لا تُثير كلمة «يسار» الكثير من الأثر الطيب في وجدان القارىء العربي عموماً، وهو ما يعود بكل تأكيد إلى الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في إلهام أنظمة العسكر وتكريسها. ثورات الربيع العربي زادت من تعقيد هذه العلاقة، وبالأخص علاقة السوري باليسار، بعد الاستخفاف الذي أبداه الكثير من قامات اليسار أمام سؤال سوريا ومحنتها، والذي إن تجلى بأوقح الأشكال لدى يسار البترودولار الإيراني، فإنه لم يغب تماماً عن بعض أبرز قامات اليسار الجديرة بالاحترام كالمفكّر الأميركي نعوم تشومسكي.
اليوم، لا يدفعنا لمتابعة الاهتمام باليسار غيابُ أي رجاءٍ بما قد يأتي من اليمين فقط، وإنما نجاحات بعض التجارب اليسارية التي لا تتوقف عن بثّ بعض الأمل، سواء في قدرتها على تجاوز ماضيها واستيعاب بعض مآزقها، أو في رغبتها بالتفكير الجاد وخوض غمار دروبٍ جديدة. اليوم، وبعد نتائج الانتخابات التشريعية في فرنسا، تتفاوض حركة «فرنسا الأبية»، إحدى أكثر نسخ اليسار جذريةً، مع الاشتراكيين الديمقراطيين لتسمية رئيس وزراء فرنسا المقبل. مشهدٌ يستحق بعض التوقف عند تجربتها.
يسار على حافة التاريخ
كان سقوط جدار برلين لحظة كبرى من تاريخ الإنسانية؛ هي جملة مكرورة لكنها ضرورية عند محاولة فهم تاريخ اليسار، فقد كانت هذه اللحظة إعلاناً لانتصار الرأسمالية، ما أفقد اليسار الثوري كل مُسوِّغات وجوده، ومنحَ اليسار الاشتراكي الديمقراطي صدر «نهاية التاريخ» وعتبته.
سبق ذلك الانهيار الكبير صعودُ مؤسسات العولمة، كصندوق النقد الدولي ومؤسسة التجارة العالمية والاتحاد الأوروبي، وتحوّلُ هذه المؤسسات إلى الناظم لإيقاع السياسات الكبرى في الكثير من بلدان العالم. إيقاع احترمته المجتمعات الغربية وترافق مع تحولات داخلية شديدة الأهمية، فبعد تصدير الصناعة وتخلُّصها من أعباء الحركات العمالية، تحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات قائمة على الاستهلاك والخدمات، دون أن يمنع ذلك من تمدُّد البطالة وتباطؤ النمو الاقتصادي وصعود اليمين المتطرف، وهو ما ترافقَ مع انتصار ثورات طلابية فاقدة لأي محتوى سياسي صلب، وما أدى بمجموعه إلى دخول هذه المجتمعات في مرحلة من «السيولة»، على حد تعبير زيغمونت باومان.
جاء انتصار بيل كلينتون ورغبته في ولادة حزب «ديمقراطي جديد» لتؤكد على فهم «اليسار» الأميركي لدروس اللحظة، ولكن هذا المنعطف لم يتخذ كامل أبعاده إلا في لحظة طوني بلير، فالديمُقراطيون الأميركيون ليسوا يساريين بالمعنى التاريخي للكلمة، وبيل كلينتون أقلُّ طموحاً وأكثر انشغالاً بملذات الدنيا من صديقه، الذي شرع بمعونة الحزب «العمالي الجديد» بـ«سياسات اقتصادية جريئة» عبر منح البنك الوطني البريطاني استقلاليته والانفتاح على اقتصاد السوق، والشروع في «تحديث مؤسسات الدولة».
اتخذت سياسات بلير 1997-2007 بُعداً نظرياً وإيديولوجياً، فهو ليس ذلك اليساري الذي يتخلّى عن مبادئه عند وصوله إلى السلطة ليعلن عن حبه للسلطة والثروة، وإنما ذلك اليساري الذي يرغب بتطوير «يسار حكومي»، أو ما سماه بـ«يسار الخط الثالث»، متصالح مع عالم الثروة وموافق على ضرورة تقليص دور الدولة وتعزيز منطق المسؤولية الفردية، وهي الأطروحة التي نظّرَ لها مستشاره، الأكاديمي أنتوني جيدين، في كتابه ما بعد اليسار واليمين، والتي تحولت إلى سياسات كبرى، وإلى خطاب إيديولوجي تضجّ به عوالم السياسة، التي تحولت بدورها إلى علاقات عامة يصوغها ملحقون صحفيون لم يتوقف عددهم عن الازدياد. هيمنَ الخطُّ الذي كان بلير عنوانه على المشاريع السياسية للكثير من زعماء أوروبا، من شرودر في ألمانيا 1998-2005 إلى جوسبان في فرنسا 1997-2002، بل وحاول بلير، على طريقة ماركس ولينين وتروتسكي، إطلاق «أممية الخط الثالث»، ولم تبدأ الألفية إلا وكان يسار الخط الثالث يحكم 13 بلداً من أصل 15 في الاتحاد الأوروبي.
إن كانت لحظة طوني بلير شديدة الأهمية لفهم تحولات اليسار الأوروبي، فلا بد من التذكير أن لحظات أخرى ألقت بظلالها عليها، فقد شهد عام 1999 ولادة حركة مناهضة العولمة بعد احتجاجات سياتل الشهيرة ضد الآثار الكارثية للعولمة النيوليبرالية، والتي منحت بقايا اليسار الثوري بعض الأمل بعد عقد من الذهول والصمت. هجمات 11 أيلول التي استهدفَ فيها تنظيم القاعدة برجَي التجارة العالمية بدت أيضاً أقربَ إلى صفعة لمقولة «نهاية التاريخ». ولكن تبقى الأزمة المالية لعام 2008 اللحظة الكبرى التي وضعت كل جهود يسار نهاية التاريخ موضعَ السؤال، فقد تحولت أزمة ديون القرض العقاري الأميركية إلى أكبر أزمات الرأسمالية بعد الكساد الكبير لعام 1929، وهو ما أكد على خطورة العولمة المالية، خاصةً وأن سياسات الإنقاذ التي أقرَّها أوباما قد دلّلت على تبعية المجتمع السياسي وعجزه أمام عالم المال والأعمال. أزمة الديون اليونانية عام 2012 جاءت كالكرزة على الكعكة، ففي 2008، كان رأس المال لكارل ماركس الكتاب الأكثر مبيعاً في معرض فرانكفورت، وأعلن الفرنسي جان لوك ميلونشون مغادرته الحزب الاشتراكي الديمقراطي.
اليسار خارج الصندوق
غادر ميلونشون حزبه بعد الهزيمة القاسية التي تلقّتها مذكرته «من أجل إعادة اختراع اليسار»، في مؤتمر رانس التالي لأزمة 2008، وبعد انتصار مذكرة الخط الثالث بأكثر من 80 بالمئة من أصوات الحزب. أراد ميلونشون وزملاؤه بانشقاقهم التأكيد على رفضهم «مهادنة اليمين والرأسمالية، المسؤولين عن الدمار الذي يصيب الإنسان والبيئة»، واختيارهم الدرب الذي اختاره قبلهم بسنة واحدة اشتراكيون ألمان في حزب «دي لينكي». لم يكتفِ ميلونشون ورفاقه باستلهام رفاقهم الألمان عند تأسيسهم «حزب اليسار»، فقد كان لانتصارات «المدّ الوردي» في أميركا اللاتينية أثرٌ كبيرٌ في إلهام هذا الحزب الناشئ وفي تطمينه على فاعلية بعض عناصر الخطاب اليساري التقليدي، كضرورة تعزيز دور الدولة وكبح جماح السوق والتصدي للإمبريالية الأميركية، ولكنها كانت أيضاً مخبراً هاماً لبعض الأفكار الجديدة التي استلهمها ميلونشون ورفاقه في صياغة أطروحات خطهم السياسي.
ولد «حزبُ اليسار» مع خطاب وبرنامج يطمح إلى التأسيس لـ«يسار القطيعة»، فالأزمات التي تنتجها الرأسمالية، على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والديمقراطية أزماتٌ بنيوية لا ينفع معها إلا الحلول الجذرية التي يجب أن تترجم نفسها على شكل قطيعة شاملة، تبدأ بقطيعة مؤسساتية مع الجمهورية الخامسة ومؤسساتها، عبر دعوة مُجمّع وطني، ينتخبه الفرنسيون، إلى صياغة دستور جديد، أكثر تشاركية ولامركزية ووعياً بالتحديات البيئية، بما يليق بالجمهورية السادسة. يطمح الحزب أيضاً إلى التأسيس لقطيعة اقتصادية، عبر العودة إلى مقولة التخطيط، التي أثبتت فاعليتها في عالم الشركات الخاصة، والتي لا بديل عنها لمواكبة الانعطافة الخضراء الواجب تبنيها، وبجدّية، لوقف مسار الكارثة البيئية التي باتت تهدد الوجود الإنساني برمته، عبر خفض انبعاثات غازات الدفيئة والحفاظ على التنوع البيئي وتعزيز الاستثمار في الانتقال البيئي، وعبر الانتقال من اقتصاد الاستهلاك والإنتاج إلى اقتصاد قائم على الحاجة.
شكلت هذه النقاط التي بلورها برنامج حزب اليسار في بدايات العقد المنصرم النواة الصلبة لرؤية لم تتوقف عن التطور والنضج، فقد استند الحزب على هذه النقاط في مانيفستو الاشتراكية البيئيةتهدف الاشتراكية البيئية إلى تقديم مراجعة مُعمَّقة للطروحات الاشتراكية، عبر التأكيد على أولوية الهموم البيئية وعلى ضرورة تهميش مقولات الإنتاج والاستهلاك والنمو وتخليص الاشتراكية من مركزية مقولة الوفرة في مخيالها ورؤيتها.الذي أطلقه بعد انتخابات عام 2012، بل وتحولت هذه القطيعة إلى المحتوى الرئيسي لحركة فرنسا الأبية التي أطلقها جان لوك ميلونشون لتنظيم حملته الانتخابية لدورة 2017. لا بد من الذكر أن هذه الرؤية قد قوبلت بالكثير من الاحترام من قبل الصحافة والجامعة، وأن الكثير من عناصرها يستند على بعض أبرز المساهمات النقدية في مجالات الاقتصاد والعلوم الإنسانية.
لم يكتف صاحب كتاب فليرحلوا جميعاً (2010) ورفاقه بتقديم رؤية ناضجة لبديل متين لسلطة الأمر الواقع، وإنما بحثوا عن مناهج جديدة للتنظيم والحشد، فقد فهم ميلونشون أن النموذج الثوري الذي ساد في القرن الماضي، والذي يستند على «حزب طليعي» مُسلَّح بـ«نظرية علمية» و«جماهير مؤمنة»، لم يعد قادراً على الإقناع، وأنه لا بد من الابتكار. قدمت «الثورة المواطنية»، التي استلهمها من صديقه الزعيم الإكوادوري رافايل كوريا حلاً مبتكراً لمشروع القطيعة، فقد انطوت هذه المقولة على بعد ثوري حالم، غائب عن خطاب الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ومشحون بما يساعده على الانفتاح على عوالم اليسار الثوري والشباب والطلبة. البعد المُواطني الذي تنطوي عليه هذه المقولة، ينفي عنها، من جهةٍ أخرى، مآلات الاستبداد والسلطوية والبطش التي ميّزت ثورات القرن الماضي، ويعطيها الكثير من المعقولية والجدّية. إنها ثورة عمادها، في أعنف حالاتها، مقولة العصيان المدني، تشبه في ذلك ما دعا له ذات مرة لاعب القدم الفرنسي الشهير إيريك كانتونا، عندما طالب مواطنيه بسحب أموالهم من البنوك، من أجل تحطيم النظام البنكي الفرنسي ومعاقبته، وهي الدعوة التي لم تلقَ صدى واسعاً وإن أثارت، ببساطتها وفاعليتها، بعض المخاوف. تتوافق هذه الثورة أيضاً مع هدف الجمهورية السادسة ودستورها الذي يحثّ المواطنين على المشاركة في صنع القرار، وعلى التحوُّل إلى لاعب سياسي مستدام لا مجرد صوت انتخابي. هي إذن مقولة تكمّل رؤية جادّة وجديدة، لا ينقص لانطلاقها إلا بعض «الصخب والغضب».
فرنسا الأبية: الشعب يجد يساره؟
حصلت حملة ميلونشون على 11 بالمئة من أصوات الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية لعام 2012، وهو ما بدا رقماً مُشجِّعاً لوجهٍ جديدٍ نسبياً، لا يقف خلفه إلّا جبهة اليسار الفتية التي تجمع حزب اليسار بالحزب الشيوعي الفرنسي وبعض الأحزاب والحركات اليسارية الصغرى. يضاف إلى ذلك أن هذا الاختراق حصل في غفلة من وسائل الإعلام التي اعتبرتها حملة هامشية، لا يجب أن تشغلهم عن الاستقطاب الكبير بين الرئيس ساركوزي ومرشح الحزب الاشتراكي الديمقراطي فرانسوا هولاند.
تجتمع هذه النتيجة مع خيانة فرانسوا هولاند وحزبه لخطاب الحملة الانتخابية التي قادته إلى الإليزيه، عبر تطبيق سياسات أكثر من يمينية، ما خلق لدى قطاعات واسعة من جمهور اليسار الفرنسي الشعور باليُتم. أتاح كل ذلك لميلونشون، ولحركة «فرنسا الأبية» التي أسسها بمناسبة انتخابات الرئاسة لعام 2017، بدء حملتهم من موقع أفضل بكثير من الموقع الذي بدأوا منه في انتخابات 2012. ميلونشون من جانبه، كان على أهبة الاستعداد لهذه اللحظة، بل وبدا وكأنه بذل كامل السنوات الخمس الأخيرة في التجهيز لهذه الحملة، وهو ما أعانه عليه تأثره بأعمال الأرجنتيني إرنست لاكلو والبلجيكية شانتال موف، فقد كانت استراتيجيته الإعلامية والميدانية تجسيداً متكاملاً لاستراتيجية الشعبوية اليسارية كما بلورها هذان المُنظِّران.
ترى هذه المقاربة أن على اليسار أن يتعامل مع السياسة بوصفها صراعاً بين الشعب والطغمة الأوليغارشية، لا مجرد صراعٍ بين اليمين واليسار، والشعب هنا صناعةٌ خطابية أكثر منه كيان سوسيولوجي سابقٌ على السياسة، وهو ما يتطلب ولادة زعيم قادر على استخدام خطابته ورؤيته وكاريزميته لـ«خلق» شعب يساري مستعد لخوض غمار السياسة والتغيير. تُصرّ هذه النظرية على أهمية عمل الزعيم على خلق سلسلة من التماثلات بين المطالب عبر خطابه، بما يدفع العامل قليل التأهيل إلى التفكير بالقضايا البيئية أو النسوية، والحضري الميسور وعالي التأهيل إلى التماهي مع هموم الطبقات الشعبية، وهو يسمح، في نهاية المطاف، بحشد كتلة تاريخية قادرة على خوض معركة التغيير الجذري، والخروج من عالم السياسة الاحترافية بيسارها ويمينها إلى عالم يقف فيه الشعب واحداً ضد الطغمة، الواحد بالمئة، التي تستنزف البلاد وتدمر البيئة.
«الدم الحامي» و«المزاج المتوسطي» لميلونشون، ووعيه بِسِماته الشخصية، ورغبته في توظيفها في استراتيجية «الصخب والغضب» التي اقتبس اسمها من شكسبير، كل ذلك ساهم في تحويله إلى واحدة من أكثر الشخصيات حضوراً في عالم الإعلام الفرنسي، وإلى سؤال لا يجد أي فرنسي مفرّاً من التفكير فيه. وقد التقت هذه الاستراتيجية الإعلامية الهجومية، القائمة على «الباز الإعلامي» والمواجهة والشفافية والاستفزاز، مع شرائح شبابية متعطشة لخطاب جذري وحالمة بحلول لقضايا البيئة والنسوية والجندر تتجاوز خشبية لغة السياسة التقليدية، وهو ما سمح لخطاب ميلونشون بالانتشار في عالم الإنترنت وشبكاته الاجتماعية ليتحول إلى كرة ثلجية لا تتوقف عن استقطاب شرائح إضافية من الشباب والطلاب، بل وتمكن ميلونشون بفضل الدعم التقني الهائل الذي استفادت منه حملته من عقد اجتماع في عدد من المدن في الوقت نفسه عبر تقنية الهولوغرام. الجدير بالذكر أن هذه الحيوية اليسارية في عالم الإنترنت، والتي أطلقتها نجاحات حملة ميلونشون، خلقت مناخاً شجَّعَ كثيرين على تشكيل منابر ومبادرات إعلامية كانت نواة إعلام يساري بديل لا يتوقف عن التطور.
تمكّنت حركة «فرنسا الأبية»، بفضل هذه الدينامية والرؤية المتماسكة والمدروسة التي بلورها برنامج «المستقبل سويةً»، من تحقيق حضور واسع في أوساط النخبة الفرنسية أيضاً، فتلقت الدعم من عدد كبير من الشخصيات العامةتضاعفت شعبية ميلونشون في عالم النخب في انتخابات 2022، لتتحدث قناة TF1، وهي القناة الأكثر مشاهدة في فرنسا عن أكثر من 2000 شخصية عامة تدعم ميلونشون.أو الشخصيات الأكاديمية والأدبية البارزة، كآني أرنو الحائزة على جائزة نوبل للآداب، كما اعترفت العديد من الصحف بأن برنامج الحركة هو الأكثر تقدمية فيما يتعلق بأسئلة النسوية، والأكثر جديّة فيما يتعلق بأسئلة البيئة، إلى درجة دفعت عدداً وازناً من كوادر حزب الخضر إلى الانشقاق عن حملات مرشحيهم لدعم ميلونشون.
بالمحصلة، حقَّقَ ميلونشون قرابة العشرين بالمئة في انتخابات 2017، مما حوله، بعد انهيار مرشح الاشتراكي الديمقراطي المدعوم من الخضر، إلى الوجه اليساري الأول في فرنسا، وساهم في تحويل حركته إلى العنوان الذي يقصده كل مهتم بمحتوى يساري يجمع بين الجذرية في الرؤية والجدية في السعي إلى سلطة لا يتوقف عن الاقتراب منها.
الخرائط والبيانات الانتخابية للحركة توضّح هذه التحولات لتؤكد أن فرنسا الأبية قد أصبحت صوت شرائح واسعة من الشباب والطلاب والمعلمين والموظفين، وأنها الصوت الذي حمل هموم قطاعات واسعة من الطبقات الشعبية وأحلام الطبقات الوسطى عالية التأهيل في العاصمة الفرنسية ومعظم الحواضر الكبرى وأغلب الجزر الفرنسية، وأنها أكثر عبوراً للطبقات ممّا اعتاده اليسار أو ما كانه باقي مرشحي 2017. كان للحركة أيضاً حضورٌ واسعٌ في أوساط مُسلمي فرنسا ومُهاجريها وفي الأحياء الشعبية، ولكنها لم تتمكن من تحقيق حضور حقيقي في المناطق الريفية المحافظة والغرب الفرنسي الميسور.
الجدير بالذكر أن استراتيجية الصخب والغضب الإعلامية، والنزعة المناهضة لحلف الناتو المدافعة عن وجهة نظر ديغولية في علاقات فرنسا الدولية، قادت ميلونشون، في لحظة حصار حلب، إلى «تحية القصف الروسي» في سوريا، وإلى مواقف مشابهة في سفاهتها في الملف الأوكراني، وهي المواقف التي تعرَّضَ بسببها للكثير من الانتقادات من قبل الميديا والمجتمع السياسي التقليدي ومن قبل اليسار الفرنسي الحكومي واليسار الثوري، الذين كانت مناصرتهم للثورة السورية واحدة من القضايا النادرة التي يتفقان على دعمها.
لا بد من الذكر، من جهةٍ ثانية، أن مواقف ميلونشون «الملتبسة» و«السفيهة» في السياسة الخارجية، لا تحظى بشعبية مطلقة لدى جمهور حركة فرنسا الأبية، وأن بعض أطيافهم تحاول التقليل من مركزية هذه المواقف عبر رَدِّها إلى رواسب الحرب الباردة العالقة في رأس زعيمهم، والتأكيد على حتمية اندثارها واستحالة تحولها إلى ركيزة أساسية في مقاربتهم الجيوسياسية، وإن كانت النبرة حائرة وقليلة اليقين، بما يُعيد تذكيرنا بفشل عموم اليسار في بلورة مقاربة جيوسياسية متماسكة لعالم ما بعد انهيار جدار برلين.
استدامة تائهة بين اليسار وزعيمه
جاء وصول إيمانويل ماكرون إلى سدة الرئاسة الفرنسية في عام 2017 واتّباعه نهجاً شديد الليبراليةإلى درجة دفعت بالرئيس السابق فرانسوا هولاند إلى وصف ماكرون بـ«رئيس الأغنياء جداً».، بالإضافة إلى اندلاع احتجاجات الستر الصفراء، لتشكّل هذه الظروف مناخاً مناسباً لتجذُّر فرنسا الأبية في المجتمع الفرنسي. ولكن الحركة لم تنجح في ارتداء السترة الصفراء وبدت شديدة الانشغال بترتيب بيتها الداخلي بعد نجاحها الانتخابي الكبير. فبعد أن أصبحت الحركة عنواناً لجمهور اليسار، ازداد الطلب على الانضمام إليها وعلى تحولها إلى حركة هرمية يمكن لمن ينتسب إليها أن يتمتع بديمقراطية داخلية يفترض أن تمنحها الحياة الحزبية، بما يضمن قدرته على إسماع صوته والحصول على أجوبة على أسئلته، أو على الانتظام داخل الحركة في واحدة من تياراتها، والتحوّل إلى واحد من كوادرها. لكن، ونظرًا لأنه كان من المنطقي أن يعتقد ميلونشون بأن فرصته الكبرى في الوصول إلى السلطة ستكون في عام 2022، ولأن الحركة نشأت أساساً كحركة انتخابية، لم يكن من الممكن مقاومة رغبة زعيمها في المحافظة على شكلها وتنظيمها الغازي، وما يعنيه هذا الشكل التنظيمي من أُفقية وتهميش للأجسام التنظيمية الوسيطة، والذي أثبت فاعليته في انتخابات 2017.
حافظ ميلونشون إذن على هيمنته على فرنسا الأبية، لينتظم مع بعض وجوه الجيل الثاني من الحركةنتحدث عن ماتيلد بانو، زعيمة المجموعة البرلمانية للحركة، أو عن مانويل بومبارد مسؤول الحملة الانتخابية لميلونشون، أو أدريان كادناس، القائد السابق الحركة، أو عن مانون أوبري، وجه الحركة في البرلمان الأوروبي، أو دافيد جيرو وآخرين كثر، ممن يمكن اعتبارهم طليعة الجيل الثاني لفرنسا الأبية، ومن يزداد وزنهم في عالم الحركة والسياسة الفرنسية عموماً.، التي لا تمنعها ألمعيتها وطموحها من الإعجاب بزعيمها والوفاء لنهجه، في إطار «مكتب تنفيذي» يقود الحركة على ضوء الإستراتيجيات التي يقرها «مجلس سياسي»، جرى اختراعه لتهميش بعض وجوه الجيل الأول المؤسِّسة للحركةجاءت مغادرة شارلوت جيرارد للحركة، عقب الانتخابات البرلمانية لعام 2019، وهي من كانت ساعدَ ميلونشون وإحدى أكثر المقربات من الزعيم، لتسلط الكثير من الأضواء على المشاكل الداخلية التي تعاني منها الحركة. ويمكن للنص الذي نشرته بالمناسبة، وتفاعل قياديي الحركة معه، أن يكشف عن المعضلة التي تواجهها الحركة بين تنظيم ديمقراطي داخلي قليل الفاعلية بل وغالباً ما ينتهي بدمار الحركة، وتنظيم داخلي فعال، ولكن شديد السطحية من حيث التغلغل في المجتمع.. وقد ساهمت هذه المناورة التنظيمية في الحفاظ على فاعلية الحركة، لتبقى حركة أفقية تُوجِّهها مجموعة صغيرة وفعالة من خلال مبادرات تقترحها على جمهور الحركة، بما يضمن حيوية التنظيم، ويوفر عليه مشاكل التنظيم الهرمي بلجانه الفرعية والمناطقيّة، وتياراته وصراعاته وانقساماته، وهي مشاكل تنظيمية حقيقية طالما عانى منها اليسار الجذري الفرنسي، كما هو الحال مع التروتسكية الفرنسية التي لم تتوقف عن تبديد طاقتها في خلافات إيديولوجية وانقسامات تنظيمية.
جاءت استمرارية هذا التنظيم الغازي على حساب بعض وجوه الجيل الأول من الحركةنتحدث هنا عن كليمنتين أوتان أو فرانسوا روفان وأليكسي كوربير وأخرين، ممن اعتاد الإعلام الفرنسي في الأيام الماضية على تسميتهم بـ«العصاة»، والذين انفصلوا بشكل رسمي عن الحركة منذ أيام قليلة ليؤسسوا حركة جديدة. ممن استُبعدوا تعسفياً من المجلس التنفيذي، لتنمو تدريجياً خصومة وشِقاقات عبرت عن نفسها في مناسبات عديدة، منها فشل الحركة في التحول إلى صوت احتجاجات الستر الصفراء، أو إخفاقها في الانتخابات الأوروبية لعام 2019، أو الَنفَس الصِدامي الذي اتَّبعه نواب الحركة في جلسات البرلمان التي تحوَّلت إلى ما هو أقرب لصف مدرسي غادره أستاذه، أو استشاطات زعيم الحركة الذي لم يتردد بالرد «أنا الجمهورية» على الشرطة القضائية التي داهمت مكاتب حركته، ومواقف أخرى كثيرة، ما ساهم في تعميق نفور بعض شرائح الطبقات الوسطى من الشعبوية اليسارية بصخبها وغضبها، وما أثار الكثير من التساؤلات حول محدودية الأفق الذي تقترحه الحركة.
ولكن الحملة الناجحة التي خاضها ميلونشون في انتخابات 2022، والتي كادت أن تصل به إلى الدور الثاني من الانتخابات، بعد حصوله على 22 بالمئة من الأصوات، وتقليص الفارق بينه وبين مارين لوبين إلى أقل من 400 ألف صوت، أعادت للحركة الكثير من بريقها، وحوّلت انتصارها في عام 2017 من مجرد مصادفة استثنائية إلى دينامية مستدامة، كما حولت برنامجها المُستمَدَّ من لحظة أزمة 2008 إلى الحد الأدنى المطلوب تبنيه من قبل أي يسار فرنسي يستحق اسمه. عبارة «امضوا أبعد!» التي اختتم بها ميلونشون خطابه، بدت أقرب إلى وصية شديدة العاطفية لزعيم تاريخي لن ينساه اليسار أبدًا.
ولكن، ولأن ميلونشون مسكون بسوسة السياسة، والسلطة ربما، عاد لمخاطبة جمهور اليسار بعد أيام قليلة بهدف التحضير للانتخابات البرلمانية التي تلي الانتخابات الرئاسية، وبشعار رنان «كي يكون ميلونشون رئيساً للوزراء»، ليبدأ مناورة سياسية جديدة، حاول فيها استغلال الزخم السياسي الذي منحته إياه الإنتخابات الرئاسية لتوحيد كل أطياف اليسار في جبهة موحدة قادرة، برئاسته، على خوض الانتخابات البرلمانية، وتحقيق تَحوُّل كبير يُمكِّنها من تشكيل الحكومة أو على الأقل منع ماكرون من مزاولة الحكم بأغلبية مطلقة أو مريحة.
لم تنجح هذه المناورة السياسية أيضاً في تحقيق هدفها الرئيسي، ولكنها نجحت في زيادة عدد مقاعد «فرنسا الأبية» البرلمانية وفي تحويلها إلى قائد اليسار الفرنسي، وهو ما لم يمرّ دون مواجهة الكثير من العقبات التي يمكن إيجاز أغلبها في شخص ميلونشون ورغبته بالاستئثار بالسلطة، والذي تجلّى عبر إدارته المُهمِلة لملف معاونه الذي قام بصفع زوجته، والتي أهملَ فيها الكثير من الاعتبارات النسوية التي يُفترض به النضال من أجلها، أو من خلال دفاعه عن إحدى مستشاريه ممن اشتهرت بممارسات إدارية سامّة. ثم جاء المعركة الكبرى التي خاضها الفرنسيون ضد إصلاح قانون التقاعد لتضع زعيم «فرنسا الأبية» في مواجهة مفتوحة مع النقابات، بعد أن اعترض على استقلاليتهم التي تُعَدُّ من بديهيات النضال النقابي واليسار الفرنسي منذ أكثر من قرن.
جاءت هجمات 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الإسرائيلية على غزة لتمضي باليسار الفرنسي إلى لحظة عنوانها التوتر والانقسام، فقد أعادت من جهة لميلونشون الكثير من بريقه، عبر تظهير التطور الكبير الذي حققه خطابه تجاه العنصرية والإسلاموفوبيا التي يعيشها الكثير من مُلوَّني فرنسا ومسلميها، والذي صالحَ الكثير من أبناء «فرنسا السمراء» مع السياسة، وحولّهم إلى لاعب وازن في صفوف الحركة، وفي عوالم السياسة والميديا الفرنسية. أظهرت هذه اللحظة أيضاً الشجاعة والثبات التي تحلى بها ميلونشون وأغلب قادة الجيل الثاني من «فرنسا الأبية» في تصديهم للمكارثية الإعلامية الفرنسية ودفاعهم عن الفلسطينيين وقضيتهملا بد من التذكير في هذا السياق أن أول امرأة فرنسية من أصل فلسطيني وصلت إلى البرلمان الأوروبي هي مرشحة فرنسا الأبية ريما حسن.، ورفضهم الدعم اللامشروط لإسرائيل ورفضهم التعامل مع حماس من خلال منطق «الحرب على الإرهاب». وهي اللحظة التي أظهرت العمق السلطوي والمُهادن لأغلب وجوه الجيل الأول من الحركة، عدا عن قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، عبر إظهار السطحية والامتثال والجُبن الذي وَسَمَ الموقف الذي اتخذوه تجاه غزةلا بد من التذكير أن الخضراء ساندرين روسو، الأكثر يسارية بين وجوه حزبها، قد بدت وكأنها تستلهم صفاقة ماكرون عندما دعت إلى تشكيل تحالف دولي ضد حماس. من نافل القول أيضاً أن الاشتراكيين الديمقراطيين تجاوزوا الخضر في انحطاط موقفهم تجاه القضية الفلسطينية.، ولكنها كانت أيضاً اللحظة التي حاول فيها ماكرون الاستفادة من انقسام اليسار وضعفه، عبر حلّ البرلمان وإجبار الفرنسيين على الاختيار بينه وبين اليمين المتطرف، ما أجبرَ طرفي اليسار على الوحدة وخلقَ دينامية دفعت الكثير من الفرنسيين إلى التصويت لهذا اليسار رغم كل مشاكله، أملاً في قدرته على تجاوزها.
يعيش اليسار الفرنسي اليوم إحدى لحظاته الكاشفة، نتعرف فيها على ما يمكن أن يجمع، أو يُفرِّق، بين جناحه الاشتراكي الديمقراطي الراغب بأنسنة منظومة السوق والهيمنة الغربية، وجناح فرنسا الأبية الراغب بقطيعة شاملة مع هذه المنظومة. لحظة انتخابية نجح فيها الاشتراكيون الديمقراطيون في لملمة بعض شتاتهم دون أن يعني ذلك خسارة فرنسا الأبية أصوات الناخبين بسبب موقفها من غزة، لتبقى قوةً وازنةً لا يمكن تجاهلها، يقودها زعيمٌ مسكون بسؤال «الفاعلية»، إحدى أكثر مقولات الرأسمالية مركزية، ما يحدّ حتى اللحظة من تجذّرها في المجتمع، ويمنعها من التفكير جدياً في مستقبلها بعد رحيله.