عندما بدأتُ عملي في مجال نشر وتوزيع الكتب في دمشق، في النصف الثاني من الثمانينيات، قال لي أحد «مُعَتَّقي» المهنة هناك (وهو صاحب مكتبة اليقظة الشهيرة الواقعة بين صالة الكندي ومقهى الهافانا وسط دمشق)، وقد وجدني شديد الحماسة لعملي هذا ككل مبتدئ، إن عليَّ تحقيق ثلاثة شروط لا غنى عنها إن أردتُ أن أُصيبَ نجاحاً في هذا المجال بالذات: صبر أيوب، وعمر نوح، ومال قارون!
أتذكّرُ هذه الحادثة كلّما وجدتُ نفسي في مواجهة «استحالةٍ» ما، كاستحالة فهم ما يحدث مع السوريين الآن في داخل سوريا وخارجها، من جهة عجزهم الكامل تقريباً عن صياغة أي مشروع، ليس لجمعهم معاً حول مجموعة مبادئ أياً كانت، بل لهدف أشدَّ إلحاحاً وهو الخروج من تلك الكارثة التي وصلوها بسبب عقود متواصلة من الاستبداد الأسدي شديد التوحُّش، والذي لا يمكن إلا أن يكون خروجاً جماعياً.
المصلحة، أولاً!
طبعاً، الحديث عن ثورة 2011 ومشروعيتها، كأساس لأي مشروع جماعي في سوريا، يبقى في صلب أي نقاش يتناول سوريا ومستقبلها وهويتها الجديدة. لكن، ومن خلال هذه المحاولة للنظر إلى أحوالنا، سيتم تناول هذا الموضوع بالاستناد إلى مفهوم آخر تماماً، لا علاقة له بقيمٍ أخلاقية مجردة، بقدر ما له علاقة بمصلحة مباشرة، ملموسة، وعلى الأرض. بالتأكيد ليس المقصود هنا محاولة التكسُّب البائسة التي تقوم بها «هيئات» لا يعرف أحد كيف تم اختيارها وتعيينها، ويُفتَرَضُ أنها تمثل تلك الثورة التي هُزِمَت منذ زمن، وما زالت تلك الهيئات مصرة على العكس بانتظار… الأوامر، من الممول، وصاحب القرار السياسي!
لا تريد هذه المقالة أن تُقلِّبَ مواجع قديمة، بقدر ما تحاول طرح السؤال باتجاه المستقبل نفسه، بالاستناد إلى ما وجدنا أنفسنا عليه في يومنا هذا، بعد دمار البلد على أيدي النظام وأعوانه وحُماتهم وأسيادهم من المحتلين (ما يسمى بـ«هيئات الثورة والمعارضة» لا تتحمل مسؤولية الدمار هذا للإنصاف، إنها تعتاش عليه فقط). وعندما نوجِّه أنظارنا نحو المستقبل، فإن أول ما يجب أن نفعله، حتى لا يتحول الأمر إلى «استحالة» أخرى، أن ننظر إلى ما هو بين أيدينا فعلاً وعلى الأرض بعد كل هذا الخراب. وبالنظر إلى أحوالنا، فإن ما بقي لنا ليس بالقليل.
نُخبة جديدة
لنبدأ بسوريي الخارج، أوروبا وأميركا على وجه التحديد. من النظرة الأولى، سنجد أنفسنا أمام «نخبة» جديدة تشكلت، لنقل بالصدفة أو بقدرة قادر، ولكنها فعلاً «نخبة» (الحديث هنا عن نخبة مهنية بشكل رئيسي) لم يعتدها أو يعرفها المجتمع السوري طيلة تاريخه المعاصر أبداً.
سوريا ليست بلداً مُصدِّراً للعمالة المهاجرة بالمناسبة، إلا بعد أن حلَّ الأسد الصغير فوق أنفاس العالم، واعتمد سياسة تعليمية تهدف إلى تهيئة تلك العمالة وتصديرها. لاحقاً، وبعد سنوات قليلة من بداية عهد الصغير، لم نلبث أن اكتشفنا بأن تلك «العمالة» المهيأة للهجرة وإيجاد فرص عمل في أسواق أكثر تنافسية وتتطلب كفاءات عالية، هي حكر على أبناء من هم قادرون على دفع مئات آلاف الليرات السورية، سنوياً، لتسجيل أبنائهم في جامعات ومعاهد خاصة، يملكها ويديرها أزلام الصغير. وهذا طبعاً ليس حال كل السوريين، إلا قلة نادرة منهم. (كان سعر صرف الدولار 50 ل.س في ذلك الوقت، أي أن متوسط الرسم الواجب دفعه لأي جامعة خاصة في سوريا لم يكن يقل عن 5000 إلى 6000 دولار سنوياً).
حلّت الكارثة، وهُجِّر ملايين السوريين خارج موطنهم. ونجحت فئة منهم في الوصول إلى أوروبا وأميركا الشمالية (هذه الفئة تتجاوز المليون شخص، وهذا رقم مهول بالنسبة لأي شعب من شعوب العالم). وهذه «الفئة»، وبعد سنوات عديدة في المنافي، تسع سنوات على الأقل، منذ 2015 سنة ذروة اللجوء السوري إلى أوروبا والغرب عموماً، دُرِّبت وهُيِّئَت وتم إدماجها في أعقد أسواق العمل في العالم وأكثرها تنافسية.
كاتب هذه السطور مقيمٌ في سويسرا، والرواتب في هذه البلد هي الأعلى في العالم كله، حتى مقارنة بألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية واليابان (هل توجد اقتصادات أكثر تنافسية من المذكورة أعلاه؟!)، وأتحدث هنا عن أرقام رواتب سويسرية تشكل أضعافاً، في حالات المهن التخصصية، مقارنة بأرقام رواتب الجيران في ألمانيا وفرنسا، على سبيل المثال وليس الحصر. أي أننا نتحدث هنا عن سوق عمل هو الأكثر تنافسية وتطلباً نظراً لما يعرضه من مدخول مرتفع فعلاً، مع ذلك لا يوجد أي سوري، أو سورية، أعرفهم في محيطي المباشر، وأنا أعرف الكثيرين، لا يعمل، باستثناء الأطفال وكبار السن والمرضى.
الحديث هنا ليس عن «معجزة سورية»، هذا كلام شوفيني فارغ ولا معنى له. «المعجزة» إن حصلت، فهي تتعلّق بالدول المُستقبِلة وكفاءة أجهزتها في استيعاب أعداد هائلة من اللاجئين وتدريبهم وإدماجهم في سوق عمل مزدهر وقادر على تجاوز كل الكبوات التي يتعرض لها. في كل الأحوال، لا يوجد لاجئ واحد في أوروبا وأميركا، من أي جنسية أو أي قارة أو عرق، لا يسعى بكل طاقته للعمل. وهم لم يكونوا مستعدين للتضحية بحياتهم في مواجهة أخطار لا عدَّ لها ولا حصر على الطريق، للوصول إلى بر الأمان هذا، طمعاً في جنة الرعاية الاجتماعية، والعيش بدون عمل عالة على دافعي الضرائب، كما يروج اليمين الأوروبي؛ بل طمعاً بعمل يحفظ لهم كرامتهم كبشر، تلك الكرامة التي لم تَحفظها لهم ظروف الاستبداد والفساد في بلادهم الأصلية. هذا حال جميع اللاجئين بدون أي تمييز، بما فيهم اللاجئين السوريين.
خصوصية الحالة السورية، فقط للسوريين، داخل وخارج سوريا، هي أن ظاهرة اللجوء هذه كانت بهذا العدد الهائل، وضمن فترة زمنية قصيرة ليست مسبوقة أبداً في تاريخ سوريا الحديث. حتى أيام «السفربرلك» لم تكن الهجرات بهذا العدد الهائل نسبة إلى تعداد السكان، وكانت تقتصر على الذكور المطلوبين للخدمة العسكرية في الجيش العثماني. أي أننا أمام حالة تكتسب فرادتها فقط في السياق السوري، وليست للتعميم أو التباهي على أحد. وبالتالي يصبح من الضروري سؤال أنفسنا حول «الممكنات» التي تطرحها هذه الحالة أثناء محاولتنا قراءة أفق ما للخروج من الكارثة التي أوصلتنا إليها العصابة الأسدية.
سوريا جديدة تحت الاختبار
على الجهة الأخرى، داخل سوريا، وإن دققنا النظر قليلاً، فنحن أمام حالة جديدة أيضاً. سوريا ما عادت في قبضة الجلاد قطعة واحدة كما كانت دائما طيلة عقود. هناك «قطع» كبيرة من البلاد أصبحت خارج سلطته. هذا بحد ذاته أمر مهم، يجب أن يكون مُنطَلَقاً لفهم حالتنا قبل البحث والتمحيص فيما آلت إليه تلك «القطع» التي خرجت للتو من ظل هذا التوحش. فأن يصير بإمكان المرء الحديث عن سوريا ما، ليست هي سوريا الأسد، هذا بحد ذاته أدعى للقول إن هناك «أملاً» ما فعلاً.
في كل الأحوال، «القطع» الخارجة من قبضة الاستبداد (أو التي في طريقها إلى الخروج، وهي في تزايد بالمناسبة) ما كانت لتأخذ، في مساراتها السياسية، أي صيغة مغايرة لما هي عليه الآن. حتى سوريا كلها، لو قُيّض لها أن تنجو من التوحش الأسدي قطعة واحدة، كانت على الأرجح ستصل إلى ما وصلت إليه الآن، وكانت ستصير هذه «القطع» المستقلة. هذا إن أردنا أن نكون منصفين مع أنفسنا وإمكانياتنا وتاريخنا، الذي بدأنا نتعرف عليه من جديد خلال بضع السنوات التي خلت.
أي أننا، وفي حالة هذه «القطع» المستقلة، في مواجهة سوريا جديدة ما، ليست نهائية وقطعية، بقدر ما هي في طور التشكُّل وقابلة للتطور باتجاهاتٍ يمكن لمن أراد أن يكون فاعلاً سياسياً، ويعرف بالضبط ما بين يديه وماذا يريد، أن يكون مؤثراً حقيقياً في هذه الاتجاهات. أي أننا فعلياً، وفي الداخل، قد نكون في مواجهة سوريا جديدة فعلاً، ولكنها ما تزال تحت الاختبار.
السويداء، المحاصرة كما سوريا!
لن ندخل في تفاصيل الأوضاع في المناطق الثلاث، شرق وشمال شرقي سوريا، شمال وشمالي غرب سوريا، وجنوب سوريا، فالجميع يعرف تلك التفاصيل. ما يعني هذه السطور هنا هو سؤال إلى أي مدى سينجح هذا «الاختبار» في تثبيت هوية جديدة لسوريا؟ هوية حية مفتوحة ومتطورة وقائمة على «عقد» يعي مصالح جميع الأطراف المشاركة، ويعطي الفرص لهذه المصالح لتتعزَّز وتزدهر.
لنأخذ حالة السويداء مثالاً. السبب في اختيار السويداء يعود إلى أن «انتفاضة» تلك المدينة، المستمرة بتصميم هائل من قبل أبنائها ورغماً عن كل الظروف، هي موضع إجماع السوريين الراغبين في التغيير الآن، وبالتالي يمكن الحديث عنها كاحتمال للنقاش المفتوح بين الجميع. على عكس حالتين تثيران الكثير من التحفظات والاحتكاكات المستمرة بين من يريد الدخول في نقاش، وأقصد الحالة الكردية في شرق وشمال شرقي سوريا؛ والحالة السنية في شمال وشمال غربي سوريا.
في السويداء يمكنك العثور على الكثير من «سوريا» التي يحلم بها معظم السوريين، أو أقله «سوريا» التي يرتاح للعيش فيها معظم أولئك السوريين. هذا بالإضافة إلى أنك هناك، في السويداء، ستجد «سوريا» المحاصرة التي لا حول لها ولا قوة إلا بأحد احتمالين.
الاحتمال الأول: قوة إقليمية، أو دولية، تفرض حمايتها، وبالتالي شروطها وأزلامها لحُكمها.
لا بدَّ من الإقرار هنا أن الوصول إلى حالة من «الاستقلالية» عن أي جهة مقررة من خارج الكيان السوري، المفتت بشدة الآن، أمر تزداد صعوبته في كامل المناطق السورية الخارجة من قبضة الافتراس الأسدي. وبالتالي، فإن إقامة «تحالفات» إقليمية، بل وما هو أبعد من ذلك، أمرٌ لا بدَّ منه بالتأكيد لضمان دعمٍ ما لأي كيان وليد. ولكن الشروط المجحفة جداً، بل والمُهينة، للطرف «السوري» (الأمر الذي نراه الآن بوضوح في شمال سوريا، تحت السيطرة التركية والتمويل القطري) هي ما يجعل أمر هذا «التحالف» موضع شكّ دائم بنتائجه. والحق أن المسألة لا تتوقف على «الحليف» وحده، بل أيضاً على أولئك الذين يُفتَرض أنهم يمثلون مصالح الناس في المنطقة، أو المناطق، الخارجة من قبضة النظام، والراغبة بإدارة أمورها بنفسها. هل من يتحدث باسم أولئك الناس الآن، يقوم بهذا بناء على اختيارهم هم، أم أنه فُرِض عليهم من قبل «الحليف» الإقليمي بالذات؟.الأحداث الأخيرة في إدلب، وقبل الإعلان التركي عن الرغبة بعودة العلاقات «الطبيعية» مع النظام، تشير بوضوح إلى أن «المتحدث» باسم السوريين قد فُرِض عليهم فرضاً من قبل القوتين الإقليميّتين أعلاه، ومن قبل تركيا بالتحديد، بشكل أكثر وضوحاً واستفزازاً في آن.
وبالتالي فإن الحديث عن «تحالف» ما مع أي قوة إقليمية كائنة ما كانت، ونحن نتحدث عن «مصالح» قبل أي شيء آخر هنا، لا بد أن يكون له معنىً ومضمونٌ واضحان بالنسبة لمصالح كل الأطراف المشاركة فيه. والطرف السوري، في الشمال، موضوع حديثنا في هذه النقطة، يجب أن تؤخذ مصالحه بعين الاعتبار كأساس لهذا التحالف. وهذا، للأسف، ما لم يحصل أبداً. والخشية الآن، أن هذا «الطرف» بالذات، هو من سيدفع ثمن ذلك التحالف، الذي يبدو أن الجميع استفادوا منه إلا السوريين!
السويداء، بعدم وجود «حليف» إقليمي واضح لانتفاضتها، حتى في المستقبل القريب، تبقى حالة فريدة. فبالإضافة إلى انشغال الجميع بما يحدث في غزة، وكيفية الوصول إلى تسوية للكارثة الفلسطينية في عمومها، مع عدم نسيان أن هناك حرباً متوقعة في لبنان قد تستمر طويلاً مع مفاعيلها على كل الإقليم؛ فإن الموقع الجغرافي للسويداء لا يشكل إغراءً لأي قوة إقليمية للدخول في محاولة لفرض سيطرة ما، مع ما يستتبعه الأمر من تكاليف، قد لا تجد تلك القوة المراديد السياسية المرجوة في موقع محاصر وضيق جغرافياً. وهذا للحق، مقارنة مع ما نراه في مناطق أخرى غير خاضعة للنظام، «نعمة» النعم للسويداء وأهلها، وبقية السوريين معهم.
وهذا، بدوره، ما يعطينا فرصة للحديث عن الاحتمال الثاني الذي تواجهه السويداء: وهو أن تخرج السويداء من قبضة الأسد بشكل نهائي، وتبدأ بالتكون ككيان مستقل بهمة السوريين وحدهم، داخل وخارج سوريا.
هذا ليس حلماً طوباوياً، وإمكانية تحقُّقه، عند التدقيق فيه، ليست بعيدة إطلاقاً، وإن كانت عسيرة. الأمر في مبدأه يتطلب، أول ما يتطلبه، تأمين شروط الحياة لهذا الكيان الجديد، في حال كانت هناك عزيمة عند أهله بالخروج من حفرة الموت الأسدية، حتى ولو وُسِموا بالانفصاليين، وكأنَّ الأسد وعصابته لم يبيعوا البلاد بما عليها لأسيادهم الجدد وحماة نظامهم! في كل الأحوال عزيمة أهل السويداء يبدو أنها ماضية إلى مبتغاها دون تردد، وهذا أمر بات واضحاً تماماً خلال الأشهر الماضية.
ولكن بالمقابل، فإن أهل السويداء وحدهم لن يستطيعوا الوصول أبعد مما وصلوا إليه الآن: مساحة للاحتجاج الحر. استمرارية هذه المساحة، ووصولها إلى هدفها الذي أُجادِلُ بأنه يجب أن يكون «الانفصال عن الكيان الأسدي المدمر»، هذان الأمران مرهونان بظروف لن تكون مقتصرة على القوى الذاتية لسكان المدينة ومحيطها.
عن المصلحة، مرة أخرى ودائماً
كيف يمكن لانتصار الحالة في السويداء أن يتحقق؟! هذا سؤال تتطلب الإجابة عليه المضي إلى ما هو أبعد من مقالة تحاول إضاءة الممكنات كما هي موجودة الآن على الأرض. مع ذلك فإن الطرف الذي تمتلك إجابته «المفتاح» لكل أنواع الأسئلة التي يمكن أن تُطرح، هو سوريو الخارج، وتحديداً أوروبا وأميركا، قبل أي أحد آخر، حتى أكثر من أهل السويداء الذين قَدَّموا ما عليهم إلى الآن. وهذا الطرف بالتحديد، سوريو الخارج، سيكون المستفيد الأكبر من نجاح مشروع الاستقلال السوري، ولو على مراحل، عن القبضة الأسدية البغيضة ورعاتها من الاحتلالين الإيراني والروسي.
لماذا هم المستفيدون الأكبر؟ تلك مسألة بحاجة إلى بعض التفصيل في هذا الموضع، كوننا بدأنا حديثنا هنا متناولين «المصالح» قبل أي شيء آخر. لن أدخل في «الأسطوانة» المعتادة حول موضوع صعود اليمين والخطر الذي يشكله على مصائر اللاجئين والمهاجرين في أوروبا. موضوع البقاء، والكفاح من أجل الاندماج في الأوطان البديلة، أمر ليس مشروعاً فحسب، بل ومطلوب أيضاً لتعزيز مكانة وأدوار يجب على اللاجئين والمهاجرين أن يلعبوها في تلك الأوطان الجديدة. هذا خيار لا مفر من مواجهته، وبكل ما أوتينا من صبر ومثابرة. ولكن فكرة خط الرجعة للوطن الأم يجب ألا تتوقف عند حدود الحنين فقط، خصوصاً في الحالة السورية، حيث معظم اللاجئين والمهاجرين في المرحلة الأخيرة، لن يتمكنوا من العودة لمكان هو في حقيقته مصيدة، ومنطقة نفوذ عصابة مافيا للابتزاز والسرقة، المصيبة التي ابتُلي بها القسم الخاضع للاحتلال الأسدي فيما تبقى من سوريا.
الصلة بالوطن، أكانت خط رجعة أم إمكانية للزيارة، أمر لا يجب الاستغناء عنه ويجب الإصرار على تحقيقه، أقله لضمان حالة من التوازن النفسي المطلوب لجيل الأمهات والآباء من اللاجئين. أما الحكاية بالنسبة لجيل البنات والأبناء، الذي كبر وتعلم واندمج وعمل في بلاد الاغتراب، شيء آخر، وهنا المصلحة.
الاقتصاد المُعولَم سِمةُ وقتنا، والحاجة إلى التنقُّل والبحث عن الفرص الأفضل للأفراد، أينما كانوا، أمرٌ لا غنى عنه في كل المجتمعات. يمكن النظر الآن إلى خارطة العالم بالاستناد إلى الفعالية الاقتصادية، لنجد أن هناك مراكز بات دورها الهام في الاقتصادات الحديثة من المسلمات. ولكنها قبل بضعة عقود، كانت مناطق لم يسمع بها أحد، حتى في دولها. يمكن أن نذكر بنغالور، على سبيل المثال وليس الحصر، كحالة ناجحة ومزدهرة اعتمدت على المهاجرين وما قدموه من خدمات لوطنهم الأم، وندرك أهمية الفرص الاستثنائية التي منحتها تلك المدينة، المركز العالمي للبرمجيات وتكنولوجيا المعلومات، للهنود، وحتى للباحثين عن تطوير إمكانياتهم ومهاراتهم في هذا القطاع الحيوي وشديد النمو، في العالم كله. في بداية الألفية الحالية، كانت شركات تكنولوجيا المعلومات في بنغالور تستقبل خبرات من جميع أنحاء العالم، أصحابها يرضون بأن يحصلوا على رواتب أقل من تلك التي يمكن أن يحصلوا عليها في دولهم، في أوروبا بالتحديد، فقط ليكسبوا صفة مهمة جداً على السيرة الذاتية المهنية الخاصة بهم: أنهم عملوا في بنغالور!
الآن، وفي ظل الظرف الجديد الذي بدأ اللجوء السوري بنسخته المتطورة يطرحه على الجميع، ألا يمكن لنا التفكير بأن وجود سوريا، ولو في جزء منها، على أي خريطة اقتصادية فاعلة، ليس في العالم، بل أقلّه في منطقتنا، أمر يمكن أن يكون في غاية الجاذبية، ويحقق مصالح الجيل الجديد من اللاجئين السوريين الشباب في أوروبا والولايات المتحدة، خصوصاً إن تعلق الأمر بجعل الخيارات أمامهم مفتوحة ومحفزة للمزيد؟ لا أتحدث عن حالة «بنغالورية» (ومن لا يتمناها من كل قلبه لبلاده؟!)، ولكن أقلّه يمكن البحث في بدائل يمكن أن توجد، وتكون فاعلة وناجحة، شريطة توفر «رأس جسر» يقود الجميع في طريق الرجوع إلى البلاد وإعادة إعمارها (المشروع الذي لن يتم أبداً بدون أبنائها) ولمصلحة الجميع؛ الباقون هناك، واللاجئون المغتربون على حد سواء. هنا، يمكننا أن نرى أفقاً، وليس فقط صورة واحدة ومحددة، لفائدة لا حدود لها، وللجميع.
علينا، وقبل أن نمضي في أحلامنا المشروعة، أن نتذكر بأن «النواة» لمشروع «الاستقلال» السوري التي تطرحها السويداء نفسها من خلال انتفاضتها، مُعرَّضة لخطر كبير، والنظام يتحين الفرص للانقضاض على الانتفاضة وإنهائها بأي شكل أو ثمن، كعادته مع كل مناطق سوريا الأخرى. وهو أمر، للأسف، لا يُستبعَد حصوله، بل إنه مؤكد، في حال لم يتوفر ما يكفي من الضغط لحماية المدينة وانتفاضتها، بصفتها تلك «النواة» التي نريدها أن تُثمر فيما بعد.
ولكن!
مشكلتنا الدائمة في مواجهة نظام الاستبداد الأسدي كانت، وما تزال مستمرة للأسف الشديد، هي أن النظام أقدرُ من كل الأطراف التي عارضته في إدراك الخطر الذي يتهدده، وفي سرعة الاستجابة، مستغلِّاً كامل الظروف المتاحة للوصول إلى هدفه. بينما نحن كنا، وما نزال، نبحث في… جنس الملائكة!
هل يمكن للسوريين عموماً، وأولهم سوريو الخارج، الأكثر قدرة على الحركة وحشد التأييد، والأهم، بعيداً عن نفوذ وسيطرة قوى إقليمية أثبتت شراسة واضحة في منع أي صوت سوري مستقل من الظهور في مناطق نفوذها، الحركةُ ومخاطبةُ الجميع على أسس واضحة تعي المصالح المشتركة لجميع الأطراف المُخاطَبة؟ بما فيها تلك القوى الإقليمية بعد أن تدرك استحالة السيطرة على هذا الحراك، والقوى الدولية التي يمكن أن تستفيد من وجود سوريا مستقلة فعلاً وليست تابعة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك؛ هل يمكن لهم أن يعوا أين هي مصالحهم فعلاً؟! والأهم هل يمكن لهم أن يمتلّكوا حداً أدنى من الثقة بالنفس وبالقدرة على إحداث تغيير فعلي، وطرح كلام مُبادِر، ببرامج سياسية واضحة وهيئات سياسية معلنة ومعروفة، خصوصاً بعد كل الذي عانوه، واستطاعوا تجاوزه وبناء حياة جديدة لهم بالكامل؟!
هذا سؤال تجدر الإجابة عليه، خصوصاً وأن السويداء كحالة متمردة على النظام، إن افترضنا وجود إجماع سوري كامل حولها، وهو ما أظنه موجوداً وبنسبة كبيرة، لا أحد يعلم كم يمكنها الاستمرار فعلاً. وهي في كل الأحوال، لن تستمر إلى الأبد… الأبد حكرٌ على الأسديين وأضرابهم فقط.
نحن لنا يومنا، وغدٌ نريد الوصول إليه، وهذا ما يجب أن نعمل من أجله بكل ما أوتينا، أو أن نتركه يتحول بدوره إلى استحالة أخرى تُضاف إلى قائمة الاستحالات أعلاه.