قد تخوننا الذاكرة بعد مرور ست سنوات على حكاية التهجير من درعا والقنيطرة، التي تَشاركتُ جُزءاً منها مع صديقي وزوجته قبل أن نفترق ثم نلتقي هنا في كندا بعد سنين. نستدعي بعض الأحداث بصعوبة، قد نغفلُ عن تفاصيل كثيرة منها، ربما عمداً، كأننا نريد محوها كلياً من ذاكرتنا، ثم أحياناً نستغرقُ في بعض تفاصيلها الفكاهية، كأن تقول لي صديقتي: «بتتذكري لمّا استعرت عبايتك بالقنيطرة مشان ألبسها قدام عناصر جبهة النصرة وطلعت قصيرة عَلَيّ»، ثم نضحك كثيراً وأقول لها: «خيتو شو أعملك إذا أنتي طويلة».

فقدان السيطرة على أنفاسي، واحتلال الضباب كلياً لدماغي، هو ما كان يصيبني إذا ما حاولت رواية الحكاية لأحدٍ قبل قدومي إلى كندا. لكنني أعجزُ عن تحديد مصدر تلك الجرأة والثبات عندما استحضرتُ تفاصيل الحكاية، كل الحكاية، لتبدو وكأنها ماثلة بأحداثها أمام صديقات لي في كندا، عندما حدثتهنَّ ذات مساء صيفي بكل الحماس الممزوج بالفكاهة، والسريالية أحياناً، عن تهجيري من القحطانية في ريف القنيطرة بتاريخ 23 تموز (يوليو) 2018 بالباصات الخضر إلى إدلب.

قبل الواقعة بعدة أيام

«الباصات الخضر هي خيارنا، اتفقنا»، هذه كانت نتيجة نقاشاتنا أنا وصديقي وزوجته وصديقنا مجد (هو ناشط مدني وهذا اسمه المستعار)، وهي النقاشات التي استمرّت على مدار الساعة لمدة ثلاثة أيام متواصلة. كنا ما نزال حينها في منطقة الرفيد في القنيطرة، محاصَرين مع من تبقّى من عناصر الدفاع المدني وإعلاميين-ات وناشطين-ات وخائفين-ات من العودة إلى مناطق المصالحات والتسويات، التي بدأ الروس يبرمونها مع أهالي مناطق درعا والقنيطرة الخارجة عن سيطرة النظام بعد اجتياحهم للجنوب في حزيران (يونيو) 2018.

تزول أغلبُ التجاعيد من وجهي، وأراني شابة في بداية الثلاثينيات من عمري، موظفة في وزارة النقل بدمشق، أَستلمُ قراراً إدارياً بتكليفي كعضوة في واحدة من اللجان العديدة المسؤولة عن استلام 600 باص نقل داخلي أخضر صيني الصنع. قبلتُ التكليف دون تردد، على الرغم من أنني أعلم بأنني سأكون عضوة شكلية، ولكن أغرتني فرصة «الهروب» المشروع والرسمي من الوظيفة لعقد اجتماعات سأكون فيها كالمزهرية. أقولُ لصديقاتي في كندا وأنا أضحكُ من مفارقات الحياة: «حقيقة لا أتذكر العام بدقة، ربما كان 2006 أو 2005. صعدتُ أولَّ مرة إلى الباص الأخضر الصيني، أحببتُ لونه وتصميمه، ولأنني كنت من أعضاء لجان صفقات الباصات، كان مسموحاً لي ركوبه بالمجان».

يعلو صوتي وأنا أحدثهنّ وكأنني أشعرُ بالنصر: «افترقتُ عن صديقي وزوجته، اللذين سيذهبان في باصات مُخصَّصة لإجلاء عناصر الدفاع المدني وعائلاتهم، بينما ذهبتُ مع مجد إلى بلدة القحطانية التابعة لمحافظة القنيطرة، والتي كانت آنذاك تحت سيطرة جبهة النصرة. ننتظرُ قدوم الباصات الخضر التي ستُجلي رافضي-ات التسويات والمصالحات من الفصائل الإسلامية الراديكالية، ومن بعض الإعلاميين-ات والناشطين-ات والمدنيين-ات، المؤمنين-ات بأنه لا يمكن أن نأمنَ جانبَ النظام وحليفه الروسي حتى لو ابتلعوا كل الكتب السماوية حالفين بأنهم لن يعتقلونا أو يقتلونا بسبب موقفنا المعارض».

«كنتُ أحاولُ تَفحُّصَ وجوه بعض سائقي الباصات إن استطعتُ متسائلة: هل من الممكن أن أعرف السائقين، هل سيتعرف عليَّ أحدهم؟». أصمتُ قليلاً وأنا أُحدّثُ صديقاتي، وتغيبُ عني أصواتهنّ ولا أسمع إلا صوت شابة في بداية الثلاثينات تخرج من باب وزارة النقل بعد أن حضرت اجتماعاً عن صفقة الباصات الخضر، تقول لي، أنا المرأة التي دخلت الأربعينيات والجالسة على حجر تحت حرّ تموز الشديد في بلدة القحطانية، إن جهدي وتعبي في لجان صفقات الباصات الخضر لم يَضِع سُدىً، لأنني ركبت الباصات الخضر تحت سماء دمشق أيام السلم بالمجّان، وستُقلّني الباصات ذاتها إلى إدلب في زمن الحرب بالمجّان أيضاً».

يُعيدني من صمتي وغيبوبتي سؤال إحدى صديقاتي: «هاي، وين رحتي بهل الصفنة؟»، أردُّ عليها: «ولا مكان»، لكنّي في الحقيقة كنتُ أغيب عنهنّ لحظات لأُشاهدني أنا المرأة الأربعينية الجالسة على حجر بانتظار باصات التهجير.

على الرغم من كل الضجيج والازدحام، كنتُ أشعرُ بالوحدة أنا وحجري وحقيبتي المحتوية على بعض الملابس وأوراقي الثبوتية. أحسُّ بالهواء الحار الممتلئ برائحة الخيبة. أتجوّل بعيني بين عشرات من العائلات المتنازعة فيما بينها على الباصات التي تأتي تقطيراً لنقل طوابير من العائلات، ومن بينهم عائلات مقاتلي جبهة النصرة وفصائل وتشكيلات عسكرية أخرى مثل حركة أحرار الشام. أحد الأطفال كان يصرخ من شدة العطش، أعطته والدته عبوة من الماء الذي يكاد يغلي نتيجة حرّ الشمس، لكنها لم تروِ عطشه على ما يبدو. شعرتُ مثله بالظمأ، فسألت مجد عن مكان يوجد فيه ماء للشرب، فأشار بيده أن أذهب إلى مقرّ قالوا إنه كان لأحرار الشام سابقاً. ذهبتُ أجرُّ نفسي محاولة افتعال الصَمَم عن أصوات تفجير آليات ثقيلة على يد الفصائل، التي كانت تفعل ذلك كي لا تكون آلياتها غنيمة للنظام وحليفه الروسي. «غنيمة»… أضحك، أُردِّدُ مرة ثانية كلمة غنيمة وأضحك شامتة بنفسي وبكل الرجال المُلتحين من حولي. لو تمكّنتُ وقتها لصرختُ مِلأ الأفق، عَلّني أخفف عن ذاتي التي قاربت الانفجار كإحدى الآليات حين أشاحت نساءٌ مُنقَّبات وجههنَّ عني بعد أن طلبتُ منهنَّ كأس ماء. كُنَّ زوجات وبنات وأمهات وأخوات عناصر جبهة النصرة، كلهنَّ متّشحات بالسواد من رأسهنّ حتى أخمص أقدامهنّ؛ سألتُ نفسي: هل رفضنَ تلبية طلبي لأنني غير مُنقَّبة وأرتدي حجاباً بلون أحمر داكن؟ كررتُ سؤالهنَّ عن شربة ماء مرة ثانية، فقالت إحداهنّ لي: «اذهبي إلى مكان آخر، هذا المكان مُخصَّص فقط لعائلات جبهة النصرة». 

أَضبطُ نفسي، أخافُ عليها الهلع، فأعود من غيبوبتي بسرعة، أعودُ من القحطانية إلى صديقاتي في كندا أتلو عليهن ما تبقى من الحكاية. قلتُ لهن: «تعالينَ أحكي لكنَّ عن أمر أغرب من الغرابة. لم يُتَح لي أنا ومجد أن نركب أحد الباصات الخضر في يوم 20 تموز، لذلك توجَّبَ علينا قضاء ليلة في القحطانية حتى صباح اليوم التالي. المهم، ذهبتُ مع بعض العائلات إلى بيت فارغ من بيوت القحطانية، أمَّنه لنا عناصر جبهة النصرة بهدف قضاء ليلة واحدة فيه حتى الصباح التالي. أخبرني مجد أن سكّان القحطانية الأصليين من الشركس، وأغلبيتهم تركوا بيوتهم فيها بعد أن سيطرت عليها فصائل إسلامية متشدّدة وأصبحت مقراً لهم. مرة أخرى سأقابل نساء عناصر جبهة النصرة، وسأكون هذه المرّة في بيت واحد معهنّ. لم أتحدث كثيراً، كنتُ أجلس صامتة أستمعُ لهنّ وهن يفخرنَ بأنهنَّ ذاهبات أخيراً إلى حيث تسيطر جبهة النصرة في إدلب. صراحة لم أستطع أن أفهم سبب شعورهنّ بالغبطة، وحتى أنني لم أُرِد أن أعرف، كل ما أردته هو النوم بعمق حتى صباح اليوم التالي». 

«أدخلتني إحدى النساء إلى غرفة صغيرة وقالت لي: نامي هنا؛ وأشارت بيدها إلى شيء مغطى بلحاف. لا أعرف كيف أَصفُ الشيء الذي نمتُ عليه، هو يشبه السرير والأريكة والفرشة ولكنه ليس أياً منها. على كل حال نمتُ عميقاً لأستيقظَ على صوت رجل يدقّ باب الغرفة ويصرخ أن أنهض بسرعة. فتحت الباب ليدخل رجلٌ مُلتحٍ، كان مهذباً جداً، طلب مني أن أبتعد عن الشيء الذي نمتُ عليه. أزال الغطاء، ثم أزال الفرشة من فوقه، وإذ بهذا الشيء يكون صندوقاً. فتحه وأخرج منه قنابل وقاذفات وذخائر ورصاص»!.

«عم تمزحي» قالت إحدى صديقاتي، لأردّ: «واللهي واللهي، كنت نايمة على مستودع صغير من الذخائر»؛ أضحك أنا وهنَّ بصوتٍ عالٍ. 

راحت صديقاتي يسردنَ لبعضهن البعض عن تجربتهن مع المدافع والطائرات والقنابل التي كانت تسقط على مدنهنّ وقراهنّ في سوريا، أما أنا فهربتُ من مجلسهنّ قليلاً إلى داخل نفسي، لبستُ عباءتي السوداء وغطاء رأسي الأحمر الداكن، ورحتُ أنتظر في 21 تموز 2018 باصات قوافل التهجير. 

يوم الواقعة: 21 تموز 2018

كان المشهد في اليوم التالي وكأننا تحت جسر البرامكة أو جسر الرئيس في دمشق، حين يتدافع الناس لركوب الحافلات والباصات. يتدافع الجميع لحجز مكان لهم في الباص. شارفت الساعة على الثالثة ظهراً ولم أتمكن أنا أو مجد من النجاح في ركوب أحد الباصات: «لا أريد البقاء يوماً أخر هنا»، أقول لمجد، أنا متعبة جداً. أَوشكَ اليأسُ من مغادرة القحطانية أن يتملّكني، لكني صعدتُ باصاً بطريقةٍ لا أتذكر من تفاصيلها سوى أنني شاهدتُ نفسي أُدفَع من قبل مجد وشباب إعلاميين آخرين إلى قلب إحدى الحافلات، التي كانت تضم عائلات ورجالاً معظمهم من مقاتلي أحد الفصائل الإسلامية.

أخلعُ عباءتي وغطاء رأسي وأركضُ من داخل نفسي عائدةً نحو صديقاتي في كندا، لا أريد أن أروي مشهد رفض بعض عناصر الإسلاميين وزوجاتهم دخولي إلى الباص بصورة درامية حزينة، أريد روايته بطابع فكاهي خوفاً على روحي من السقوط في هاوية الهذيان. 

«اسمعن، اسمعن التالي، قصة نجاحي في ركوب إحدى باصات التهجير»؛ أقول لصديقاتي: «عندما صعدتُ الباص، قال أحد الرجال: من هذه؟ ونعتني بصفة بذيئة، فردَّ عليه أحد الشباب الإعلاميين خارج الباص، ‘إنها واحدة منا’، ويقصد بأنني ناشطة إعلامية، فيرد عليه بكلام بذيء مرة أخرى، ويطلب مني أن أغادر الحافلة فوراً فأنا لست واحدة من عائلات مقاتلي فصيله. راح الشاب الإعلامي يصرخ مُجادلاً بأن الباصات ليست حكراً على الفصائل ومقاتليها وعائلاتهم، ثم تعالت الأصوات والتهديدات المتبادلة، وسُمِحَ لي بعدها بدخول الباص ولكن شريطة أن أجلس على الحقائب في أرض الباص، إذ رفضت كل النساء في الباص إجلاسي بجانبهنّ. رغماً عنهم جميعاً دخلتُ الباص، كنت قوية». 

أُشيحُ بوجهي عن صديقاتي وأنا أروي هذا الحدث، لم أكن أريدهنّ أن يشاهدنَ البؤس في وجهي، فأنا حينها لم أكن قوية ولا شجاعة، بل كنت تعيسة بكّاءة. لقد بكيتُ وأنا جالسة على الحقائب المرمية في أرض الباص، بكيتُ حتى تجرّحت خدودي من الملح وجفّت دموعي، وأذكر أنني شهقت مرات ومرات حتى أنني تمكنت من تَحسُّس قلبي بين يدي.

«وبعدين؟»، قالت إحدى صديقاتي، قلت: «انطلقت الحافلة، وشاهدتُ بنظرة خاطفة مجد والشاب الإعلامي في حافلة ثانية، فاطمئنَ قلبي». 

أُحلِّقُ في الفضاء مجدداً تاركة سماء كندا، وأراني أفتح جناحي فوق سماء دمشق، وأشاهدني  في الحافلة وقد حلَّ المساء. لم نكن بعد قد وصلنا تخوم دمشق، أقول لنفسي الجالسة في الباص: «هل سأتمكن من رؤية دمشق في هذا الظلام، أريد أن أقول وداعاً لأهلي، أن أخبرهم بأن لا يقلقوا فأنا صعدتُ الحافلة». وجدتُ على هاتفي المحمول، الذي فتحته أخيراً بعد أن التقطَ إشارة إنترنت، سيلاً من رسائل أهلي وأصدقائي الذين كانوا يتابعونني خطوة خطوة، قلت لهم إنني غادرت درعا. غادرت قافلتنا التي ضمّت نحو ستين باصاً ونحو ثلاثة آلاف مُهجّر من درعا والقنيطرة، بمرافقة الصليب الأحمر وبحماية سيارات تابعة للجيش الروسي؛ تحميها من ماذا لا أعرف؟ فنحن كنا نتوقف في نقاط تفتيش كثيرة في طريقنا إلى إدلب.

«يا بنات رح أقلكم كيف طلع أحد عناصر الجيش الروسي يلي كان بيحكي عربي ليفتش قافلتنا»، أقول لصديقاتي في كندا: «بعد انطلاق الباص بساعة أو ساعتين، صعد إلى الباص شاب أشقر طويل ووسيم، غالباً شيشاني لأنه يتكلم اللغة العربية، وصعدت معهُ شابة سورية. هو سيفتش الرجال وهي ستفتش النساء. الهدف من تفتيش الرجال كان التأكد من أن كل واحد منهم يحمل فقط ما سُمِحَ له بحمله من الأسلحة الخفيفة. نسيتُ إخباركُنَّ بأنه سُمِحَ لكل فرد من المُهجَّرين أن يحمل بندقية ومسدساً وثلاثة مخازن رصاص. كان الشيشاني يبتسم ويضحك مع الرجال وكأنهم كانوا يتناولون البارحة معاً ‘منسف مليحي’. أما الشابة فهي ستفتّش النساء خوفاً من أن تكون إحداهن قد خبّأت سلاحاً تحت عباءتها. فتَّشتنا بوجه يعتليه رعبٌ وخوفٌ لم أرَ مثله في حياتي، كانت خائفة ترتجفُ كأنها بين قطيع من الوحوش الذين سينقضون عليها في أي لحظة. حين وصل دوري في التفتيش، نظرتُ إلى وجهها وأنا مبتسمة، تمنيت لو أنني أستطيع أن أقول لها: لا تخافي يا بنتي، نحن ما منخوّف».

«معها حق تخاف، يعني نحن بنظرهن إرهابيين ومجرمين» تقول إحدى صديقاتي، فأردُّ عليها: «ربما». 

صباح 23 تموز 2018

«رموا الناس على باصاتكن حجار وأنتو بالطريق لإدلب؟»، سألتني إحدى صديقاتي، فأجبت: «للحقيقة ما شفت، لأنه شبابيك الباص كانت مغطاية ببرادي سميكة، وما كنا نسترجي نفتحها، يمكن نحن كنا خايفين على الأغلب نفتحها. بس مرينا بمنطقة أعتقد قبل حمص بشوي، شفت وأنا عم زيح شوي البرداية ست ومعها بنات طلعوا من بيت، وصاروا يعملوا حركات وإشارات بذيئة بإيديهن إلنا، ما سمعت شو كانوا يحكوا بس غالباً كانوا عم يسبّوا علينا». ثم قلتُ بيني وبين نفسي: «يا ريت بس اتعرّضنا للسبّ كل الطريق، وما حاصرت الميليشيات قافلتنا عند حمص». 

أَنشطرُ إلى نصفين، نصفٌ بقي مع صديقاتي في كندا يستمعُ لقصص مشابهة، ونصف آخر غادر مسرعاً إلى تركيا يبحث بين أنقاض زلزال السادس من شباط 2023 عن عباءتي التي كنتُ أرتديها في قافلة التهجير، والتي احتفظتُ بها كتحفة تُذكّرني بأنني ذات يوم صيفي في عام 2018 نجوت». يصرخ نصفي في تركيا «وجدتهاااا»؛ أَنفضُها كما أَنفضُ ذاكرتي، أرتديها، وأعود مسرعة إلى قرابة الساعة العاشرة والنصف صباحاً من يوم 23 تموز 2018، إلى مفرق حمص/طرطوس، حيث وصلت قافلتنا التي أَوقفَ مسيرها حصارٌ فرضته عليها ميليشيات تابعة لإيران. 

كلَّ من كانوا معي في الباص أُصيبوا بالذهول والخَرَس من هول المشهد، مئات من العناصر المدججين بالسلاح الثقيل والخفيف حاصروا كل باصات القافلة. صعدَ شابٌ يتكلم بلهجة لبنانية إلى باصنا وقال: «رجاءً أغلقوا البرادي، لا تنظروا إلى الخارج أبداً، الرجاء الحفاظ على الهدوء، لا تخافوا، المفاوضات بدأت لفك الحصار عن القافلة». لم أعرف إلّا عن طريق هاتفي النقال ما كان يحدث، عندما أرسلت صديقة لي تشغلُ منصباً سياسياً في إحدى هيئات المعارضة السورية، بأن سبب حصار قافلتنا هو الردّ على حصار قوافل تهجير سكان كفريا والفوعة من قبل الفصائل المعارضة المسلحة، وطلبت مني أن أهدأ لأن المفاوضات قد بدأت. 

«يعني فوق الموتة عصّة قبر»، قلتُ لنفسي. 

وضعتُ رأسي بين قدمي، تكوّرتُ على نفسي قبالة باب الحافلة الخلفي، صرت أصغرَ من حشرة ربيع داستها بساطير المتقاتلين فماتت. روحي هشّة رقيقة، قد يمزقها صوت واحد من عناصر جبهة النصرة الذي كان يتكلم بلهجة عربية مختلفة عن لهجتنا السورية، وقد تتشظى من نظرة شاب مُلتحٍ يتكلم الفارسية ولا يعرف من العربية سوى الإشارة التي وضعها حول كتفه وكتب عليها «لبيك يا زينب». أي أرض أطوف بها أنا؟ من أنا؟ أستنكرُ نفسي، وأحملقُ عميقاً دون إدراك من زجاج باب الباص في عيني الشاب الملتحي وفي بندقيته المصوبة باتجاه حافلتنا بثبات. أَحسَّ بي أرمقه، رمقني هو الآخر، ابتسمتُ في وجهه لا شعورياً، فابتسمَ مُستغرباً. أدرتُ وجهي وقلت لنفسي: لو أنَّ ابتسامة يمكن تحل القضية؟! أُعيدُ عباءتي وأدفنُها تحت الأنقاض في تركيا، وأرجعُ مثقلة بالوهم والأسف إلى صديقاتي في كندا. 

«هاتي أحكيلنا شو صار معكن بعد ما حاصروكن الميليشيات؟» تسألني الصديقات في كندا. أتربّعُ على الأريكة وأقول: «بصراحة، أنا سلّمت أمري لله، جلستُ بأرض الباص وقلت إنَّ الموت محتوم لا محالة. فباصات القافلة هي مستودعات أسلحة، والمليشيات مُسلَّحة، وأي طلقة تخرج من إحدى الجانبين كفيلة بأن تحدث مجزرة، هكذا كنت أعتقد. ولكن لم يحدث هذا السيناريو الحمد لله». 

«يا إلهي، عنجد لحظات مخيفة» تُعلّق إحدى الصديقات، وأقول لها: «حتى أكون دقيقة، زال الخوف بعد ساعتين أو ثلاث من الحصار، حين سُمِحَ لنا بفتح أبواب الباص. نزل بعض الرجال لتدخين السجائر، ونزلتُ أنا مع بعض النساء لقضاء الحاجة بعد أن أخذنا الإذن من المترجم اللبناني، الذي طلب منا ألا نبتعد كثيراً عن مكان الباصات ونوَّه بأننا سنقضي حاجتنا بمرافقة عناصر مُسلّحة من الميليشيات». 

«مزح، يعني كيف رح يرافقكن عنصر مسلّح وأنتو عم تقضوا حاجتكن؟»، ردَّت إحدى صديقاتي، فأجبت: «دخيلك مين فاضي لمين، للأمانة كانوا الشباب مهذبين من هالناحية». 

أُشيح بوجهي مرة ثانية عن صديقاتي حتى لا تتحدث عيني وتقول: نعم، نعم شعرتُ بأن جسدي مُنتهَكٌ حين رفعت عباءتي دون اكتراث وقضيت حاجتي أمام بندقية مُصوَّبة باتجاهي. 

أتابع: «بعد نحو سبع ساعات من الحصار لملَمت الميليشيات عتادها ورحلت، ومضت قافلتنا إلى وجهتها حتى وصلت قُرابة المغيب إلى معبر مورك في حماة. دخلتُ أنا تركيا من إدلب بعد عشرين يوماً، وبقيتُ في تركيا خمس سنوات شهدتُ خلالها الزلزال الذي سرَّعَ ملفَّ لجوئي إلى كندا، وها أنا اليوم بينكنّ». 

بعد وصولي إلى كندا بنحو عشرة أيام أخذني صديقي وزوجته، اللذان كانا معي في حصار الرفيد وافترقنا هناك، واللذان شَهِدا معي جزءاً من عمليات تهجير الجنوب، لرؤية أعظم شلالات في العالم؛ شلالات نياغارا. قرَّرنا أن نلتقط جميعاً صورة سِلفي لنا ومن خلفنا الشلالات. قبل التقاط السلفي قلتُ بصوت عالٍ وأنا في غمرة من ضحك وسخرية شديدة: «شكراً أصدقاءنا الروس، جبتونا من شلالات مزيريب لشلالات نياغارا ببلاش».