أن تُكرّس كل أدواتك كصانع تلفزيوني أو سينمائي ناشداً الاختلاف والتميُّز المطلق عمّا هو سائد، وأن يكون هدفك الأوحد هو الخروج بعمل يُوصَف بأنّه «خارج الصندوق»، فستكون قد فتحت الباب نحو احتماليات تفكُّك العمل وفقدان السيطرة عليه، خاصّة عندما يمتزج هذا التوق نحو الفرادة، مع الاجتهاد في بناء المشاهد المفردة، مقابل قلّة التركيز على قدرتها في تكوين عمل متكامل. يصبح همّ الصانع في هذه الحالة هو مدى فرادة وحَداثة ومُعاصرة مكوّنات المشهد، بحوراتٍ ولغة غير تقليدية، تتبعها في ذلك الإضاءة والموسيقى، لتمتزج مع بعضها بعمل مصاب بخلل في بنيته العامة، عمل قد يخرج بالفعل بمشاهد عالية الجودة، وبلَفتات مميّزة وجديدة الحضور في المحتوى المشابه، ولكن مع صورة عامة للعمل تظهر كقطع بازل ملونة برّاقة غير أنها عصيّة على تركيب لوحة متناسقة؛ هذا ما يمكن تلخيص مشكلة مسلسل ترتيب خاص به، من بطولة السوري مكسيم خليل، وإخراج ميّار عبّاس النوري في أولى تجاربه التلفزيونية.

مشاهدة ما هو جديد على صعيد الصوّرة والعمليّات الإنتاجيّة والغرافيك والإضاءة، والسويّة الفنيّة الجيّدة، كان متوقعاً بعد مجموعة تصريحات من قبل أفراد من كادر العمل وممثليه تؤكد أنّ المسلسل القادم يكسر الأنماط، ويُغرِّدُ خارج السرب وما إلى ذلك.  لكن هذا الشكل من الجودة بات اليوم غير صعب التحقُّق، بل إنه أسهل ما يمكن توفيره في حال تَوفُّرِ الجهة الإنتاجيّة المنفتحة على كسر الأنماط والإنتاج بأدوات جديدة. على أن ما يمكن أن يُحسَب لـ ترتيب خاص على صعيد الاختلاف عن الدراما السورية واللبنانية خلال السنوات الأخيرة، هو تكريس عنصر المفاجأة، وجودة صناعته أحياناً، حيث اهتمّ المسلسل باستغلال الأحداث المفاجئة لصناعة مشاهد جذّابة، واستخدمها كحامل رئيسي للعمل، استطاع إلى حدّ ما استغلال الفوضى النفسيّة والجرأة لدى الشخصيّة الرئيسية، ليرسم لها سلوكيّات مفاجئة تسهم في خلق دراما تتحرك على إيقاع سريع.

المسلسل يحكي قصّة شاب سوري مقيم في لبنان، محاط بكل ما يحيط السوريين في لبنان من ظروف اجتماعيّة وإنسانيّة قاسية، تقوده الحاجة والتوق للشهرة نحو الوصول إلى إدارة مركز دعم نفسيّ. تُعبِّدُ له السوشيال ميديا هذا الطريق بما توفّره من بيئة مناسبة لنشر الفضائح واستغلالها. خضعت شخصيّة الشاب أحمد الأصابيعي لاشتغال واضح من قبل صُنّاعها لكي تخالف المعتاد في الشخصيّة البطلة، بأن تحاكي الأسلوب الأميركي في بناء «آنتي هيرو» قادر على الجذب. لكن ذلك لم يتم، الضربات التي وجّهها صُنّاع الشخصيّة لكسر النمطيّة كانت قاسية حتى فككت الشخصيّة ذاتها. أُريدَ للبطل أن يكون متناقضاً مضطراباً بكل صفاته، ذكيّاً وغبياً، مثقفاً وأميّاً، محترماً وفاقداً للاحترام. تمت التعمية عن تاريخه، والتعامل معه كنتيجة لماضٍ غامض، وظروف معاصرة شديد القسوة في كسر وتشويه أي مكون إنساني، أو مكوّن متوازن في الشخصيّة. بلا شك شخصية لاجئ سوري في لبنان قد تكون هي الأنسب للخروج بـ«آنتي هيرو» كهذا، وبعض تلك التناقضات في الشخصيّة الأساسية كانت جيّدة، كرهافة الحس والعنف مثلاً، لكن تناقضات أخرى لم تَبدُ في مكانها الصحيح، كإظهار الشخصيّة بالمظهر الغبي في بعض الأحيان، وكان ذلك الغباء مُتكلِّفاً وغير متناسبٍ مع السلوك العام للشخصية. 

لم يقوَ العمل على الحدّ من مركزيّة الشخصية الرئيسية، وتكريس هامشيّة الشخصيات الأخرى، على الرغم من وجود شخصيّات غنيّة درامياً، وقادرة بلا شك على تكوين حكايات تتقاطع وتؤثر في القصة الرئيسيّة. بل إن بعض تلك الشخصيات فيها من الإشكاليات ما يوازي أو يزيد على شخصيّة البطل، كشخصيّة «ألمى» مثلاً، والتي لعبتها اللبنانية كارول الحاج، مدربة اليوغا، والداعمة النفسيّة، والمؤثِّرة عبر السوشيال ميديا، وذات الارتباط الوثيق بالطبقة السياسيّة في لبنان. مزيج من الفوقيّة والفساد والكذب، مزيج قادر على التأثير في الجمهور عبر الإنستغرام المنعزل كلياً عن الواقع، وقادر على التأثير السياسي أيضاً، بأدوات الشهرة والمال والجاذبية الجنسية. هذه الشخصية مرّت ببساطة على هامش مركزيّة الشخصية الرئيسية. مرّت كفرصة ضائعة من بين مجموعة من الفرص التي كان يمكن للعمل أن يستغلّها. مركز الدعم النفسي، والذي هو البيئة الأساسية للعمل، والرابط بين مجمل غالبية شخصيّاته، كان واحداً من الخواصر الضعيفة في العمل بشكل واضح أيضاً. كثير من جلسات الدعم النفسي والحوارات في المركز كانت توحي بشكلٍ ما بكوميديا غير مقصودة، ولعلَّ صُنّاع العمل وجدوا في ذلك أداةً لإظهار المركز كنموذج للمنظمات التي تدار من الخلف بأصابع سياسيّة قذرة. ذلك أيضاً لا يبرر أن يكون المركز على هذا المستوى من السطحيّة.

حاول المسلسل إضفاء طابع كوميدي في بعض الأحيان، لكن ذلك لم تدعمه سوى نبرة اللبناني فؤاد يمين في بعض المشاهد. عدا عن ذلك لم يكن للكوميديا وقعها المؤثّر، هذا إن كانت بالفعل مقصودةً في كثير من المشاهد، خاصة تلك التي توحي الموسيقى التصويريّة بها. حتى الشتائم المكررة، وحركات الأصابع والإيحاءات، هي أيضاً لم تقع في موقع كوميدي مُؤثِّر، وبعضها قديم غير مواكب لشارع الشتيمة المعاصر، ولكن بالطبع هذا لا يعني أنها غير ضرورية. بل على العكس، يُحسَب للعمل استخدامها وتكرارها، وكانت ستزداد مكامن ضعفه لو أن شخصاً كأحمد الأصابيعي لا يستخدم الشتيمة يومياً وفي كثير من حواراته.

لم يكن مطلوباً من المسلسل الخوض المباشر في القضايا السياسيّة، وما أكثر الأعمال التي تنهار فنياً لدواعي الطرح السياسي المباشر والأدلجة وبثّ الحِكَمِ والنظريات، خاصة في الدراما المُنتَجة من قبل كوادر سوريّة ولبنانية بمختلف توجّهاتها وانتماءاتها. إلا أن استخدام المسلسل للسياسة أيضاً بدا استخدماً تجنُّبياً بطريقة تلميحات أقلَّ جرأة من لوحات مسلسل مرايا في أعتى فترات الديكتاتورية في سوريا. انتقى العمل واجهته السياسية بشخصية محافظ هزيل، وقدّمَ تلميحات على لسان البطل في جلسات الدعم النفسي التي يجريها عبر الهاتف، لا تقل سطحيّة عن النصائح العامّة التي كان يقدّمها لمرضاه فتُذهِلُ مَن حوله من داعمين آخرين بطريقة مُستهجَنة.

تسميم محل البرغر، وحرق السيارة، وتسريب المقطع الجنسي وغيرها من السلوكيات العنيفة التي ارتكبها البطل، كانت مشاهد في مكانها الصحيح، منطقيّة ومؤثّرة، لولا أن شابتها محاولات تسطيحها، واستقصاد خلق الكوميديا غير الضرورية فيها. الحوارات الذاتيّة والخيالات المريضة في أغلب تجلياتها، شابتها محاولة استحضار أي مضحكٍ فيها، كما العلاقات بين الشخصيات أيضاً كانت على المستوى ذاته من المحاولة الدؤوبة لأن تكون كوميديّة. لعلّ ذلك أيضاً لم يكن سوى محاولات صُنّاع العمل للهروب من نمطيّةٍ خافوا أن يوصَف العمل بها، كنمطيّة العلاقة بين الأعداء، أو نمطيّة الحوار بين الضعيف والقوي. كل ذلك كان يمكن تَجنّبه دون استدعاء أدوات غير ضروريّة، كالكوميديا مثلاً.

درامياً، ليس هناك أغنى من شخصية لاجئ سوري في لبنان قرّرَ أن ينتقم بطريقة ما من كل شيء، أو قرّرَ أن يتصرّف بشكل انتهازي ليتخلَّصَ من واقع حياته المرير، وليس أغنى من بيئة المؤثرين في السوشيال ميديا ذوي الارتباطات السياسية، وكذلك منظمات المجتمع المدني. وبالتأكيد ليس أغنى من لبنان بشكل عام لبناء قصص دراميّة بما فيه من وقائع وأحداث وشخصيّات وأنماط، لكن كل ذلك يمكن أن يمر في عمل درامي مروراً سريعاً دون أن يترك أثراً، لمجرّد أنه لم يتقن صناعة الفن المُستنِد إلى الواقع وضاع بحثاً عن الفرادة.