وسط أشجارٍ خضراء على سفح جبلٍ عالٍ ينتهي إلى نهر العاصي، تجمّع المنقذون والمتفرّجون في السادس من حزيران (يونيو) الماضي يحاولون رؤية جسدٍ طافٍ أو سماع نداء استغاثة. يعود هذا المشهد إلى حادثٍ تعرّضت له حافلةٌ مدرسيةٌ في بلدة دركوش بريف إدلب الغربي، أودى بحياة سبعة أشخاص؛ ستة أطفال وسيدة، وأُصيب 20 آخرون.

وصف المتابعون ما حدث للحافلة وركّابها بأنه «مؤلمٌ وفاجع»، ولكنه لم يكن «مفاجئاً».

لم يكن الوصول إلى مكان الحادث يسيراً على المسعفين أنفسهم، بحسب شهادة المسعف والسائق المتطوع في الدفاع المدني ثائر درويش: «كان هناك صعوبة بسبب شدة انحدار الجرف الصخري».

الطريق المتعرّج الذي سلكته الحافلة التي كانت تقلُّ طالبات مدرسة مخيم الزوف، في رحلةٍ للاحتفال بنهاية العام الدراسي، لم يكن مُجهزاً بجدارٍ استنادي يقي العربةَ من السقوط مسافةً تصل إلى 30 متراً بانحدار عامودي إلى النهر، وذلك عندما واجهت خللاً أثناء صعودها الطريق الجبلي حسب تقدير مدير إدارة المرور في إدلب الرائد فادي الشامي.

يتسبّب نقص تأهيل الطرقات وسوء الحالة الفنية للعربات والآليات في جعل الحوادث المرورية خبراً معتاداً وخطَراً واقعياً يواجهه السائقون والمارّون كل يوم، بالإضافة إلى غياب التدريب والرقابة المرورية الكافية في المنطقة الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام منذ أكثر من ست سنوات.

طرقات دون تأهيل منذ 13 عاماً

مرّت عشر دقائق وأبو أحمد يشاهد زوجته الشابة وهي تنزف بعد حادثٍ على طريقٍ فرعيٍّ «مقطوع» بين مدينتي سلقين وإسقاط في ريف إدلب الشمالي الغربي: «كانت تلك الدقائق في غاية الصعوبة لأنني لم أستطع مساعدتها وهي بين الحياة والموت، وكان معي طفلي يشاهد أمه في هذا المشهد القاسي»، قال الشاب مشيراً إلى غياب شبكة الهاتف المحمول وطرق التواصل مع فرق الإنقاذ في ذلك الحين.

كان أبو أحمد برفقة زوجته البالغة من العمر 25 عاماً، وطفله ذي الثلاث سنوات ونصف، يركبون دراجةً ناريةً حينما فاجأته حفرة كبيرة على الطريق أدت لسقوطهم حسبما شرح للجمهورية.نت: «بعد مرور دراجة نارية أخرى نقلتُ زوجتي إلى مركز الدفاع المدني، الذي حولها إلى المشفى، ولكن بعد فوات الأوان».

الصدمة والخوف اللذان عاشهما أبو أحمد بعد فقْدِ زوجته قبل خمسة أشهر منعاه من القيادة مدة شهر، قبل أن يضطر للعودة من جديد. يقول: «حالياً أقود بحذرٍ وأخشى من السرعة ومن حالة الطرقات المتهالكة، وأتوجّس في كل مرةٍ أقود فيها».

شهدت منطقة إدلب، التي يقيم فيها أكثر من 3.42 مليون شخص وفق بيانات الأمم المتحدة، تضاعفاً سكانياً مطرداً خلال سنوات الحرب، بعد أن لجأ إليها النازحون والمهجَّرون مع تقدم قوات النظام السوري في الجنوب السوري وفي مناطق سورية أخرى، كما عاد إليها عددٌ من المُرحّلين من تركيا خلال العام الماضي، ليبلغ عدد النازحين 2.33 مليوناً من مجموع السكان، ما زاد من الضغط على البنية التحتية، والتي كانت متضررةً بالأصل نتيجة القصف والعمليات العسكرية المستمرة طيلة 13 عاماً.

ولم يقتصر ضعف البنى التحتية على حالة الطرق، بل شمل غياب شبكات الاتصال ونقص تغطية الإنترنت في المنطقة: «الشبكات لا تغطي 10 بالمئة من الطرق الرئيسية والفرعية»، يقول موزّع الإنترنت أحمد أبو رياض للجمهورية.نت، مشيراً إلى أنّ الاعتماد على خرائط الأقمار الاصطناعية لتحديد المواقع «منخفض بسبب ضعف الاتصالات».

يمكن اعتبار عدم القدرة على تحديد المواقع والاتصال بفرق الإنقاذ من بين أهم الأسباب التي تعيق عمل الدفاع المدني في الاستجابة للحوادث الطرقية، وذلك بحسب ما أفاده المتطوع حسن الحسان خلال حديثنا معه. وأوضح الحسان أن سوء حال الطرق وتحديات الاتصالات تتوازى مع نقص الوعي بأسلوب طلب المساعدة وأساليب الإسعاف الأولي، وبضرورة السماح لفرق الإسعاف المختصة بالعمل دون إعاقةٍ من المتفرجين على الطرقات. يضيف: «أحياناً تُصوَّر فيديوهات لحوادث وتُنشَر من قبل المارة أو من هم بالقرب من الحادث دون الإبلاغ عن الحادث بحد ذاته، ظناً منهم أن هذه طريقة إبلاغ مناسبة».

عند الإبلاغ عن الحوادث، وفق الحسان، تحتاج الفرق إلى تفاصيل تسمح بتوجيه فرق الاستجابة المناسبة (إسعاف، إنقاذ، إنقاذ مائي، رافعة)، وفي غياب ذلك، تضطرُّ فرق الإسعاف إلى تقييم احتياج المصابين عند الوصول إلى موقع الحادث، ما يستدعي طلب فرقٍ أخرى إلى الموقع وضياع وقتٍ هام للإنقاذ.

حفر وعوائق على الطريق

منذ آذار (مارس) من عام 2020، وعقب توقيع اتفاق «خفض التصعيد» بين المعارضة والنظام بضمانة تركيا وروسيا، تعيش منطقة ريف إدلب الشمالي حالةً من الاستقرار النسبي، ولكنّ حكومة الإنقاذ ما زالت تعلّل نقص تأهيل الطرق بـ«تأثُّرها بالقصف»، متناسيةً إهمالها تأهيل طرق مدن حيوية كـ«الدانا»، والتي لم تشهد قصفاً مثل غيرها من المدن، ولكن يكاد لا يصلح أيٌّ من شوارعها للسير أو القيادة.

الرائد فادي الشامي، مدير إدارة المرور التابعة لوزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ، قال إن الإدارة «تنسّق مع وزارة الإدارة المحلية والبلديات ومديريات الطرق العامة، لتأهيل الطرق وتحديد الاتجاهات وزرع الشاخصات المرورية والإشارات الضوئية على الطرقات، مع عملها على إلغاء المطبات من الطرق الرئيسية واستبدالها بمكسّرات سرعة أكثر أمناً للسائقين».

ولكن هذا «التنسيق» ليس له آثارٌ على الأرض، إذ أن الطرق الرئيسية والطرق داخل المدن وضمن المخيمات العشوائية هي أبرز أماكن وقوع الحوادث. يجيب الشامي على ذلك: «أرقى دول العالم تقع فيها الحوادث بكثرة. طالما هناك آليات تسير لا بدَّ من وقوع حوادث بنسب متفاوتة حسب الزمان والمكان». تغيبُ عن ذهن الشامي الإشارة إلى أن التفاوت بين نسب الحوادث «في أرقى دول العالم» وإدلب كبيرٌ جداً، وأن حكومات تلك الدول تقوم بما عليها من مهمات لتأهيل الطرق ووضع الإشارات المرورية، وأنه لا مجال أصلاً لهذا النوع من المقارنات.

تعرّض عبد الله صطيفان، وهو تاجرٌ يعمل في مدينة سرمين بريف إدلب الشرقي، لعددٍ من الحوادث أثناء قيادته لسيارته في المنطقة، ويرى أن سوء حال الطرقات ونقص تأهيلها هو السبب: «أغلب الطرق تمّ تعبيدها قبل الثورة، لذا حالها سيئة وتُسبّب اهتراء الإطارات، وتؤدّي أي حفرة أو ارتفاع غير متوقع على الطريق إلى حصول حادث».

وأضاف عبد الله في حديثه للجمهورية.نت بأن أغلب الطرقات، باستثناء الطُرق العامة التي أُعيد تأهيلها مؤخراً، غير مناسبة لمرور السيارات، أما الطرق الفرعية وداخل المدن وعند المنحدرات «فلا يوجد إضاءة ولا إشارة منحدر ولا ساتر ولا أى شيء يخفّف من إمكانية الحوادث، فضلاً عن وجود الكثير من الحفر فيها».

عبد الله صطيفان ينظر لصور سيارته المعطلة نتيجة حادث سير في ريف إدلب

تمّت خلال العامين الماضيين إعادة تأهيل بعض الطرق الرئيسية، مثل طريق معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا إلى مدينة إدلب، لكن معظم الطرق الفرعية والطرق داخل المدن تفتقر لذلك الاهتمام. المصوِّر إبراهيم الشمالي كثيرُ التنقّل بين المدن والقرى في المنطقة، وبحسب مشاهداته فإن الطرق المؤهلة «لا تلبّي حاجة المجتمع». ويرى إبراهيم أنّ توقّف عمل المجالس المحلية بقرارٍ من حكومة الإنقاذ «منع عملية متابعة الطرق الفرعية والاهتمام بتأهيلها بشكل دوري».

وعزا المسؤول في الدفاع المدني حسن الحسان رداءة الطرق إلى «غياب عمليات الإصلاح، والتخريب الناتج عن القصف، والاعتماد على الطرق الفرعية والزراعية غير المجهزة لتخديم أعداد كبيرة من المدنيين بعد قطع الطرق الرئيسية». وأوضح الحسان أن طريق إدلب – باب الهوى، ورغم تأهيله، يعتبر من بين أكثر الطرق التي تشهد حوادث، ولكن السبب الرئيسي لهذه الحوادث هو السرعة وعدم الالتزام بالقواعد المرورية.

مخالفات بلا قانون للسير

يعمل أبو موسى سائقاً لحافلةٍ عمومية، ويقول إن سبب الحوادث المرورية «هو جهل السائقين وعدم تلقيهم التدريب اللازم للقيادة»، مضيفاً أن إصدار شهادات القيادة أمر ضروري: «هناك أطفال بعمر 11 و12 عاماً يقودون السيارات».

لا تتطلب القيادة في إدلب تلقي التدريب أو الحصول على شهادة للقيادة منذ خروج المنطقة عن سيطرة النظام السوري عام 2015، ولم يبدأ افتتاح مراكز تعليم القيادة إلا خلال العامين الماضيين، ولكن لم يُفرض تعلّم القيادة أو الحصول على تراخيص بعد اجتياز امتحانات على السائقين بعد.

وتنتشر فيديوهات الأطفال والشباب الذين يتباهون بقيادة الدراجات النارية والسيارات بشكل متهور، على الرغم من حملات مصادرة الدراجات من قبل فِرق شرطة المرور، والتي بدأت بالظهور والانتشار في مراكز المدن الكبرى خلال العام الماضي، بالتزامن مع تفعيل بعض الإشارات المرورية خلال الأشهر الماضية.

الرائد فادي الشامي قال للجمهورية.نت إن سبب عدم فرض قانون السير وتحديد عمر للقيادة يتعلق بالتحديات التي تواجهها المنطقة خلال سنين الحرب: «اقتصرنا على متابعة سائقي الآليات كمرحلة أولى لتنظيم وتسهيل الحركة المرورية»، مضيفاً أن الخطوة الثانية كانت تسجيل الآليات، وهو ما تم خلال عامين.

الشامي قال إن قانوناً للسير مع جميع التعليمات والإرشادات للسائقين يتم العمل به فعلاً عند حصول الحوادث والمخالفات، ولكن «عدم امتلاك فئة الشباب للوثائق التعريفية اللازمة للحصول على شهادات للسائقين أخّر فرضه في المنطقة».

بدأت حكومة الإنقاذ خلال العامين الماضيين بإصدار الهويات التعريفية للسكان، وذلك بالتوازي مع بدء دورات تعليم القيادة في مدارس خاصة وإصدار رخص قيادة لمستحقيها، «لكن حتى تاريخه لم يتم العمل بهذه الشهادات ريثما يتم استكمال إصدارها بشكل شبه كامل»، حسبما صرح الشامي.

وقبل أشهر قليلة، أدى الإعلان الأولي عن كلفة إصدار شهادة القيادة إلى استياء السائقين، الذين اعتبروها «باهظة» بالنسبة لسكان المنطقة التي يحتاج نحو 84 بالمئة منهم للمساعدات الإغاثية، إذ تبلغ تكلفة تعلم القيادة وإصدار الشهادة ما بين 50 إلى 100 دولار أميركي.

ومع تحديات التنقُّل في المنطقة نتيجة عدم تغطية المواصلات العامة لشبكة الطرق الواسعة بين المناطق والمخيمات، يعتمد الكثيرون على قيادة الدراجات النارية والسيارات منخفضة التكلفة للتنقّل. تعدُّ تكلفة الآليات منخفضة في المنطقة، حيث تتراوح ما بين 200 إلى 700 دولار للدراجات النارية و2500 وحتى 10500 دولار للسيارات، وذلك لأنها تصل إلى المنطقة بعد سنوات من استعمالها، وهي بحاجة للإصلاح وتجديد القطع لتصبح مناسبة للقيادة.

وبتقدير تاجر السيارات مصطفى الريا، فإنّ ما يعادل 20 ألف سيارة و50 ألف دراجة نارية تصل إلى المنطقة سنوياً، وهو برأيه «ما يزيد من معدل الحوادث نتيجة الازدحام على الطرق المتهالكة».

صورة جوية تظهر أحد أسواق السيارات في مدينة سرمدا بريف إدلب

حوادث تحت رادار «الحكومة»

سوء الحالة الفنية للسيارات من ضمن أبرز مسببات الحوادث التي أشار إليها السائقون الذين تحدثت إليهم الجمهورية.نت، مثل عامر البكور الذي يسلك طريق إدلب سرمدا الدانا يومياً عند ذهابه إلى العمل، والذي قال إن كثرة الحفر تؤدي لزيادة أعطال السيارات، خاصة المطبات غير المرئية التي تظهر بشكل مفاجئ.

يكاد لا يمر يوم دون حادث جديد تحذِّر فرق الدفاع المدني من حدوثه في المنطقة، المعدل اليومي يرتفع إلى عشر حوادث عند هطول الأمطار، حيث تتشكَّل طبقة لزجة تؤدي لانزلاق السيارات نتيجة تلوث الطرقات بالوقود المتسرّب من العربات، أو في الأجواء الشتوية والضباب الذي يعيق الرؤية.

 لكن المعدل الأعلى يكون في الأعياد والمناسبات ويصل إلى 20 حادثاً في اليوم، وكذلك في شهر رمضان قبيل الإفطار، «أغلب هذه الحوادث بسبب قيادة الأطفال للسيارات والدراجات النارية»، حسبما أوضح المسؤول في الدفاع المدني حسن الحسان.

بيانات الدفاع المدني لأعداد الحوادث في إدلب خلال النصف الأول من عام 2024 وصلت إلى 531 حادثاً، نتج عنها وفاة 12 مدنياً بينهم سبعة أطفال، مع إصابة 535 مدنياً بينهم 140 طفلاً و70 امرأة بجروح بليغة، مقارنة بـ1028 حادثاً طيلة عام 2023 نتج عنها وفاة 13 مدنياً وإصابة 987 شخصاً.

على الجانب الآخر بيانات «حكومة الإنقاذ» لم تتعد الـ106 حادث خلال المدة ذاتها، مع 258 حادثاً خلال عام 2023، وقال الرائد فادي الشامي مدير إدارة المرور إن تراجع أعداد الحوادث سببه «اتخاذ وزارة الداخلية لكافة الإجراءات الوقائية ضمن الإمكانية المتاحة لديها»، وقدّم أمثلة على ذلك تتضمن تفعيل شرطة الطرق العامة ومنع قيادة الأطفال للآليات وتوزيع الإشارات المرورية ومنع الاختناق المروري.

واقع المنطقة ما يزال بعيداً عن واقع التصريحات «الحكومية»، إذ لا تحضر الشرطة والإشارات المرورية سوى على بعض الطرق المختارة، بينما تعاني طرق الأرياف والمخيمات التي يزيد عددها عن 1110 من الإهمال التام دون تمهيد ولا تعبيد، وتشهد أعلى معدلات الحوادث المرورية.

ومع انخفاض الدعم الإغاثي للمنطقة والتحديات الأمنية المستمرة، حتى «المتاح» الذي أشار إليه الشامي لإعادة تأهيل الطرقات لا يبدو قريب الحدوث، إذ لم يلبِ سوى 6 بالمئة من التمويل المطلوب للمشاريع الإنسانية لعام 2024 حتى منتصف شهر أيار الماضي وفق بيانات الأمم المتحدة، ومع تراجع تلبية الاحتياجات الغذائية والصحية العاجلة تبقى المشاريع الضرورية لحماية السائقين والمارين من تكرار الحوادث المرورية بطيئة التنفيذ، وتبقى عملية التنقل والقيادة مخاطرة مستمرة.