وصلتني قبل بضعة أيام رسالة على هاتفي بعنوان «صالح الماشي: مرشحكم لمجلس الشعب محمد صالح ابن دياب الماشي ريف حلب فئة أ»، ومرفقة برقم موبايل.
حاولتُ حينها تَذكُّرَ سبب معرفتي باسم دياب الماشي الشهير، و تذكرت! سألت أمي: «بتتذكري وين سمعانة أسم دياب الماشي؟» قالت: «هذا بمسلسل ضيعة ضايعة؟». اقتربت أمي من الإجابة الصحيحة، ولكن مع فارق بسيط. ضيعة ضايعة مسلسلٌ ساخر نَبَعَ من وحي خيال كاتب السيناريو، أما دياب الماشي فهو في الحقيقة بطل فيلم وثائقي تسجيلي نَقلَ الواقع بحذافيره.
أتحدثُ طبعاً عن فيلم عمر أميرالاي الوثائقي الشهير طوفان في بلاد البعث.
*****
21 عاماً مضى على وثائقي عمر أميرالاي، الذي استشرف فيه مستقبل سوريا نتيجة الآثار الكارثية لسياسات حزب البعث، عارضاً فيه الطريقة الممنهجة لغسل الأدمغة في قرية صغيرة في ريف حلب تدعى «قرية الماشي».
يستعرض الفيلم بطولات الشيخ ذياب الماشي، الذي يتبجّح بانفراد آمام خلفية سوداء لكونه أقدم عضو برلماني في التاريخ، منذ انضمامه إلى عضوية مجلس الشعب سنة 1954 وحتى لحظة إصدار الفيلم عام 2003. لا يَذكُر الماشي أي سياسي سوري سوى حافظ الأسد، على الرغم من مُعاصرته لحكم هاشم الأتاسي ومن تلاه من رؤساء وشخصيات. يتغنّى فقط بحبه المازوخي للقائد الخالد الذي استلم سدة حكم سوريا بعد 17 عاماً على عضوية الماشي. حاله كحال مؤيدي النظام الذي يعتبرون أن تاريخ سوريا بدأ مع وجود الأسد في السلطة، ولا قيمة لكل ما أتى قبله.
*****
استمرَّ دياب الماشي كعضو في مجلس الشعب السوري عن ريف حلب حتى وفاته عام عن عمر ناهز الـ94 عاماً، استلم فيها مسؤولية انتخاب رئيس مجلس الشعب لكونه أكبر أعضاء المجلس، كأنما البعث كان يسعى إلى دخول موسوعة غينيس عبر بيدقِه الماشي.
ولأن لا شيء يستحيل على البعث، فإن الرقم القياسي لم يتوقّف برحيل دياب الماشي. فسيراً على مبدأ التوريث السياسي، خلف دياب ابناه محمد خير ومحمد صالح في عضوية مجلس الشعب، حتى يومنا هذا، ليبْلغَ رصيد وجود آل الماشي في المجلس 70 عاماً كاملاً. كما رشّحَ عددٌ من أحفاد دياب الموجودين في سوريا أنفسهم لعضوية المجلس أيضاً، رغبة ربما في توسيع إمبرَاطوريتهم العتيدة.
*****
عند استلامي رسالة صالح الماشي شعرتُ أننا نحيا في الجزء الثاني من وثائقي عمر أميرالاي. فإرثُ نظام الأسد المبني على طوفان البحيرة الذي دَمَّر بيوت سكان القرية وذكرياتهم دون اكتراث في الجزء الأول، يُبنى اليوم على أنقاض مدينة حلب وريفها بالكامل، ويتمدّد. ولا تختلف صور ترشُّح خير وصالح ولدا دياب عن صورة أبيهما في الفيلم، كما لا تختلف تصريحاتهما وبياناتهما واهتماماتهما حقاً. باتا فقط يمتلكان حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي و«سيلفي» في مجلس الشعب، وحتى في هذه، ينتهجان طبعاً خطى أبيهما الذي وجّه ابن أخيه، وهو مدير مدرسة الماشي في الفيلم، لاستعراض الحاسوب تغنياً بالقائد الخالد واهتمام ابنه بشار بنشر «ثقافة المعلوماتية».
وبالفعل كما استشرف عمر أميرالاي، أصاب الطوفان قرية الماشي التابعة لمنبج ونزح الكثير من وجهاء عشيرة الماشي منها إلى حلب أو إلى دمشق، ومنهم المرشّح محمد صالح ابن دياب، الذي استحدث في العاصمة مَضافةً باسم أبيه، وأرسل العديد من أبنائه إلى أوروبا، ليتركوا خلفهم «العشائر العربية» تتصارع تارة مع قوات سوريا الديمقراطية وتارة إلى جانبها على حكم منبج.
ولأن مجلس الشعب يلعب دوراً خاصاً في تحويل صغار الكسبة والعمال والفلاحين إلى رجال أعمال رأسماليين، تَحوَّلَ التركيز على مدرسة الماشي في الجزء الأول إلى التغني بمكتب لخدمات الحج والعمرة في جزئنا الحالي، والذي يتمركز في منبج ويمتد بخدماته إلى مختلف أنحاء ريف حلب، وعلى خطى نزاهة النظام وحزبه الحاكم، وعدَ مكتبُ آل الماشي الحجاج بالسفر عبر الطائرات، وبعد أن أخذوا كامل المبلغ بالدولار – الممنوع من التداول قانونياً في سوريا – أعادوا الحجاج إلى سوريا بباصات الكرنك.
وعلى عكس «الشعب» الذي يُمثلونه في المجلس، بإمكان آل الماشي، وتحديداً محمد خير عضو مجلس الشعب وأبناؤه، الدخولَ إلى منبج غير التابعة للنظام والعودة منها إلى مناطق سيطرته، بطريقة أثارت شكوك أهل منبج أنفسهم. ولا سيما أن لمحمد خير وابنه أحمد صوراً حديثة تجمعهما مع موسى الماشي في منبج، الذي يتعاون مع مظلوم عبادي قائد قوات قسد. علماً أن العديد من أبناء آل الماشي حاربوا إلى جانب قسد خلال الفترة الماضية.
*****
أودُّ حقاً أن ألتقطَ كاميرا، وأُحرِّكها من يمين الكادر إلى يساره على طريقة أميرالاي، لأُظهرَ كمَّ صور مرشحي أعضاء مجلس الشعب وهي تجتاح الكادر يميناً ويساراً وشمالاً وجنوباً أيام الانتخابات، أو صور بشار الأسد في الأيام الاعتيادية الخالية من الترشيح.
ولا حاجة لإعادة التقاط أي مشهد حديث في أي مدرسة حكومية بعثية في سوريا، لأن المدارس لا تزال كما كانت دائماً، ولم تتغيّر منذ آخر مشهد في مدرسة الماشي التي يُديرها اليوم حميد الماشي، باستثناء دمار الزلزال والحرب؛ سجون كبيرة تأبى الشمس أن تدخلها. ولا تزال طلائع البعث «تُحيّي القائد بشار»، على ذات الإيقاع الإيديولوجي، باختلاف أن العديد من القصائد التي كانت تُمجِّدُ الثورات حذفها الحكماء من المنهج خوفاً من أن يثوروا فعلاً.