بعد نحو اثنتي عشرة سنة من صراع متعدد الفاعلين والجبهات، بالغ القسوة والمأساوية، عمّته مظالم كثيرة ارتكبها الفاعلون الكبار: النظام وحُماته والإسلاميون والقوى الإقليمية والدولية المُتدخِّلة، يجد ملايين السوريين أنفسهم مُنكشفين بلا سند. تَكسَّرت حياة كثيرين وتكسَّرَ معها الاجتماع السوري وتضاءلت معه إمكانيات الالتقاء على معنى ما حدث لهم وحول مستقبل عيشهم المشترك. وفي مواجهة هول الجرائم، طرح السوريون من الأيام الأولى سؤال العدالة، وسعى لطلبها أو نكرانها الكثيرون، فمنهم من شهِد، ومنهم من صوّر، ومنهم من وثَّق، ومنهم من لاحقَ، ومنهم من نَظَّر، ومنهم من برَّرَ الجريمة، ومنهم من تشفّى بالضحايا. لم يتمكن السوريون من الاتفاق حتى على كلمة «جريمة» لوصف أحداث هائلة كاستعمال سلاح كيماوي في بلدة ما، أو عرض مساجين بأقفاص في أحد شوارعها، أو حرق معتقلين قضوا تحت التعذيب في مكان آخر. وهكذا بقي الوصول إلى العدالة، أو اللقاء على معنى واحد لها، بعيدَ المنال في ظل تَبعثُر الاجتماع السوري وشتات السوريين. 

في ظل هذه الظروف، وفي هذه اللحظة حيث لا يبدو للنفق السوري الطويل نهاية، نطرح في هذا الملف سؤال العدالة في سورية، كما عاشه لأول مرة ملايين السوريين في مواجهة جرائم فردية وجماعية سحقت حيواتهم وكرامتهم الإنسانية، وكما يعيشه بمستويات مختلفة أقرانهم في شرق المتوسط، ولا سيما الفلسطينيون حيث صلفُ الاحتلال يزداد إجراماً وحيث احتمالات الإبادة الجماعية تبدو جاثمة في غزة وفي الضفة الغربية، وكذلك اللبنانيون حيث تستنقعُ وتتفسّخُ حالة إفلات من العقاب متعددة الوجوه بعد حرب أهلية طاحنة على مدى خمسة عشر عاماً. 

نطرح سؤال العدالة كـ«صرخة سخط»Paul Ricoeur, Le Juste, (Paris: Seuil-Points, 2022), T. 1, p. 22. بأنَّ ما يحدث غير عادل، صرخة سخط تداخلت في أمواجها نوازعُ الانتقام بالرغبة العميقة بالوصول إلى سلام روحي يسمح بالصفح أو الغفران. 

يتحرّكُ سؤال العدالة في سوريا بين الانتقام (أو الثأر) والصفح (أو الغفران)، ولطالما حفزته الحاجة إلى كفِّ يد الجلاد عن ضحيته، والفصل بينهما، وإعطاء الضحايا فرصة تاريخية لتمكينهم من الوصول إلى السلام ومعرفة حقيقة ما حدث. كل هذا يطرح أمام السوريين سؤالاً وجودياً مُلحّاً عن معنى العدالة في سورية اليوم؛ ما هي ملامح صورتها المأمولة في البلد؟ وما هي شروطها ودورها في  استعادة، أو ترميم، أو إعادة تشكيل، الاجتماع السوري المُتفتّت؟ 

إلا أن هذا الملف لا يتوقف عند هذه الأسئلة، بل يسعى إلى الحفر والتنقيب تحتها وحولها وبين طياتها ليسأل: لماذا العدالة في سورية؟ ما هو المعنى السياسي للحقيقة؟ ولماذا العقاب؟ وما هو مصير حالة الإفلات منه وما أثرُ ذلك في تجذُّر المظلوميات المتناحرة؟

يبحث الملف في الظروف التي جعلت سؤال العدالة أكثر حضوراً بين السوريين كلّما ازداد تبعثُر الاجتماع السوري، ويتلمُّسُ حضور هذا السؤال في النفق الاجتماعي والسياسي الأوسع، ولا سيما في محيطه شرق المتوسطي الفلسطيني واللبناني الذي تكتنفه مستويات متراكبة من اللاعدالة.

سيحاول هذا الملف أن يشتبك مع مسألة السعي إلى العدالة في العلاقة الجدلية بينها كشعور شخصي يتعلّق بجبر المظالم وكحالة موضوعية تتجسد من خلال مجموعة من المؤسسات والممارسات الاجتماعية. لا يدّعي هذا الملف بأنه سيتمكن في نهاية المطاف من إعطاء مضمون مثالي للعدالة. بل يعترف منذ البدء بأنها قد تعني لمن عُذِّبَ شيئاً مختلفاً عمّا تعنيه لمن هُجِّرَ أو اضُطهِدَ بسبب الجنس أو العرق أو المُعتقَد، أو لأهالي من قُتل أو غُيّب، أو للعمران أو البيئة أو الاقتصاد. لكلٍّ من الضحايا عالمه الظالم وإن تقاطعت العوالم، وفي كلٍ من هذه العوالم تصورٌ عميقٌ عن معنى تَحقُّق العدالة. لا يَفترضُ هذا الملف أن العدالة لها جوهر يمكن معرفته بشكلٍ مجرّدٍ منفصل عن تجربة السوريين التاريخية، بل يُقرّ بأن العدالة قد لا تكون إلا مجرد سعي نحو هدفٍ لا يمكن الوصول إليه، وبأنها ليست سوى الأفعال أو المبادرات التي تجري في وسط اجتماعي، يهدف كل من ينخرط فيها إلى تلمُّس إجاباته لصرخة السخط الأولى: أنَّ ما يحدث لهم غيرُ عادل.

يستعرض هذا الملف بعضاً من تلك المبادرات، ولا سيما تلك التي تحاول أن تُوثِّقَ جرائم فردية وجماعية تعرّضَ لها السوريون، وأن تجمع وتحفظ أرشيفاً لها؛ وتلك التي تشهد على ما حدث من خلال الأدب والسينما والمسرح والفن التشكيلي؛ وتلك التي تسعى إلى ملاحقة المجرمين ومحاكمتهم أو التي تطرح مسؤولية الدولة بموجب القانون. يبحث الملف في سؤال العدالة الذي يسكنُ كل من هذه المبادرات، ليُبرزه ويستقصي مُساهمته في مسعى العدالة، كما يسأل عمّا تقدمه كل تلك المحاولات لسؤال العدالة، وعمّا إذا كان لها أثرٌ في ابتداع لغة جديدة يقرأ من خلالها السوريون حاضرهم، ويقرأ العالم من خلالها واقع السوريين، وعن دور هذه المبادرات في تشكيل معنىً لهذا الحاضر، وعن مكانها ووظيفتها في استعادة أي إمكانية لاجتماع سوري جديد. 

ويبحث الملف أيضاً في دور المحاكمات، سواءً تلك التي تنشد العدالة الجنائية أو تلك التي تبحث في مسؤولية الدولة، ويستعرض إمكانات فعلها الاجتماعي بالفصل بين الضحية والجلاد، وإتاحة الفرصة لكلٍّ منهما أن يحكي قصته، وصولاً لفهم السياقات التي سمحت بارتكاب جرائم جماعية. كما يستقصي فيما إذا كان للمحاكمات بأشكالها المختلفة أية أدوار أو آثار اجتماعية وسياسية، بما هو أبعد من صدور الأحكام. 

يسعى المشاركون في هذا الملفّ إلى استكشاف دور وحدود دروب تلك العدالة في مساعدة السوريين على كتابة تاريخ ما حدث، والوصول إلى سلام روحي جامع، وإحلال اجتماع سوري مُستدام.