تشهد منطقة إدلب تحولات اقتصادية كبرى أثّرت بشكلٍ عميق على صناعة الألبسة المحلية، إذ تواجه اليوم تهديداتٍ جدية أمام انتشار الملابس التركية العصرية، نتيجة انفتاح المنطقة على تركيا عبر معبر «باب الهوى» الرسمي، الذي يُعتبر شرياناً حيوياً للتجارة ساهمَ في إغراق الأسواق المحلية بالمنتجات التركية، وذلك على حساب الصناعات المحلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري في الشمال.

ومنذ ما يزيد على 10 سنوات، يعاني قطاع النسيج في سوريا من نقصٍ حاد في عدد الحرَفيين الذين هم أصحاب المعامل أساساً، بسبب هجرتهم خارج البلاد إثر ظروف الحرب، حيث يتواجد قسم كبير منهم في تركيا، فيما بقي قسم قليل من هؤلاء الحرفيين في محافظتي «دمشق وحلب» الخاضعَتين لسيطرة النظام السوري، وهي مناطق مغلقة رسمياً أمام التبادل التجاري مع إدلب منذ أكثر من ست سنوات، الأمر الذي أدّى إلى تقليص الإنتاج المحلي من الملابس بشكلٍ كبير في منطقة إدلب الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام.

ويوضح صالح العلي، صاحب ورشة لصناعة الألبسة في منطقة الدانا، للجمهورية.نت أن السبب الرئيسي لغزو الألبسة التركية والأجنبية للأسواق المحلية هو تزايد استيرادها عبر معبر باب الهوى، ويشير إلى أن ورشته كانت تنتج حوالي 3 آلاف قطعة (تنورة، بلوزة، بنطال، روب، عباية) في الأسبوع الواحد لسد حاجة السوق، ولكن مع زيادة استيراد الألبسة الجديدة من تركيا ومن مناطق النظام السوري، وتلك المستعملة (البالة) من تركيا أيضاً وكوريا الجنوبية وبعض الدول الأخرى، انخفض الإنتاج إلى ألف قطعة أسبوعياً فقط.

التحديات اللوجستية والصناعية

يعتمد الحرفيون المحليون بشكلٍ كبير على استيراد الأقمشة من تركيا، وذلك بعد إغلاق معظم معامل إنتاج الأقمشة في سوريا، وخاصةً في حلب. أثّر هذا الاعتماد سلباً على قطاع الألبسة في المنطقة، حيث أصبح من الصعب الحصول على المواد الأولية اللازمة للإنتاج بجودة وسعر مناسبين، وفقاً للعلي.

ويشير العلي إلى أن الحل الوحيد لتطوير صناعة الألبسة في الشمال السوري يكمن في إنشاء محالج قطن، ومصانع الخيوط والأقمشة، مؤكداً أنه يمكن لأصحاب المشاغل إنتاج بضائع أفضل من نظيرتها المستوردة إذا أُتيحت لهم الفرصة وأُزيلت من أمامهم العقبات.

وتعتمد منطقة إدلب بشكل رئيسي على استيراد السلع والبضائع من تركيا عبر معبر «باب الهوى»، ومع ذلك، لا تسمح تركيا باستيراد الألبسة من مناطق سيطرة المعارضة، ما يجعل عمل المنتجين المحليين مقتصراً على سد حاجة السوق في شمال غربي سوريا.

وأوضح العلي أنه لا يوجد أي تصدير للألبسة السورية التي تُصنع داخل الورشات المحلية إلى تركيا، ولكنّ الأخيرة تسمح بمرورها إلى دول أخرى، إلا أن عدد الورشات التي تُصدّر إلى خارج سوريا في منطقة إدلب محدود للغاية، منوّهاً إلى أن معظم الورشات المحلية تعتمد على إنتاج ألبسة رخيصة الثمن تلبي الحالة الاقتصادية المتردية للسكان في الشمال السوري.

وطرح العلي أسعار بعض الألبسة المنتجة محلياً في إدلب مقارنةً مع نظيرتها التركية المستوردة:

الملابس النسائية

بنطال جينز:

–   السوري: يتراوح سعره من 9 إلى 11 دولار أميركي.

–   التركي: يتراوح سعره من 15 إلى 35 دولار أميركي.

بنطال كتان:

–   السوري: 8 دولارات أميركية تقريباً.

–   التركي: يتراوح سعره من 14 إلى 25 دولار أميركي.

توينز (مؤلف من قطعتين)

–   السوري: يتراوح سعره من 8 إلى 15 دولار أميركي.

–   التركي: يتراوح سعره من 25 إلى 50 دولار أميركي.

قميص:

–   السوري: يتراوح سعره من 7 إلى 9 دولارات أميركية.

–   التركي: يتراوح سعره من 13 إلى 20 دولار أميركي.

فستان:

–   السوري: يتراوح سعره من 25 إلى 30 دولاراً أميركياً.

–   التركي: يتراوح سعره من 40 إلى 75 دولاراً أميركياً.

عباءة:

–   السورية: من 10 إلى 20 دولاراً أميركياً.

–   التركية: يتراوح سعرها من 25 إلى 75 دولاراً أميركياً.

 أسعار ألبسة الأطفال

طقم (من عمر سنة إلى 5 سنوات):

–   السوري: يتراوح سعره من 10 إلى 25 دولاراً أميركياً.

–   التركي: يتراوح سعره من 30 إلى 60 دولاراً أميركياً.

بنطال جينز (من عمر سنة إلى 5 سنوات):

–   السوري: يتراوح سعره من 3 إلى 5 دولارات أميركية.

–   التركي: يتراوح سعره من 8 إلى 15 دولاراً أميركياً.

ما ضل سوق!

يقول أغيد محمد الخالد، أحد العمال في ورشة «أناقتي» لصناعة الألبسة في مدينة سرمدا شمال إدلب: «في السابق، وقبل زيادة استيراد الألبسة النسائية التركية أو الأجنبية، كنا نعمل ساعاتٍ إضافية تصل إلى 14 ساعة في بعض الأيام، وكنا نعمل خلال أيام العطل أيضاً. كل ذلك لتلبية طلبات التجار على الألبسة، ولكن بعد زيادة استيراد الألبسة التركية والأجنبية، تقلص حجم العمل بشكل كبير».

وأضاف أغيد قائلاً: «إذا سألنا صاحب الورشة عن السبب، يقول لنا: ما ضل سوق»، مشيراً إلى أن الاستيراد الكبير للبضائع التركية والأجنبية يعود بالضرر على أصحاب الورشات والعمال، إذ تنخفض الطلبات على الألبسة المحلية بشكل كبير، مما يؤدي إلى تقليل فرص العمل والإنتاجية في الورشات.

بدوره يوضح التاجر عبد الإله مرعي من مدينة ترمانين شمال إدلب للجمهورية.نت أن ألبسة البالة المستوردة لعبت هي الأخرى دوراً كبيراً في التأثير على الصناعات المحلية، إذ أن رخص سعرها مقارنةً بالألبسة الجديدة وكثرتها في الأسواق جعل منها خياراً جذاباً للعائلات في الشمال السوري، نظراً لحالتهم الاقتصادية المتردية.

ويبلغ سعر طرد لباس البالة بطول 120 سم وعرض 75 سم ما بين 15 إلى 50 دولاراً أميركياً، بحسب مرعي، الذي أوضح أن سعر خمس أو ست قطع من الملابس المستعملة يعادل سعر قطعة جديدة. على سبيل المثال، يمكن أن يصل سعر جاكيت الأطفال في البالة إلى 1.5 دولار، بينما يبلغ سعره جديداً حوالي 10 دولارات إذا كان من صناعة محليّة، ولا يقل عن 15 دولاراً إذا كان مستورداً.

خلال إعداد هذا التقرير، التقينا مع سعد حلاق، وهو صاحب ورشة «الحلاق» لصناعة الألبسة في بلدة حزرة شمالي إدلب (63 كم)، الذي أكّد أن بعض الورش المحلية تقوم اليوم بتصنيع مجموعة واسعة من المنتجات، بما في ذلك «الجينز واللانجري والفساتين والبيجامات والأرواب والعباءات والمانطوات والمشالح والجلابيات وغيرها».

وأكّد حلاق أن بعض البضائع التي تُصنع في الورش المحلية تتمتع بجودة تنافسية تضاهي البضائع التركية، وهي «المشالح، والجلابيات، والفروات، والنصيات»، نظراً لكثافة نسبة القطن السوري الممتاز في صناعتها، ويتم استيرادها من التجار في المملكة العربية السعودية.

وبحسب حلاق، فإن أبرز الشركات المحلية المُصدِّرة إلى السعودية في منطقة إدلب هي شركة إدريس، وشركة المعمار، وشركة المعراوي، وتبلغ تكلفة التصدير عن طريق هذه الشركات 14 دولاراً أميركياً لكل واحد كيلو. وأشار حلاق في حديثه مع الجمهورية.نت إلى أن هذا التنوع في المنتجات المحلية وجودتها العالية يُبرِزُ قدرة الصناعة المحلية على التنافسية وتلبية احتياجات السوق المحلية والإقليمية، إن توفرت مواده الأوليّة، ويعكس التحديات التي تواجهها هذه الصناعة في ظل منافسة البضائع المستوردة.

الألبسة «السورية المستوردة» إلى الشمال

محمد جعفر، صاحب محل «Rose» للألبسة النسائية في مدينة الأتارب غربي حلب (30 كم)، قال للجمهورية.نت إن معظم البضائع المستوردة من مناطق النظام السوري عبر طُرق التهريب وتحديداً من دمشق، مثل التوينز والعباءة والمانطو والقميص والبنطال، تكون مشابهةً في السعر أو أغلى بما يقارب 5 دولارات من نظيرتها المستوردة من تركيا، نظراً لغلاء تكلفة استيرادها والأتاوات التي تُفرض على عبورها.

وأوضح جعفر أن تكلفة إيصال طرد ألبسة من حلب إلى إدلب في مدّة لا تتجاوز 15 يوماً تبلغ 100 دولار أميركي، شرط ألّا يزيد طول الطرد على 120 سم، وبعرضٍ 60 سم كحدٍ أقصى، وبوزنٍ أقل من 75 كيلو غراماً.

يحدثنا نضال قلعجي (57 عاماً)، وهو معروف بصناعته في مجال النسيج بمدينة حلب، عن أسباب ارتفاع أسعار الألبسة المستوردة من مناطق سيطرة النظام السوري: «يعود ذلك لارتفاع تكاليف النقل واللوجستيات بسبب الحواجز والضرائب الجمركية على الألبسة المنقولة بين المناطق، إذ تتعامل عشرات مكاتب الشحن مع شبكات المهربين، التي تنسق مع شخصيات حكومية وأمنية لتسهيل عملية التهريب مقابل حصولها على رشاوى، وذلك على طرفي الحدود».

وأشار قلعجي، الذي انتقل إلى غازي عنتاب التركية مطلع العام الجاري، بأن الضرائب وعمليات الربط التي فرضتها هيئة الضرائب والرسوم التابعة للنظام السوري، أدّت إلى استبعاد الصناعيين من منافسات السوق، خاصة مع سياسات البنك المركزي التي أصبحت عبئاً كبيراً على القطاع الصناعي والتجاري.

وأوضح قلعجي في حديثه للجمهورية.نت أنه اضطُر إلى تعليق عمل مصنعه بسبب التكاليف الضريبية الباهظة المفروضة من قبل النظام السوري، والتي تجاوزت 10 مليارات ليرة سورية لتشغيل المصنع الذي كانت طاقته الإنتاجية مطلع عام 2023 لا تتجاوز 20 بالمئة من طاقته الإنتاجية الفعلية.

وأضاف أن الصناعة في مناطق النظام السوري تعاني أساساً من نقصٍ في البنية التحتية، معتبراً أن تأمين مادة «البولي» الضرورية لإنتاج الخيوط شكّلت تحدياً إضافياً بسبب القيود الجمركية وسياسات النظام السوري المالية.

ولفت إلى أن ورش النسيج تحديداً تحتاج بشكلٍ أساسي إلى الكهرباء، وأن تشغيل المعمل على المولدات الكهربائية (الديزل) أمر مكلف، خاصّة أن سعر ليتر المازوت قد تجاوز 10 آلاف ليرة سورية العام الماضي، بينما يبلغ سعره اليوم 12100 ليرة سورية، الأمر الذي يزيد من كلفة تصنيع الألبسة وأجور النقل المعتادة من محافظة لأخرى.

130 دولاراً للطرد من دمشق إلى إدلب

يوضح أحد العاملين في استيراد البضائع القادمة من دمشق عبر معبر باب الهوى (رفض كشف اسمه لدواعٍ أمنية) للجمهورية.نت، وجود طريقتين لاستيراد البضائع من محافظتي دمشق وحلب إلى إدلب:

الطريقة الأولى: «تخرج البضائع من العاصمة السورية دمشق ويتم شحنها براً إلى لبنان، ومن هناك، تُنقل عبر البحر من مرفأ بيروت إلى مرفأ مرسين في تركيا، في مسافة تبلغ قرابة 325 كم، وبعدها تنقل البضائع براً عبر معبر باب الهوى إلى إدلب»، مشيراً إلى أن هذا الطريق يعتمد على اتجاه واحد فقط، من دمشق إلى إدلب، «فهو أكثر أمناً بفضل الإجراءات النظامية المُتّبعة في عملية الشحن».

وأوضح أنه في الوقت الحالي، تقدم شركات الشحن خدماتها من دمشق إلى إدلب بكلفة تبلغ 130 دولاراً أميركياً لكل طرد من الألبسة، مع وقت تسليم يتراوح بين 12 إلى 18 يوماً، بحسب حجم الشحنة، الأمر الذي يلعب دوراً مهماً في غلاء أسعارها.

أمّا الطريقة الثانية: فهي عن طريق التهريب براً بين مناطق سيطرة النظام السوري والمعارضة السورية، والتي اعتبرها غير كافية لسد حاجة السوق، مشيراً إلى أن الطريق البري «شديدة الخطورة ويخضع لقيودٍ مشدّدة»، إذ يتم تهريب البضائع في ساعات الليل المتأخرة أو مع طلوع الفجر، وتكون سرية للغاية، ويقوم بها أشخاص لهم صلات بعناصر محدّدين من النظام والمعارضة السورية، بحيث يُسمح لهم بتهريب البضائع في ممرات تهريب تصل المنطقتين وفي أوقات محدّدة.

وأشار إلى أن الممرات التي تتركز فيها عمليات التهريب تقع جنوبي مدينة الباب شرقي حلب، وتحديداً في قريتي السكرية كبيرة والسكرية صغيرة في ريف ناحية العريمة التابعة إدارياً لمنطقة الباب، إذ تشتهر هذه المنطقة بوجود عدد كبير من الممرات التي تربط بين مناطق سيطرة المعارضة والنظام السوري.

التجار والسلطات هم السبب

بدوره، اعتبر الاقتصادي سعد العمر الذي يقيم في مدينة الأتارب غربي حلب والتابعة لمنطقة إدلب، أن تعزيز الوعي بأهمية دعم المنتجات المحلية يجب أن يكون هدفاً مشتركاً بين التجار والمجتمع المحلي، وذلك بهدف الحفاظ على الصناعة في المنطقة أولاً وتعزيز حضور المنتج المحلي ثانياً. وشدّد خلال حديثه مع الجمهورية.نت على ضرورة تحرك السلطات المعنية والعمل على تحقيق التوازن بين الاستيراد والإنتاج المحلي، من أجل بناء اقتصاد قوي ومستدام.

ورأى العمر أن دخول الألبسة التركية إلى السوق المحلية قد أثر سلباً على الورشات المحلية، والتي تعاني اليوم من انخفاض في الطلب على منتجاتها بسبب التنافس مع المنتجات المستوردة، وهذا ما يتطلب تدابير لدعم الصناعة المحلية وتشجيع الاستثمارات فيها، لضمان استمرارية الورش والحفاظ على فرص العمل والاستقلالية الاقتصادية للمنطقة.