كرّست مهزلة إعادة الانتخاب المظفرة لبشار الأسد في شهر أيار (مايو) 2021 نجاة الطاغية (بالمفهوم الذي أعطاه الياس كانيتي للشكل المخزي «للناجين بعد فناء الآخرين»)، وذلك على حساب الشعب السوري ومئات الآلاف من الذين قضوا موتاً أو غُيّبوا.عمر قدور، في بلد المهانة السعيد، مجلة Esprit، تموز/آب 2021. وجاءت بعد ذلك إعادته إلى الجامعة العربية لتؤكد «انتهاء الوهم» بنظام دولي ليبرالي تقوده القوى الغربية الديموقراطيةميشيل دوكلو، «الحرب في أوكرانيا والنظام العالمي الجديد»، مطبوعات ديكوفرت، كانون الثاني 2023 (Michel Duclos, (sous la dir), Guerre en Ukraine et nouvel ordre du monde, Editions de l’Observatoire, janvier 2023)، لمصلحة مزاعم ديكتاتوريات تُحفّزها نزعة الانتقام وقوى متوسطة النفوذ منفلتة العقال لا تأبه أن تطأ بأفعالها القانون الإنساني بشكل مفضوح. وإذا كنا نعرف ما الذي يشبه «عدالة المنتصرين»، كتلك التي أقامها الحلفاء بنورمبيرغ في عام 1945، فإننا لا زلنا نجهل ما هو شكل «عدالة الخاسرين». إنّ هذه العدالة هي ما يُجبَرُ سوريو الشتات على ابتكارها اليوم. ليس للعدالة، بمفهومها الحقيقي الذي يقوم على الحياد والإنصاف، منظوران يقتضي الأمرُ الاختيار بينهما، أحدهما للمنتصرين والآخر للخاسرين. إن جُلَّ ما يهم العدالة هو تحديد المجرمين وتفريقهم عن الأبرياء. ولكن في الوقت الذي يسود فيه مستبدُّ دمشق «بالقوة المُجرَّدة من العدالة»، تبقى العدالة من دون قوة «غير قادرة» كما ذهبت إحدى المقولات الشهيرة للفيلسوف باسكال. فما هي العدالة التي يمكن أن يتمسك بها ضحايا المستبد؟
كيف يمكن العمل على أي مطالبة بالعدالة في ظل هذه الكارثة الوطنية والدولية؟ حيث يبدو اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية، أو إحداث محكمة ذات طابع دولي خاص أو الوصول إلى عدالة انتقالية في سورية، بعيدَ المنال. هل يعني هذا الاستسلام؟ لن يكون ذلك مقبولاً. هل يجب انتظار تحوُّلات غير مؤكدة في الموقف الدولي من شأنها أن تسمح بمعجزة إعادة تنشيط خيارات العدالة المعروفة؟ لن يكون ذلك واقعياً. يبقى المَخرج الوحيد أن يتم إنشاء آليات أو تبني أشكال عدالة بديلة تعتمد في أساسها على وجود كمية مصادر هائلة تتمثّلُ في شهادات الضحايا، وفي المشاهد المرئية المُسجَّلة في المناطق المحاصرة تحت القصف، وكذلك الأرشيف السرّي للقمع الذي تم انتزاعه من «آلة الموت» التي ابتدعها النظاموهي العبارة المأخوذة من كتاب غرانس لوكين، «عملية سيزر: في قلب آلة الموت السورية»، منشورات ستوك، 2015، وهي عبارة لا شكَّ بأنها استعملت بالإشارة إلى فيلم ريثي بان عن سجون الخمير الحمر (S21). انظر كذلك فيلم غرانس لوكين مع ستيفان مالتير عن قضيتين مرفوعتين أمام القضاء الإسباني والفرنسي، «الأرواح الضائعة»، من شركة التوزيع دولاك، 2022.. فهنا تكمن قوة ضحايا بشار.
لقد تم إثبات إمكانية تخطي هذه العقبات والسير إلى الأمام في السعي إلى العدالة، عبر توسيع الملاحقات ضد المتهمين بموجب قواعد الاختصاص الدولي في عدد من الدول، حيث عوَّضَ ذلك جزئياً عن انسداد أفق اللجوء إلى محكمة الجنايات الدولية. صحيحٌ بأن هذه العدالة بطيئة وغير كافية، لأنها تخصُّ بشكل أساسي أقل من ثلاثين ملاحقة أمام القضاء الوطني لثلاثين دولة أوروبية، صدر فيها حُكمان بالتجريم فقط حتى الآن. يتبع ذلك ملاحقات أخرى، من شأنها أن تؤدي إلى تجريم بعض كبار المسؤولين في النظام كعلي مملوك، مستشار بشار الحالي للأمن الوطني، بموجب إجراءات التقاضي الغيابي. يبقى أن هذه الإجراءات لن تستهدف بشار الأسد مباشرة بسبب الحصانة الرئاسية التي يتمتع بها أمام القضاء في دول أخرى.بعد كتابة المقال وأثناء ترجمته وتحريره صدر فعلاً حكم غيابي عن محكمة الجنايات الفرنسية ضد علي مملوك، كما وافقت محكمة فرنسية على مذكرة ضد بشار الأسد مُعتبرة أنه لا يستفيد من الحصانة ظروف القضية، لكن قرارها ما يزال عرضة للفسخ من قبل هيئات قضائية فرنسية أعلى بسبب مبدأ الحصانة (المحرر).
ويبقى في النهاية عدد الملاحقات التي من شأنها أن تؤدي إلى أحكام محدوداً، ومحدوداً جداً. تُحيلنا هذه الحالة إلى ضرورة ألا نحصر النظر للعدالة في شكلها الجزائي فقط. إذ لا بدّ إضافةً إلى ذلك من تفعيل أشكال أخرى. وفيما خلا العدالة التي يمكن أن يؤديها اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بسبب خرق سورية لاتفاقية مناهضة التعذيب التي وَقَّعتهابتاريخ 8 حزيران (يونيو) 2023 أقامت هولندا وكندا قضية أمام محكمة العدل الدولية حول تفسير وتطبيق اتفاقية مناهضة التعذيب التي كانت قد انضمت سورية إليها. وبتاريخ 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً يتضمن تدابير تحفظية تلزم سورية بالامتناع عن كافة أشكال التعذيب وبالاحتفاظ بالأدلة ولا سيما أرشيف وملفات السجون والأجهزة الأمنية. القرار موجود في هذا الرابط.، يمكن ذكر كل المساعي المُستمَدة من العدالة التي يشار إليها «بالانتقالية»، حيث تشمل تلك العدالة كامل حقل الملاحقات الجزائية، وتستعيضُ عنها أحياناً بمبادرات أخرى غَرضُها الاستجابة إلى جملة أشمل من حاجات الضحايا كتعزيز أصناف حقوق أخرى كالحق في الوصول إلى الحقيقة، والحق في الحصول على تعويض، والحق في عدم تكرار ما حدث.
يُذكر بأن العديد من المنظمات السورية قامت في مراحل سابقة بوضع مشاريع لعدالة انتقالية، إلا أنها بقيت قائمة على تَوقُّع الوصول إلى انتقال سياسي في سورية، وهو ما يصعب تَصوُّره حالياً. وبالفعل فإن العديد من آليات العدالة الانتقالية التي تمّ اللجوء إليها عند انتهاء الصراعات أو تَغيُّر الأنظمة في العديد من الدول (كإجراءات التطهير، والإصلاحات المؤسساتية ومطالبات الاعتذار من قبل الدولة، إلخ) لا يمكنها أن تُطبَّق في سورية في الوضع السياسي الداخلي الراهن. ومع ذلك، فإنه يبدو بأنه يمكن تطبيق بعض إجراءات العدالة المُسمّاة بالانتقالية خارج إطارها الأصلي، أي خارج الأراضي السورية، دون انتظار انتهاء دكتاتورية عائلة الأسد. وهذا يبدو ممكناً بشكل خاص في العمل على تأكيد الحق في الوصول إلى الحقيقة والحق في الذاكرة.
لقد ظهرت إمكانية تَصوُّر آلية فريدة للعدالة عند قيام الجمعية العامة للأمم المتحدة بإحداث آلية دولية وحيادية ومستقلة لسورية في كانون الأول (ديسمبر) 2016. قامت هذه الآلية المستقلة، التي يقع مركزها في جنيف، بتجميع أرشيف استثنائي للوثائق التي زَوَّدتها بها العديد من الدول والمنظمات الدولية والإقليمية، ووكالات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني الدولية والسورية والأفراد ووسائل الإعلام والمصادر المفتوحة. وفي عام 2018 جمعت الآلية المستقلة 4 تيرا بايت من المعطيات أو 900000 تسجيل. وفي عام 2020 احتوى مركز البيانات على مليوني وثيقة. وقد تم تجهيز هذا الآلية بأحدث وسائل تحليل المعطيات البشرية والإلكترونية. وبخلاف مهمة لجنة التحقيق الدولية المستقلة التي قام مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة بإحداثها عام 2011، فإن مهمة الآلية المستقلة هي «شبه قضائية» حتى لو لم يكن لديها إمكانية إصدار مذكرات اتهام أو إقامة محاكمات. إنها «مُيسِّرة للعدالة»، فهي تجمع وتحفظ وتُحلّل وسائل الإثبات وصولاً إلى تقديم المعلومات المنتجة دعماً لتحقيقات جارية، وذلك إما بموجب طلب يُقدَّم إليها أو من تلقاء نفسها. وهي تعمل ضمن تصور جزائي للعدالة. ومع ذلك فإن مهمتها تتوجه كذلك إلى الضحايا والفاعلين في المجتمع المدنيانظر نشرة المعلومات الصادرة عن الآلية المستقلة في كانون الأول (ديسمبر) 2022 في موقع الآلية.، الأمر الذي يفتح لها بقدر ما إمكانية تبني توجه مبني على العدالة الانتقالية (تستعمل الآلية المستقلة في أدبياتها تعبير «العدالة الشاملة»). كانت المادة 8 من تقرير الأمين العام للأمم المتحدة الصادر في 19 كانون الثاني (يناير) 2017 قد وصفت صراحة الآلية المستقلة بأنها «مؤسسة للعدالة الانتقالية». وتؤكد الآلية المستقلة في تقاريرها، ولا سيما ذلك المؤرخ في 13 آب (أغسطس) 2020، على «تعلُّقها الثابت بمفهوم شامل وكُلّي للعدالة»، حيث توضح رئيسة الآلية المستقلة أن من بين مهامها «دعم الإجراءات القضائية غير الجزائية التي تبحث في مسؤوليات المتورطين في ارتكابات داخلة ضمن مهامها في الجمهورية العربية السورية». وبناء عليه، قامت الآلية المستقلة بتطوير استراتيجية فريدة وهي تساهم في كشف النقاب عن مصير المفقودين. وقد عبَّرت عن دعمها إنشاء الأمم المتحدة لهيئة جديدة تعنى بالمفقودين، حيث تم إقرار إحداثها بتاريخ 29 حزيران (يونيو) 2023 على اعتبار أنها تشكل ابتكاراً ثانياً يُظهِرُ توجهاً مُركَّزاً باتجاه مصالح الضحايا ومشاركتهم.
وفي هذا الإطار يشكل إنشاء قاعدة أرشيف للجرائم المُرتكَبة في سورية أداة مبتكرة جديدة من أدوات العدالة الانتقالية تعمل بالتكامل مع الآلية المستقلة. يمكن أن تتضمن هذه القاعدة الأرشيفية هيئة تتخذ شكل متحف أو مركز لحفظ الذاكرة، من شأنه أن يسمح بفهم ورؤية ما يسعى النظام في دمشق لإنكاره أو طيّه قيد النسيان.
توجد العديد من مراكز حفظ الذاكرة في العالم التي يمكنها أن تشكل نموذجاً يُحتذى به، إلا أننا نعتقد بأن مركز ذاكرة المحرقة القائم في باريس قد يكون مُلائماً، ليس بغرض نسخه وإنما بغرض الاستئناس به. لقد تم إنشاء مركز حفظ ذاكرة المحرقة عندما كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة، وفي الوقت الذي كانت فيه الديكتاتورية النازية لا تزال فاعلة؛ حيث تم تكوين مجموعة أرشيفية تهدف إلى جمع أدلة الإثبات على اضطهاد اليهود تم تسميته باسم «مركز الوثائق اليهودية الحديث». وقد قُدِّمَت الوثائق المحفوظة في المركز في محاكمات نورمبيرغ، حيث كان للمركز ممثلون دائمون كانت تصلهم أثناء المحاكمة كافة الوثائق التي يتم تبادلها في المحكمة. ويشبه الدور الذي لعبه المركز بجمعه للوثائق وتقديمه للمساعدة في العديد من المحاكمات اللاحقة الدور الذي تلعبه اليوم الآلية المستقلة بالنسبة لسورية، مع الأخذ بالحسبان الإمكانيات المعلوماتية المتاحة اليوم للآلية المستقلة والتي لم تكن متوفرة لمركز الوثائق اليهودية. يدفع هذا التقارب في الوظيفة إلى التفكير حول الطريقة التي يمكن فيها نقل تجربة مركز الوثائق اليهودية لفائدة مجتمعات اللاجئين السوريين في أوروبا. فقد أدى توحيد «مركز الوثائق اليهودية» مع مركز «ذاكرة الشهيد اليهودي المجهول» إلى افتتاح مركز ذاكرة المحرقة في عام 2005، ليعمل مركزاً للأرشيف ومتحفاً للذاكرة، حيث تم تقسيمه إلى ثلاث أقسام: الأرشيف ومكتبة الصور والمكتبة؛ وهو يشكل أكبر مركز للبحث الأوروبي للحصول على المعلومات والتوعية حول تاريخ إبادة اليهود. يحتاج السوريون كذلك إلى مكان للبحث والذاكرة، للتوعية بها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة. كيف يمكن إحداث هذا المكان، وماذا يمكن أن يشبه؟
يمكن عقد اتفاقات شراكة وتبادل مع الآلية المستقلة والهيئات الوطنية والدولية للقيام بجمع وحفظ الأرشيف بشكل إلكتروني. وستكون المجموعة قابلة للإغناء عبر اعتماد استراتيجية للحصول على المواد الأرشيفية الجديدة، إذ على الرغم من وجود كمية كبيرة من الوثائق التي تم جمعها، فإن العديد من الجرائم لم يتم التمكُّن من توثيقها وإعادة تمثيلها بعد. ولا ريب بأن الأرشيف الذي تم إنقاذه يعتبر «أرشيفاً ناجياً» على حد تعبير جورج ديدي هوبيرمان، يسعى الجلادون إلى تدميره أو نزع المصداقية عنه. ولكن بخلاف الصمت الذي لفَّ مجازر حماة، لن يُفلح الأسديون هذه المرة في طمس الجريمة، كما لم يُفلح النازيون من قبلهم. لا ريبَ بأن الوضع السوري مختلف عمّا عرفته المجتمعات اليهودية بعد عام 1945، ولا سيما في هذا الوقت حيث تم الاعتراف الكامل بذاكرة إبادة اليهود في أوروبا وعلى الصعيد الدولي. وبسبب الملاحقات القضائية القائمة والنشاط الحثيث للنظام وحلفائه، حتى في أوروبا، لإسكات الأصوات المعارضة وتغذية الأخبار المضللة، فإنه لا بدّ من اتّخاذ العديد من الاحتياطات. وعليه، يمكن مثلاً تَصوُّر عدم إعطاء أي أصل لمادة أرشيفية (ما لم يوجد موافقة خاصة)، كما أن إتاحة الوصول إلى المصادر والمعلومات يمكن أن تكون انتقائية، خاضعة لشروط تفرضها الدولة صاحبة مصدر المادة الأرشيفية أو أي طرف ثالث معني. ومع ذلك، فعلى خلاف المحاكم أو الآلية المستقلة، حيث تقع مكاتبها داخل الحرم المحمي أمنياً للأمم المتحدة في جنيف، يبقى الهدف هو إتاحة الوصول إلى الوثائق المتنوعة للباحثين وأكبر شريحة من العموم. ولا تنحصر هذه الوثائق بالشهادات وتقارير المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية، بل تتضمن كذلك أرشيف ما تم إنتاجه من داخل الأراضي التي تم تحريرها مؤقتاً من قبل قوى المعارضة (كتلك التي يجمعها موقع الذاكرة الإبداعية للثورة السورية)، إضافة إلى الكتب والأفلام الوثائقية التي تم إنتاجها عن النزاع. كما يمكن لفضاء عرض دائم ومؤقت أن يسمح بإحياء هذا الأرشيف، وأن يمنعه من التعفّن في الصناديق أو في ذاكرات الحواسب الرقمية. ويمكن ضمان نقل المعرفة بالحوادث التي جرت على الأرض السورية وكذلك خارج سورية، عبر تطوير أدوات تعليمية متعددة، تركز مثلاً على مسارات اللاجئين (في المخيمات، وفي الاندماج، وفي الطرد من أماكن إقامتهم)، وعلى إجراءات ملاحقة المجرمين التي تجري في الخارج. ويمكن لهذا المركز أن يعقد شراكات مع الأنظمة القضائية للبلدان التي تُنظَّم فيها محاكمات تتعلق بجرائم ارتكبت في سورية، لجمع وترجمة الأحكام ومحاضر جلسات المحاكمات التي تم إجراؤها والتي بقيت غير مُتاحة للعموم، وبقي كثيرٌ منها خارج الاهتمام الإعلامي (كمحاكمة علاء موسى في فرانكفورت، وهي لم تُسجَّل ولم تُترجَم)، إذ سيكون ذلك إضافة كبيرة ومهمة يقدمها هذا المركز للحق في الذاكرة.
سيشكل هذا المركز لحفظ الذاكرة مكاناً لجمع الذاكرة المُتبعثرة للسوريين الذين يعيشون في الشتات في دول مختلفة، أو الذين ظلّوا حَبيسي بلدهم المتهاوي. سيكون كذلك مكاناً للتأمُّل يُقدَّم فيه الإجلال لذكرى مئات الآلاف من ضحايا القمع، ومكاناً حياً تُنظَّم فيه العروض، والشهادات واللقاءات الدولية؛ ومكاناً ذا طابع رمزي يحتاجه السوريون وغيرهم من المجتمعات الأوروبية والمجتمع الدولي؛ ومكاناً يعمل كمركز للأبحاث حول أقدم وأشرس الدكتاتوريات في الشرق الأوسط، التي استفحل فيها العنف لدرجة أدت إلى تدمير البلد وتهديد الاستقرار الإقليمي، وانتشار الإرهاب وتجارة المخدرات وتفحش الأنظمة المستبدة في العديد من دول العالم، وصولاً إلى انفلات جماح بعضها ليكون أوجُ ذلك ممارسةَ الغرور العسكري الروسي في أوكرانيا. يجب على مركز أرشيف الذاكرة ألّا يكون مشروعاً متوجهاً ومحصوراً بالسوريين وحدهم، بل يجب أن يكون في تطلُّعه ذا نفحة عالمية، إذ أن التراجيديا السورية تحكي شيئاً من إنسانيتنا وتقول شيئاً مهماً للإنسانية. وكما تمكَّنَ مركز ذاكرة المحرقة، انطلاقاً من حوادث إبادة اليهود، أن يُسلِّطَ الضوء ليس فقط على مُعادة السامية، وإنما على العنصرية بشكل عام وغيرها من جرائم الإبادة الجماعية في القرن العشرين، كتلك الواقعة ضد الأرمن أو قبائل التوتسي في رواندا، فإن من شأن مركز ذاكرة الجرائم المرتكبة في سورية أن يغذي البحث في (والوقاية من) توحش السلطات على مجتمعاتها في عالم القرن الواحد والعشرين.
ومع بعض من الشجاعة أيضاً، فإن إحداث هذا المركز يمكن أن يرافقه تشكيل لجنة للحقيقة من نوع جديد، بحيث تكون دولية وقائمة خارج الأراضي السورية؛ ويمكن أن تكون مؤلفة من خمسة عشر شخصية سورية تمثل المجتمع المدني، وكذلك شخصيات غير سورية وعربية، مشهود لهم بالنزاهة والمكانة العلمية أو الضلوع بالدفاع عن حقوق الإنسان. يمكن لتلك اللجنة أن تنظم اللقاءات مع الشهود، وبالتعاون مع الآلية المستقلة، حيث يمكن لهذه الآلية أن تتيح للجنة الحقيقة الوصول إلى الأرشيف المحمي واستعمال أدوات التحليل التي تؤمنها الآلية المستقلة، وذلك لكتابة التقارير والتوصيات. كما يمكن للجنة الحقيقة أن تمارس عملها بالتثبّت من الوقائع وتحليلها، من وجهة نظر تركز على التأريخ وعلم الاجتماع أكثر من البحث القانوني الصرف. ويمكن أن ينبثق عنها لجان فرعية متخصصة بحسب طبيعة الخروقات قيد التحقيق (كالتعذيب، والإعدام خارج القضاء والاختفاء القسري). لا ريبَ بأن هذا الإطار غير المسبوق في البحث عن الحقيقة من قبل لجان انتقالية يثير العديد من العقبات، بالمقارنة مع ما كان موجوداً سابقاً. ومع ذلك فقد يكون ممكناً منح مثل هذه اللجان الجديدة كامل الصلاحية العلمية والسياسية والأخلاقية عن طريق جعلها ذات طابع دولي، وذلك في إجراءات تسمية أعضائها وفي ممارسة الرقابة على أعمالها، وكذلك في ضمان انتشار أعمالها بدعم رسمي من عدد من الدول الديمقراطية والمنظمات الدولية المختصة بالدفاع عن الحقوق الإنسانية. وفي النهاية، يبقى الهدف هو نفسه، ألا وهو تحقيق الاستفادة القصوى من إمكانيات الأرشيف الذي جمعه السوريون بشجاعة منقطعة النظير وعلى حساب حياتهم.
لا ريبَ بأن الموارد المالية والبشرية التي تحتاجها مشاريع كتلك ستكون عالية، في الوقت الذي تبقى فيه الاحتياجات الإنسانية للشعب السوري هائلة. ولا شكّ بأنه يوجد العديد من المشاريع الأخرى على طريق العدالة كإحداث محكمة خاصة بالاعتداءات الكيماوية، التي لا تزال تجد صعوبة في التحقُّق. ولا ريبَ بأن التحرك الدولي لمعاقبة الجرائم المرتكبة في سورية هو أضعف كثيراً من ذلك الذي ظهر لملاحقة الجرائم المرتكبة في أوكرانيا. ولكن سيكون شائناً ومن قبيل العبث أن تجري المقارنة بين الاحتياجات وبين الضحايا. إن إعادة التأهيل الجارية لبشار الأسد وانعدام المبادرات من الحكومات الأوروبية والأميركية يكبح مساعي العدالة، إلا أن السوريين نجحوا في دفع حواجز العطالة بتحرُّكاتهم الحثيثة؛ إنهم هم (سيزر، وغيرهم العديد من المنظمات السورية المنبثقة عن المجتمع المدني في الشتات) الذين جمعوا الجزء الأهم من الوثائق التي تعتمد عليها الآلية المستقلة، وهم من حملوا مشروع إحداث آلية للمختفين التي تم إقرارها في الأمم المتحدة اليوم.
إن فتح الآفاق الممكنة في الأوضاع التي تبدو في ظاهرها مستعصية وبدون أمل هو جوهر الروح الثورية، تلك الروح التي دفعت بملايين السوريين للنزول إلى الشوارع بدون سلاح رفضاً للقمع في العام 2011. وبالرغم من الآلام، وبقاء المستبد في السلطة، فإن إرادة العدالة والكرامة لم تُسحَق. وسيكون مركز الذاكرة، الذي يوثّق بشكل موضوعي لكافة الجرائم المرتكبة في سورية (سواء من قبل النظام أو من قبل الجهاديين والجيش السوري الحر وغيرهم من المجموعات المسلحة) نتاجاً لهذه الإرادة «الناجية»، بحيث يبقيها مشتعلة، ويضمن انتقالها عبر الأجيال. ولكي تتحقق العدالة للضحايا والشهداء، لا بدّ من حفظ ذاكرة الجرائم المرتكبة بحقهم، وكذلك السبب الذي قضوا لأجله، والهدف الذي لم يتمكنوا من تحقيقه، والذي لا زال بوسعه أن يتحقق. لن يستطيع تاريخ الخاسرين إنهاء سيطرة المنتصرين؛ إلا أن بإمكانه نسفها من الداخل تدريجياً. إن في ترسخ هذا التاريخ في الذاكرة ما سيسمح بتجاوز الخسارة العقيمة. إذ ستكون لعدالة الخاسرين نفحة مقاوِمة في هذا المفترق الذي يُعاد فيه تنشيط الماضي لكي يرتبط بمستقبل آخر.