، وإن كان تعقيد «البسيط» عموماً يشير إلى غير ذلك. إذ ليس من إطارٍ نظري للارتجال في المخطوطات القديمة، ولا يبدو أنه كان يعتبر أساسياً في الحكم على جودة الأداء وحذق المغنين (بعكس ما ذُكر حول تفخيم النغمات وتجويد المقاطع وإقامة الإعراب وما إلى ذلك). بل إن الشرواني يعتبره على ما سنرى لاحقاً أخفَّ أنواع التصانيف. ولا شيء يوضح إن كان «التقسيم»، أي العزف الآلي الذي يشير إليه ابن الطحان (الباب العشرون)، ارتجالاً أم مجرد أداء لنغمات مُلحَّنة مسبقاً (بل وقد يغلب عليها أن تكون نفس لحن غنائي مشهور على ما يفهم من كلام الحسن الكاتب في وصف «طرائق» الفرس والخراسانيين). أما ما يُقال عن ابن عائشة، مثلاً في كتاب الأغاني، إنه كان مرتجلاً، فإن التدقيق في الموضوع يوضح أن القصد هو إقامة تقابل بين الضاربين بالعود وبين الآخرين الذين لا يعتمدون على آلة وترية في التلحين والغناء، بل يضربون الإيقاع بالقضيب (مثلما أورد الفاكهي عن ابن سريج) ويغنون، على الأرجح، واقفين على أرجلهم. ففي كتاب الأغاني مثلاً يُذكَر عن ابن عائشة أنه قيل عنه «كان مُرتجِلاً ولم يضرب قط»، ومثل ذلك عن سائب خاثر ويحيى المكي وغيرهم. والفارق بين الضارب (بالعود أو بالطنبور) وبين المُرتجِل (أي المغني الذي لا يعرف الضرب بآلة نغمية) يتجلى إذن في أن بإمكان الضارب الإتيان بأشكال أعقد من التلحين على ما يبدو من خبر ابن بانة، الذي قدم صنعةَ علويه على صنعته الخاصة مبرراً «لأنه ضارب وأنا مُرتجِل» (كتاب الأغاني)، وكذلك من خبر إسحاق لمّا امتحنه الخليفة بمعرفة صاحب لحن، فقال «لما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة» (كتاب الأغاني). ولا يبدو مما سلف أن صفة «المُرتجِل» هذه مرتبطة بالغناء على البديهة.لا إشارة إلى الارتجال في قواعد ابن سريج عن الغناء: «المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان ويملأ الأنفاس ويعدل الأوزان ويفخم الألفاظ… إلخ». بل إن الارتجال ليس معتبراً مضماراً للمنافسة بين عازفي العود، حيث يخبرنا الأصفهاني عن مباراة عند الخليفة الواثق بين اثنين من كبار ضاربي العود البغداديين، زلزل وملاحظ، فتنافسا في عزف ألحان معروفة.
لكن ذلك لا يعني امتناع الارتجال بالمعنى الذي نفهمه اليوم، أي ابتكار النغم بالبديهة وفي اللحظة، امتناعاً مطلقاً، وإن كان على ما نحسبُ يُعتبَر من الأمور الخفيفة (وظل كذلك حتى القرن الخامس عشر للميلاد) بشهادة الشرواني. ففي كتاب الأغاني أيضاً أن يزيداً المهلبي أنشد الخليفة المنتصر أبياتاً له فأمر الخليفة جاريته عريب أن تغني البيتين الأولين منها نشيداً، والثالث بسيطاً. ولا يبدو من هذا الخبر ومن أمر الخليفة أنها كانت تعرف هذه الأبيات مسبقاً، بل يبدو أنه طلب منها أن ترتجل صوتاً، بنشيده وبسيطه، في لحظتها، وروي مثل ذلك عن ابن جامع.
ولعل الحسن الكاتب وابن الطحان يُتيحان لنا فهماً أفضل لما كان في عصرهما المتقارب، رغم اختلاف أمكنتهما، إذ نُرجِّح أن الحسن الكاتب أقربُ إلى العراق وإلى التأثُّر بالفارابي من ابن الطحان مغني الدولة الفاطمية في مصر.
الحسن الكاتب
سبق أن رأينا مسألة قسمة الكلام الشعري إلى أجزاء، وتلحينه بحيث يكون هنالك فواصل إيقاعية بين هذه الأجزاء، وهي مقاطع الأجزاء، التي يمكن أيضاً التنفس فيها أو استخدامها كقفلة للجملة (ابن الطحان، الباب السادس والثلاثون، والحسن الكاتب باب «ترتيب اللحن»). لكن يبدو من كتاب الحسن الكاتب أن الصوت لم يكن كله ملحناً على النسق نفسه، بل كان يتألف من «نشيد» و«بسيط» كما أسلفنا، وهذان سيختلف معناهما في القرون التالية.
فهو يذكر، وينقل أيضاً عن الكندي، أن النشيد ما ابتُدِئَ في أول أبيات شعره أو في أقسام كلامه (إذا لم يكن شعراً) بكلمات غير مُنغَّمة، والاستهلال يبدو أنه أقصر فقط (وهذا قريب من قول الفارابي) فهو ما ابتُدِئَ في اوله بكلمة غير مُنغَّمة، أي إنه يكون «مرسلاً» بحسب قوله (ص 82). لكن «غير مُنغّمة» هنا قد يكون معناها أنها مرتجلة وليست ملحنة مسبقاً، أو قد يكون معناها إنها غير موقّعة، لكن لا يمكن الظن بأنها مجرد إلقاء عادي لكلامٍ يُتلى، خاصة أن ذلك يتناقض مع وصف الفارابي للنشيد بأنه مُنغَّم دون مدّ متطاول، وإلا لما كان من معنى لوضعها داخل قالب غنائي، خصوصاً إذا ما عرفنا أن بالإمكان أن يقع النشيد في غير بداية الصوت نفسه، بل في بداية البيت الثاني مثلاً على ما سنرى. فالحسن الكاتب يقول (ص. 83) إن النشيد يكون من البيتين في واحد، ومن الأربعة في اثنين إما متواليين وإما غير متواليين، وهو قد يصل عند «الطنبوريين» إلى خمسة أبيات، «وأما ما زاد على ذلك فلا يستعمله إلا أصحاب القصائد»، لأنهم في ظننا كانوا يلقون الشعر بـ«رندحة»، (كما يقال الزجل الشعبي)، أو تنغيم غير موقّع بانضباط على أطقم الإيقاع في عصره. وتُعزز هذا الافتراضَ تطوراتُ «النشيد» لاحقاً (ينظر أدناه).
وعلى أطراف هذين، النشيد والبسيط، يمكن أن تقع التوطئة وهي أن يُبتدأ قبل الصوت بصيحة أو بترنُّم أو بنُغَم مُؤلَّفة. والصيحة عموماً تكون تزييناً صوتياً يبدأ في منطقة الجواب، وقد تكون «أشد موضعٍ» في اللحن، بمعنى أحدّ درجة. وفي آخره يمكن أن تكون «التشبيعة» (أو ربما كانت التشييعة)، وهي تقع «بعد آخر اللحن»، ويُشترط فيها أن تكون مخالفةً بشكل ما لما سبقها، وربما خالفته في أن تنتمي إلى جنس لحني مختلف عن جنس القطعة كلها أو بحسب قوله «من غير المواضع التي أخذت منها بقية اللحن» (الحسن الكاتب ص 80، ويذكر هذا بالفارابي)كانت «التشبيعة» تعني عند الفارابي أنواعاً من الزخرفة تتضمن استخدام درجات خارجة عن السلّم الأساسي (ص.963). ولعل التشبيعة مرتبطة إذن بالنغمات التي يقول الفارابي إنها ترد في موضوع «نقرة الاعتماد» التي تقع في فاصلة الإيقاع لكونهما كلتيهما من خارج السلّم الأساسي (ص.1160 و1167)، ولعل هذا يوضح إذن قول الحسن الكاتب إنها تقع «بعد آخر اللحن»، أي في فاصلته.، وربما كانت «في الأوتار» أي عزفيةً فقط. وهنالك إشارة أخرى إلى أعمال عزفية غير مُغناة، هي الطرائق، وهو يقول إنها عند الفُرس في أغلب الأحيان «مُحاكية لألحانهم»، فهي تُعزَف أولاً ثم يُغنَّى بنفس اللحن. لكنه يشير أيضاً إلى «أحسن طرائق الفرس» وهي طرائق و«دواشين» (أو دواسين) فارسية وخراسانية لا يُغَّنى عليها (ص. 137).
وتنتظم الأصوات لدى الحسن الكاتب (ص.126ـ127) في متتالية يسميها «الهزاز» ويقول إنه كان يسمى عند القدماء «أقساطاً»، وأن على الألحان التي تُغنَّى في هزاز واحد أن تكون «متشابهة متقاربة». أما مضمون «الهزاز» فقد يكون ما أشار إليه من أن على المغني أن يبدأ بالألحان الثقال، أي «أن يستعمل الأجناس الثقال من الإيقاعات والألحان»، والقصد الألحان البطيئة المعقدة، و«يختم بالأرمال والأهزاج» وهي مقطوعات أسرع وأخفّ.
ابن الطحان
لا يشرحُ ابن الطحان الفارق بين النشيد والاستهلال، فيبدوان عنده متوافقَين، إذ يقول إن بالإمكان ابتداء الصوت بأحدهما، (الباب التاسع عشر). وقد لا يكون الفرق إلا في طول النشيد مقارنة بالاستهلال الذي رأينا عند الحسن الكاتب أنه أول كلمة فقط، (وهذا شبيه بما يعرضه الفارابي، الموسيقى الكبير ص. 1162، من انحصار الفارق بين الاستهلال والنشيد بطول ما يستغرقه النشيد مقارنة بالاستهلال). كذلك لا يلتزم ابن الطحان باعتبار الصوت من بيتين، فهو قد يكون من أربعة أبيات مثلاً (وهو ما يقوله الجاحظ، في رسالة القيان، في وصف الحاذقات من الجواري اللواتي يحفظن أربعة آلاف صوتٍ فصاعداً، وكل صوت ما بين بيتين إلى أربعة)، ويجوز أن تدخل الصيحة بعد آخره، لكن يجوز أيضاً في البيت الثالث أو الرابع إدخال صيحة أو انتقال نغمي يخص ذلك البيت، بشرط ألا يخرج طوله الإجمالي عن طول الأبيات الأخرى، أي أن تحل هذه الصيحة محل قسم نغمي يتم حذفه.
ويستفيضُ في الحديث عن مواضع التنفس وأهميتها وارتباطها بمقاطع أجزاء اللحن وفاصلته، ويشير أيضاً إلى التشبيْعة التي رأيناها عند الحسن الكاتب، لكنه يُورد تعريفاً مختلفاً تماماً لها، إذ لا يشرطها بأن تأتي بعد ختام اللحن، بل هي إشباع (أو تشييع) «مقطع الصوت»، أي القفلات، باستعمال النغم والزوائد، فكأن التشبيْعة عنده هي قفلة غنية معقدة لأي جزء من الجملة.
وكما عند الحسن الكاتب، نرى نشيداً وبسيطاً عند ابن الطحان يتركبان بأشكال مختلفة، فالمُصرَّع هو ما كان نشيداً في أول مصراع من البيت وبسيطاً في الثاني، ثم يتكرر. ويشير ابن الطحان إلى نوع آخر هو «الماست»، حيث يُنشَد بيت ويُبسَط بيت، والمزدوج حيث يُنشَد بيتان ويُبسَط بيتان (وسنرى أن هذا سيصير اسمه لاحقاً «نشيد العرب»)، والمُسهَّم يقع فيه النشيد بين بسيطين، وهنالك نوع نقيض له لم يذكر اسمه، والمعكوس أول مصراع منه بسيط والثاني نشيد.
وتلتئم الألحان عنده في «بساط» (الباب الحادي والعشرون)، ولعله مصطلح آخر للتعبير عن «الهزاز» أو «الأقساط» التي رأيناها عند الحسن الكاتب. وأقل ما يكون «البساط» تتابعُ ثلاثة ألحان من نفس النغمةعلى أن في كتاب الأغاني أيضاً، في ذكر إسحاق الموصلي، إشارة ذكرناها إلى معنى آخر للبساط، هو «بساط الإيقاعات» الذي يتصرف فيه إسحاق بقوة. وليس من غير المُعتاد في الكتابات القديمة استعمال المصطلحات بمعانٍ متعددة، كالدوائر والبحور وغير ذلك.، وإلا فمن نغمات متقاربة، ولا يشترط فيها أن تكون من نفس الإيقاع. وهو يحذر من الانتقال من نغمة إلى أخرى بعيدة عنها في بساط واحد، ويرى واجب الانشغال أو التشاغل، في مثل هذه الحال، كي لا يحصل نفور للآذان من مثل هذا الانتقال.
وهذه المرحلة من العصر العباسي في ظننا هي الأبعد عن الممارسة الحالية، إذ تتميز، في رأينا بدور كبير للفواصل الإيقاعية، وبتناظُر نقرات الإيقاع ودرجات النغم (وهذا يعني أن الزخرفات الإيقاعية التي يعرضها الفارابي هي أيضاً نماذج على الجمل الميلودية)، وبتمييزٍ مرجَّح بين النشيد بمعناه العباسي (المُرتجَل، أو غير المُوقَّع، أو القليل الصنعة والتفنن، فهو قد يكون بإنشاد أقرب ربما إلى النصب الجاهلي وأكثر اقتراناً بإيقاع تفاعيل الشعر) والبسيط (وهو الذي يكون فيه الصنعة والعمل والإيقاع المتفنن). وهي أيضاً المرحلة التي شهدت بدايات تكوين «النوبة» (أو الوصلة). وقد تميزت بالتعقيد النظري وبعدد كبير من المصطلحات لوصف أنواع الزخرفة وتقنيات الغناء المستعملة من أجل «التأثير» في المُستمِع و«مشاكلة المعنى».
ب ـ نهايات العصر العباسي (المدرسة المنهجية وابن كر)
لا يشير الأرموي إلى القوالب الموسيقية المستخدمة في عصره. فيقول في كتاب الأدوار إنه دوّنَ «الطريقة» (وهي غالباً استهلال عزفي آلي بسيط بحسب الأمثلة التي قدمها) و«الصوت» في لحني «على صبكم» و«على الهجر»، لكنه لا يوضّح مدى ارتباط هذا الصوت بقوالب الغناء آنذاك، فضلاً عن بساطة هذه الأصوات نفسها، إلى درجة أنه بالإمكان اعتبارها مجرد تمرين أو مثال على القدرة على تدوين الألحان، في مقابل تعقيد ما نسبه قطب الدين الشيرازي (ت.1311، له درة التاج) من «قول» إلى الأرموي (والقول على ما سنرى في شرح مبارك شاه هو لحن مكتمل معقد متعدد الأجزاء) وهو «يا مليكاً يطيب به زماني».
ونجد بعد الأرموي في فترة قريبة منه، نحو منتصف القرن الرابع عشر للميلاد، مخطوط ابن كر غاية المطلوب، وشروحات لكتاب الأدوار للأرموي، منها شرحٌ منسوب إلى مبارك شاه، وهي مصادر يمكن أن نستشفَّ منها بشكل أوفى القوالب الموجودة آنذاك.
ابن كر
يورد ابن كر تعريفات للبسيط والنشيد والخفيف والبيشرو، ويمكن أن نستخلص من هذه القوالب معياراً مُركَّباً للتصنيف (معيار كلامي شعري، ومعيار إيقاعي وزني)، دون القدرة على الإحاطة بتفاصيل كل قالب.
فالبسيطُ هو «ما ليس بشعر»، ويُستعمَل قبل البدء بالنشيدوتسمية البداية بالبسيط وما يليها بالنشيد تبدو مخالفة لما ورد عن الموسيقى في عهد إسحاق الموصلي، لكنها ربما تعكس الاستعمال اللاحق، ففي «تلبيس إبليس»، يورد ابن الجوزي (ت. 592 هجرية، 1195 م.): «ولهم شيء يسمونه البسيط يزعج القلوب عَنْ مهل ثم يأتون بالنشيد بعده فيعجعج القلوب».، وهو يسمى «استبداء» إذا كان مُوقَّعاً ويسمى عنده «بيشرو» إذا كان غير مُوقَّع. وقد يكون المقصود بـ«ما ليس بشعر» هو أنه خالٍ من الأبيات الخليلية، فهو كلامٌ غير موزون، وهذا يتقاطع مع بعض تعريفات البيشرو، أو قد يكون المقصود إنه ليس بكلام، بل هو عزف آلي، وهذا أحد معاني البيشرو الأخرى كما سنرى، أو ربما كان أمراً ثالثاً من قبيل الترنُّم بألفاظ لا معنى لها (كالتن والتان والتننن) وهذا أيضاً من معاني البيشرووكتابة الأسماء غير مستقرة عموماً فالبيشرو يرد بصيغ متعددة منها بيش رو، بشروه، بشراو، بشرون، على ما سنرى، كما ترد الميانخانة بصيغة الميخانة قبل أن تصير الخانة فحسب. على ما سنرى، لذا لا يمكن في الواقع الجزم بمقصده.
أما النشيد فهو شعرٌ مُلحَّن إلا أنه غير مُوقَّع، أو بعضه على الأقل غير مُوقَّع. ولعل هذا يوضح معناه البغدادي الأسبق واختلاف النشيد عن البسيط عندهم، حيث قد يكون معنى النشيد البغدادي انتقل غرباً إلى ابن كر في مصر، كما أن معنى البسيط البغدادي انتقل باسم مختلف إلى «المدرسة المنهجية» أو النظامية شمالاً وشرقاً على ما سنرى.
وأما الخفيف فشعر ملحن موقّع على ما يبدو، وأقله بيتان، فإذا التزما نفس اللحن فهو الساذج، أما إذا اختلف مطلع البيت الثاني (ويسمى الوسطاني، وهذا يذكرنا بـ«صوت الوسط» أو الميانخانه عند مبارك شاه و«المدرسة المنهجية» على ما سنرى) عن لحن البيت الأول، فهو الخفيف، وهذا يشبه أن يكون قالباً من صيغة «أ أ ب أ» التي سنجدها لاحقاً في البستة التركية وفي بعض الموشحات الغنائية المشرقية لا سيما المتأخرة.
وتجدر الإشارة إلى صديق الشيخ ابن كر، فضل الله العمري (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار)، الذي يذكر «البيشرون»، وهو يبدو لفظاً قريباً من البيشرو، إلا أنه يورد تعريفاً مغايراً تماماً عن تعريف ابن كر له، فهو يقول إنه «أنغام تطول على مقدار بيت الشعر ويقبض على وسع عبارة فيسدّ بأنواع من الكلام الملفق الذي لا يُحصَر بوزن ولا قافية» (وسنرى في تعريفات البيشرو لاحقاً ما يقارب هذا الوصف). ويضيف إنه سأل عنه «الإمام حجة العرب أبا عبد الله بن الصائغ الأموي المروي» الذي أجابه «هذا لا يتخرج ولا يُوزَن إلا بالنغم مثل الموشحات إذا كانت غير شعرية»، ويضيف العمري أن «هذا الغناء يستلذ في المشارب وحانات القصف، ولأهل مصر به ولوع وعليه وقوع ولا يليق الغناء به في مجالس الملوك والكبراء»، وأنه أصلاً من ابتكارات أبي سعيد الفارسي (لا معلومات عنه) وأنه يقال بالفارسية عدا أربعة «أصوات» عُثِرَ عليها بالعربية.
المدرسة المنهجية
في شرح مبارك شاه لكتاب الأدوار للأرموي (محفوظ في بريطانيا ومتاح على موقع المكتبة الوطنية القطرية)، يشار إلى «النوبة المرتبة» في صيغة أصل لما ستصير إليه في أيام المراغي. فيذكر مبارك شاه وجود أعمال عزفية آلية خالصة، مثل الطرائق التي أشار إليها الأرموي وقبله ابن سينا وكل من الفارابي والحسن الكاتب، اللذين أشارا إلى مثل ذلك في أعمال الفرس والخراسانيين مما سمي بالدواسين أو الدواشين، وإن كان الحسن الكاتب يقول إن معظمها هو نفس الألحان المغناة (ص.137)، فما كان منها موزوناً سمي بيشرو أو بيش رو بعد أن كان يسمى «الطريقة»، وهذا على النقيض تماماً من تعريف البيشرو عند ابن كر. أما ما كان غير موزونٍ منها فيسمى النواخت، وهو ما سيَصير لاحقاً اسم إيقاع سباعي الوحدات.
ويشير الشارح إلى النوبة المرتبة وهي عنده ثلاثة أقسام فقط (وسنرى أنها ستزيد على ذلك لاحقاً) هي القول والغزل والترانة (أو الطرانة أو الترن على ما كتب البعض). وفي المخطوطة على هامش الشرح نقرأ أن الترانة تكون شعراً فارسياً من بحر الرباعي وينبغي أن تكون مملوءة النغم أو مختلطته (أي عملياً أن يقترب عدد حروفها من عدد أنغامها فلا تطول مدد الحروف كثيراً). على أن هذا مختلف عمّا يورده عسكر الحنفي الحلبي من أن الترن (ويرد أحياناً الطرن وهو ربما الترانة) هو «ترنّم» (أي بألفاظ غير ذات معنى، مثل دير وتان) أبدع فيه المراغي الذي يشير إليه الحلبي باسم عبد القادر الأصبهاني (وربما كان الترن هو نفسه ما يورده الخلعي بصيغة «ترل» في تعليقه على موشح «يا ليلة الوصل وكاس العقار»). وهو مختلف أيضاً عما يورده السيلكوني أن الترانة تكون على وزن «أهواك ولو ضنيت من أجل هواك»، ولم يذكر أنها بالفارسية. وأما الغزل والقول فهما، بحسب مبارك شاه، من فصيلة الألحان المغناة المكتملة التي ليست قليلة الأجزاء، أي أن الصنعة فيها معقدة، ومن شروطها (ومعها الترانة) أن تكون في إيقاع الثقيل أو إيقاع الخفيف، وهي إيقاعات صعبة نسبياً. وارتباط «القول» و«العمل» بإيقاعات محددة سيشير إليه أيضاً اللاذقي في زين الألحان.
أما اللحن الذي يكون خارج إطار النوبة المرتبة فهو يَذكُرُ أنه قليل الأجزاء، وربما قَصَد أنه غير معقد، ويسمى «صوتاً»، وهذا يشبه في الحقيقة الأصوات التي دونها الأرموي. وأما اللحن الذي يكون فيه مقابل كل حرف نغمة فهو «البسيط» (ويشبه هذا ما فهمناه من الفارابي عن «النشيد» البغدادي). ويورد تعريفاً آخر للبسيط وهو طريقة (أي عزف آلي) وتشبيعة (أو هي ربما تشييعة) تُغنّى بالشعر العربي، وليس مفهوماً هنا ما هي ميزات التشبيعة، وهل هي نفسها اللحن البسيط المشار إليه قبلاً أم أن المقصود فقط أنها لحن النهاية (التشييع؟) أو أنها تكرار الطريقة لكن غناءً.
والتشبيعة المذكورة تؤثر في تصنيف الأعمال المنتمية إلى إيقاعات غير الثقيل والخفيف، فتشير إلى احتمالات لقوالب مختلفة. وهو لا يقدم لها تعريفاً واضحاً، غير أن ما يمكن أن نستشفّه هو أنها حين تقرن بغيرها تعمل كلحن ثالث ربما يختلف عن لحن المطلع (ويسميه قطعة)، ويختلف بالتأكيد عن صوت الوسط (أي الخانة أو الميخانة أو الميانخانة)، ذلك إنه يشير إلى قالب يسميه «كل الضروب» باعتباره تتعدد فيه الإيقاعات في التشبيعة، فلو أنها كانت لحن المطلع نفسه لما كان لمثل هذا التعريف معنىً إلا أن تكون لعباً من عازف الإيقاع، لا من الملحن، على نفس اللحن، غير إنه يضيف شرطاً إضافياً هو تَوافُقُ اللحن الإجمالي للتشبيعة مع الإيقاع الأصلي، فكأن مجموع الإيقاعات المختلفة ينبغي أن يكون من مضاعفات زمن الإيقاع الأول وكأن الإيقاع الأصلي لو كان استمرَّ «لم يسقط»، أي أن اللحن يظل متسقاً معه. وبالتالي يمكن أن يكون ما يسمى «كل الضروب» تزييناً إيقاعياً وليس قالباً غنائياً منفصلاً بنيوياً.
ويقول إن «العمل» يكون من قطعتين وصوت الوسط والتشبيعة، أما إن كان دون تشبيعة، أي ما كان من لحنين فقط، فهو «النقش». وهذه التسمية تذكِّرنا بتصنيف الموشحات اللاحق في حلب حيث تطلق تسمية «النقش» عى ما كان من ثلاثة ضروب (بحسب السيفي، الذي يقول إن الزنجير يكون من أربعة ضروب فصاعداً)، بينما يُسمى ما كان من إيقاعين «ضربين» (أو «نيم نقش» بحسب السيفي)، ويسميه مبارك شاه «ذا الضربين» وهو بحسبه الذي فيه نوعان إيقاعيان في كل دورة إيقاعية، ولكن هناك أيضاً «النقش بستة» في التعريف العثماني، وهو أحد أنواع القوالب اللحنية المتفرعة عن البستة، ويكون غالباً على البنية التالية «أ ـ ب ـ ترنم ـ ج ـ ب ـ ترنم». Ismail Hakki Özkan, Türk Mûsikîsi Nazariyati ve Usûlleri, Istanbul 2020, p.106
ويشير مبارك شاه أيضاً إلى «كل النغم»، وهو عمل تتعدد فيه الأنغام المستعملة فتدخل كلها أو بعضها في اللحن، أي يكون فيه انتقالات مقامية كثيرة، وهذا يذكرنا بالتفنن الذي وَرَد عند ابن المنجم، الذي ينتج عنه المرور على كل درجات إسحاق الموسيقية العشر، أي بما في ذلك المتنافرات من الوسطى والبنصر. وكذلك يذكر مبارك شاه نشيد العرب ونثر النغمات، لكن دون تعريف واضح، غير أن الشرواني سيُرشدنا إليها بعده بنحو قرنٍ.
ج ـ ما بعد بغداد، شمالاً وغرباً
لاحظنا في عرض الحصكفي للمقامات تغييراً جذرياً عن طريقة «المدرسة المنهجية» في عرضها وضيقاً في مداها النغمي (حيث يورد البعض منها على أنه من ثلاث درجات فحسب)، وغياباً للجانب النظري في عرض الأجناس وتوحيد منطقها، وهذا يدلّ على غياب تأثير الأرموي وتابعيه فيه، وقد تبع كثيرون إِثرَ ذلك أسلوب الحصكفي، أو ربما كان بينهم وبينه مصادر مشتركة أو تقليد محلي مشترك، وفي ذلك دليل على ضعف حجة القائلين بانتشار «المدرسة المنهجية» وهيمنتها، خاصة إذا ما أضفنا إلى هذا وجود تقاليد محلية أندلسية أشار إليها التيفاشي معتبراً إياها امتداداً ضئيلاً للغناء القديم، وأخرى قاهرية (ابن كر) معاصرة تقريباً للشروحات المشهورة على الأرموي.
لكن يمكن عملياً اعتبار رسالة الشرواني في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد نهاية عهد «المدرسة المنهجية»، بينما تدلُّنا رسالة السيلكوني من مطلع القرن السادس عشر على نهاية العصر المملوكي، حيث تجاورت في القاهرة نفسها مدرسة محلية ربما ربطتها علاقات بمناخات عصر ابن كر (وربما من خلاله بأثر شامي)، مع تأثير بعيد للمدرسة المنهجية المتأخرة. أما بعد ذلك فقد استوعب الموشح (المطور كلامياً من الموشح الأندلسي ونغمياً من القوالب المحلية أساساً على ما سنرى) كل تنوع قوالب الغناء السابقة ضمن عباءته الواسعة.
فتح الله الشرواني
يمكن اعتبار رسالة الشرواني ملخصاً وشرحاً لمعظم ما سبقه من كتابات، فهو يستعيد فيها أقوال الفارابي وابن سينا والأرموي وشروحه، وينقل عن المراغي، ويتوسع كثيراً في شرح القوالب في عصره.
فهو يذكر «البسيط» خارج «النوبة المرتبة»، وهو عنده قطعة مفردة بشعر عربي على إيقاع من الثقال (الرمل أو الثقيل الأول أو الثقيل الثاني)، ويكون له طريقة أي مقدمة من العزف الآلي المُوقَّع هي البيشرو (أما النواخت فهو عزف غير مُوقَّع لا يشير إليه في معرض النوبة المرتبة) ثم القطعة أو المطلع الغنائي، ويليه «الصوت» أي صوت الوسط (ميانخانة)، وهو غير إلزامي، ثم التشبيعة (أو التشييعة) وهي نفسها بحسب قوله «البازكشت»، أي «العودة»، فيرجَّح أن المقصود منها هو لحن يتكرر، وقد يلقي هذا الضوء بأثر رجعي على كلام مبارك شاه، غير أنها يمكن أن تقال بأبيات شعرية أو بألفاظ الترنّم فقط (مثل تن وتنن وتان)تعتبر لويس الفاروقي أن التشييعة (بالياء بحسبها) هي اللازمة، refrain، غير أننا نرى أن لها معانٍي مختلفة حسب العصور، وأنه حتى في حال التكرار فإن عاملاً متغيراً يصاحب تكرارها Lois Lamya Ibsen Al Farouqi, The Suite in Islamic History and Culture, in The World of Music, Vol. 27, No. 3 (1985), pp. 46-66.. وهذا الوصف يجعل العمل الغنائي بعد المقدمة الآلية، إذا دخلت فيه الخانة (الميانخانة)، أشبه بالقالب« أ أ ب أ» الذي رأيناه من قبل عند ابن كر في ما يسميه الخفيف، ورأينا أنه يشبه البستة التركية ولعل اسمها اشتُقَّ منه، ويشبه كذلك بعض أنواع الموشحات.
أما «الفصل» بحسب اصطلاحه، وهذا قد يكون أصل «الفاصل» التركي، فلا يزيد على أنهم يدخلون فيه شعراً ونثراً، بخلاف «النوبة المرتبة» وهي عنده قول وغزل وترانه وفرودشت. فالقول هو «الصوت» ويبدو أنه شغلٌ على شعر عربي ينتهي فيه الشعر والإيقاع والنغم معاً فلا يفيض أحدها عن الآخر (وهذا يشبه «البسيط» عند مبارك شاه)، ومن تقسيماته يمكن القول إنه شبيه بـ«البسيط» أيضاً كقالب. والغزل مثله لكن بشعر فارسي. والترانه رباعي من الدوبيت سواء بشعر عربي أو فارسي، والفرودشت هو نفس قالب القول. وفي هؤلاء جميعاً بحسب قوله ينبغي وجود الطريقة، أي المقدمة الآلية والتشبيعة، أما صوت الوسط (الميانخانة) فيظل اختيارياً.
ويذكر الشرواني حكاية إضافة المراغي قطعة المستزاد في نهاية النوبة المرتبة، وكيف رتب ثلاثين نوبة على هذه الطريقة لشهر رمضان سنة 781 للهجرة، وعرضها على السلطان جلال الدين حسين في يوم عرفة، وتقاضى عليها مائة ألف دينار من «خواجه رضوان شاه، وكان أستاذ الكل في هذا الفن». ويورد أن المراغي شرط على نفسه أن يستعيد المُستزاد، «كل ما يكون في المقطعات الأربعة من الصنايع والأبيات والأشعار»، غير أن النموذج الذي يعرضه الشرواني لنوبة مرتبة مكتوبة لا يوضح كيف يفي المستزاد بهذا الشرط.
ويذكر الشرواني أيضاً نشيد العجم، ويبدو أنه نفسه نشيد العرب لكن بالفارسية. ونشيد العرب هذا أربع أبيات يقال الأولان بدون إيقاع والآخران بلحنٍ مُوقَّع (ويذكر ذلك بالتمييز الأقدم بين النشيد والبسيط)، وبينهما «تحريرات حلقية» أي حليات صوتية كنزول سلم نغمي درجة درجة، أو بالقفز المتداخل بينها، باستعمال الآهات مثلاً، وقد تكون موقّعة أو غير موقّعة، وما زالت كلمة «تحرير» مستعملة تقريباً بنفس المعنى في قراءة المقام العراقي.
وكشأن مبارك شاه يذكر الشرواني «كل الضروب»، ومن حديثه عنه يلوح أنه بالفعل تزيين إيقاعي وليس قالباً تأليفياً، ذلك أنه يقول إنه شغلٌ يستخدم فيه العازف إيقاعات مختلفة على التوالي، أو «يضرب إيقاعين» كل إيقاع بيد، وقد يزيد على ذلك باستخدام رجليه أو أصابعه حسب قدرته على التعامل مع إيقاعات مختلفة في الوقت نفسه. ويبدو أن «الضربين» هو فرع على ذلك، حيث يضرب نوعين من الإيقاعات أو أربعة معاً. و«كل النغم» هو عمل يستخدم فيه الملحّن درجات سلَّم المقام السبعة عشرة كلها. و«كل الضروب والنغم» هو جمع هاتين الطريقتين معاً أي إنه «كل النغم» مع شغل إيقاعي من «كل الضروب».
وخارج الإيقاعات الثقيلة، يذكر الشرواني «العمل»، وهو تصنيفٌ على أشعار فارسية في إيقاعات خفيفة، ويكون لها مطلع أي طريقة (مقدمة آلية) وجدول، وهو على ما يبدو نفس لحن المطلع لكن غناءً، ثم صوت الوسط (ميانخانة) والبازكشت (أي غالباً كما قلنا «العودة» إلى لحن المطلع، أو لحن النهاية)، ويقول إنهم قد يجعلون صوت الوسط والبازكشت اثنين، أي أنهم يُكررون في الغالب نفس اللحن لكل منهما بكلام آخر. وهذه نفس بنية البسيط، والفارق بينهما هو أولاً في اللغة، حيث تستخدم الفارسية في «العمل»، وثانياً في الإيقاع الذي يكون فيه العمل خفيفاً. ويذكر «المرصع»، وهو يجمع بين أبيات عربية وفارسية، وقد تدخله التركية. أما إذا لم يكن هنالك سوى لحن واحد يتكرر (وإن كان معه طريقة) فهو «النقيث» (وربما كان «النقش») ويبدو أنه بالفارسية إذ يقول إنهم ينتقلون فيه من غزل إلى آخر.
والبيش رو، بمعنى آخر غير المقدمة الآلية وغير النوع الإيقاعي المسمى «ضرب بيشرو»، هو ترنُّم «بألفاظ النقرات»، أي مثل تن وتنن وتان (أي ما يصح عليه أيضاً القول إنه «ليس بشعر»). وقد ينقسم إلى أجزاء يسمى الواحد منها «بيتاً»، ويتكرر آخرها فقط (بينما قد يختلف مطلع البيت) ويسمى الجزء الراجع «ترجيع بند»، وهذا شبيه بما سنراه من البشرو عند السيلكوني.
أما «أخف التصانيف» فهو الارتجال على البديهة، ويسميه «الهواتي» (أو ربما «الهوائي»، وهو يذكرنا بالموال التركي المسمى «أذن هوا» Uzun Hava)، فإذا أدخلوا شعراً على البيشرو فإنه «زخمة»، وهو على ما يبدو من قوله فرعٌ من الهواتي، أي يصير فيه ارتجال نغمي. فكأن هذا النوع من القطع بيشرو ملحن بكلام ليس شعراً ولا له معنى مجتمعاً إلى شعرٍ غير مُلحَّنٍ مُرتجَلِ النغم كأنه موّال.
علي بن عبيد الله السيلكوني
علي بن عبيد الله السيلكوني هو تلميذ «سعود» أحد تلامذة الأستاذ محمد البديوي السيلكوني المشهور بحمام (ينظر السخاوي في الضوء اللامع) الذي أخذ بدوره عن ابن عبد القادر المراغي. لذا فإن علياً السيلكوني هذا هو تلميذ في الرتبة الثالثة من تابعي المراغي. وهو مطلع على تراث النوبة المرتبة إلى حد ما (وهو يسميها «النوبة الأستادية» أو «السيلكونية»)، ويميز بينها وبين «النوبة الصحبية» التي يبدو أنها منتشرة في مصر وبعيدة في قوالبها عن إرث المراغي. وأحد مظاهر هذا التمييز هي عدم احترام النوبة الصحبية لمبدأ استمرارية الإيقاع الواحد ضرورة حسب ما لاحظه السيلكوني، في حين أن استمرار الإيقاع الواحد هو أحد شروط النوبة المرتبة عنده. ولا يقتصر الأمر على الالتزام بالإيقاع الواحد، بل يقتضي أيضاً أن يشمل الالتزام بنفس نقطة البدء أو ما يسميه «باب الدخول»، فإن كان بدء أول قطعة من الوحدة الزمنية الثالثة مثلاً من الإيقاع، لزم أن يكون بدء سائر القطع من نفس الوحدة الثالثة، فكأنه ليس في النوبة المرتبة انقطاع إيقاعي بين القطع المختلفة. وهذا الإرث المراغي يبدو أنه يركز على أهمية الإيقاع عموماً، فهو جالب الطرب وهو الباب إلى معرفة القطع التي يكون فيها تفنُّن أوسع وأعقد على ما يقول السيلكوني. أما من لا يعرف الإيقاع فعليه الاكتفاء بما يسميه «الوعظيات». وهو لئن كان يذكر «الذكر» الديني إلا أنه لا يضعه مع «الوعظيات»، فلا نعلم إن كان مضمونها دينياً بالفعل أم القصد فقط بأنها إلقاءٌ مُنغَّم غير مُوقَّع، وهي تضم القصيد والموشح والخفيف. على أن الخفيف يرد أيضاً في القطع الموقّعة وكثيراً ما يكون كلامه من الموشح، فكأنما يمكن تلحين قالب الخفيف بأسلوبين مختلفين، موقّعاً وغير موقّع. أما من يقدر على الإيقاع فيتعلم من قوالب أعقد وأغنى، ويمكنه العمل أيضاً بما يسميه السلكوني «البسيط» وسنعود إليه، وكذلك «التصنيف»، ويبدو لنا من استقراء المخطوط أنه لحن قصيدة عمودية، ويمكن أن تُذكر فيه أسماء الأنغام، فإما أن يكون «ناطقاً» أي يغني بالأنغام عند ذكر اسمها، أو صامتاً أي لا يُجْري هذه الانتقالات المقامية مع ورود اسم الأنغام.
ولئن لم نعثر عموماً على أثر لـ«طريقة» سيلكونية بالمعنى الصوفي أو بمعنى طائفة إثنية أو حتى رابطة من المشتغلين بنفس الفن، فإن هذا الشكل من أشكال النوبة يبدو مرتبطاً كما ذكرنا بإرث المراغي. وقد يجد أحدهم تفسيراً لمعنى كلمة «السيلكوني» في إحدى لغات آسيا الوسطى أو في تاريخها. وعلى أي حال فإن ابن عبيد الله السيلكوني يسمح لنا بالمقارنة بين النوبة المرتبة والنوبة الصحبية وما بينهما من اختلافات.
فالنوبة المرتبة هي قول وغزل (بالفارسي) وطرن (وهذا بحسب قوله يكون له وزن شعري مخصوص، وربما أيضاً بداية معينة هي غالباً «أهواك ولو ضنيت من أجل هواك» بحسب السيلكوني) وفرودشت، وأضاف إليها المراغي المستزاد كما سبق أن رأينا (ويعرفه السيلكوني تعريفاً سلبياً فهو «شعر غير شعر التصنيف» يكون بعد البازكشت التي هي عادة نهاية العمل). أما النوبة الصحبية فقد تحتوي أي قطعة كانت، بشرط احترام وحدة المقام أو النغم، ولا ضرورة لاحترام وحدة الإيقاع. كذلك يمكن أن تتضمن النوبة الصحبية:
ـ «الخفيف»: وهو عموماً يشبه شكل الموشح الأندلسي التقليدي، ويتكون من بيت (او اثنين او ثلاثة أبيات بنفس اللحن) ثم مقطع من ثلاثة شطور وقفلة (بما يشبه ما سيسميه الوشاحون لاحقاً «السلسلة»)، والقفلة توازي قفلة البيت الأول وتلتزم بقافيتها، وأحيانا يُزاد مقطع إضافي بين الأبيات والأشطر.
ـ «البسيط»: ويتضمن أبيات شعرٍ عمودي تختلط بها غالباً سجعات غير موزونة، وفيه أدوار استشهاد، وميخانة، أي جزء أوسط، وأدوارٌ يتكرر لحنها بما يشبه اللازمة أو المذهب في الطقاطيق في عصرنا، ويسمى هذا اللحن «المعلوم» أو «الأصل». ودور الاستشهاد والميخانة (التي ستصير لاحقاً خانة) من الأقسام التي سترد لاحقاً في الموشحات المشغولة حتى نهايات القرن الثامن عشر، وقد حفظ لنا الشهاب في سفينته ملامح منها. ويستعمل السيلكوني كلمة جدول بمعنى ما سيُمسى في الموشح «بدنية» أو دور، ويبدو أن بالإمكان زيادة تعقيد «البسيط» بأن تضاف إليه أقسام استهلال وبازكشت ومستزاد لكنه لم يورد أمثلةً مفصّلةً على ذلك.
ـ «البشرو» أو «بيشر»: (بالياء وبدون الواو)، ويبدو من استقرائه أنه مزيج من سجعات غير موزونة، ولا نعلم إن كانت ملحنة، ومن قسم معقد وغير موزون على طريقة الشعر العمودي أو الموشحات، لكن هذا القسم يستعاد في الأدوار اللاحقة إما بتكرار اللفظ بعينه، أو بكلمات تكرر تركيبه الوزني، وهذا شبيه بما يذكره الشرواني عن تضمين البيشرو «ترجيع بند» أي جزءاً متكرراً. وغياب الشعر الخليلي عن البشرو، بتعريف السيلكوني يذكّر بتعريف ابن كر للبيشرو (ما ليس بشعر)، إلا إنه لا يمكّننا من معرفة علاقته بالإيقاع، إن كان موقّعاً أم لا.
ـ «الشار»: وهو إلقاء بيتين مصرّعين، أي بتكرار نفس القافية أربع مرات.
وأخيراً معارضة قطعة سابقة تسمى أيضاً «الملو»، لكنها تبدو أحياناً أوسع من الأصل الذي تعارضه (إلا إن كان لم يذكره كاملاً في مخطوطه)، إذ تبدو تلك المعارضة في بعض الأمثلة ملتزمة بمعارضة الأبيات الشعرية الموزونة لكنه يمكن أن يضاف إليها سجعات غير موزونة.
والخلاصة التي يمكن استقراؤها من مخطوط السيلكوني هي غلبة العامل الكلامي في تحديد الاختلافات بين القوالب في النوبة الصحبية: فالقصيد شعر عمودي يمكن أن تكون فيه انتقالات كثيرة جداً بين المقامات، والبسيط مزيج من الشعر العمودي والسجعات، والخفيف موزون بما يشابه الموشح الأندلسي في تركيبه، والبشرو مزيج من سجعات غير موزونة وأخرى غير ملتزمة بالبحور الخليلية، لكن يمكن أن تعتبر كأنها ذات وزن ثابت يمكن استعادته واستعادة لحنه غالباً. ويُلفِت النظر عنده التمييز أيضاً بين شغل المصريين وشغل «المغاربة»، رغم أن هذا الأخير يخضع أيضاً لتصنيفات النوبة الصحبية.
وبما أن مخطوط السيلكوني يعود إلى مطلع القرن السادس عشر، أي قبل دخول العثمانيين إلى مصر بعشرة أعوام تقريباً، فهو يعطي فكرة بالغة الأهمية عن نهايات العصر المملوكي، ويكاد مخطوطه يلتقي مباشرة بأقدم المخطوطات التالية في القرن السادس عشر والسابع عشر. وإذا ما استثنينا الكتب والأراجيز التي تضمُّ التنظيرَ عن المقامات واشتقاقاتها ولا تتحدث عن القوالب، فإن «الموشح الغنائي» (إضافة إلى إنشاد القصائد) يكاد يكون عماد المخطوطات اللاحقة الأساسي، وهو ما يدلُّ على كونه القالب الملحن الأهم في تلك الفترة. إلا أن هذا الموشح ابتعد تدريجياً عن القالب الأندلسي الأوضح بأغصانه وأبياته وأقفاله. وحصل فيه تنوعٌ هائل بين الموشحات التي تتكرر ألحانها وتلك التي تضم خانة أو خانات كثيرة قد تختلف ألحانها، وسلسلة أو سلاسل قد تختلف ألحانها أيضاً، ودواليب. ونجد فيه تنوعاً بالغاً في أشكال تقطيع الكلام وفي تعدد المقامات وتعدد الإيقاعات. لذا يكاد يكون مستحيلاً تحديد خصائص جامدة لما نسميه «الموشح المشرقي الغنائي»، فطبيعته الغنائية أتاحت كل هذا التنوع بحسب المطلوب لحنياً. ويبدو أن تسميته طغت على كل القوالب السابقة، عدا القصيد الذي تحول ارتجالياً في زمنٍ غير محدد وأصبح لاحقاً القصيدة الموقّعة وغير الموقّعة. فنجد موشحات تنطبق عليها أوصاف وأسماء ما أورده السيلكوني على أنه البسيط، كما يبدو أن الخفيف الذي ضم قالب الموشحات الأقدم انضوى بدوره أيضاً تحت عباءة «الموشح الغنائي»، ويضاف إلى ذلك «البيشرو» الذي فقد اسمه في معظم الأحيان، وإن كنا نعرف من خلال ما دونه جامعو الموشحات مثل الكبيسي (في سفينته المحفوظة ببرلين) أن التسمية تحولت لاحقاً إلى «بشرف»ومن هنا نفهم أن كامل الخلعي، الذي ذكر في الموسيقي الشرقي ناقلاً بلا شك عن مصدر سابق أن «البشراوات أصل الموشحات» قد خلط ما بين هذا البيشرو/البشرف وبين البشارف الآلية العثمانية ظنا منه أن «البشراوات» الأولى هي أيضاً من صناعة أهل إسطنبول.، وهو غير البشرف الآلي المستورد من إسطنبول بعد منتصف القرن التاسع عشر، وظلّت مستعملة في بعض الأحيان للدلالة على موشحات تعتمد إيقاعات طويلة (مثل الشنبر)، وتتميز في الغالب بتعقيد كلامي لا يقبل التشطير السهل كسائر الموشحات، ولا يكاد يتكرر وزن محدد داخل كل دورٍ منه، بل ينبغي أن يتكرر وزن الدور بأكمله (وكأنه البيت في البيش رو الذي يذكره الشرواني أو الجزء الثاني من البيشرو كما أورده السيلكوني)، وقد يسمى هذا الجزء في بعض السفن القديمة، بـ«القرين» بدل تسميته بـ«الدور»، وقد وردت إشارة إلى ذلك في تصحيحات الهوامش على سفينة الشهاب في نسختها المحفوظة بالمكتبة الوطنية الفرنسية وفي مخطوطات أقدم.
د ـ اختلاف المسميات
مما سبق يمكن ملاحظة اختلاف المسميات، مع اتحاد الأسماء.
فمصطلح الصوت الذي كان يُطلَق على كل الألحان يشمل عند العباسيين البسيط والنشيد. ولعلّ هذين الاسمين كانا يشيران في الأصل إلى موقّع وغير موقّع، أو إلى جزء ثري الصناعة وجزء آخر بسيطها وقد تسبقه طريقة. أما عند مبارك شاه فهو اللحن القليل التعقيد. وهو عند الشرواني عين «القول»، وهو شعر عربي ملحن ينتهي فيه الشعر والإيقاع والنغم معاً، فلا يتجاوز أحدها الآخر. وهذا يذكر بوصف أحد أنواع «البسيط» عند مبارك شاه. ويذكر كذلك بقول الجاحظ في «البيان والتبيين» إن العرب كانت «تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط؛ حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونًا على غير موزون».
لكن اسم البسيط الذي ربما كان يقصد به «الموقّع والمنغّم» عند العباسيين الأقدم، هو «ما ليس بشعر» عند ابن كر، وهو عند مبارك شاه اللحن الذي يكون فيه مقابل كل حرف نغمة، وفي مكان آخر يقول إنه طريقة وتشبيعة بالشعر العربي (وربما كان الجزءان المذكوران على نفس اللحن). أما عند الشرواني فالبسيط هو قطعة مفردة بشعر عربي على إيقاع ثقيل تسبقها مقدمة من العزف الآلي الموقع، وقد يتقاطع هذا التعريف مع تعريف مبارك شاه. لكنه عند السيلكوني أشبه بأن يكون مزيجا من الشعر العمودي والسجعات غير الموزونة، ويمكن أن يتضمن «ميخانة» أو صوت الوسط، ويمكن أن يكون أعقد من ذلك.
أما النشيد الذي لا يخرج «عن مجرى العادة» عند الفارابي رغم أنه يستعمل فيه الشذرات والنبرات القصيرة الخفيضة، فهو غير المنغم (أو ربما غير الموقّع) عند الحسن الكاتب، لكنه شعر ملحن ليس موقّعا بكامله عند ابن كر.
ومع مرور الزمن ظهرت قوالب أخرى مثل الخفيف، وهو عند ابن كر شعر ملحن وموقّع يختلف مطلع بيته الثاني عن اللحن الأصلي. أما الخفيف عند السيلكوني فقد يكون غير موقّع (ضمن ما يسميه الوعظيات) وقد يكون موقّعاً ويشابه شكله تقسيم الموشح الأندلسي.
أما الترانه فهي عند مبارك شاه شعر فارسي ، بينما هي ترنم (ترن) عند عسكر الحنفي، وهي على وزن «أهواك ولو ضنيت من أجل هواك» عند السيلكوني، وعند الشرواني هي رباعي من الدوبيت سواء أكان بشعر عربي أو فارسي مسبوق بطريقة آلية وقد يكون معه ميانخانه أو لا يكون.
والنقش عند مبارك شاه ما كان من لحنين، وهو عند العثمانيين من فروع قالب الكار المستعمل في فاصلهم، وعند الحلبيين ما كان فيه إيقاعان.
أما البيش رو فهو قد يكون ما «ليس بشعر» (دون أن نعلم هل هو عزف آلي، أم كلام غير موزون، أو هو ترنم بكلمات غير ذات معنى) وليس موقّعاً بحسب ابن كر. لكنه، عند فضل الله العمري، لحن يفيض عن الشعر فيملؤونه بكلام ملفق (ربما كان ترنما). غير أن البيشرو أو بيش رو عند مبارك شاه وعند الشرواني هو الطريقة، أي عمل عزفي آلي، إذا كان موقعاً (ويورد مشاقة نفس التعريف للبشرف، بينما التقسيم عنده هو العزف الآلي غير الموقع)، أما إذا كان غير موزون فهو «النواخت» (الذي سيصير لاحقاً اسم إيقاع)، وهو عند الشرواني ضرب إيقاعي رباعي يشابه ما نسميه الواحدة، وهو عنده أيضاً ترنم «بألفاظ النقرات» (أي بكلام لا معنى له مثل تن وتنن)، وهو ما يلوح لنا أن عسكر الحنفي الحلبي يسميه ترن (وسيمسي ذلك لاحقاً «ترل» كما عند الخلعي والسيفي). أما عند السيلكوني فالبشرو أو البيشر مزيج من سجعات غير موزونة ومن قسم معقد يستعاد إما بلفظه أو بتركيبه الوزني، ولا يوضح إن كان موزوناً أم لا. وفي وقت لاحق سيتحول البشرو في تركيا (ربما من طريق تأثير فارسي أصلاً) إلى بشرف آلي متعدد الخانات على إيقاعات طويلة، كما سيظل يدل في مصر والشام على نوع من الموشحات يسمى أحياناً بشراو (كما في سفينة الكبيسي)، قريب من تعريف القسم الذي يتكرر والذي كان الشرواني يسميه «ترجيع بند».
يبدو واضحاً مما سبق أن تغيرات كثيرة طرأت على مسميات عددٍ من الأسماء (سواء القوالب أو المقامات)، التي أُطلِقت على هذه القوالب على مر القرون. فكان الاسم يبقى ويتغير مدلوله. وبسبب هذه التراكمات وتعدد المعايير التي استُخدمت (سواء ارتكزت على البنية اللحنية أو على البنية الكلامية أو على أنواع الإيقاعات أو اللغة المستعملة)، ليس بالإمكان دائماً تتبُّع خيط منطقي لمثل هذه التغيُّرات التي تبدو إلى حدٍ ما عشوائية، بل ومتناقضة عبر الجغرافيا والتاريخ، على الرغم من استمرار الرغبة في جمعها في «وصلات».