على خشبة المسرح في قاعة سينما مكتظة بوسط بولونيا، يقرأ أسامة محمد السطر الأول من سيناريو فيلمه: «أنا رجل حرّ». يمثل هذا البيان الموجز، الأشبه بالمرثية، بداية فيلم نجوم النهار.
محمد مخرج سينمائي وكاتب سيناريو من مواليد اللاذقية، يعيش في المنفى في باريس منذ 2011، ويَعتبرُ نجومَ النهار بالتحديد أهمَّ أعماله؛ هو عمل ناقد اجتماعياً، يتجاوز كونه محضَ تعليق سياسي، واستكشافاً لأثر الديكتاتورية العميق على الحالة البشرية.
ثم يأتي السطر التالي: «إذا كنت حراً حقاً، فلماذا تحتاج إلى قول ذلك؟».
هذا السؤال، إلى جانب كل النقاشات غير المحسومة بين الفنانين والفنانات حول الغرض من السينما والحاجة الغريزية لترك علامة، يبقى مُعلَّقاً في هواء قاعة السينما دون إجابة.
«هذا فيلم خطير»، يقول محمد لسيسيليا سينسياريلي، المديرة المشاركة لمهرجان بولونيا السينمائي «إل سينما ريتروفاتو». شاركت سينسياريلي عن كثب في العملية الطويلة لاستعادة فيلم نجوم النهار وإعادة إصداره. «إنه فيلم عن التشوه النفسي الذي يصيب الأشخاص الذين يعيشون في ظل الدكتاتورية، وما يمكن أن يحدث لأي إنسان في تلك الظروف. قد يبدو هؤلاء الفقراء الضحايا غريبين بل ومُسلِّين، لكن احرصوا على عدم التقليل من شأنهم: فقد يكونون أيضاً خطرين ومتوحشين، تماماً مثل الشخصيات في الفيلم».
صدرَ فيلم نجوم النهار في 1988، وقد تطلَّبَ إنتاجه جهداً هائلاً من محمد، وكمّاً غير هيِّنٍ من الإيمان الإبداعي. يقول: «الديكتاتور حاضر في الفيلم. لذلك قلت لنفسي، لنرى ما سيحدث، فاحتضنت متعة الاستكشاف السينمائي وخطورته». وقد نجح محمد في ذلك. نجوم النهار فيلم مستوحى من تقاليد الكوميديا الجورجية وسينما فيديريكو فيليني وإيتوري سكولا، وتحفة فنية ابتكر محمد من خلالها كناية واضحة عن نظام الأسد، مجسدة بإخضاع المرأة في المجتمع الأبوي، وتحديداً السيطرة البيو-سياسية على جسد الأخت الأصغر عمراً التي تُجبَر على الزواج. بينما يستكشف الفيلم هذه القصة من خلال تجسيد الممثلة صباح السالم لشخصية سناء ورحلتها الخانقة، فإنه أيضاً يمثِّل كناية لا لبس فيها عن النظام الشمولي في سوريا.
يصور فيلم نجوم النهار الانهيار الكارثي لعائلة غازي عشية حفل زفافّين في قرية ريفية في المنطقة الساحلية العلوية شمال غرب دمشق. هذا العالم العائلي المُصغَّر ــ الذي يهيمن عليه الأخ الأكبر المستبد عباس، شبيه حافظ الأسد ــ يعمل بمثابة رمز عن النظام البعثي. يستكشف الفيلم كيف يتسرّبُ عنفُ السلطة التعسفية والمطلقة داخل مجتمع أبوي إلى نسيج الأمة وجوهر وحدة الأسرة. ومن خلال صور صارخة وشفّافة، يسبر الفيلم تضاريس العنف الكامن وراء الصمت الثقيل، ومحاولات الهروب المحبطة، والبكاء الخانق. هذا الفيلم الذي أُعيدَ اكتشافه واستعادته ساخرٌ وغيرُ تقليدي، قويٌ بصرياً، ودليلٌ في كل واحدة من أُطره على موهبة محمد فوق الاعتيادية: إتقانه للتأطير، الفن الذي يتفوق فيه المخرجون السوريون.
من خلال فتحة في سقف الإسطبل، وفجوة في جبل من القشّ والسماد، نرى ظلَّ طفلٍ عارٍ في مواجهة الضوء، يشبه تمثالاً لملاك يمسك بيديه دجاجتين. في الظلام الكهفي في الأسفل، ينظر أخوه الأصمّ الضعيف كاسر وأخته سناء بملامح قد تكون إمّا مَرِحَةً أو مرعوبة: في هذه المرحلة المبكرة من الفيلم، يصعب التمييز بين الاثنين. كل منهما يحمل بيضة واحدة في أيديهم الصغيرة الشاحبة.
قد يتساءل المشاهد-ة عمّا إذا كانت علامات الدكتاتورية موجودة بالفعل في هذه المشاهد الافتتاحية للطفولة. مثل هذا السؤال التعليمي لن يُنصف الجمال الرمزي لصور الفيلم. «كنتُ أعلم أنه لا يمكنني الاعتماد إلّا على الصور»، يعترف المخرج، مردداً نهج صانعي الأفلام الآخرين من جيله – الموجة الثانية من السينما السورية، التي تضمُّ أساتذة مثل عمر أميلاري ومحمد ملص، «لذلك تعلّمتُ بسرعة استخدام الكلمات كأماكن للاختباء. ربما لهذا السبب، وعلى عكس مخاوفي، لم تحاول المؤسسة الوطنية للسينما فرض أي تغييرات على السيناريو».
في نجوم النهار، تُمثِّلُ الكلمات أماكنَ للاختباء، تماماً مثلما تفعل المساحات الداخلية في الساحل السوري، التي تقوم الكاميرا بعرضها من خلال الشقوق الصغيرة والنوافذ الجانبية المُغبّرة والانعكاسات في المرايا المكسورة. يُخلِّفُ ذلك لدى المشاهد-ة إحساساً بالتسلُّل إلى أكثر الزوايا العنيفة وغير المريحة في أشد المساحات خصوصية: منزل العائلة.
رحلة استعادة شاقة
كان رضوان جاموس، الممثل الذي لعب دور الأخ الأكبر عباس، قلقاً من التشابه بين شخصيته والأسد الأب. يتذكّر المخرج قائلاً: «في منتصف التصوير، كان يأتي إلي ويسألني: أسامة، هل أنت متأكد من أنني لا أشبهه كثيراً؟»، وبعد إقراره بأوجه التشابه التي تتجاوز الشارب القصير والكَثّ، كان محمد يُطمئِنُ جاموس بقوله: «لن تكون لدى أحد الشجاعة للاعتراف بذلك». ولم يفعل أحد بالفعل – على الأقل ليس بصوتٍ عالٍ.
عُرِضَ نجوم النهار مرة واحدة فقط في سوريا أمام جمهور من الفنانين-ات والمثقفين-ات في دمشق في 1988، قبل أن يُمنَع على الفور. ومع ذلك، حرصاً منها على تقديم صورة تقدمية ومنفتحة للعيون الأوروبية، سمحت الحكومة السورية للفيلم بالمشاركة في المهرجانات الدولية، فاختيرَ لفقرة أسبوع المخرجين في مهرجان كان السينمائي، كما عُرِضَ في مهرجانَي بلد الوليد والرباط، وحظيَ بعدها بتوزيع متواضع في أوروبا.
«مع ذلك، منع النظام السوري عرض الفيلم بشكل عام، فاقتصر جمهوره على الدوائر المغلقة من المثقفين والمثقفات في الخارج»، يوضح محمد، «كانت تلك المرة الثانية التي يُفرَضُ فيها مثل هذا الحظر على إحدى الأعمال السينمائية في سوريا – كانت المرة الأولى على تحفة عمر أميرالاي، الحياة اليومية في قرية سورية، الذي صدر في 1974. في نهاية المطاف، كنا نعلم أنه من المستحيل عملياً أن نصنع سينما جيدة وأن نكون مؤيدين للنظام».
منذ انتفاضة 2011 ومحمد يعيش في المنفى في فرنسا، بعد أن ذهب في البداية إلى هناك لحضور دورة تدريبية مع المخرج السينمائي وكاتب السيناريو اليوناني-الفرنسي كوستا غافراس. في 2000، قبل عامين من إصدار فيلمه الطويل الثاني، صندوق الدنيا، وفي الغرفة نفسها التي تم تصوير الفيلم فيها، قام بجمع عدد من الفنانين والفنانات للتوقيع على عريضة ضد النظام. انضمَّ إلى هذا الجهد عدد من الكتاب والمثقفين اللبنانيين، من بينهم إلياس خوري وسمير قصير.
ثم جاء الخوف: الخوف من عدم القدرة على العودة. قال محمد لسينسياريلي حول بداية حياته في المنفى: «قامت صحيفة لوموند بنشر تصريحاتي مع النص الذي وَقَّعه 99 فنان وفنانة من سوريا، والذي يُدينُ النظام الحاكم بشكل مفتوح وصريح. في تلك الليلة، قال لي صديق مُثقّف ومُقرَّب مني إنني في خطر كبير، ويجب ألّا أعود إلى سوريا أبداً».
«وأنا أعتقد»، يعلن محمد بعد ثلاثة عشر عاماً من خشبة المسرح في بولونيا، «أن أبشع جريمة ارتكبها نظام الأسد ضد الشعب السوري كانت القتل البطيء للثقافة. لقد جعلوا الأمر يبدو غير مهم، وأقنعوا الناس بأنهم لكي يحصلوا على خبزهم اليومي، عليهم أن يكونوا جزءاً من جهاز النظام». لذلك اختفى، حسب تعبيره، نجوم النهار من المكان الذي ينتمي إليه.
في 2024، استُعيدَ فيلم نجوم النهار بدقة عرض 4 آلاف بكسل بواسطة مشروع سينما العالم الذي أطلقته مؤسسة السينما بالشراكة مع مختبر «ليماجينه ريتروفاتا» في بولونيا، وبالتعاون مع المخرج. اعتمدت عملية الاستعادة على أفضل العناصر الباقية خارج سوريا: طبعة إيجابية لفيلم مقاس 35 ملم حصلت عليها شبكة تلفزيون ألمانية في 1994.
خلال العام الماضي، في محاولة حثيثة للعثور على أي عناصر مرتبطة بفيلم نجوم النهار، تحدَّثَت سيسيليا سينسياريلي مطولاً مع أسامة، بانسجام بدا واضحاً على خشبة المسرح. تختنق أصواتهما عندما يسردان قصة بحثهما المحموم عن نسخة مطبوعة باللغة الأصلية، أو عندما يُعبِّران عن ذهولهما لتعرُّض الفيلم للإهمال من قبل منتجيه في سوريا، الذين ينكرون حتى اليوم تأليفه.
«الدكتاتورية قضية وجودية، تؤثّر بنا ككائنات بشري»، يقول محمد لسينسيارلي خلال إحدى مكالمات الفيديو، قبل أن ينضم إلى المهرجان في إيطاليا. ويضيف: «إني مؤمن بشدة بإنسانيتي وبإنسانية الفنانين والفنانات. الحرية تعني، أولاً وقبل كل شيء، الخيال. لا توجد سينما، ولا حتى سينما واقعية، بدون خيال. الدكتاتورية هي استعمارٌ لخيالنا وإنسانيتنا».
ليس من قبيل الصدفة أن قسم المهرجان الذي استضاف فيلم أسامة محمد وغيره – ومنهم فيلم محمد ملص، الليل (1992)، الذي شارك محمد في كتابته – سُمّي «سينما ليبيرو»، أو السينما الحرة بالإيطالية. قد تكون الترجمة الأكثر ملاءمة هي «السينما المُحرّرة»، لأن تحقيق الحرية عمليةٌ وليس فعلاً؛ وعملية الاستعادة هي شكل من أشكال التحرير، المنبعث من الإحساس المُتجدد بالأمل لدى المخرج أو المخرجة.
يقول محمد: «هذا كان فيلماً يتيماً، ضائعاً، ومُشرَّداً، وقد تم اكتشافه من جديد. حتى قبل استعادته، كنت قد أعدتِ إليَّ أملاً ظننته ذهب إلى الأبد».
من أجل العدالة والجمال
يتذكر محمد قائلاً: «بدأت علاقتي بالجمال والعدالة مع عائلتي – أحد عشر شخصاً يتقاسمون منزلاً بالغ الصغر، تكاد لا تكون فيه مساحة فارغة على الإطلاق. كنا نُسلّي أنفسنا بقراءة الشعر والغناء، إذ لم يكن لدينا تلفزيون. كان نوعاً من المنافسة: إذا فزت، فإنك تفوز فحسب، ولم تربحَ أي شيء. حبي للصور – الحب غير المشروط – جاء من أشعار وأغاني طفولتي».
سرعان ما بدأ محمد يقضي المزيد من الوقت في الخارج، ليصبح حسب وصفه «مقاتل شوارع». ويعترف بأن المرة الأولى التي بكى فيها كانت في السينما، وهو يشاهد فيلم سبارتاكوس من إخراج ستانلي كوبريك؛ «أصبح سبارتاكوس والدي الثاني. ولسبب ما، بمجرد عودتي إلى المنزل، ذهبت إلى والدي، والدي الحقيقي، الذي كان متديناً للغاية، وقلت له: ‘أبي، الله غير موجود’. فوجئتُ بعدم رده تماماً. وبدلاً من أن يصفعني، ابتسمَ فقط؛ وبدلاً من معاقبتي، بدا سعيداً لأنني، ابنه، كانت لدي أسئلة، وأنني حرّ. لقد كانت تلك نقطة تحول في حياتي، عندما قررت أن العدالة والجمال سيكونان محور ‘قتال الشوارع’ الخاص بي».
في السينما وجد محمد حريته. لعبته المفضلة، ما تزال، مزيجاً من المغامرة والخطر والمتعة، تنبثق منها أسئلته الوجودية حول الحياة في ظل الدكتاتورية؛ «فجأة، تشعر بأن الدكتاتور يقف إلى جانبك، خلف الكاميرا، فوق كتفك وأنت تكتب السيناريو. لذا، وضعته أمام الكاميرا – في جسد إحدى الشخصيات». وبكل استمتاع: «في 20 مارس 1988، كتبت في مذكراتي: ‘اليوم أنا مواطن سوري’. كنت على استعداد للموت من أجل فيلمي، ومن أجل مُثُلي عن الجمال والعدالة، جوهر سينماي».
الحقيقة أن جوهر هذه السينما، المُستعادة والمُحرّرة وإن كانت ما تزال في المنفى، والتي تقف اليوم قوية ووثيقة الصلة بما يجري في سوريا، يكمن في تساؤلات حول تفاهة الشر والطبيعة الخفيّة للعنف. أين يختبئ العنف وكيف يبدأ؟ هل يمكننا العيش بدون عنف أم أنه لا مَناص منه؟ كذلك يَكمُنُ جوهر هذه السينما في وهم القوة، ووهم الانتماء إلى سلطة، وفي إلهاء الذات؛ الجدلية بين الضحية والمسؤولية الجماعية؛ الانكسار الذي يصنعه انتظار المُخلِّص، والمساحة التي يتركها مفتوحة للديكتاتور؛ والأضرار النفسية التي لحقت بأجيال من الناس الذين حُرِموا من الأُخوّة والرِفقة.
يكمنُ جوهر هذه السينما في القدرة على ترجمة كل ذلك إلى صورة واحدة جميلة ونظيفة وعالمية.